كلمة الاحتفال بذكرى الإمام الصديق المهدي وثورة أكتوبر المجيدة بنادي الزهرة بأمدرمان

بسم الله الرحمن الرحيم

اللجنة العليا للاحتفال بذكرى الإمام الصديق المهدي وثورة أكتوبر المجيدة

دار الزهرة بأم درمان في 22 أكتوبر 2019م

كلمة رئيس حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

 

السلام عليكم ورحمة الله

بنتي دثار لا عليك، قلتُ في مناسبات كثيرة لتسقط الألقاب، ويمكن أن أخاطب بالحبيب. كلمة الحبيب أقرب إلى القلب من كل الألقاب.

أنا شاكر لنادي الزهرة الرياضي الثقافي لدعوتي هذه لأتحدث بمناسبة ذكرى الوالد الإمام الصديق. أكتوبر هي أم الثورات، والإمام الصديق مع أنه انتقل قبلها بسنوات إلا أنه دق مسمار نعش النظام الدكتاتوري الأول. دق مسمار النعش بوصيته، وعلّق هذه الوصية على أعناقنا. منئذٍ صار الجيل الذي كان حوله يعلم أن هذه الوصية قلادة في الأعناق لا بد من الوفاء بها. خصوصاً وأن الانقلاب كان قد التمس لنفسه نوعاً من الشرعية نزعها منه موقف الإمام الصديق. لذلك هناك ارتباط بين ثورة أكتوبر وذكرى الإمام، وهذه المناسبة إنما تجسد هذا التواصل بين ذكرى وفاته وذكرى أم الثورات أكتوبر.

طُلب مني أن أتحدث عن كتابي “أيها الجيل”، وبما أننا أم درمان، العاصمة الوطنية للسودان، فمن الضروري أن أتحدث مدخلاً عن أم درمان.

يقوم بين الإنسان والمكان عاطفة عبر عنها كثيرون:

وأجهشت للتوباد حين رأيته  وكبّر للرحمن حين رآني

التوباد جبل. لقد ذكرتُ عوامل صنعت بين سكان أم درمان وأم درمان وطنية محلية:

  • عبقرية المكان عكس إرادة المحتل الذي أراد أن يخربها فعمرها الشعب،
  • إنها مركز لكل الأنشطة الحيوية: الدينية، والثقافية، والسياسية، والرياضية، والفنية،
  • تغنى بها كل جهابذة الفن السوداني كأن الغناء لأم درمان بالنسبة لهم “فاتحة الغناء”. حتى أولئك الذين لم يكونوا من سكانها تغنوا بها مثل خليل فرح: اذكر بقعة أم درمان، وانشر في ربوعها أمان.

 

هذا الكتاب في هذا المركز في أم درمان له مناسبة. فهناك قاعدة: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. الجيل الجديد وكثير منهم موجود هنا، في السودان وفي غيره، جيل ليس كغيره، إنه جيل الإنترنت، ويميزه أنها أول مرة ينشأ الأطفال دون الإشراف الرأسي المباشر من أسرة أو مدرسة. فتحت الانترنت مجالاً للتواصل الأفقي المستمر، وليس الرأسي، وفتح بدوره المجال لتأثير ثقافي كبير جداً من كل ثقافات العالم. وفتح المجال للتواصل بين هذا الجيل بنات وأبناء بصورة حرة خالية من أية رقابة، وبالتالي خلق علاقات وصداقات وتفاهمات غير خاضعة لأية رقابة رأسية. قائمة على أساس التواصل الأفقي داخل السودان وخارجه. ولذلك نحن أمام جيل جديد لا يجدي معه الخطاب من المنطلق القديم الذي فيه مسلمات معينة.

حينما كنا صغاراً كانت هذه المسلمات واضحة. نذهب للخلوة، وفيها يصنع بنا الفكي ما يشاء، من توجيهات وعنف إلى آخره، والأطفال في جيلنا لحد كبير يخضعون لإشراف رأسي. الجيل الجديد، جيل الإنترنت لم يعد كذلك، وحتى لو وجد من يمارسون هذا الإشراف الرأسي هناك حركة انتزاع لأي نوع من الوصاية أفقي، وهناك تواصل أفقي غير خاضع لأي نوع من التوجيه من أية جهة.

