لجنة تبيان الحقائق برئاسة السيد صلاح عبد السلام تفند ادعاءات مبارك الفاضل

بسم الله الرحمن الرحيم

حزب الأمة

بيان تنويري لأعضاء الأجهزة القيادية

ثارت في بعض الصحف منذ الأسبوع الأول من هذا الشهر، وبدون مبررات ظاهرة، أقوال عن تاريخ حزب الأمة المتأخر وتنظيمه الانتقالي قبيل عقد المؤتمر العام السادس في أبريل 2003م. تناولت الأحداث التاريخية للحزب أقلام شتى. كون مجلس التنسيق الأعلى للحزب، في اجتماعه بتاريخ الجمعة 7 مايو 2004م لجنة لتبيان الحقائق برئاسة السيد رئيس هيئة الضبط والرقابة الحزبية في التنظيم المرحلي السيد صلاح عبد السلام الخليفة، ومقررية السيدة مقررة المكتب السياسي لذلك التنظيم السيدة سارة نقد الله، وعضوية آخرين ذكروا في الكتابات أو كانوا شهودا عن قرب للأحداث المعنية داخل التنظيم المرحلي، وذلك لحصر الروايات المثارة عن الحزب وتفصيل الحقائق حولها. وقد فرغت اللجنة من عملها وقدمته لمجلس التنسيق الأعلى ليتخذ بشأنه القرار المناسب، وقد قرر مجلس التنسيق الأعلى في جلسته بتاريخ 19 مايو 2004م أن يتم توزيع تلك المادة على أعضاء الأجهزة القيادية للتذكير بالأحداث التاريخية وتوثيقها وإيضاحها للسائلين، على ألا ينشر هذا البيان ليس لسريته، بل لأسباب سياسية تقتضي ألا نشغل الساحة الإعلامية بمادة تاريخية تعد انصرافية ولا حكمة وراء التراشق حولها في هذا الظرف الوطني الحرج.

أولاً: ملابسات تكوين التنظيم المرحلي

التنظيم المرحلي للحزب هيكل قام لإدارة الحزب وتنظيمه في الفترة ما بين أغسطس 2000م وحتى قيام المؤتمر العام للحزب الذي كان من المفترض أن يتم في يناير 2001م. وقد حدثت عدة ملابسات عوقت قيام المؤتمر العام فلم ينعقد إلا في أبريل 2003م.

تكوين التنظيم المرحلي: بعد توقيع “نداء الوطن” في 25 نوفمبر 1999م في جيبوتي بين حزب الأمة وحكومة السودان، قرر الحزب تصفية الوجود الخارجي وعودة قيادات الحزب وكوادره المعارضة للداخل. دشن الحزب العودة للعمل العلني بالتزامن مع عودة الدفعة الأولى من قياداته في 6 أبريل 2000 تيمنا بذكرى الانتفاضة، فعاد وفد كبير على رأسه الدكتور عمر نور الدائم الأمين العام المكلف للحزب- رحمه الله- وبصحبته السيد مبارك المهدي وآخرون. قبل عودة الفوج الأول للقيادات جرت مفاوضات مطولة تبحث في أمر تنظيم الحزب الانتقالي لحين انعقاد مؤتمره العام. فكون الحزب بالخارج لجنة لبحث مسألة التنظيم من أعضاء الأجهزة الدستورية بالخارج ورصفائهم الزائرين للقاهرة من الداخل برئاسة الأمير عبد الرحمن نقد الله (عجّل الله بشفائه) الذي كان زائرا للقاهرة في تلك الأيام. اجتمعت اللجنة عدة اجتماعات ثم رفعت تقريرا في 13 يناير 2000م لرئيس الحزب. ولتوسعة التشاور وجه الرئيس خطابا في 16 يناير 2000م لجميع أجهزة الحزب القيادية بالداخل والخارج، عرض في الخطاب ضمن قضايا أخرى مسألة التنظيم المرحلي، وتلقى استجابة من الجهاز القيادي بالداخل ومن عدة مكاتب وكوادر قيادية في الخارج. ثم وجه الرئيس بعدها دعوة لقيادات الحزب بالداخل والخارج حيث جرت الاجتماعات في الفترة 15- 16 فبراير 2000م ناقش فيها المجتمعون ملفا يحوي أكثر من مائة صفحة كان للتنظيم فيها نصيب الأسد. وخرج البيان الختامي بعدة توصيات بعضها يتعلق بالتنظيم المرحلي وتكوين المكتب السياسي والأمانة العامة فيه. وفي يوليو 2000 عقد الحزب ورشة خاصة بالتنظيم في مقره بالقاهرة. بعد عودة الفوج الأول للقيادات حدثت خلافات حول تفسير التنظيم المرحلي وتكوينه، وحول علاقة الحزب بالنظام والتفاوض معه، فدعا الرئيس لاجتماع قمة لقيادات الداخل والخارج حضره 19 من قيادات الحزب، استمرت الاجتماعات الماراثونية طيلة تسعة أيام امتدت من 27 يوليو وحتى 4 أغسطس 2000م. ناقشت الاجتماعات التاريخية مسألة التنظيم في اليوم الأول ثم انقضت المناقشة بتكوين لجنة خاصة بالتنظيم برئاسة السيدة سارة الفاضل ومقررية الأستاذ عبد المحمود صالح وعضوية كل من الدكتور عبد النبي علي أحمد، والسيدين صديق موسى بولاد وعبد المحمود أبو إبراهيم. اتخذت تلك اللجنة أدبيات مرجعية لها: توصية اجتماعات فبراير، وتوصيات ورشة التنظيم (يوليو 2000م) وتصورات للتنظيم مقدمة من كل من السادة عبد الرحمن عبد الله نقد الله، آدم محمود موسى مادبو، ومبارك عبد الله المهدي. خرجت اللجنة برؤى ناقشتها الاجتماعات ثم خرجت بتوصيات نهائية تشكل هيكل التنظيم الانتقالي وتكوينه، حيث كون المكتب السياسي بعدها بالتصعيد من كليات محددة بالانتخاب مثل الشباب والمرأة، وأخرى بالتصعيد من الكليات المعنية مثلا هيئة شؤون الأنصار. أما المكتب التنفيذي فقد سكنته لجنة التنظيم في اجتماعات القاهرة وأجمع عليه بالتراضي، ولم يقم بتعيينه الرئيس أو غيره كما تقول بعض الإشاعات المغرضة الآن. أعقب ذلك صدور منشور من رئيس الحزب بعنوان “منشور البيان السياسي لمرحلة التحول” وزع على أعضاء الحزب بالداخل والخارج اختتم بالفقرة التالية: “أوجه نداء واضحا لكافة جماهير حزبنا الوفية الواعية القوية قفل باب الجدل والالتفاف حول الهيكل الجديد والشرعية التي يمثلها والعمل الجاد لعقد مؤتمر الحزب العام. المؤتمر العام هو الذي سوف يخاطب المستجدات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو الذي سوف يجسد تطلعات بلادنا للإصلاح والتجديد، وسوف يؤهل حزبنا لقيادة العمل السياسي في مطلع القرن الجديد”.

وقد قاد التنظيم المرحلي العمل الحزبي في فترة حرجة، وتخلل أداءه عدة تعقيدات سياسية وتنظيمية أخرت من انعقاد المؤتمر العام.

أهم سببين لتأخر انعقاد المؤتمر العام في زمانه هما:

حزب الأمة حزب كبير تنتشر فروعه في كافة بقاع السودان، تمويل التحرك في العاصمة وداخل الولايات كان يتطلب آليات للحركة والاتصال السريع. لقد كان من شروط الحزب للاتفاق مع الحكومة أن تصحب اعترافها بالتعددية الحزبية إعادة ممتلكات الأحزاب المصادرة من دور وسيارات وآليات اتصال. قدرت اللجنة المعنية بممتلكات الحزب المصادرة أنها تساوي حوالي 4.5 مليون دولار مقابل مئات السيارات، وأجهزة اتصال، ومولدات كهربائية وأثاثات صودرت من دور الحزب بالعاصمة والأقاليم. ولكن النظام أعاد أقل من ربع ذلك المبلغ، ولم يعد للحزب بقيته كوسيلة ضغط على الحزب حتى يقبل المشاركة في السلطة.

