كارثة دارفور والنظام السوداني

بسم الله الرحمن الرحيم

كارثة دارفور والنظام السوداني

12 فبراير 2005م

كانت دارفور تعاني من مشاكل معلومة: فجوة التنمية والخدمات، وآثار الجفاف والتصحر، والنزاع بين الفلاحين المستقرين والرعاة على الموارد الطبيعية، والنزاعات القبلية، والنهب المسلح الذي عززته الحروب الحدودية بين دول الجوار. هذه المشاكل اعترفت بها الحكومة الديمقراطية (86- 1989م) ودعت لمؤتمر جامع في الفاشر لبحثها واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها في يونيو 1989م. ولكن انقلاب 30 يونيو تبنى نتائج المؤتمر بعد أن غاب عنه ممثلو القوى السياسية، فصارت التوصيات ناقصة لغياب الجانب السياسي، وزاد الطين بلة أن النظام الانقلابي الجديد اعتبر دارفور سندا لخصومه السياسيين، فأعمل فيها سياسات قصدها فرض واقع سياسي وإداري جديد يسوق دارفور قسرا لمظلته السياسية. هذا الجهد المنهجي أفلح في تمزيق النسيج الاجتماعي في دارفور، ولكنه لم يفلح في كسب دارفور سياسيا للنظام الانقلابي. ووجد نفسه يواجه مشاكل متلاحقة في دارفور عقد المؤتمرات لمواجهتها ولكن لم يفلح. ومنذ مارس 2003م ظهر عامل جديد وهو حمل بعض أبناء الإقليم السلاح ضد الحكومة المركزية احتجاجا وتطلعا لحلول سياسية.

تأرجحت سياسة النظام واختلفت رؤى الإدارات المحلية والسلطة المركزية ولكن المهم هو أن الاحتجاج المسلح في دارفور تحول إلى انتفاضة مسلحة ذات تأييد داخلي وخارجي.  وتسلسلت الأوضاع حتى صدر تقرير لجنة الأمم المتحدة الدولية بشأن التحقيق في أحداث دارفور في 25/1/ 2005م.

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة وما هو المخرج الصحيح؟

أولا: نتجية لتدهور الحالة الأمنية والإنسانية في دارفور، دعونا للقاء جامع للقوى السياسية  وممثلين لمثقفي دارفور غير المنتمين حزبيا وطرحنا رؤية قومية واضحة للمشكلة وتصورا لحلها في يونيو 2002م، وتقرر تكوين منبر قومي للتصدي للحل. ثم أصدرنا في 8/12/2003م دراسة لتنوير الرأي العام بتطورات الأوضاع في دارفور. وفي أوائل فبراير 2004م عقدنا مؤتمرا صحافيا أعلنا فيه ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لبناء الثقة: إدارية، وإغاثية، وتحقيقية حول الجرائم المرتكبة، وسياسية تتمثل في الدعوة لمؤتمر جامع لمخاطبة المشكلة من جميع أبعادها. لكن الحكومة لم تستجب لهذا النداء وقررت الدعوة لمؤتمر موسع بطريقتها فعينت لجنة برئاسة السيد عز الدين السيد لتقديم التوصية بخصوص ذلك المؤتمر. اللجنة كونت بطريقة غلبت عليها عناصر النظام لذلك فقدت قوميتها وقاطعتها العناصر ذات الوزن الشعبي الحقيقي.

ثانيا: في مايو 2004م وقع المؤتمر الوطني مذكرة تفاهم مع حزب الأمة لحل مشاكل دارفور. وبدا واضحا أن النظام اعتبرها مذكرة علاقات عامة لم تؤثر على سياساته فمضى فيها كالمعتاد. وعندما عين لجنة برئاسة السيد دفع الله الحاج يوسف في مايو 2004م للتحري عن التجاوزات التي حدثت في دارفور كونها دون توسيع الاستشارة، كما اتخذ إجراءات إدارية جديدة أوكل فيها الإشراف على ولايات دارفور الثلاث لوزير داخليته دون أدنى درجة من التشاور خارج أجهزته.