حينما لاحظت هذا المشهد رأيت أنه واجب عليّ مخاطبة هذا الجيل، بلغة خارج المسلمات. فالجيل محتاج لخطاب بمنطق مختلف من الجيل السابق. وهناك قضايا أريد نقلها لهم عبر مفاهيم غير مرتبطة بالمسلمات والمفاهيم القديمة، أريد مخاطبة هذا الجيل بأن في فطرته أشياء لا غلاط حولها، والفطرة في رأيي فيها عشر ضرورات، ستكون هي مدخل هذا الكتاب “أيها الجيل”.

الطفولة: مشتل الإنسانية: يبدأ الكتاب بكلام عن الأطفال باعتبار الطفولة هي مشتل الإنسان، ولا بد من الحديث عن تربية الأطفال بصورة خارج المسلمات هي:

  • ضرورة الخلو من العنف الحسي، الضرب.
  • ضرورة الخلو من العنف اللفظي “أكل تاكل السم”.
  • والخلو من العنف الاجتماعي، إذا جاء طفل يطرد من المجلس.
  • والخلو من العنف النوعي بمنطق تسيدك على أختك.

هذا ضروري ولم يعد كلاماً فردياً، بل صارت هناك معاهدة دولية لحقوق الطفل تشتمل على هذه المعاني.

في نهاية الكتاب كلام عن مجموعة سكانية جديدة لم يعهدها السودان من قبل، وانعكاس هذه الظروف الجديدة على الجيل الجديد، يسمونهم المغتربين والمهجريين، وقلت نسميهم: سودانيون بلا حدود. سنتكلم عن ظروفهم.

أبدأ بالضرورات العشر:

أولاً: الضرورة الروحية: كان الناس يفترضون أن الجيل مسلّم بحقائق الدين، ولكن صارت هناك ضرورة أن يخاطب بأن الإنسان لديه ضرورات روحية. إنه يتساءل من أي جاء الكون وما مصيره. قضية المصير وقضية كيف بدأ الخلق قضايا غيبية لا بد من تأكيد أن الإنسان محتاج بفطرته لأن تكون لديه عقيدة روحية. أهم شيء في الحياة ليس الشقاء المادي بل الخلو من المعنى فلا بد أن يكون للحياة معنى. وكل إنسان يمكن أن يرى رؤيا صادقة، أو يتعرض لمعرفة خارج الشعور الحسي. هذا هو مجال القضايا الروحية، ومهم جداً أن يكون هناك بيان للضرورات الروحية باعتبارها جزء من الفطرة التكوينية للإنسان.

جاء في كتاب الله: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ )[1]. كل ابن آدم: أحمرنا، أصفرنا، أسودنا، أبيضنا؛ كل ابن آدم يحتوي على قبس من روح الله، وهذا المعنى مهم لينقلنا من النظرة الطائفية الضيقة التي تميزنا من غيرنا إلى أن كل البشر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ”  كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ[2] فكلهم بشر وتنطبق عليهم جميعاً (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[3]، هذا المعنى ينقل من المفاهيم القديمة التي كان الناس يربون الأطفال عليها، إلى مفاهيم إنسانية جديدة أن الناس أخوة، والأنبياء كذلك أخوة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”[4]. وفي القضايا المهمة: التوحيد، والنبوة، والمعاد، الأديان واحدة. هذا المفهوم لتفسير الضرورة الروحية أمر مهم لجيلنا.

ثانياً: الضرورات المادية: كل الناس يحتاجون هواء وماء وغذاء وصحة، هذا في فطرة الإنسان، وبالتالي يجب أن تكون نظرتنا ليس كما يقول بعض المنكفئين: لا تحارب الفقر لأنه من إرادة الله الذي أراد لهم أن يكونوا فقراء! لا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ [5] وسئل: أيعدلان؟ قال نعم. وحديث الإمام علي بن أبي طالب: ما جاع فقير إلا بما متع به غني. وهذا يدق على مفهوم التوزيع العادل للثروة وضرورته. إذن الكلام عن الضرورات المادية كلام أساسي لكي ينشأ أطفالنا بإدراك معنى الضرورات المادية والعدالة في توزيع الفرص المادية.