الفريق المفاوض للنظام بتفويض من الحزب سعى لتأخير حصول الحزب على حقوقه بتأليب النظام ضد الحزب وإظهاره بمظهر الضعيف الذي ستقصم ظهره المصادرات وعدم إعادتها. هذه الحقيقة تكشفت للحزب لاحقا حينما قام ذلك الفريق بانقلاب على الحزب ليشارك في السلطة بدون استيفاء شروط المؤسسة الحزبية. وقد كانت رئاسة لجنة إعداد المؤتمر ومقرريتها بيد الفريق المفاوض ومؤيديه وقد عملوا ما بوسعهم لتعطيل مهمة الإعداد للمؤتمر. وقد أدخل هؤلاء الحزب في طاحونة من المشاحنات داخل الأجهزة، والحملات الإعلامية الشرسة التي وجهت ضد الحزب كأنه مناقض لدواعي الإصلاح والتجديد، استمرت الحملات منذ مايو 2001 وحتى يوليو 2002م، مما صرف جهود الحزب إلى دفع الافتراءات وإبراز حقيقة الخلاف وأسباب التذمر وأنها حول عدم المشاركة في السلطة ولو بدون الضوابط المؤسسية، حيث لا خلاف حقيقة حول دواعي الإصلاح والتجديد والتي لا يعارضها أحد داخل حزب الأمة.

ولذلك، فبعد أن تجاوز الحزب العقبة الأخيرة بخروج الفريق المفاوض ومؤيديه طواعية من صفوف الحزب وبكامل رغبتهم وتكوين تنظيمهم الجديد، انهمك الحزب في تجاوز العقبة المالية لتمويل المؤتمر مما سيأتي تفصيله لاحقا.

ثانياً: المذكرة الأربعينية- مايو 2001:

حينما وصل فريق حزب الأمة المفاوض للنظام (حينها) إلى عتبة رأى أنها تصلح لإمضاء اتفاق مع النظام في فبراير 2001م، قرر عرض ما تم التوصل له للأجهزة الحزبية ذات الشأن وهي المجلس القيادي والمكتب السياسي للحزب، وقد تمت اجتماعات ماراثونية رفعت فيها اللوائح لاستقصاء آراء الجميع. وفي نهاية الاجتماعات ورغم اختلاف الأعضاء حول مسألة المشاركة في النظام بين مؤيد ومعارض، خرج رئيس الحزب بمقترح توفيقي وهو قبول مبدأ المشاركة ولكن على أسس وضوابط محددة وهي: إما حكومة قومية أو وفقا لانتخابات حرة. ذلك المقترح حظي بإجماع جميع أعضاء المجلس القيادي أولا ثم جميع أعضاء المكتب السياسي عليه فخرج القرار رقم (73) بتاريخ 18 فبراير 2001م. ولكن الفريق المفاوض ومؤيديه –وبرغم أنهم مشاركون أصليون في قرار 18 فبراير- استدركوا موقفهم ذلك ورأوا ضرورة المشاركة في السلطة بدون تلك الضوابط. وقرروا أن يضغطوا على رئيس الحزب خارج الأجهزة إذ رأوا أن تمرير ذلك الخط داخل الأجهزة مستحيل. فاجتمعوا في منزل السيد مبارك المهدي قائد تيارهم وناقشوا أمر تقديم المذكرة وصياغتها. وقد اصطحبت أربعين اسما بعضها غير موقع. احتوت المذكرة، والتي نشرت بالصحف لاحقا، على الأفكار التالية:

الدعوة لاستبدال أجهزة الحزب الانتقالية بكلية ذات شرعية ثورية تضم رئيس الحزب والدكتور عمر نور الدائم (الأمين العام المكلف) والذين حملوا راية النضال منذ 1989 وحتى 1999م.

ضعف الحركة السياسية السودانية واستحالة تخطي القوات المسلحة والحركة الإسلامية، وضرورة مراعاة أثر البترول والظروف المعيشية الضاغطة لجماهير الحزب.

ضرورة أن يتجاوز رئيس الحزب أصحاب الذهنيات المخذلة ويقر المشاركة في السلطة فورا.

رفض رئيس الحزب، ومن قبله نائبه الدكتور عمر نور الدائم (رحمه الله) فكرة تقديم المذكرة واعتبروا أنها تلغي الاعتراف بالأجهزة الحزبية، وأعلن الرئيس أن على أصحاب المذكرة إلغاءها ومناقشة ما شاءوا داخل الأجهزة، أو الإصرار عليها والتخلي تلقائيا عن عضوية تلك الأجهزة. بالرغم من ذلك، وعلى هامش اجتماع للمكتب القيادي للحزب سلم اثنان من موقعي المذكرة مظروفا مغلقا معنونا للرئيس. هنا تمت اتصالات بمبادرة ذاتية من بعض القيادات الذين علموا بالأمر لاستدراك الموقف الذي سيؤدي لمواجهة بين مقدمي المذكرة وبين الأجهزة التي يودون الثورة عليها، من أولئك الدكتور عمر نور الدائم (رحمه الله) الذي اتصل بالسيد طه أحمد سعد بوجود اللواء م فضل الله برمة، واللواء برمة ذهب بدوره لزيارة الأستاذ الزهاوي إبراهيم مالك وإن كان لم يلقه، والسيد صلاح عبد السلام الخليفة ذهب من تلقاء نفسه للسيد مبارك المهدي يرجوه التحرك بسحب المذكرة ومناقشة محتواها أو تقديمها كورقة رأي داخل الأجهزة الحزبية، كما عمل السيد السر الكريل لجمع الموقعين على المذكرة في منزله –وهو منهم- وتنظيم لقاء لهم برئيس الحزب في منزله، وقد قام بدعوة عدد من الأفراد لم يوقعوا على المذكرة مظنة التوسط لدى الموقعين بقبول منطق التراجع، خاصة وأنه شخصيا أعلن أنه وقع على المذكرة بدون قراءتها وبعد أن سمع ما مفاده أنها –أي المذكرة- كانت رغبة رئيس الحزب لإجراء إصلاحات داخل الحزب. كانت الدعوة للاجتماع مقتصرة على السيد السر الكريل فلم يدع رئيس الحزب أي فرد من جهته ولم يأت مصطحبا أحد. وحينما اكتمل الحضور ابتدر أحد الموقعين على المذكرة حديثا، فاقترح البعض بعد فراغه من حديثه أن يتخذ التداول شكل الاجتماع وأن يتخذ رئيسا له السيد صلاح عبد السلام باعتباره أكبر الحضور سنا.

خلص ذلك الاجتماع إلى الاتفاق على سحب مقدمي المذكرة لمذكرتهم بكامل رضاهم. والجدير بالذكر أن بعض الموقعين على المذكرة ليسوا أعضاء في المكتب السياسي ولا المجلس القيادي للحزب.

لم تناقش أجهزة الحزب المذكرة الأربعينية لأنها لم تقدم داخلها بل كانت تزمع الانقلاب عليها بالاتفاق مع رئيس الحزب ونائبه الدكتور عمر نور الدائم وكلاهما رفض الفكرة. ولكن أمرها تسرب للصحافة بيد كاتبيها خرقا للاتفاق الذي وصلوا له.

