كوارث الطبيعة والطبع في أمريكا

بسم الله الرحمن الرحيم

كوارث الطبيعة والطبع في أمريكا

2 أكتوبر 2005م

 

إعصارا كاترينا وريتا أصابا عددا من الولايات الأمريكية وأتلفا كثيرا من الأنفس والأموال. الواجب الإسلامي والإنساني أن نتعاطف مع الشعب الأمريكي في محنته ونواسيه ونساعده ما استطعنا. قال بعض فقهاء المسلمين (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) «سورة الفجر 14» ويجوز لنا الفرح بما أصاب هؤلاء الظالمين المتجبرين المتكبرين (الحياة 12/9/2005) مناقضين للإخاء الإنساني الذي يوجبه الإسلام، فالنبي (ص) أرسل معونة لمشركي قريش في مكة عندما ضربتهم المجاعة. وفي أهل الكتاب قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين) «سورة آل عمران 113 و114». الظواهر الطبيعية لا تخضع للقانون الأخلاقي وتصيب البقاع والبشر بصرف النظر عن الإيمان والكفر. المشكلة مع أمريكا متعلقة بسوء الطبع لا سوء الطبيعة. أمريكا قامت بدور هام في بناء النظام الدولي المعاصر وما صحبه من تطور لخير الإنسانية، وكان آباؤها المؤسسون من بناة حقوق الإنسان الحالية، كما أسهم نوابغها في كافة المجالات. ولكن سياساتها لا سيما بعد أن اختطفها الغلاة أكسبتها سخطا واسعا لدرجة أن غالبية الشعوب الأوربية في استطلاع أجراه الاتحاد الأوربي في عام 2004م اعتبرتها الخطر الثاني على السلام العالمي بعد إسرائيل.

أدرك كثير من الأمريكيين مدى الكراهية التي اكتسبوها في منطقة الشرق الأدنى، وقد أكد ذلك تقرير أصدرته مؤسسة راند البحثية في 2003 موصيا بنهج جديد، وتقرير مجموعة عمل كلفتها وزارة الدفاع الأمريكية جاء بتوصيات مماثلة، وفي نفس المنوال عينت كارين هيوز مستشارة لشؤون الدبلوماسية الشعبية بوزارة الخارجية الأمريكية لتحسين صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. العلة التي أكسبت أمريكا رفض المنطقة جوهرية ولا تزيلها مساحيق العلاقات العامة. هنالك ملفات كثيرة ينبغي أن تراجعها السياسة الأمريكية لتحقيق مصالحة حقيقية مع المنطقة أخص منها سبعة بالذكر: إن لأمريكا دورا هاما في الغلو الذي فرّخه المشهد الأفغاني لأنها استخدمته في وجه عدوها السوفيتي بلا ضوابط وبلا حدود.

إنه في بعض جوانبه من إفرازات الحرب الباردة ولا ينبغي حصره في شجرة نسب محلية. مغامرة غزو العراق كانت خاطئة وللتحريض الإسرائيلي دور هام فيها. ينبغي الاعتراف بنتائجها السالبة على أمن العراق وجيرانه والعالم وإيجاد صيغة دولية لإجلاء القوات الأمريكية والمحافظة على الأمن العراقي والإقليمي.