ثالثاً: الضرورة العقلية. كل الناس تستخدم عقلها حتى الإنسان البدائي يصنع الشراع لمركبه ليدع الريح تدفعه للأمام، وهذا قرار برهاني عقلي. العقل ضرورة فطرية لكل الناس في كل المستويات. ولكن هناك مشكلة من يقولون أن هناك حديث يتناقض مع العقل. وحصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للناس ألا يؤبروا النخل وحينما فشل قال: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”[6].. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ” يَا رسول اللهِ، أرأيتَ رُقّ نستَرقيهَا، ودواءً نتداوَى بِهِ، وتُقاةً نتقيهَأ، هل تردُّ من قَدَرِ اللهِ شيئاً؟ قالَ: هيَ من قدرِ اللهِ”[7]. هو أعطاك العقل الذي تتعامل به فهي إذن من قضاء الله. ينبغي أن نزيل أي كلام عن تناقض وارد لدى بعض الناس بين النصوص الدينية والحقائق العقلية. بل كل ما يمكن أن نكتشفه بالعقل والتجربة نستمع لهما فيها: علم النفس، علم الاجتماع، علم الاقتصاد، علم الإنسان، علم الآثار، علم الطبيعة: فيزياء، كيمياء، بايلوجيا، فضائيات، في كل هذا هناك مشروعية: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ )[8]. فكل نواميس الطبيعة بالحق، والعلم يسعى لاكتشاف نواميس الطبيعة: الحق. ولا تناقض لأن نواميس الطبيعة من إرادة الله. وقد اقتضى هذا في الكتاب أن أبين أموراً كثيرة، ففيه حديث عن الهيئة، والأرض وكرويتها، والكواكب، والشمس إلخ، بالصورة التي تؤكد كيف أن الإنسان مستخلف على الأرض ليكتشف هذه النواميس. (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[9] أي جعلكم عمارها. نعمرها بالعقل والتجربة. بالنسبة لهذا الجيل ينبغي أن يكون مفهوماً أن العقل حاكم في مجاله، بناء على النواميس ومقتضياتها. هذه النواميس ليست للمؤمنين بل للبشرية كلها، والبشرية كلها مستخلفة. فهذه الكهرباء، والطائرات والانترنت اخترعها آخرون لأنهم علموا وأدركوا مفاتيح نواميس الطبيعة، والواجب علينا أن نفعل ذلك، ويجب علينا أن نهاجر  لعالم التكنلوجيا لنستطيع عبره أن نساهم في تعمير الدنيا، ليس بالفأس و”العتلة”، بل بهذه الإمكانات والمقدرات.

رابعا: الضرورات العاطفية. العاطفة جزء لا يتجزأ من تركيب الإنسان. يحب، يكره، يقيم علاقات أمومة وأبوة وأخوة كلها قائمة على الحقيقة العاطفية. ومن أهم الأشياء العلاقة بين الرجل والمرأة، والبعض يرى ألا نتكلم عنها، مع أنه لدى ولادة الإنسان فإن أول سؤال حوله هو نوعه وهذه الصفة ملازمة له. وحينما تحدثت عن ضرورة تربية جنسية في المدارس غضب المنكفئون “العلب”. الجنس ليس عيباً، بل العيب الخروج به عن قواعده الشرعية. الجيل الحالي لديه محو أمية في هذه الأمور فلديه الإنترنت والقوقل. قوقل صار أشبه بمفهوم الناس في الماضي للنبي الخضر، فكل أمر يطرأ يسأل فيه قوقل. هذا الشباب عنده قوقل لا يمكن تتحدث عنه مثلما كنا زمان. وهناك نكتة في هذا الصدد عن طفل صغير يسأل أمه: كيف أتينا. فقالت له: وجدناكم أمام الجامع. فالتفت لأخيه وقال له: هل أخبرها أم “أخليها في غباها”؟ فقد سألها ممتحناً لها وتحاشت إخباره. كذلك ضرورة تأسيس الزواج على التعارف ( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[10] وكيف يكون التعارف بدون علاقة اتصال؟ كذلك ليكون هناك زواج لا بد من محبة لأنه للأسف لدينا زيجات مثل حكاية ابنتنا نورا، زواجات “أخنق فطّس”. لا بد في البداية أن تبلغ الزوجة سن الرشد، ثم الرضا والقبول. كثير من الفقهاء يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة عائشة في عمر تسع سنوات. هذا لا يمكن: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)[11] أي لا يعطوه ماله أو يعطوها مالها ما لم يبلغ الرشد. فهل معقول يدخل في علاقة زواج وولادة بدون أن يكون هناك رشد؟ هذا يعني نظرة جديدة لهذه العلاقات. إنها علاقات ينبغي أن تقوم على رضا وقبول. وحينما أعقد القران للزيجات، حتى الآن حينما أطلب الزوجات والأزواج لكي يحضروا العقد فإنهن لا يأتين، يقلن لا نأتي “نشق” الرجال. لكني أقول لهن تعالن واعقدن، وأتكلم بلغة المساواة في الحقوق والواجبات. إننا الآن بحاجة لقانون أحوال شخصية جديد، بحيث لا يتم تزويج بنت دون الثامنة عشر من العمر، ولا تزويجها بإرادة وليها. صحيح المذهب المالكي يقول بذلك، لكن كما قال الإمام أبو حنيفة إن المرأة لها حق أن تملك مالها وبيتها فكيف لا يكون لها الحق في أن تملك نفسها؟ لا يجوز. هذا معناه ضرورة قانون أحوال شخصية جديد، ولا يفهم الجيل الحالي أن قانون الأحوال الشخصية الموجود حالياً هو  إرادة الله للإنسان، لا، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ[12].)