تجدر الإشارة إلى أن ما يقال عن أن تلك المذكرة كانت بعد تقرير لجنة تقويم الأداء ونتيجة لعدم الاحتكام له إما تخليط ناتج عن عقليات مفرطة في الشفاهية غارقة في السهو واللبس أو مجرد أكاذيب والأخير تفسير أقرب للعقل لأن التخليط الذي جرى كان لتبرير زلة تقديم المذكرة خارج الأجهزة، بالقول أن تقويم الأداء لم يجد لإصلاح الأجهزة ولذلك تم سحب الاعتراف بها.. الحقيقة أنه سبقت المذكرة مناقشة التقرير المعني بعام بالتمام والكمال، حيث كانت مناقشة تقرير لجنة تقويم الأداء في مايو 2002م. من الأقوال الكاذبة المذكورة التالي: “بعد فشل محاولات الإصلاح من داخل الأجهزة وآخرها تقرير الحاج نقد الله وكانت حينها الأزمة التنظيمية قد تلاحقت فأنجبت أزمة سياسية في الحزب لأن الحزب أصبح لا في المعارضة لا في الحكومة. اجتمعت مجموعة من الكوادر الأساسية في الحزب بمنزل الأخ السر الكريل وبمبادرة من الأخ المرحوم الدكتور عمر نور الدائم لدراسة الأوضاع في الحزب واستقر الرأي على صياغة مذكرة ضغط لرئيس الحزب”. كيف تكون المذكرة الأربعينية التي قدمت في مايو 2001م جراء عدم الاستجابة لتقرير اللجنة الذي نوقش في مايو 2002م؟ ولماذا لم تظهر الروايات عن مشاركة الدكتور عمر نور الدائم في المذكرة إلا بعد أن توفي إلى رحمة مولاه؟ وأي أخلاق ودين تلك التي تدفع الناس إلى تلطيخ سمعة ذلك الرجل المخلص المغوار الذي ضحى بحياته في سبيل الله وحزب الأمة وكيان الأنصار، فبادله الناس وفاء بوفاء؟.. وهل تنسى الجماهير ما قاله في المنابر عن الجماعة المنخرطة في نظام الإنقاذ الخارجة على حزبها؟ اللهم لا!.

ثالثاً: المساءلة والعقوبة داخل الحزب:

البناء التنظيمي للحزب قام على ضرورة إيجاد آلية للمساءلة على التجاوزات، وذلك بناء على العديد من القرارات الحزبية، والمناشدات الآتية من مختلف القيادات والكوادر، نذكر من الأدب الحاض على ضرورة المساءلة الآتي:

في المؤتمر الرابع للحزب بالخارج والذي أقيم في أسمرا في الفترة ما بين 30 يناير وحتى 2 فبراير 1998م، جاء البيان الختامي بالتوصيتين التاليتين: الالتزام بلوائح الحزب لتحقيق الولاء والانضباط- التصدي للانحراف والمخالفات عبر آلية محاسبة عادلة. الجدير بالذكر أن هذا البيان الختامي أجيز بالإجماع. ونشر في كتاب أصدره الحزب بالخارج حوى أدبيات المؤتمر الهامة من كلمات الضيوف ممثلي القوى السياسية السودانية والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، وكلمات قادة الحزب بالخارج (كلمة السيد رئيس الحزب- كلمة الدكتور عمر نور الدائم- وكلمة السيد مبارك المهدي).

في ورشة العمل الخاصة بالتنظيم في يوليو 2000م جاءت التوصية التالية: “قيام آلية مساءلة ومحاسبة على التجاوزات”.

في اجتماعات يوليو/ أغسطس 2000م خرج البيان الختامي بالفقرة التالية: “تقرر تكوين هيئة تسمى هيئة الرقابة وضبط الأداء وتكون مهمتها: التصدي لأية انحرافات فكرية أو سياسية أو تنظيمية وتمنحها اللائحة الانتقالية سلطات تبدأ من لفت النظر- العتاب- إلى المحاسبة وتجميد العضوية حتى التوصية بالعزل”.

كثرت الشكوى من بعض القيادات لعدم وجود آلية محاسبة عن التجاوزات للقيادات خاصة في التصريحات الإعلامية. وقد كان تكوين الهيئة بردا وسلاما على الحزب الذي طالما عانى من الانفلات وعدم الانضباط وما يجره على سمعته، بعض القيادات لجأوا للهيئة لإعادة الآخرين إلى الجادة، مثلا جاء في خطاب للأستاذ الزهاوي إبراهيم مالك لرئيس الحزب بالإشارة إلى تصريحات رآها غير منضبطة لقيادي حزبي في أكتوبر 2000 الآتي: “إننا نعاني وعلى أعلى المستويات من تصرفات غير مسئولة لها ما وراءها تضر بالخط العام للحزب وتسقط من هيبته وتعرقل مسيرته. نؤكد لسيادتكم بأننا سنبذل الجهد كله جداً ومثابرة لمحاصرة كل انفلات.” وكان السعي المذكور عبر هيئة الرقابة الحزبية التي قامت بما يليها كما ذكر الخطاب، أما وجه عدم الانضباط فهو أن القيادي المذكور ومن موقع مسئول أصدر تصريحات للصحف حول مناقشة أجندة لم يتطرق لها اجتماع المكتب السياسي بينما أهمل ذكر نقاش الاجتماع لـ” تقرير من القطاع السياسي عن سير الحوار مع الحكومة حول الأجندة الوطنية”.. ولكن بالرغم من ذلك أعلن الفريق المفاوض لاحقا -وحينما حاسبت الهيئة السيد مبارك على تصريحات قمة في عدم الانضباط- أعلن انتقاده لهذه الهيئة. قال السيد مبارك “نؤكد موقفنا المبدئي بأن هذه الهيئة لا مثيل لها في أجهزة النظم الديمقراطية، فقضايا الفكر لا تخضع للمحاسبة والعقاب” (من بيان مبارك المهدي المنشور بالصحف بتاريخ 21 يناير 2002م). الجدير بالذكر أن السيد مبارك المهدي مشارك فعال في كل المنابر التي نادت بضرورة قيام آليات للمحاسبة والمساءلة على التجاوزات والانفلات. وهو من أوائل الذين نادوا بضرورة ذلك. مثلا جاء ذلك في خطاب تهديدي له بتاريخ 5 يونيو 1999م موجه لكل من رئيس الحزب وأمينه العام جاء الآتي: “إنني قررت تجميد نشاطي في الحزب إلى حين انعقاد مؤتمر الحزب لمناقشة تحفظاتي على الطريقة التي تسير بها الأوضاع التنظيمية في الحزب حيث غياب المساءلة والمحاسبة”، وذلك لأن أحد أعضاء الحزب القياديين الذين شاركوا في اجتماع أعضاء الأجهزة القيادية والاستشارية للحزب بالخارج في مطلع يونيو 1999م كان قد ظهر “باسم الحزب في برنامج تلفزيوني عالمي لإدانة موقف الحزب وتخوين أحد قياداته علنا” حسب تعبير السيد مبارك المهدي. ولكن العضو الذي كان يستحق حسب رسالة السيد مبارك “اعتباره شخص خائن ويعاني من اضطرابات نفسية وصفوي” .. هذا الشخص قال في التلفاز العالمي أن ضرب مصنع الشفاء وتأييده خيانة. ويجدر أيضا أن نذّكر حول اتهام المصنع بتصنيع أسلحة كيماوية أن “المعارضة لم تتهم أحدا ولم تتخذ موقفا في أي موضوع وفي إجماع من كل الناس باستثناء رأي عبر عنه الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي (مبارك المهدي) وهذا الرأي الذي عبر عنه الأمين العام تبرأ منه الصادق المهدي وهو رئيس الحزب، وتبرأ منه الأمين العام للحزب الدكتور عمر نور الدائم” (جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 19 سبتمبر 1998م). ويجدر أيضا أن نذكر أن الحزب كان قد أصدر بيانا في نفس اليوم يدين فيه ضرب مصنع الشفاء ويعتبر أن الضرب خطأ مبدئيا ومضر سياسيا حيث سيفيد النظام. فهل يستحق أحد المساءلة والمحاسبة على ذكر رأي الحزب المعلن، حتى ولو أساء لأحد قادة الحزب الخارجين عن الخط الحزبي في ذلك الأمر، بينما لا يستحق أحد القيادات المساءلة وإن كال للحزب من المدرعات الثقيلة؟!