غياب الديمقراطية أحد أسباب التوتر الذي أنبت الغلو الذي ركزت عليه أمريكا انتقائيا متجاهلة أسبابا أخرى كسياسات النفط، وإسرائيل، والهيمنة، لأنها لا تريد مراجعتها، برغم وجوب المراجعة إذا أريد التفاهم مع المنطقة. دعم أمريكا للديمقراطية في المنطقة اتجاهٌ حميد ويجد ترحيبا حارا بدل الدعم المعهود لحكومات الاستبداد. ولكنه يبدو كأنه غلاف من السكر للسياسة الأحادية الاستباقية ضد الإرهاب. وأودى بجديته أن مبادرة الإصلاح الديمقراطي الأمريكية التي تبنتها الدول الثماني تجسدت في منبر الشراكة من أجل المستقبل، يضمها والدول العربية ويغيب ممثلي شعوب المنطقة أصحاب المصلحة الحقيقية في التحول الديمقراطي، وما برحت الاتصالات الأمريكية بممثلي المنطقة تعطي وزنا خاصا للفئات المسلحة، وجماعات العصبية العشائرية، بدون الاهتمام المطلوب بالاتصالات بالقوى السياسية «الأخرى» والمدنية والنقابية وهم لبنات البناء الديمقراطي المنشود. وأكاد أجزم أن برنامج زيارة السيدة هيوز للمنطقة سوف يكرر سنّة سلفها متحدثة عن الديمقراطية لجهات تعتبرها خطرا على أمنها!!. الفصل بين صورة أمريكا في المنطقة العربية الإسلامية وبين سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة مستحيل. قال جون دنهام النائب العمالي البريطاني ورئيس لجنة الشؤون الداخلية التابعة للبرلمان: إن السياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة قضية تهم السياسة الأمنية البريطانية لأنها تثير غضب وانفعال المسلمين. («الشرق الأوسط» 24/ 9/ 2005). في كتاب صمويل هنتنجتون الشهير عن صراع الحضارات قال: إن سوء إدارة احتواء انتشار أسلحة الدمار الشامل سوف يؤدي حتما لانتشارها!! واستشهد على ذلك بعدد الدول التي انضمت للنادي النووي منذ إعلان اتفاقية الاحتواء. إن السياسة الأمريكية في هذا المجال لن تحقق مقاصدها لافتقارها قوة المنطق: إسرائيل لم توقع على الاتفاقية وتقدم كل دليل على امتلاكها السلاح الحرام، ومع ذلك تحظى بالرضا الأمريكي. كوريا الشمالية أعلنت امتلاكها السلاح النووي ومع ذلك تمارس ابتزازا نوويا وتملي شروطها. إيران وقعت على الاتفاقية والبروتوكول الملحق بها، وأعلنت التزامها بتوظيف التقنية النووية لأغراض مدنية ورغم ذلك تواجه الوعيد والتشدد.

التقنية النووية جزء من ثروة الإنسانية المعرفية ولا يمكن حجرها. المهم أن يحال دون استخداماتها العسكرية، ويضبط سلوك من دخلوا النادي النووي إلى أن يستطاع نزع هذا السلاح الرهيب، ويقضى على بؤر التوتر التي تدفع نحو سباقات التسلح. التعامل الأمريكي مع السودان فيه كثير من البقع السوداء. دعمت نظام جعفر نميري الشمولي لأنه أيد سياساتها في الشرق الأوسط وقام بترحيل الفلاشا لإسرائيل وأعطاها تسهيلات عسكرية في البحر الأحمر. وعارضت النظام الديمقراطي في الثمانينات لأنه تخلى عن تلك السياسات.

وفي التسعينات قصفت مصنع الشفاء للأدوية بدون وجه حق. رحبت بانقلاب يونيو 1989م لعدم رضاها عن سياسات النظام الديمقراطي ثم عادته عندما اكتشفت حقيقته الإسلاموية ثم تعاملت معه إيجابيا منذ 2001م ودعمت عملية السلام التي أدت في2005م لتوقيعه اتفاقية السلام الشامل في يناير. الرافع الأمريكي بحزمتين ـ إحداهما من العصي والأخرى من الجزر ـ ساهم بالقدر الأكبر في إبرام اتفاقية السلام التي حققت بعض الإيجابيات ولكن سلامها ليس شاملا.

وتحولها الديمقراطي مشلول. حكومة الوحدة الوطنية التي قامت على أساسها اسمٌ على غير مسماه! أمريكا تعلم هذه العيوب ولكنها اكتفت بالأماني والتهاني ولم تفعل شيئا لتقويمها مثلما فعلت لإبرام الاتفاقية الثنائية الناقصة. وحتى في نطاق إنجاح الاتفاقية المعيبة فإن الموقف الأمريكي يرسل إشارات متناقضة تؤثر سلبا على تطبيقها، فالسودان ما زال في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب وقائمة المقاطعة الاقتصادية الأمريكية، يواجه وعيد قانون سلام السودان الشامل ويواجه طائفة من الهراوات الدولية. الموقف الأمريكي مما يجري في السودان يؤكد لأغلبية أهل السودان أنه ليس معهم في تطلعهم لسلام عادل وشامل وتحول ديمقراطي حقيقي. ينبغي أن تراجع أمريكا سياساتها في هذه الملفات بما يحقق مصالحها ومصالح أهل المنطقة المشروعة. فإن فعلت ازدهرت المودة الكامنة نحوها وأشرقت صورتها وإلا فإن السياسات الأمريكية سوف تهزم نفسها. إنك لا تجني من الشوك العنب!!