خامساً: الضرورات الأخلاقية: لا يقوم مجتمع بدون أساس أخلاقي. الأخلاق ليس باعتبارها أوامر معينة، بل هي فطرة، ولا بد أن يفهم الجيل أنه بدون الأخلاق لا تقوم علاقة حتى بين اللصوص، ففي المافيا مثلاً لا بد من علاقات لتوفير الثقة وتنظيم إجرامهم. وأي وجود لا بد له من أخلاق: صدق، أمانة، وفاء، كرم، مروءة، عفة،  إلخ. وهذه الأخلاق لم تأت مع الإسلام “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ[13] وهي موجودة ولها أعلام منذ الجاهلية أمثال: عنترة بن شداد،  ودريد بن الصمة، وغيرهما يتكلمون بمعانٍ خلقية، وكما قال عنترة:

أثني عليّ بما علمت فإنني    سمح مخالقتي إذا لم أظلم

وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لم أسمع وصف عربي أحببتُ أن أقابله أكثر من عنترة.

الأخلاق تقوم على ثلاثة أسس موضوعية: المعاملة بالمثل، والمعروف والمنكر ففي كل مجتمع هناك أمور تصنف معروفاً وأمور أخرى تصنف منكراً. وأعظم فلاسفة الغرب (عمانويل كانط) قال: إذا أردت أن تعرف هل أمر ما صحيح أخلاقياً أم لا تساءل ماذا لو صار قانوناً عاماً؟ فلو أدى لخراب فهو سيئ، وإن أدى لإعمار فهو حسن، والقاعدة الثالثة هي الإيثار: كثيرون يضحون بحقوقهم لغيرهم.

مكارم الأخلاق من الضرورات، وهي نابعة من الفطرة.

سادساً: الضرورات الاجتماعية: كل الناس لديهم ضرورات اجتماعية: أسرة، قبيلة، وطن، قومية، علاقات إيمانية، وعلاقات عالمية. ضرورات اجتماعية.