إن الحزب غير مسئول عن تراجع البعض المبدئي بعد أن أجاز تكوين هيئة الضبط والرقابة الحزبية استجابة لحاجة حقيقية جعلت الساحة السياسية السودانية نهبا للتناقض والتذبذب والاختلاف المريع بين المواقف داخل الحزب الواحد وبشكل يثير التساؤل حول الإصرار ممن هذا شأنهم على الاستمرار في حزب واحد!.

إن كافة الروايات التي تنسب المحاسبة على التجاوزات لرئيس الحزب ملفقة. الهيئة هي التي تصدر كافة العقوبات من لفت نظر إلى عتاب إلى تجميد، ولا تحتاج للرئيس إلا في الموافقة على توصية الهيئة بالفصل من الحزب. أيضا الروايات التي تقول أن خبر تجميد عضوية السيد مبارك، إثر تصريحاته الصحفية المنشورة في صحيفة صوت العرب بتاريخ 26 ديسمبر 2001م وجريدة الرأي العام بتاريخ 30 ديسمبر 2001م، أن ذلك الخبر وصله عبر الصحف كاذبة. فقد أجمعت الهيئة على إنزال عقوبة التجميد على السيد مبارك لتعديه على الحزب عبر الصحف بشكل غير منضبط، ولتكرار تجاوزاته فقد كان أول من عوقب بلفت النظر. وقد كان القرار بتجميد عضوية السيد مبارك لمدة عام بإجماع أعضاء الهيئة وبالرغم من وجود بعض مؤيديه داخل الهيئة فقد كانت تجاوزاته المتتالية مما يصعب الدفاع عنها حتى للمتعاطف معه. كان ذلك في يوم 5 يناير 2002م. وقد قام السيد صلاح عبد السلام رئيس الهيئة بالاتصال بالسيد مبارك هاتفيا وإبلاغه بقرار اللجنة حتى قبل إبلاغ بقية أجهزة الحزب وعلى رأسها الرئيس.

كان المكتب السياسي قد قرر الالتزام بمؤسسات الحزب الانتقالية، وأن الآراء الخلافية مكانها أجهزة الحزب لا الأجهزة الإعلامية العلنية في القرار رقم (110) بتاريخ 7 يناير 2002م، وذلك لأن الفريق المفاوض ومؤيديه وجهوا هجمة شرسة للنيل من الحزب ومؤسساته آنذاك. لم يكن للرئيس دور في تجميد عضوية السيد مبارك المهدي حينها، ولكن الرئيس هو الذي استخدم صلاحياته في رفع التجميد. حيث جرت وساطات التزم السيد مبارك إثرها بالمؤسسية موقعا على بيان يفيد ذلك بتاريخ 20 يناير 2002م، فقرر الرئيس اعتبار ذلك الموقف استئنافا إذ أن من صلاحياته رفع عقوبة التجميد في حالة استئناف العضو المعني له، وأصدر بيانا يؤكد فيه التزام السيد مبارك بالمؤسسة والتطلع للتجديد والإصلاح مؤسسيا وعبر المؤتمر العام في نفس اليوم. وفي نفس اليوم أيضا أصدر السيد مبارك المهدي بيانا مضادا ينافي فيه ما اتفق ووقع عليه، ويؤكد معارضته “المبدئية” لهيئة الرقابة الحزبية على النحو المشار إليه آنفا. إزاء ذلك أصدر المكتب السياسي القرار رقم (113) بتاريخ 28 يناير 2002م والذي نص على التالي: “إن بيان السيد مبارك الفاضل المهدي مخالف لأسس العمل الجماعي والمؤسسي الذي التزم به الجميع. والرئيس عامل على التصحيح بما يؤكد الالتزام بمؤسسات الحزب وقراراته وإلا يحال الأمر للأجهزة المعنية. إلى حين ذلك الظرف يلتزم الجميع بالامتناع عن التصعيد بأية وسيلة”.

هذه هي ملابسات تجميد عضوية السيد مبارك المهدي، والتي تظهر كيف أدارت المؤسسة الحزبية انفلات أحد قادتها وعدم اعترافه بالمؤسسة والنيل منها عبر أجهزة الإعلام، والدور الذي لعبه الرئيس في محاولة حل الإشكالية بشكل يرضي المؤسسة ويحتوي الانفلات في ذات الآن، بحيث استخدم صلاحياته لرفع العقوبة التي قررتها المؤسسة.

وفي هذا الصدد نؤكد أن قرار تجميد العضوية كان قد اتخذ في حق قيادات أخرى قبل ذلك ولم يظهر أن للجماعة المعترضة وبشكل مبدئي على المساءلة أي اعتراض في حينها.

ومن أهم الدروس المستفادة من تمرين تجميد العضوية أن الثغرات الإعلامية في بلادنا تعطي الفرصة باسم حرية النشر لبعض ذوي المصالح الخاصة والاتجاهات التخريبية، للضغط على مؤسساتهم معنويا عبر تدبيج المقالات وترويج الشائعات والأكاذيب. ولن يبرأ جسدنا السياسي ما لم نحتو على صحافة مسئولة توازن بين الحرية وبين المصالح الوطنية، وتتحرى الدقة فيما ينشر.

رابعاً: تمويل الحزب ومؤتمره العام

إن مسألة المليون دولار التي استلمها الحزب أمر مذاع يكرره الحزب كل مرة على صفحات الصحف وأجهزة الإعلام المختلفة مطالبا أن تفي الحكومة بالاتفاق الذي يقضي بإعادة ممتلكات الأحزاب المصادرة. مثلا جاء في مذكرة “قراءة في دفتر العام المنصرم” التي قدمها رئيس الحزب تعقيبا على مذكرة القطاع السياسي في مارس 2002م –وقد نشرت في الصحف حينها- الآتي: “اندفع عمل حزب الأمة التنظيمي ولكن قعد به أن النظام الذي صادر من الحزب ما قيمته 4.5 مليون دولار لم يسدد إلا ربعها، وعاقب الحزب النظام الإريتري على موقفه السياسي بحجز ما قيمته 2.5 مليون دولار من سياراته. هذه الإمكانيات كانت رصيد الحزب المهيأ للتمكين من الحملة التنظيمية والتحضير لمؤتمر الحزب العام في 26 يناير 2001م كما قدر”. وقال منتقدا الأداء المالي : “يجب أن نعمل على استنفار الطاقات المتاحة وأن نغير أولويات الصرف، وأن نعتمد أكثر وأكثر على الجهد الذاتي. لقد اتضح أن النظام لن يرد لنا أموالنا كما كنا نتوقع ربما لأنه يشترط مشاركتنا؟ أي لأسباب سياسية. كذلك الحال مع أموالنا في إرتريا وتقدر 2,5 مليون دولار. لعل النظام هناك أرادنا أن نستمر كرتا في يده فبدخولنا حرمناه من ذلك وحرمنا من مالنا. علينا أن نراجع المسألة المالية للاعتماد على الذات ولاستنفار الإمكانات ولإعطاء أولوية لتمويل الأنشطة على حساب تمويل الإعاشة والإدارة”. هذه المذكرة كما قلنا منشورة. وقد نشرت هذه الفقرات أيضا في أدبيات أخرى متاحة للمستزيد. فالأقوال التي تريد أن تخرج هذه الحادثة الآن وتذيع أكاذيب حول ملكية فلان أو أحقية فلان يواجهها حزبنا بمواثيق الشفافية التي تصرف بها الحزب مع الأمر من قبل.

