كلمة في إفطار عمل على شرف الأمير الحسن بن طلال 20 ديسمبر 2006م

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الإمام إفطار عمل على شرف الأمير الحسن بن طلال

منزل الإمام الصادق المهدي

صباح الأربعاء 20 ديسمبر 2006م

كلمة الإمام

باسم حزب الأمة وهيئة شئون الأنصار وجماهير شعبنا أرحب بوفد مؤسسة القيادة العالمية برئاسة الحبيب الأمير الأممي الحسن بن طلال وأعتبر المؤسسة وجهاً من وجوه التقارب الروحي والفكري والثقافي بين الشعوب.

كنت ولا زلت أطعن في مفهوم صدام أو وئام الحضارات لا زهداً في بث السكينة والمودة والرحمة بين الناس ولكن لأن الحضارة انتماء فضفاض لا تسبك لحمته فكرة موحدة ولا مصالح اقتصادية وأمنية واحدة. وكان الركون لهذا المفهوم في تحليل السياسات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة على أيدي مفكرين جزعوا من افتقاد المعسكر الغربي لآخر مغاير يحافظ على تماسكه فالتمسوا هذا الآخر المغاير في الغيرية الحضارية ليجد فيها الغربيون انتماءً مشتركا ولتواصل الولايات المتحدة قيادتها لهذا الانتماء الحضاري الغربي كما كان الحال في مواجهة المعسكر الشرقي البائد.

إن الأمور التي سوف تدور حولها الأوضاع الدولية صداما ووئاما هي:

أولا: الأديان فبالقدر الذي يعرف فيه الدين هوية أتباعه –وهو مقدار كبير- تمثل الأديان كيانات قابلة للحوار فالوئام أو الخصام فالصدام.

ثانيا: اللغات وهي قنوات انتماء ثقافي هام يميز الأنجلوفون والفرانكوفون والعربوفون وغيرها من اللغات العالمية، كما يفتح بابا للتعايش أو التنافر بينها وبين اللغات القطرية أو المحلية الأخرى.

ثالثا: التجاذب المحتوم بين الحداثة والتقاليد الموروثة.

رابعا: جدلية العولمة والخصوصيات الثقافية.

خامسا: بروز انتماءين يمثل أحدهما منبر الثمانية الكبار G8 ويمثل الآخر منبر الجنوب الامتداد الجيوسياسي “للعالم الثالث” القديم.

سادسا: التوتر الحالي بين الأحادية والتعددية في إدارة الشئون الدولية.

سابعا: التناقض القائم بين الاحتلال بأشكاله المختلفة المؤقتة والاستيطانية، وحركات التحرير.

إن عالمنا اليوم، المزود بقدرات نووية وأسلحة دمار شامل أخرى (لا سبيل لحجر المعرفة التكنولوجية بإنتاجها ولا القدرات المالية على ذلك ولا يحجرها ويمنع استخدامها إلا تجفيف الدوافع لذلك) سوف يدخل في مرحلة ظلامية تفضي إلى فناء الذات أو مرحلة تنويرية من النماء والرخاء والمودة والإخاء:

أمامك فاختر أي نهجيك تنهج

            طريقان شتى مستقيم وأعوج

المطلوب من كل المعنيين بمستقبل البشرية الاهتمام بالأجندة ذات البنود السبعة لتأمين مستقبل البشرية وإلا فإن عوامل التناقض والتباغض بين أطراف تلك المعادلات سوف يدمر هذا الكوكب بإرادة الشيطان نقضا لإرادة الله الذي (أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[1]) أي جعلكم عمارها. هذا هو مشهد السجال مع أن النتيجة بقدر الله واضحة (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ    [2]). ولكن لهذا المصير استحقاقات على البشرية أن تدفعها (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ[3]).

نحن سكان هذا الجزء من الكوكب مستغرقون الآن في أزمات تدفع بنا نحو الدمار الذاتي فضلا عن تمكيننا القيام بدورنا في مصير الإنسانية.

تأزمنا يعود لستة ملفات ينبغي أن نحسمها حسما واعيا مستنيرا وحازما وإلا غرقنا في طوفاننا قبل الطوفان العام.

تلك الملفات هي:

أولا: الانكفاء الذي يعتبرنا نسيج وحدنا في البشرية وأن وحينا وتراثنا قال الكلمة الأخيرة في كل شيء فما على حاضرنا ومستقبلنا إلا أن يبعث ماضينا بكل ما فيه. مع أن وحينا نفسه حافل بالاعتبار بعطاء الإنسانية السابقة وحافز على الانفتاح نحو الإنسانية في كل زمان ومكان باعتبار أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.. الفكر المنكفئ هو الذي قفل باب الاجتهاد وهو الذي أقام لنا وفاءً لا مستقبل له. وبموجبه دب فينا اجتهاد إقصائي لكل عطاء الإنسانية واستعداد لاعتبار كل من ليس معنا عدو لنا.