سابعاً: الضرورات الرياضية. يقولون: شباب ورياضة، كأنما الرياضة للشباب. الرياضة ضرورة للإنسان منذ طفولته حتى الوفاة. هي روشتة للبدن لأن الجسم مكون من عضلات وعظام إذام لم تريضها تضرك “تاخد حقها منك”. وهي مرتبطة بالحالة النفسية، ومن أهم الأشياء الرياضيات التنافسية لأن فيها بذل للمجهود العضلي والذهني معاً. والآن للأسف نجد رجالاً ونساءً بدون رياضة يكتنزون باللحم والشحم: البطنة تذهب الفطنة، والحديث “مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ[14]“، وكلام الإمام المهدي: كل لقمة زايدة على الضرورة عليك لا ليك. الرياضة مسألة مهمة للطفل والشاب والشيخ والمرأة حتى الحمّل لديهن نوع رياضة معينة والنفساء لها نوع رياضة معينة، وقد أصدرت كتاباً يجب أن تقرأوه بعنوان “الرياضة ليست لعباً”. الرياضة مسألة مهمة جداً. ويجب أن تكون هناك حرب على الشحم، هناك مقاييس معينة كل من يجد نفسه زائداً يعلن الحرب عليه. كنت مرة في زيارة لدولة في الخليج وفي العادة أعقد لقاءات فكرية وسياسية وبعدها أعقد لقاءً اجتماعياً، وفي ذلك اللقاء الاجتماعي كانت هناك سيدات نظيفات ومتأنقات يجلسن في الصف الأول، لكنهن كلهم “شحمانات” وطبعاً الظروف هناك مساعدة على ذلك، فقلت لهن لا أستطيع إلا أن أهجوكن: البنت عندنا في السودان في العشرينات تكون فرس البر، وبعد عشرين سنة أخرى يتحولن إلى فرس البحر! أرجوكن اعملن “حركة ورا” وعدن لفرس البر، فهذا كله مرض للركب والظهر والشرايين، وهكذا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَكِبَ وَعَامَ وَخَطَّ وَخَاطَ وَرَمَى بِالسِّهَامِ فَذَلِكَ نِعْمَ الْغُلَامُ”[15]. والرياضة التنافسية أفضل لأنها تشغل العقل والعضل معاً، لذلك قال الإنجليز إننا كسبنا الحرب العالمية الأولى في ميادين الرياضة في المدارس الثانوية.

ثامناً: الضرورات الجمالية: الجمال من مقاصد الكون وإلا لماذا خلق ربنا الكون على هذا النحو، فالزهور انواعها عديدة جداً وألوانها، والطيور وألوانها. وكل الفنون: الرقص والغناء، كل الطيور والحيوانات ترقص وتغني فلا شك أنها من الفطرة، وفي الإنسان الفنون: الشعر، والرسم، والنثر الفني، الغناء، والرقص، والعمارة والسينما، إلخ.

ولنتطرق للموضوع المحرج: التجميل. لا بد من توجيه في التجميل لأننا صرنا في حالة سيئة جداً. فهناك من يستخدمن للأسف أشياء لتبييض الوجه تسبب فشلاً كلوياً. وماذا في هذه الألوان الطبيعية، إنها جميلة جداً. كل إنسان لونه الطبيعي جميل. وهذا لا يمنع الكحل، ولا الدخان والدلكة، ولا الحنة فهي طبيعية، لكن ينبغي منع استخدام هذه الكيماويات لتبييض اللون، أو للشحم كما في”خلع الجيران” بالحبوب، وغيرها.

التجميل مهم جداً وفيه حديث: تصنعوا لنسائكم كما يتصنعن لكم. فليست المرأة فقط تهتم بتهذيب وتجميل منظرها بل كلاهما المرأة والرجل يهتم. أي هناك ضرورة للتجميل على أن يكون تجميلاً منضبطاً.

كنت مرة في باريس قد قدمت محاضرة عن حقوق الإنسان في الإسلام، وكان في الاجتماع مناديب لبيوت التجميل العالمية: ڨوق Vogue، وإيف سان لوران، وشانيل، وهم شغالين غسيل مخ للبنات لتسويق منتجاتهم. قلت لهم التجميل لديكم معادٍ للبيئة: البدرة، وأحمر الشفاة، ومستحضراتكم تقفل مسام البشرة، بينما التجميل لدينا من دخان ودلكة يفتح المسام، فمستحضراتنا طبيعية ومستحضراتكم اصطناعية. وافقوا على أن يفكروا في هذا الكلام لكنهم قالوا: السيدة الغربية إذا قابلتها قبل البوهية فإنها “ما بتتقابل”. المهم مسألة التجميل ضرورة ولكن لا بد أن تضبط.

القرآن يمتاز على الكتب المقدسة كلها بأنه بالإضافة لما فيه من معانٍ فهو نص فني. فيه العروض، والسجع، والجناس، والطباق، والتورية، والإدغام، والمد، وكل معاني البلاغة. هذه ميزة من إعجاز  القرآن: روعة في المعاني وفي المباني.