أما مسألة تمويل مؤتمر الحزب فبيانه كالتالي: إن المؤتمر العام السادس لحزب الأمة هو مثال العطاء الحزبي والعمل بأقل التكاليف الممكنة لحزب كبير كحزبنا ولكنه محاصر إعلاميا وسياسيا ومصادر الممتلكات من قبل السلطة الحاكمة، ومن بعض الجهات الأجنبية. فهو حزب مستقل برأيه يدفع أثمان مبدئيته بتلك المحاصرة والمصادرة. نؤكد هنا الحقائق التالية:

أولاً: جزء لا يستهان به من الصرف على المؤتمر خارج رصد اللجنة المالية، وهو كالتالي:

أعضاء المؤتمر التابعين لكلية سودان المهجر والقادمين من الولايات المتحدة الأمريكية، وإنجلترا، ألمانيا، وسويسرا، وإنجلترا، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية، وقطر، ومصر، واليمن، وتشاد، وليبيا، وسوريا، وسلطنة عمان وعددهم 115، أتوا على نفقتهم الخاصة ولم يدفع الحزب فلسا في إحضارهم أو إقامتهم لحين عودتهم لمهجرهم.

كافة مطبوعات لجنة الإعلام ومنتجات تلك اللجنة تمت طباعتها بالتنسيق بين مكتب الحزب بسوريا وتمويل الأحباب بالمهجر. (خلفية المؤتمر- ملصقات- أقلام خاصة بالمؤتمر- علاقات مفاتيح- قبعات وقمصان ..الخ كلها عليها شعارات المؤتمر). قام الأحباب بالمهجر بسداد تكلفة المطبوعات والمنتجات وترحيلها وجماركها فلم تكلف الحزب شيئا. كذلك بعض مطبوعات لجنة السكرتارية (الجاكيت الفاخر للمؤتمرين – وجاكيت البرنامج المصغر).

المحليات أقامت مؤتمراتها بتمويل ذاتي وبدون تكلفة الحزب إلا إرسال المراقبين من لجنة التنظيم لمتابعة صحة إجراءات المؤتمرات المنعقدة. والكثير من المحليات تكفلت بترحيل المؤتمرين إلى المؤتمر العام وبالعكس منه إلى مواطنهم.

ثانياً: المبالغ المرصودة التي صرفت عبر لجنة المؤتمر المالية تبلغ حوالي 600 مليون جنيه سوداني، بعضها ظل ديونا على الحزب بعد المؤتمر. أما الجزء الأكبر من تلك الميزانية فقد تم تمويلها كالتالي:

اجتماعات الدعم “الشوبش” التي دعت لها اللجنة المالية وحضر بعضها رئيس الحزب، والتي غطت مجموعات عديدة قبلية وجهوية وفئوية تابعة للحزب منها مجموعات الجبلاب- نهر النيل – الحرفيون- الصيارفة. كما كانت إحداها خاصة بالنساء حيث أثبتن حماسا كبيرا لدعم الحزب.

قيام بعض المحليات بدعم المؤتمر مثلا محلية المحيريبا- محليات العاصمة (أم درمان شمال- أم درمان جنوب- الكباشي- الجيلي- بحري).

مجهودات جمع الدعم من رجال الأعمال التي قام بها قياديون في الحزب على رأسهم المرحوم الدكتور عمر نور الدائم والذي بلغ تمويل مجموعته للمؤتمر العام أكثر من ربع الميزانية، والأمير عبد الرحمن نقد الله شفاه الله، والسيد صلاح عبد السلام الخليفة، والسيد نصر الدين المهدي.

مساهمات رئيس الحزب وغيره مباشرة.

مساهمات فرعيات الحزب بالمهجر.

مساهمات أصدقاء الحزب السودانيين دعما لأحزاب الديمقراطية السودانية.

سيكون من فضول الكلام التأكيد على أنه لم تصرف جهة أجنبية، ولا أية جهة حكومية أو رسمية أو تابعة للنظام على مؤتمر الحزب، وعلى العكس، فقد واجه الحزب محاولات لتعويق قيام المؤتمر وراءها جماعة الفريق المفاوض السابق ومساندوهم داخل، وأولها الإحجام عن إعادة الجزء الأكبر من ممتلكات الحزب المصادرة، ثم الحرب الإعلامية التي فرضت على مؤتمر الحزب من قبل بعض الجهات الأمنية، وجعلته ينال أقل مما يستحق كمؤتمر عام يأتي بعد كل فترة الحل والملاحقة الطويلة لأكبر حزب سوداني. إن التغطية الإعلامية التي حظي بها مؤتمر حزب الأمة السادس في الفترة ما بين 14-17 أبريل 2003م كانت في القنوات العربية والعالمية أضعاف ما كانت في أجهزة الإعلام المحلية، وما وجد طريقه للصحف آنذاك كان رغما عن أنف بعض الجهات داخل النظام. وهذا يعكس بوضوح الموقف الرسمي من ذلك المؤتمر.

نفس الشيء يقال عن تمويل مؤتمر هيئة شؤون الأنصار الذي مولته ذاتيا، وإن كانت الهيئة قد تكفلت بتبيان مصادر تمويل مؤتمرها ودحض الافتراءات التاريخية التي يسطرها البعض هذه الأيام.