ثانيا: الاستلاب الذي قال به بعضنا وفحواه أن نقلد الغربي الوافد بخيره وشره باعتباره مستقبل الإنسانية الذي لا يجوز معه إلا الاتباع. هذا مع أن الحضارة الغربية نفسها مدينة لحضارات إنسانية سبقتها فقد أوضح كتاب “أثينا السوداء”، لمارتن برنال، دين اليونان لمصر القديمة وفينيقيا. والحضارة الأوربية الحديثة مدينة لحضارات أخرى أهمها الإسلامية العربية كما أوضح كثيرون وعلى رأسهم المرحوم منتجمري واط. والحضارة الغربية المعاصرة في نظر أهم مفكريها تدرك قصورها في المجالات الأخلاقية، والروحية، والغائية.

نعم طورت الحضارة الغربية مفاهيم أولى بالاستصحاب مثل حرية البحث العلمي، والحريات الأساسية، والتنمية الاقتصادية، ولكن استصحاب هذه الإنجازات ينبغي أن يتم من ذات متجذرة في أصالتها لا مجرد استنساخ للوافد. الفكر المستلب يريدنا أن نصنع مستقبلا ليس له وفاء.

هذا التعلق بالوافد مسئول عن مغامرات تطارد سراب التحديث بالوافد غير المؤصل.

ثالثا: الاستبداد. الاستبداد سواء القائم على نظم موروثة أو نظم انقلابية مستحدثة ملة واحدة. ملة صنعت في أوطاننا احتباسا فكريا وسياسيا. احتباس خلق من تحته براكين ما لبثت أن انفجرت عندما رفع غطاء الاحتباس كما شوهد في العراق، وفي الصومال، وما يشاهد في السودان فإن اتفاقيات السلام رفعت الغطاء جزئيا فاندفعت البراكين الكامنة وتطاير حممها. إن وقف التطور الفكري والسياسي بأيدي السلطان القاهر يمنع التطور الصحي ويخلق بؤرا حرارية تنفجر بالعصبيات الإثنية والطائفية، عندما تزول أدوات الاحتباس. اتفاقيات السلام عالجت مشاكل بصورة جزئية ثنائية وفتحت مجالات احتجاجات مدنية وعسكرية فإن لم تواجه بحل كلي محيط ينطلق من شرعية الإجماع لا من نفعية المقايضة والمحاصصة نكون كمن اتقى عضاض الأفاعي ونام فوق العقارب.

رابعا: الاحتلال: الاحتلال السوفياتي لأفغانستان حول قوى إسلامية أفغانية هادئة إلى قوى جهادية دعمها المعسكر الغربي وحلفاؤه حتى صارت آلة قتالية طردت أقوى جيش في العالم من أفغانستان. وكان من بين المجاهدين العرب الأفغان الذين كونوا فيما بعد نظام القاعدة. القوى الإسلامية الجهادية التي طردت السوفيات أخفقت في إدارة شئون أفغانستان فنشأت حركة طالبان بدعم باكستاني ومباركة غربية في البداية لملء الفراغ. لا أحد يستطيع أن يقول إن القاعدة وطالبان صناعة الاستخبارات الغربية، لكنهما يمثلان إرادة محلية تلقفتها حاضنة الحرب الباردة. لذلك لا يستطيع المعسكر الغربي أن يغسل يده من الأمر كأنه نشأ في ظروف المنطقة دون مقدمات كان للسياسة الغربية سيما الأمريكية دور هام فيها.

وفي ظروف مختلفة أدى الاهتمام بشئون البترول وأدت حروب الخليج إلى تحقيق أمنية راودت الاستراتيجيين الغربيين منذ زمان بعيد وهي عسكرة قواتهم في حقول البترول. الوجود الغربي في مناطق كثيرة في الخليج منح القاعدة هدفا مماثلا لهدفها في أفغانستان: إجلاء الوجود الأجنبي من منطقة الخليج. لقد أوضح روبرت بيب في كتابه القيم “الموت من أجل الفوز” أن كل أحداث الألغام البشرية مرتبطة باستهداف الجلاء من الأوطان.

الاحتلال من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان هو سبب العنف الذي استهدف عسكريين ومدنيين. والاحتلال منح نشطائه سببا مشروعا ومع أنهم باستهداف المدنيين اتخذوا أساليب غير مشروعة فإن استمرار الاحتلال منح أنشطتهم تعاطفا شعبيا واسعا.