تاسعاً: ضرورة الترفيه: لو تحدثت بكلام متواصل يمل الناس، لكن إذا ضمنته أمثالاً ونكت فإن الناس يشدون إليه، وهكذا البشر. لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه: “إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ: فَابْتَغَوْا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ”. وقال ابن عباس (رضي الله عنه) إن القلوب إذا ملت كلت وإذا كلت عميت.

وكنت في السجن سألت نفسي، وقد سجنت حوالي ثماني سنوات ونصف في الجملة، سألتها: ما هو السجن؟ هو ليس عذاباً بل الألم في السجن من الملل، فالشخص بعد مدة يختنق. حتى أن بعضهم يصرخ بذلك، وفي إحدى المرات صرخ أحد زملائي بالسجن بأعلى صوته: اختنقت! وليس هناك ما يخنق ولكنه الملل. لذلك لا بد من لهو لقطع الملل.

كان ابن عباس (رضي الله عنه) يجلس ويأتي له الناس من أقاصي البلاد طلباً لعلمه، يسألونه في تفسير القرآن، وفي الحديث وهو فقيه جداً في الدين. وبينما هو جالس معهم جاء عمر بن أبي ربيعة الشاعر المعروف، وهو بالنسبة لطلبة العلم أولئك شخص لو سمح لهم لوقعوا فيه بالسياط، لكن ابن عباس ناداه وقال له: ماذا أحدثت يا عمر؟ فاستنكروا وقالوا له: يا ابن عم رسول الله نضرب إليك كباد الأبل نسألك عن القرآن والسنة وتنشغل بهذا؟ فرد: بأننا نستعين بشيء من اللهو على الجد وأمر الشاعر فأنشد قصيدته المشهورة:

أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ              غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ

لحاجَةِ نَفسٍ لَم تَقُل في جَوابِها           فَتُبلِغَ عُذراً وَالمَقالَةُ تُعذِرُ  

تَهيمُ إِلى نُعمٍ فَلا الشَملُ جامِـــــــــــعٌ              وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ

ولا قربُ نعمٍ إن دنتْ لك نافعٌ                وَلاَ نأْيُهَا يُسْلي وَلاَ أَنْتَ تَصْبِر

أشاد ابن عباس بفصاحته وواصل دروسه، وقد كانت حصة الشعر هذه فسحة لمنع حالة الملل. ولابن الفارض عبارة في هذا الموضوع:

ولا تكُ باللاّهي عنِ اللّهوِ جُمْلَةً               فهزْلُ المَلاهي جِدُّ نَفْسٍ مُجدّة

هذا لا يعني أن يخرج الترفيه عن حدوده، فللأسف هناك موانع وأشياء تحدث في الترفيه فاجرة. لكن لا بد من الاعتراف أن الترفيه من حيث هو ضرورة للإنسان.

عاشراً: ضرورات البيئة. البيئة الطبيعية، الأرض، والماء، والهواء، والنبات، والحيوان كلها قائمة على توازنات. لولا التوازنات نضيع. لو قلّت كمية الأوكسجين الموجودة فلن نتنفس. ومسافتنا من الشمس لو قلت نحترق. هناك وزنة خلقها رب العالمين من أجل الحياة، ولو تغيرت فعلينا الوبال. والآن هناك حديث يدور لأن الأرض تقيها طبقة الأوزون التي تؤثر عليها غازات دفيئة، ولو زالت هذه الطبقة فإن الشمس سوف تحرقنا، وهناك علماء كثيرون يتحدثون عن أن العالم يتجه ليكون: الأرض الفرن، تغلي الناس. ونحن في السودان ليس لدينا إسهام كالبلدان الصناعية في الغازات الدفيئة، ولكنا نستطيع أن نحقق “السودان السندس”. نزرع تريليون شجرة، ونعمل على تحقيق السودان المخضر. وكذلك تطوير المعدات التي تستخدم لاستغلال الطاقة الشمسية لأنها طاقة نظيفة.

سودانيون بلا حدود: في الجزء الأخير من الكتاب أتحدث عن أبنائنا في الاغتراب. من الناحية المادية هم على أحسن حال، يملكون منازل وتعليم وصحة وهكذا، ولكن لديهم مشاكل تنعكس على أطفالهم ينبغي بحثها.