خامساً: ورقة القطاع السياسي في مارس 2002م ومناقشتها

من ضمن الإفادات التاريخية المغلوطة الرائجة الآن الحديث عن ملابسات تقديم ومناقشة ورقة القطاع السياسي سابقا داخل الأجهزة. وللحقيقة والتاريخ فإن القطاع السياسي ومنسوبيه كانوا قد فقدوا أي أمل في الأجهزة الانتقالية أن تقبل المشاركة في السلطة بالطريقة التي يستعجلونها وبدون شرط أو ضابط. وكان فحوى مذكرتهم الأربعينية محاولة للضغط –أو التآمر- مع الرئيس ونائبه لقبول فكرة الانقلاب على تلك الأجهزة من أساسها، وقد فشلت. وكانوا يرجون من لجنة تقويم الأداء أن تأتي بفكرة تجاوز تلك المؤسسات، ويوعزون لأعضائها في الصحف تارة بالإطراء وأخرى بالتحذير أن يقدموا توصيات تصب في صالحهم، وهو ما لم يتم حيث أكد التقرير على المؤسسة الانتقالية والتمسك بها. وقبل انتهاء اللجنة، وفي مارس 2002م وزع السيد مبارك المهدي رئيس القطاع السياسي مذكرة تحتوي على قراءة القطاع السياسي السياسية. وقد جاءت مشككة في صحة فكرة “الطريق الثالث”، متحدثة عن أن قراءتنا الاستراتيجية صحيحة ولكن تكتيكات الحزب غير صحيحة، ومحللة للمستجدات منذ قرار 18 فبراير 2001م وحتى مارس 2002م بشكل يرى أنها تستوجب مراجعة موقف الحزب. أي مدرك لتكوين التنظيم الانتقالي يعلم أن الرؤى السياسية والقرارات التي تشرّع لخط الحزب السياسي محلها الأجهزة التشريعية: المجلس القيادي الذي ينظر في المسائل ثم يحيلها إن لزم للمكتب السياسي، والذي يتخذ القرارات اللازمة ثم تحال للمكتب التنفيذي للتنفيذ. ورغما عن ذلك اللبس الإجرائي فإن الحزب قبل مناقشة الورقة. وقد عبر عن ذلك رئيس الحزب في مذكرة بعنوان “قراءة في دفتر العام المنصرم” كانت بمثابة تحليل وقراءة للمستجدات التي ذكرتها ورقة القطاع السياسي برؤية مغايرة هو أن موقفينا المبدئي والتكتيكي صحيحان، جاء فيها : “قدم الأخ رئيس القطاع السياسي رؤية للموقف السياسي للجهاز التنفيذي تشمل قراءة معينة للموقف السياسي والمستجدات. ولدى تنوير رئيس الحزب في اجتماع المجلس القيادي قبل الأخير لخص رئيس القطاع السياسي تلك الرؤية. وبعد ذلك أعلن رئيس الحزب أن علينا أن نعقد جلسة خاصة لقراءة الأحداث وتقييمها وتحديد ماذا بعد؟ ثم وزع رئيس القطاع السياسي مذكرة بدون تاريخ على المكتب السياسي في يوم الاثنين 13 مارس 2002م. التسلسل الصحيح لتناول هذا الموضوع هو أن يقدم التقييم المقترح للمجلس القيادي وقد اتفق على عقد جلسة لذلك. ثم يناقش الموضوع في المكتب السياسي وما يقرر يحال للجهاز التنفيذي لتنفيذه لا لرسم السياسات.هذه المسائل معلومة ما فيها من غموض إن وجد إجلاؤه لائحيا. ولكن بصرف النظر عن الخطأ الإجرائي فإن ما ورد في المذكرة رؤية يجب أن تناقش بجدية وموضوعية.” كل ذلك تعبيرا عن أهمية المذكرة وضرورة إيلاء نقاشها أقصى درجات الانتباه لأنها لم تكن ورقة عادية مقدمة لتنفيذ خط متفق عليه، بل كانت ورقة تزمع تغيير خط الحزب السياسي ونقله من خانة الطريق الثالث إلى خانة المشاركة في الحكم بدون ضوابط قرارات 18 فبراير الشهيرة، قدم رئيس الحزب قراءته لورقة القطاع السياسي في 23 مارس 2002م، وتم تحديد اجتماع مشترك بين المكتب السياسي والمجلس القيادي لمناقشة ورقة القطاع السياسي وتعليق رئيس الحزب عليها بتاريخ 1 أبريل 2002م. وكان من المتوقع أن تتنافس الرؤيتين أو تخرج رؤية ثالثة من نقاش الأعضاء، ثم يتخذ القرار بالتراضي أو التصويت. وقد اتضح داخل المكتب القيادي أن جماعة الفريق المفاوض لم تقدم الورقة للنقاش بل على أن تقبل كما جاءت، بدليل أنهم رأوا أن مشاركة الرئيس في المناقشة في حد ذاتها ديكتاتورية لأن ذلك سيؤثر على الأعضاء في زعمهم، أما أن يشارك بورقة مكتوبة فقد قارنوه بقمة التسلط. وللحزب أن يطالب بمده بأي تعريف للديمقراطية على وجه الأرض يعني أن يصمت رئيس أي جهاز عن الإدلاء برأيه حول مذكرة قدمت في الأجهزة التي يتسنم ذراها! أو أن يقتصر في حالة كان له رأي معين على التعاطي الشفاهي، فلا يأتي برؤيته مكتوبة!. الشاهد أن تلك الجماعة أيقنت أن ورقتها ستهزم من داخل الأجهزة، واستنكرت أن يظن البعض أن الأجهزة مجال للتنافس في الرؤى، ثم قررت الانسحاب من الاجتماع المزمع بافتعال مشكلة، فحضرت باصطحاب ممثلي كلية سيوف النصر الذين كانوا قد جردوا من كافة مناصبهم لتوقيعهم على بيان يناقش قضايا داخلية نشر في الصحف بدون إذن، وكان قرار تجريدهم من مناصبهم قد اتخذ في حقهم قبل أشهر عديدة من ذلك التاريخ، وكانوا قد استجابوا للقرار فلم يحضر منهم أحد لاجتماعات المكتب السياسي طيلة تلك المدة، ولكنهم حضروا في ذلك اليوم ومنعوا من دخول الاجتماع من قبل زملائهم القائمين على تأمين الاجتماعات، فدخل السيد مبارك المهدي للاجتماع الذي كان يزمع أن يناقش أمر مذكرته ورد الرئيس عليها، دخل قاعة الاجتماعات منفعلا ومحتجا من وجود “مليشيات” وقد هدأه السيد رئيس المكتب السياسي حينها الدكتور آدم مادبو، وقال له أن هذه المسألة ليست من الأجندة ولكن تقديرا لذلك الانفعال سنناقشها. وحينما فرغ من شكواه أعطيت الفرصة للسيد عبد الرحمن الصادق أمير جيش الأمة للتحرير سابقا للرد على الاتهامات الموجهة إليه ولكن السيد مبارك المهدي حاول إسكاته غير مرة ثم تحول من مكانه الأول إلى حيث يقف المتحدث وادعى أن الأمير عبد الرحمن حاول ضربه ثم انصرف مع 16 عضوا من أعضاء المكتب السياسي، وكرر روايته المجروحة غير مرة بالرغم أن الشهود كانوا بالعشرات، والشاهد أنه هو الذي تحرك من مكانه مهاجما ومسيئا. ولذلك فإن الاجتماع ناقش بعد ذلك مسألة الانسحاب المذكور، وأجل أجندته الأخرى، ثم خرج عن الناطقة الرسمية للحزب في 2 أبريل 2002م البيان التالي:

“عقد اجتماع مشترك بين المكتب السياسي والمكتب القيادي لحزب الأمة مساء أمس الاثنين الموافق 1 أبريل 2002م وذلك لمناقشة المستجدات السياسية المتمثلة في مذكرة قدمها رئيس القطاع السياسي للحزب، والتعليقات عليها في المكتب القيادي. وقبل البدء في الأجندة المذكورة وقع خلاف حول جزئية تتعلق بعضوية المكتب السياسي. ونود توضيح الآتي:

أعضاء المكتب السياسي يمثلون كليات.. الخلاف الذي أثير كان حول كلية سيوف النصر وهي كلية تابعة لمجموعة جيش الأمة للتحرير سابقا، وقد خصوا بتلك الكلية لما لهم من تاريخ نضالي، وذلك حتى يكون لهم تمثيل في المكتب السياسي.

أثار السيد رئيس القطاع السياسي خلافا حول ممثلي الكلية في المكتب السياسي، فبدأ المكتب في بحث هذا الخلاف ليجد له حلا عادلا وفق اللوائح، وشرع في مناقشة الأمر بالرغم من أنه لم يكن من الأجندة الموضوعة للاجتماع. وفي تطور غير مبرر للخلاف رأى السيد رئيس القطاع السياسي الانسحاب مع 16 من الأعضاء، ومجموع الحاضرين للاجتماع تسعة وثمانين عضوا.

بقية الحضور كانت تمثل نصابا قانونيا كاملا، وكان يمكن للمجلس أن ينعقد بصورة قانونية ويقرر في الأمر المثار، وفي الأجندة الموضوعة، ولكن الاجتماع رأي رفع الجلسة لمدة 48 ساعة، ومناقشة الأجندة المقررة في حينها.

أما بشأن القضية العارضة المثارة أمام الاجتماع –المتعلقة بكلية سيوف النصر- فقد كوّن الاجتماع المشترك للمكتبين السياسي والقيادي للحزب لجنة برئاسة د. عمر نور الدائم النائب الأول لرئيس الحزب ورئيس الجهاز التنفيذي، وعضوية كل من: الأستاذ/ بكري أحمد عديل النائب الثاني لرئيس الحزب- السيد / صلاح عبد السلام رئيس لجنة الرقابة وضبط الأداء- السيد/ عبد الرسول النور رئيس قطاع الجنوب- الأستاذ/ عبد المحمود الحاج صالح مساعد الرئيس للشؤون القانونية- السيد / السر الكريل عضو المكتب السياسي. وذلك للنظر في تلك الملابسات. وفوض الاجتماع اللجنة ليكون قراراها حولها نهائيا.

قرر الاجتماع أن هذا النوع من السلوك غير ديمقراطي وغير مقبول، ولكن يجب أن يمنح الخارجون فرصة أخرى، بعد أن تقرر اللجنة بشأن المسألة الخلافية.

ناشد الاجتماع الجميع ضبط النفس والاحتكام للوائح والقرارات المؤسسية.”

ويتضح من سياق الأحداث أن الانسحاب عن الاجتماع كان معدا له قبلا، وقد تسربت معلومات مسبقة بان تلك الجماعة قد حزمت أمرها مع المشاركة بدون شروط، وأزمعت على تجاوز الأجهزة الحزبية، وعلى التحايل للانسحاب من الاجتماع المعني، ولكن الإخراج لمشهد الحيلة كان رديئا بحيث لم يصدقه حينها المشاهدون.