ثالثا: أثناء عام 2004م تتالت التقارير من جهات مختلفة أهمها تقرير هيئة مراقبة حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ومجموعة الأزمات الدولية. تقارير مستقاة من النازحين إلى مدن دارفور واللاجئين إلى الجارة تشاد، نشرت ووجدت تجاوبا واسعا من أجهزة الإعلام الدولية، وأجمعت على أن مناطق كثيرة في دارفور تعرضت لبطش غير مسبوق استهدف قبائل معينة. هذا بينما النظام السوداني ينفي باستمرار أنباء وتحليلات تلك الجهات.  فتقرر أن نذهب في وفد كبير للإطلاع على الحقائق حول كارثة دارفور. وقد كان في يونيو 2004م. وفي 27/6/ 2004م وبعد العودة من ولايات دارفور أعلنت أن ما حدث من بطش في دارفور يمثل جرائم حرب والمطلوب اتخاذ أربعة إجراءات عاجلة لوقف تدهور الموقف هي:

  • استبدال حكام الولايات بحكام مؤهلين وذوي صفة قومية لاكتساب ثقة المواطنين.
  • تعيين لجنة محايدة ومؤهلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في دارفور ولتعويض الضحايا.
  • تكوين هيئة قومية لتنسيق الإغاثات الإنسانية.
  • إعلان الحكومة الموافقة على عقد مؤتمر قومي يضم القوى السياسية وممثلي أبناء دارفور المثقفين في الداخل والخارج، وممثلي حركات المقاومة المسلحة، وممثلي القبائل. على أن يبحث هذا المؤتمر أجندة واسعة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، قبلية، أمنية، إدارية، وخدمية. وأن يحضر هذا المؤتمر كافة جيران السودان كمراقبين وشهود.

لكن هذه المجهودات الوطنية وصلت طريقا مسدودا وواصلت الحكومة أعمالها في نطاق سياساتها المعهودة.

رابعا: توسطت الجارة تشاد. وبعد جولات أبرم اتفاق لوقف إطلاق النار في دارفور في أبريل 2004م. وتوسط الاتحاد الأفريقي وبعد مفاوضات متعددة الحلقات أبرم اتفاق إجرائي لحماية المدنيين ولتأمين الإغاثات الإنسانية في نوفمبر 2004م، وقرر الاتحاد الأفريقي نشر قوات أفريقية لمراقبة وقف إطلاق النار ولحماية نشاط الإغاثات الإنسانية. ولكن هذه الوساطة لم تتقدم خطوة نحو اتفاق سياسي. وحتى في المسائل الإجرائية فإن وقف إطلاق النار خرق كثيرا، كما أن الاعتداء على المدنيين استمر، ومنظمات الإغاثة الإنسانية واجهت تهديدا مستمرا لسلامتها. الحالتان الإنسانية والأمنية في دارفور لم تشهدا تحسنا في الأشهر الستة الماضية. كما أن أعداد المدنيين الهاربين إلى معسكرات النازحين داخل دارفور واللاجئين خارجها لم تنقص بل زادت.

اجتمع خمسة رؤساء أفارقة في طرابلس في أكتوبر 2004م وفوضوا العقيد معمر القذافي ليعمل على دعم السلام في دارفور. العقيد دعا عددا من أبناء دارفور، وقد شهدت لقاءات طرابلس صراعات لأن طرابلس أرادت أن يكون المنبر جامعا وحرا والمؤتمر الوطني “حزب الحكومة” أراد أن يضع للقاء سقفا ويتحكم في عضويته. وفي النهاية لم تخلص اللقاءات إلى نتائج محددة ولكن ساهمت في تبادل واسع لآراء أبناء دارفور شمل كوادر سياسية، وشخصيات قبلية، وممثلين لحركات الانتفاضة المسلحة. هذا الجهد مع أنه لم يكتمل إلا أنه أوسع منبر حوار بين كافة مكونات دارفور الفكرية، والسياسية، والقبلية. ومن نتائج هذا الحوار غير المباشرة تكوين منبر دارفور القومي. هذه التطورات مع قصورها عن تحقيق اتفاق شامل فإنها تمهد لمؤتمر قومي جامع ربما دعي إليه في المستقبل.

خامسا: المسار الوطني الداخلي وصل طريقا مسدودا، والمسار الإقليمي بالوساطة الأفريقية والوساطة الليبية حقق اتفاقات إجرائية ولكنه هو الآخر لم يكن حاسما. المسار الثالث هو المتعلق بالأمم المتحدة: ففي 3 يوليو 2004م أبرم الأمين العام للأمم المتحدة اتفاقا مع الحكومة السودانية لإجراء أربعة إصلاحات في دارفور لنزع سلاح الجنجويد، ولحماية المدنيين، ولتأمين الإغاثات، ولتأمين عودة طوعية للنازحين إلى قراهم. هذه الالتزامات ضمن مطالب أخرى أصدر بها مجلس الأمن قراره رقم 1556 في يوليو 2004م وبناءا عليه اتفق ممثل الأمين العام وحكومة السودان على خريطة طريق لتنفيذ ما جاء في ذلك القرار في 5 أغسطس 2004م. وألزم مجلس الأمن الأمين العام أن يقدم له تقريرا شهريا عن تطورات الأحوال في دارفور وبعد تقرير شهر أغسطس أصدر المجلس القرار رقم 1564.