أول مشاكلهم الحنين للوطن كما قال الشاعر:

من غادر الأرض في يوم سعيد       غدا في سجن غربته للنفس سجانا

إذا اشتهى الناس أموالاً وأرصدة     نحن اشتهينا ورب الناس أوطانا

الحنين للوطن مشكلة. لكنهم مكاسب للوطن، بأموالهم التي اكتسبوها وخبراتهم إلخ، وصارت هناك ضرورة لبحث كيفية استفادة الوطن من المنافع التي حققوها. ولكن هناك مشكلة بالنسبة لأطفالهم وقد قالت لي إحداهن: يا فلان إني أتبرأ من أولادي “دة طرفي منهم”. فلا نحن نتكلم لغة مشتركة، ولا نتبع قيم مشتركة، ولا نسمع موسيقى مشتركة. هناك خلاف أساسي.

ماذا نعمل؟ هذه مشكلة ولا نريد أن نفقد أبناءنا وبناتنا ولا أسرهم تريد أن تفقدهم.

هؤلاء الأولاد والبنات مسرورون بالبيئة التي هم فيها، لكنهم سيجدون أن المجتمع الذي هم فيه لا يقبلهم مع أنهم يقبلونه، ففي الغرب الآن تيارات قوية جداً ترفع شعار: لا للأجانب. لذلك عدد كبير منهم الآن يذهبون لداعش بمثابة إعلان حرب على الحضارة الحديثة. أولادنا وبناتنا هؤلاء أمامهم تحدٍ كبير جداً، فهم إذا عادوا لبلدهم “ما بيلفقوا”، ولو ظلوا هناك برزت تيارات تؤذيهم وتلفظهم. هذه مشكلة كبيرة جداً ويلزمنا أن نبحث هذه المشكلة ونناقشها.

في الجلسات التي أعقدها بالخارج أطلب من السودانيين أن يحضروا مع أبنائهم، وبعد فراغي من حديثي يطالبونني: بالله من فضلك قل لنا هذا الكلام بالإنجليزي فأولادنا وبناتنا لم يتابعوا. وهذا ليس ذنبهم ولكنه الواقع. إننا الآن لأول مرة أمام مكون اجتماعي جديد، وهو مكون كبير فالسودانيون خارج السودان الآن 12 مليون. ولديهم مكانة اجتماعية كبيرة جداً. أطفالهم ومشكلتهم مشكلة قومية لا بد أن نتعامل معها بهذا المفهوم. والآن نسعى لأن يكون هناك جسم يمثلهم، وملتقى علمي منهم لدراسة الموقف وإصدار توصيات.

هذا الجزء مهم للسلام الاجتماعي، وهذا الجيل الجديد يتطلب وعياً جديداً. لا نستطيع أن نتعامل معه بالشكل معتاد. وضروري جداً للسلام الاجتماعي فهم هذا المكون الاجتماعي الجديد، فلن يحدث سلام اجتماعي إذا لم تعالج مشاكلهم.

كتابي “أيها الجيل” طرق هذه المسائل بهذا المفهوم. وكلامي ليس منزلاً فهو اجتهاد، لكن التنبيه لكي يناقش الناس في كل المستويات هذه القضايا. وهل ما ذكرته صحيح ليبنى عليه، أم خطأ ليعدل، لأني لم أقله باعتباري أتكلم من وحي بل من عقل، والحجة مدفوعة بالعقل. لقد صدرت من هذا الكتاب حتى الآن ثلاث طبعات، وأرجو أن يقرأه الجيل لأن فيه مخاطبة له في هذه المسائل خارج المسلمات.

إن جيل الإنترنت هذا ليس في السودان فحسب، ففي الجزائر، وتونس، والمغرب ولبنان، صارت لديه مشاكل متشابهة ووسائل للتعبير عنها متشابهة. وإذا لم تتنبه قيادات المجتمع لذلك فإنها تكون “برة الشبكة”.