الخارجون عن الاجتماع عددهم 17 بمن فيهم السيد مبارك المهدي الذي أشر لهم فتبعوه. وقد لاقوا رئيس الحزب بعدها. هنالك كلام عن أن رئيس الحزب قال أنه يشعر بأن البعض يهدد قيادته وأنه طلب التأكيد على قيادته. وللتاريخ فإن رئيس الحزب الحالي انتخب كرئيس للحزب ثلاث مرات الأولى بأغلبية ساحقة عام 1964، والثانية والثالثة بالإجماع في العامين 1986 و2003م، وما يعرف عنه داخل الحزب أنه يأنف الأوامر المباشرة حتى للكوادر الناشئة ويحترم حتى الطلاب ويتعامل مع الجميع بندية وربما هذا من أهم أسباب تعلق الناس به، وهو من أسباب تذمر البعض من هذه الديمقراطية البالغة في مجتمع أبوي، فهذه الفكرة لو تسربت لأذهان البعض فربما هي إسقاط من ظنون سيئة نابعة عن أفعال سيئة اعتادوها. والحزب غير مسئول في هذه الحالة من أن البعض يعتبر العلاقات بين القيادات هي بالإشارة أو كما بين التلاميذ والمعلمين. ويؤكد أن الرئيس حتى لو غير أسلوبه المعتاد، فإن صلاحياته محدودة بالدستور واللوائح ولا يفيد أن يردد البعض ولاءهم لشخص طالما أن المؤسسات هي صاحبة القرار.

الجدير بالذكر أن الأجهزة استأنفت نقاش مسألة الخط السياسي تلك ثم توصلت إلى القرار رقم 122، ومفاده:

“يؤكد الاجتماع جدوى قراره التاريخي بتاريخ 18 فبراير 2001م وسعة أفق القرار مع تأكيد ضبط المشاركة في أحد الإطارين المذكورين: حكومة انتقالية قومية- انتخابات حرة نزيهة.

تداول الاجتماع الظروف المحدقة بالبلاد كافة وفرص الحل السياسي الشامل وقرر: مواصلة الحوار مع النظام بهدف الاتفاق على إصلاح دستوري وقانوني وسياسي بما يحقق التحول الديمقراطي وأسس السلام العادل بما يشكل أساسا للحل السياسي الشامل ويتطلع الحزب لإبرام هذا الاتفاق على ضوء ما يعرض عليه من تفاصيل نتيجة التفاوض.

يدعم الحزب عمله التعبوي الشعبي ويواصل مفاوضاته مع القوى السياسية السودانية للتعاون في سبيل السلام العادل والتحول الديمقراطي”.

وهكذا لم يبق للجماعة المصرة على المشاركة بدون شروطها إلا الخروج عن الحزب. ولكنها رأت أيضا أن يكون الخروج عليه. وقد كان يكفيها أن تؤكد أن مشاركتها هي اختلاف في وجهات النظر وأنها ترى “الطريق الثالث” خطة غير ذات جدوى وستجرب طرقها التي تراها مجدية، ولكنها بدلا عن ذلك قررت أن تصاحب مشاركتها بإساءات لا أول لها ولا آخر موجهة للحزب، ولتاريخه كأن لم تلبث فيه عمرا.

سادساً: لجنة تقويم الأداء الحزبي 2002م (يناير- مايو 2002م)

ذكرنا أن ما يشاع عن كرونولوجيا تطور الأحداث لدى البعض كاذب. لأن مناقشة تقرير لجنة تقويم الأداء كانت بعد المذكرة الأربعينية بعام. ومن جديد تحاول الأقوال التي يروج لها الآن التشكيك في موقف قيادي أساسي آخر استغلالا لظرف إنساني مؤلم حيث أن ظروف ذلك القيادي الصحية الآن لا تدعه قادرا على الرد لمساندة حزبه، عجّل الله بشفاء الأمير نقد الله وهو بحمد الله يتحسن كل يوم. قصة لجنة تقويم الأداء بدأت حينما قرر المكتب السياسي الانتقالي تكوين لجنة لمراجعة الأداء العام للحزب، روعي فيها تمثيل كافة وجهات النظر المختلفة وقد ضمت 16 عضوا على رأسها الأمير عبد الرحمن نقد الله شفاه الله وعافاه، وذلك بتاريخ 14 يناير 2002م عبر قرار المكتب السياسي رقم 112. كلفت اللجنة بدراسة الموضوع وتقديم نتائجها للمكتب السياسي لبحث الأمر واتخاذ الرأي فيه. وصف القرار رقم 112 صلاحيات اللجنة وهي بحث أسباب عدم الانضباط الحزبي وتقديم اقتراح بالإصلاح المطلوب. قامت اللجنة بأعمالها على الوجه المطلوب فعقدت 63 اجتماعا مطولا استمعت فيها للقيادات المعنية والمتطوعين. قدمت اللجنة تقريرها في 1 أبريل 2002م، وقد حوى التقرير ثمانين صفحة بملاحقه. أما الجزء الخاص بتحليل أسباب القصور والمقترحات فقد انحصر في 57 صفحة. ونحن نحدد هذه الأرقام ليس للتقليل من حجم التقرير وأهميته ولكن لتصحيح بعض الأخطاء الواردة حول هذا الأمر في المادة الإعلامية الموزعة فهنالك من يقول أن بالتقرير 300 صفحة!. احتوى التقرير على تمهيد يؤكد ضرورة المؤسسية والتنظيم وأهمية الحزب ككائن حي، ثم على أبواب عديدة تغطي مهام اللجنة المرجعية وهي: عرض تحليلي لظاهرة عدم الانضباط، ملاحظات حول أجهزة الحزب ومتطلبات التطوير- تقييم أداء القطاعات المختلفة- المقترحات الخاصة بالتنسيق وتفعيل القطاعات- والتوصيات العامة.

قدّر المكتب السياسي والمجلس القيادي مجهود اللجنة وثمناه وناقشا التقرير بجدية. أصدر الحزب القرار رقم (123) ونصه: “نسبة لأهمية التقرير رأى الاجتماع ضرورة تسليم كل عضو من أعضاء المكتب السياسي والمجلس القيادي نسخة من التقرير لقراءته”. وعبر القرار رقم (133) خط الاجتماع منهجية مناقشة التقرير وآليتها، وذلك بـ:

استمرار الاجتماعات اعتبارا من الثلاثاء 7/5/2002م وحتى الانتهاء من التقرير واتخاذ قرار بشأن التوصيات التي وردت فيه.

الاتفاق على منهجية نقاش التقرير: الرأي في عموم التقرير- أنه لتحسين الأداء وليس للتقويض- بشأن التوصيات التي وردت في التقرير يوضح العضو ما يوافق أو يعترض عليه ويطرح البديل في حالة الاعتراض- يذكر الثغرات الموجودة في التقرير وكيفية ملئها بمقترحات محددة.

