كلمة الإمام الصادق المهدي بمناسبة عيد الأم “يا رحمة الله زادك الله رحمة”

السيدة رحمة عبد الله جاد الله
الراحلة المقيمة السيدة رحمة عبد الله جاد الله طيب الله ثراها وأرضاها

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تحية في عيد الأم

 

21/3/2013م

 

يا رحمة الله زادك الله رحمة

 

رسالة لأمهات الأنصار خاصة ولأمهات السودان وأمهات الأمة الكبرى بل لكافة أمهات الإنسانية عامة في يوم عيد الأم تحت عنوان: (يا رحمة الله وهي صفة لكل أم زادك الله رحمة).

فكرة عيد الأم على سنة أعياد أخرى فكرة حميدة ومفيدة، لأنها تتيح الفرصة لذكر فضائل الأم، والحث على البر بها على نحو ما قال النبي (ص) عندما سئل: “مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوك”[1]، والبر بالوالدين توجيه رباني: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[2].

الأم هي مستودع الحنان الأول. وهي مصدر الغذاء الأول. وهي حضن التربية الأول، ولطفلها هي المدرسة الأولى.

عبارة أم هي اسم فعل أمر من أم بمعنى قصد أي اقصدها تعبيراً عن تلك المعاني الحميمة.

والدتي رحمة عبد الله جاد الله كانت بالإضافة لتلك المعاني سيدة ذات ذكاء فطري واجتماعي، ووعي بضرورات الحياة وحكمة في التصرف، الحكمة هي حسن التصرف بمقتضى الحال وهي مصدر آخر للمعرفة قال تعالى عنها: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[3].

كان تعليم أمي النظامي محدوداً، ولكن التعليم النظامي ليس وحده مقياس المعرفة، فرب أمي عليم ورب خريج جهول قال عنه مثلنا الدارج: “القلم ما بزيل بلم”، فمن غير الخريجين:

الألمعِيَّ الذي يَريك الرأي كأن قَدْ رَأى وَقدْ سَمِعَا

ومن الخريجين كالحمار حمل أسفاراً.

كانت الوالدة تجسيداً للرجولة بالمعنى الأخلاقي لا الجندري للكلمة، جسدت أخلاق الإقدام- المروءة- والكرم… إلخ. هذه المعاني يصفها التراث السائد بالرجولة مع أنها قيم إنسانية مثلما سميت أخلاق النجدة بالفروسية اشتقاقا من الفرس مع أنها صفات إنسانية محمودة، يجب ألا يخلط بين الرجولة كقيمة أخلاقية والذكورة كصفة بيولوجية، على نحو ما جاء في أبيات الشاعر السعودي غازي:

أيها المخترع العظيم

يا من صنعت بلسماً قضى على مواجع الكهولة

وأنقذ الفحولة

أما لديك بلسم يعيد في أمتنا الرجولة؟

ومع رجولتها وفروسيتها الأخلاقية كانت تجسد الأنوثة في أسمى معانيها، تتساوى مع الرجال إيمانياً وإنسانيا وتتميز منهم في دورها كأنثى، فخورة بنوعها لا تحاول النفور عنه بالتشبه المقيت. بعض بنات جنسها المبرزات يطرقن باب المساواة تشبها بالذكور أو محاكاة للوافد من الغرب ولكنها كانت تحقق تفوقها الإيماني والإنساني بإصالة الدين والوطن وبلا تشبه.

إن تقديري لها باعتبارها أول أنثى أعرفها في حياتي جعلني أسقط هذا التقدير على المرأة من حيث هي فأتعامل معهن بلطف يخالف المعهود في ثقافة تغلب عليها “ذكورية” صماء.

واستقر في ذهني أن الذين يرون دونية المرأة، إنما يسقطون على النساء الأخريات تدني تقديرهم لأماتهم.