أنا أعتبر نفسي “جوة الشبكة” لعدة اعتبارات، فقد تابعت هذه المسائل فكرياً واجتماعياً وسياسياً داخل السودان وخارجه، بينما قيادات كثيرة نائمة على هذا الموضوع. ولدي حوالي مائة إصدارة عن قضايا اجتماعية، وهذا جعلني مواكباً، وأستطيع القول إننا نخاطب في “أيها الجيل” بمفهوم المواكبة.

ولحسن الحظ فقد قام كل الطغاة باستهدافنا: عبود، نميري، والبشير الذي حينما سقط كانت هناك عشرة بلاغات مفتوحة ضدي، خمسة منها عقوبتها الإعدام. هؤلاء الطغاة لا يعجبهم أن هناك ناس مثلنا ضدهم. فلا مانع لديهم أن يكون اليسار ضدهم لأنهم يعتبرونهم ضدية ليست فاعلة. لكنهم لا يقبلون أن نكون ضدهم، لذلك كلهم يحاولون استقطابنا. جاءني نميري في منزلي وقال لي يا فلان، لقد بحثت ولم أجد غيرك ليكون خليفتي ونائبي. قلت له يا أخي الرئيس، إذا لم يكن هناك دستور يعطي الناس حقوقهم فوظيفتك نفسها لا أريدها. فغضب و”حمّر كي”، وخرج. ومن الأشياء التي قالها بعد سقوطه: الأمر الذي ندمت عليه أنني لم أعدم فلان. فمن جانب عرض علي أكون خليفته، ومن جانب ندم أنه لم يعدمني. أما الأخير (البشير) فقد عرضوا علينا ثلاث مرات أن نتقاسمها معهم وقالوا لي نعطيك رئاسة الوزارة: لا، لا، لا، وفي النهاية البلاغات ضدنا. أذكر كل هذا لأبين المواكبة.

هناك كثير من الزعماء السياسيين أو الدينيين أو القبليين دخلوا في بيات شتوي كما تفعل الضفدعة لذلك لا يواكبون. وقد واكبنا الظروف المختلفة وفكرة “أيها الجيل” خطاب للجيل من منطق يكون مقبولاً عندهم. والمؤسف كثير ربما لم يقرأوه لأن الناس الآن يقرأون الأشياء الجاهزة في الواتساب وغيره.

ما ذكرته الآن يمكن أن يكون مدخلاً، ويهمني أن تكون هذه المسائل محل مناقشة لكي نجد لغة مشتركة. فالحرية أتت، وهي تعطي فرصة للفوضى ولتوحيد الكلمة. هناك من يمشي للأسف في اتجاه الفوضى، لكننا سوف نسير في اتجاه توحيد الكلمة.

الآن الأجندات انفتحت. هناك للأسف من سيعمل لكي تفشل الأمور لكي يعملوا انقلاب. وهناك آخرون يعملون فوضى لصالح أجندات خارجية. ولكنا سنعمل في اتجاه توحيد الكلمة لحماية أهداف الثورة، ولكي تصير هذه الثورة لا كثورات الربيع العربي أسقطت النظام السابق وانتهت، بل تصير ثورة حققت أهدافها الثورية كلها، وتصير قدوة للمنطقة كلها، فالمنطقة كلها محتاجة لمخرج. والسودان ممكن أن يكون قدوة في هذا السبيل.

نبهني الحبيب بشرى أن أهدي نسخة من الكتاب للنادي، وللنادي ثروة كبيرة، فألبوم الصور  ممتاز جداً وكذلك المكتبة. وكما ذكرت إن لدي مائة إصدارة وسوف أرسل لكم نسخاً منها، لتضاف لمكتبة نادي الزهرة.

السلام عليكم.

 

ملحوظة: ألقيت الكلمة شفاهة وقام المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي بتفريغها من التسجيل الصوتي.

[1] سورة السجدة الآية رقم 9

[2] رواه البيهقي

[3]  سورة الإسراء الآية رقم 70

[4] متفق عليه

[5] رواه النسائي

[6] صحيح مسلم

[7]  رواه الترمذي

[8]  سورة الحجر الآية رقم 85

[9] سورة هود الآية 61

[10]  سورة الحجرات الآية 13

[11]  سورة النساء الآية رقم 6

 [12] سـورة التوبة الآية 71

[13]  مسند ابن حنبل.

[14]  رواه  الترمذي

[15] سنن الترمذي