كان وزير خارجية الولايات المتحدة قد زار السودان في يوليو 2004م ونفى أن يكون ما حدث في دارفور “إبادة جماعية”،  ولدى عودته واجه نقدا فأرسل وفدا للتحري صحبه ممثلون لنقابة المحامين الأمريكيين هؤلاء عادوا بحيثيات تؤكد أن ما حدث في دارفور إبادة جماعية فأعلن وزير الخارجية الأمريكي تأييده لهذا الاستنتاج وطلب من مجلس الأمن التحقيق فيه. كون مجلس الأمن لجنة دولية لإجراء هذا التحقيق، أصدرت تقريرها بعد ثلاثة أشهر من التحري  بتاريخ 25/ 1/ 2005م. التقرير نفى بصورة قابلة لأكثر من تفسير حدوث إبادة جماعية ولكن اتهم الحكومة السودانية والجنجويد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واتهم المقاومة المسلحة بارتكاب جرائم حرب وأوصى بتقديم 51  شخصا للمحاكمة أمام المحكمة الجزائية الدولية.

إذا قبل مجلس الأمن هذا التقرير كما أوصى بذلك الأمين العام فسيكون له نتائج خطيرة على الوضع السياسي في السودان. لأن هذه الإجراءات متخذة تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أي أنها متعلقة بالتهديد للأمن والسلام الدوليين. ويزيد الأمر خطورة بالنسبة للنظام السوداني أنه وقع على بروتوكولات السلام التي تطلب من الأمم المتحدة تحت الفصل السادس رعاية وضبط عملية السلام في السودان بصورة أشبه بالانتداب الدولي وسيكون للأمم المتحدة مركز غير عادي ذو صلاحيات سياسية، واقتصادية، وإدارية، وأمنية واسعة. هذا الوضع أوجبته فجوة الثقة الواسعة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية ولا تستطيع الحكومة السودانية أن تتراجع عنه إلا على حساب التزامها ببروتوكولات السلام!!

أوضاع دارفور وضعت الحكومة السودانية في قفص اتهام دولي، وبروتوكولات السلام وضعت البلاد تحت انتداب دولي وستواجه البلاد آثارا سياسية خلاصتها:

  • اختلاف داخل النظام حول قبول أو رفض الامتثال للقرار الدولي إذا صدر.
  • اختلاف بين النظام والحركة حول الموقف.
  • استقطاب الرأي العام السوداني بين مؤيدي الحكومة الذين يرفضون هذا القرار إذا صدر بل يطالبون بتجميد اتفاقيات السلام نفسها إبعادا لسلطات الأمم المتحدة المكتسبة بموجبها.
  • تصعيد حركات الاحتجاج والمقاومة للنظام لما أصابه من طعن في شرعيته.

 وآثار قانونية خلاصتها:

  • دفاع المتهمين عن أنفسهم سوف يجر آخرين ويوسع الدائرة.
  • فتح الباب لظلامات وجنايات سابقة.
  • استقطاب حاد بين الحقوقيين السودانيين.
  • لفت النظر لحقيقة ما لحق بالقضاء السوداني من تقويض لاستقلاله.

ثم ماذا؟

الأمم المتحدة تدعم السلام وبروتوكولاته ولا تستطيع أن تتخلى عن تقرير لجنتها في أحداث دارفور. الحكومة السودانية تريد أن تحتمي ببروتوكولات السلام من تقرير دارفور. الحركة الشعبية تريد تنفيذ بروتوكولات السلام وتتطلع بشدة لدور الأمم المتحدة كضامن للاتفاقيات ولا تستطيع أن ترفض تقرير اللجنة. المشهد كله يؤكد مرة أخرى أن الحالة مستعصية على الحلول الجزئية والمطلوب أن يدرك الجميع خطورة الموقف وإحاطته بتناقضات مدمرة. ومهما ستكون عليه قرارات مجلس الأمن فإن مؤتمرا سودانيا جامعا بحق يستطيع أن يجد مخرجا ينقذ السلام والتحول الديمقراطي ويستجيب لمطالب المتظلمين المشروعة ويضع أساسا للمساءلة والإنصاف. أما إذا حيد عن هذا النهج القومي القويم وغاص الثنائي الذهبي في أوهامه فإن التناقضات سوف تحرم السودان من الفرصة الواعدة التي تلوح أمامه.