وعندما تفتح ذهني وجدت أحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم تكرس لدونية المرأة من نحو: “لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً”[4]، وقول: “مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ”[5]، وقول: وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”[6]، وقول: “لَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْر”[7] والحديث: “إِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَان”[8].. إلخ. وكان أول شعوري هو ما في هذه المعاني من تناقض مع صورة أمي، فبحثت عن صحة تلك الأحاديث لأن النبي (ص) يقول: “إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنَا أَوْلاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفَرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ “[9].

القرآن فيما يتعلق بكرامة المرأة واضح، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)[10] وقال: (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)[11].

وأما الخطأ الذي وقع فإن القرآن نسبه مرة لآدم: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[12]، ومرة نسبه لآدم وحواء: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)[13]، أما نسبة الخطأ لحواء وحدها فتعبير توراتي. وأما قصة الخلق فالقرآن قال فيها: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)[14]، وأما الكيد فقد ذكره القرآن لامرأة العزيز كما ذكره لأخوة يوسف فالكيد عيب إنساني يمارسه الرجال والنساء.

وسلوك النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع المرأة لا يدل على اعتبارها ناقصة عقل ودين. لجأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة في أول دهشة لاستقبال الوحي واتبع نصحها، ولجأ للسيدة أم سلمة في أول محنة حلت بالمسلمين إذ اختلفوا وخالفوا ما أمر به النبي بعد صلح الحديبية، فأشارت له السيدة أم سلمة برأي اتبعه وكان فيه ما فيه من صلاح الحال.

وخص السيدة عائشة بحق الرواية عنه، وقال في حق المرأة مقولات تكريم مثل “أَنَّ جَاهِمَةَ رضي الله عنه جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: “فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا”[15]، و”النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”[16].. إلخ.

هذه المعاني في السنة العملية والمروية تتناقض مع مقولات دونية المرأة.

كانت أمي رحمة تمثل أنموذجاً يتناقض تماماً مع كافة مفردات دونية المرأة، وينتسب لصورة القانتات: آسيا امرأة فرعون التي احتضنت موسى عليه السلام، ومريم ابنة عمران والدة عيسى عليه السلام، وخديجة بنت خويلد التي احتضنت محمداً عليه السلام، وفاطمة بنت محمد التي حفظت العترة النبوية، ورابعة العدوية التي كانت علماً في أولياء الله الصالحين، هولاء القانتات كن قدوتها وهن قدوة لكل أهل الإيمان.

آمنة أمه، وحليمة مرضعته، وبركة بنت ثعلبة احتضنته بعد وفاة أمه، وفاطمة بنت أسد قامت بتربيته، وكان يقول مفاخراً بأمهاته من قريش وسليم وقيس واليمن: أنا ابن العواتك أنا ابن الفواطم كلهن طاهرات سيدات.

إن مسيرة الإنسانية الصاعدة أثبتت بطلان دونية المرأة، وأكدت استحقاقها للقضاء على كل أنواع التمييز ضد المرأة، فالمجتمع الإنساني لا يحلق إلا بجناحيه كما أثبتت التجربة الإنسانية: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[17].

سلام على رحمة الله في العالمين، زادها الرحمن بركة وأفاض عليها وعلى ذريتها من رحمته وعنايته، وسلام على رحمة الله في الخالدين، زادها الرحمن الرحيم رحمة.

 

_________________________________________________________

 

 

[1] صحيح البخاري

[2] سورة الأسراء الآية (23)

[3] سورة البقرة الآية (269)

[4] رواه البخاري

[5] صحيح مسلم

[6]حديث البخاري

[7] رواه أحمد

[8] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي

[9] رواه أحمد

[10] سورة التوبة الآية (71)

[11] سورة آل عمران الآية (195)

[12] سورة التوبة الآية (121)

[13] سورة البقرة الآية (36)

[14] سورة الأعراف الآية (189)

[15] سنن النسائي

[16] رواه الإمام أحمد

[17] سورة الذاريات الآية (21)