خامسا: في مؤتمر عقد العام الماضي في مدريد عن جذور الإرهاب قدم أوليفر روي ورقة ربط فيها بين أنشطة الإرهاب المستجدة كما في مدريد ولندن وبين الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب. قال إن هذه الجماعات اكتسبت معارف وتقنيات حديثة مع أنها تعيش في حالة استلاب ثقافي واجتماعي. ويرى أن الأمر يفتقر لمعاملة هذه الجماعات بصورة مختلفة.

إن معاملة المجتمعات الغربية في الماضي لليهود فرخت اللا سامية وثمرتها الصهيونية، واليوم لأسباب مختلفة فإن فجوة التواصل مع المجموعات الإسلامية في الغرب فرخت الإسلاموفوبيا التي تجر ضدها الغضب والإرهاب.

سادسا: الاستيطان التوسعي هو الذي خلق ظروفا أفرزت المقاومة التي تدرجت في مضائها وتجذرها الديني حتى أفرزت حزب الله 1982 وحماس 1989م.

هذه العوامل الستة تفاعلت وخلقت ظروفا جعلت المنطقة ما بين دول مستقرة ولكن حكوماتها محاصرة، ودول تفككت فعلا، ودول تواجه انقساما حادا مندفعا نحو حروب أهلية قطرية ذات وشائج تشدها إقليميا لتصبح الحرب إقليمية وذات أواصر تقيدها دوليا لتصبح الحرب كونية.

القراءة الأمريكية لأزمات المنطقة خاطئة تماما وملونة بالمطالب الإسرائيلية. ومحاولة إملاء مصير المنطقة بموجب مبادرة الديمقراطية أو الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد أتت في كل الحالات بنتائج عكسية. ففي أفغانستان، والعراق، ولبنان، وفلسطين، والصومال، والسودان وغيرها من البلدان كان للسياسة الأمريكية نتائج وخيمة توجب في كل الملفات مراجعة جذرية لتلك السياسات.

المبادرات الأمريكية تقوم على افتراض أن المنطقة خلاء روحي وثقافي وفكري تملؤه الهندسة المستوردة. أثبتت التجربة أن لشعوب المنطقة حيوية غلابة وأن إملاء الفكر الواحد بالسلطان العسكري لا يجدي.

على كل من يستطيع نصح الإدارة الأمريكية أن يفعل ذلك بوضوح وجسارة لأن تلك السياسات أتت بعكس مقاصدها. ولكن المراجعة الأهم هي تلك التي ينبغي أن تقوم بها القوى الفكرية والسياسية والدينية في المنطقة. آخذة في الحسبان الملفات الستة المذكورة سابقا وعاملة على وضع خرائط جديدة لبلدان المنطقة.. خرائط لا تجدي إن قامت على إملاء أجنبي أو إملاء حزب أو طائفة واحدة وطنية.

 ربما ساعدت السودان الظروف لكي يكون الأقرب لرسم معالم هذه الخارطة الإحيائية الجديدة. ولكن في أفغانستان، والعراق، والصومال، ولبنان، وفلسطين وغيرها ينبغي الاتفاق على ثلاثة أمور هي: الاعتماد على الرافع الأجنبي لا يجدي، والاعتماد على الحل الإقصائي لا يجدي، ولا بد من إقامة منابر وطنية جامعة لتحقيق إجماع حول المستقبل الوطني والإقليمي.

إن للقيادة العالمية اهتماما بالشأن العالمي، ولكن الجدوى توجب تصنيف مشاكل المناطق المختلفة. هذه المنطقة الإسلامية، العربية، الإفريقية، تحتضن اليوم انفجارات واقعة ومحتملة أبلغ خطرا من أسلحة الدمار الشامل. احتمالات الحروب الأهلية الشاملة. وينبغي لقواها الفكرية والسياسية، والقوى العالمية الواعية والحادبة التفكير في مشروع سفينة نوح لإنقاذها.

يمكن للقيادة العالمية الاكتفاء بالاطلاع على الأحوال وبث الآراء الطيبة والمجاملات. ولكن المنطقة الآن تحتاج لمن يدركون عمق أزماتها ويقدمون النصح أو الدواء الشافي وإن كان مرا.

نقول لكم نزلتم أهلا وحللتم سهلا، وحتى إذا وقفتم عند حد الاطلاع على أحوالنا نشكركم من باب:

لا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ        

            يواسيك أو يسليك أو يتألم!

ولكننا والمناطق المحيطة بنا نواجه أزمات تواجهنا داخليا بتحديات كبرى وتواجه المنابر المعنية إقليميا وعالميا بتحديات مماثلة. وغني عن البيان أن نقول إن المساهمة في الاستجابة لتلك التحديات توجب الفهم الصحيح للأزمات وتمنع بتاتا محاولات الإملاء الخارجي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان            

هو أول وهي المكان الثاني.

 

[1]  سورة هود الآية 61

[2]  سورة الأنبياء الآية 105

[3]  سورة الرعد الآية 11