.. وهذه أوليات لمنهجية مناقشة أي من الأدبيات في أي مجال عملي لمن كان له في مجالات البحث والدراسة أي باع…استمرت الاجتماعات يوميا فعقد 13 اجتماعا مشتركا بين المكتب السياسي والمجلس القيادي لمناقشة التقرير بمتوسط 3 ساعات للاجتماع. ناقش الأعضاء التقرير وفقا للمنهجية أعلاه، وفي الاجتماعين رقم 61 و62 للمكتب السياسي، تحدث 31 عضوا متطرقين للتقرير وفقا للمنهجية المذكورة، ثم أدلى رئيس الحزب بعد ذلك بدلوه في كيفية إجازة التقرير على ضوء المنهجية المقررة وعلى ضوء ما تم من نقاش، بتقديم ورقة توضح ما رآه مناط إجماع المناقشين من التوصيات، وما رآه يستحق المراجعة وما رآه غائبا في التقرير والخطوات العملية التي يراها لتفعيل توصيات التقرير ثم ماذا بعد التقرير؟ رؤية الرئيس وغيرها من الرؤى تم نقاشها بحرية كاملة، ومن الطبيعي أن يشترك الرئيس كغيره من الأعضاء في نقاش “مقترحات” مقدمة للمكتب السياسي، كما اعتاد رئيس الحزب أن تكون مخاطباته في المنابر وداخل الأجهزة الحزبية مكتوبة لمزيد من التركيز مما يعكس مدى جديته، ولا يقلل من هذه الميزة كون بعض المتشربين بالذهنية الشفاهية أو لأي سبب آخر يخلّطون بين الجدية والتوثيق وبين الديكتاتورية. بعد الفراغ من النقاش الذي شارك فيه أعضاء المكتب السياسي والمجلس القيادي خرج الحزب إثر اجتماع مشترك بين المجلس القيادي والمكتب السياسي بالقرارات رقم 134، 135، 136 ، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143، 144، 145 ، 147، 148، 150، 152، 153، 154، 155، 156، 157، 158، و159 والتي صدرت في بيان صحفي باسم مقررة المكتب السياسي والناطقة الرسمية للحزب السيدة سارة نقد الله بتاريخ 10 مايو 2002م (البيان المنشور صدر بالقرارات من 134-145). كانت تلك القرارات تحتوي على أكثر من ثلاثة أرباع توصيات التقرير، حاذفة منه ومضيفة إليه حسب النقاش داخل الأجهزة بما في ذلك رؤية رئيس الحزب، وأي حديث عن أن التقرير تم إلغاؤه أو استبداله برؤى جديدة عار من الصحة.

بعض الناس يتحدثون عن أن التقرير كان ضد مؤسسات الحزب أو أنه نعاها ووصفها بأنها جزيرة معزولة، بل بعضهم أتى باقتباسات وكتب: (قال تقرير الحاج نقد الله “جزيرة معزولة عن القواعد”) هكذا.. وهذه أكاذيب ملفقة. والحقيقة أن التقرير لم يصف الحزب بتاتا بهذا الوصف في أية صفحة من صفحاته. صحيح احتوى التقرير على نقد للأداء الحزبي بل لقد قامت اللجنة نفسها لذلك الغرض فهي تمرين نقد ذاتي قام به حزب مسئول يريد أن يختط سابقة مؤسسية في بلاد يتعامى فيها الناس عن أخطائهم بدوافع عاطفية أو لشعور بالنقص يقابلونه بالعزة بالإثم. ولكن تقرير اللجنة أظهر في المقابل نقاط قوة الحزب وهي مفرقة في صفحاته، مثلا في الصفحات 5 و6 جاء بالتقرير الآتي: “إذا أخذنا مجموع الخبرة التاريخية الطويلة لحزب الأمة التي تمتد حتى الآن أكثر من ستة وخمسين عاما، لجاز لنا أن نقطع بأن حزب الأمة وبقياداته المؤهلة المختارة الرشيدة قد نجح بالوصول بلواء النصر إلى كل أهدافه”. وحتى حينما تحدث عن قصور الحزب كان في إطار الإيمان به إذ قال “وحزب الأمة لا يملك عصمة من العثرات والكبوات، فهو كائن يمتلك مقومات الحياة والنمو والتطور وإلا فسيذبل”. وجاء فيه “إن حزب الأمة يواجه اليوم تحديات خارجية جسام وأخرى داخلية عظام ولكن قدراته ومهاراته أكبر من أن تعوق مسيرته هذه التحديات”. ولم يخص التقرير رئيس الحزب بالنقد كما توحي بعض الكتابات المغرضة بل على العكس، فحينما تحدث التقرير عن ظاهرة عدم الانضباط رأى من الأسباب غير المباشرة لها أن “حركة التثقيف والتحديث التي قادها السيد الرئيس في ربع القرن الأخير من الزمان وجدت قبولا كاملا وهيجت آمالا وخاطبت عقولا وفتحت آفاقا لدى الشباب ولم نهيء لها المهابط لتنزل أرض الواقع” وهذا بالطبع يشير لبطء سير المؤسسة الحزبية لتنزيل أطروحات القيادة النيرة على الأرض لا عن كون القيادة جزيرة معزولة عن الجماهير.. والتقرير مليء بالأفكار التي ترد على تلفيقات البعض معتبرين أن أهم فقرة في التقرير هي فكرة لم ترد فيه أصلا.. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إذا كان أصحاب الأقوال الرائجة بالاحتكام للتقرير كما جاء للأجهزة وقبل أن تصدر قراراتها بشأنه، يعتبرون أن التقرير قول فصل نهائي لا تجوز مناقشته باعتبار المناقشة ديكتاتورية، وليس مقترحا مقدما للنقاش كما أراد له المكتب السياسي، فإننا نسألهم الأسئلة التالية:

جاء في التقرير في ص 10 كأحد الأسباب المباشرة لعدم الانضباط التالي: “التفويض الكامل المطلق لبعض قيادات الخارج خلق إمبراطوريات صعب بعد العودة الخروج منها”. وجاء أيضا من أسباب عدم الانضباط: “الاحتفالات والتكريم لكل العائدين من الخارج وإهمال دور أهل الداخل”. كما جاء أيضا من الأسباب المباشرة أن الاستقطاب غير المرشد حول قضية المشاركة و”الخروج بالقضية من دهاليز الحزب إلى الإعلام والرأي العام سبب كل كارثة”. هل يقبلون هذه التفسيرات لأزمات الحزب؟

جاء في التقرير بشكل واضح وكأول التوصيات وأهمها التالي: “الالتزام القاطع بالمؤسسية” باعتبارها تعني تمكين العمل الجماعي. و”الخروج عن ذلك الإجماع خرق للمؤسسية يستوجب المساءلة بكل جد وحسم وعزم. أما التمادي فهو يعني الخروج والخروج لا يعني إلا الخروج!!” وجاء “أما ظاهرة إفشاء أسرار الحزب ونقل ما يدور في داخله إلى الخارج دون إذن المؤسسة تعتبر خيانة للحزب تستوجب الردع. وأيضا “الحزب أكبر وأقيم من كل فرد مهما كانت وضعيته ومساهماته السابقة والآنية واللاحقة”. و”القرارات الصادرة عن مؤسسات الحزب هي روح الحزب وزبدة الممارسة الديمقراطية فيه”. وقد ظهرت هذه التوصيات في قرارات الحزب النهائية مع اختلافات طفيفة في الصياغة. فهل في هذه التحليلات ما يشير إلى أن التقرير نعى أجهزة الحزب وأعطاها شهادة الوفاة؟ وهل لا تعني هذه التوصيات على العكس أن التقرير أكد على تلك المؤسسات وجعل الخروج عنها وإفشاء أسرارها خيانة.

والسؤال الآن: هل مقدسو تقرير لجنة تقويم الأداء الحزبي بزعمهم مستعدون الآن لمحاكمتهم بنصوص ذلك التقرير وأحكامه عن الخروج والخيانة؟.

سابعاً: الروايات عن عمليات إقصاء داخل الحزب

إن التنظيم المرحلي كان بالانتخاب والتصعيد والتراضي كما ذكرنا، وليس بالتعيين، ولذلك فمن غير الممكن أن يتم الإقصاء على أسس فردية في تنظيم هذا أصله. فما هي حقيقة ما يقال من أن بعض القيادات التي كانت تؤيد الفريق المفاوض تم إقصاؤها؟ لقد ظهر جليا بعد تمام خروج جماعة الفريق المفاوض من الحزب أنها كانت ممثلة بأكبر من حجمها. وكانت بيدها ملفات حساسة جدا، فقد كان بيدها القطاع السياسي وقطاع الفئات ولجنة الإعداد للمؤتمر العام. ولكن بعض الأقوال الآن تشير إلى أن جماعة الوفد المفاوض والتي خرجت لاحقا على الحزب قد تم إقصاؤها بدليل: تغيير الوفد المفاوض، وإقصاء رئيس قطاع الشباب والطلاب، وإقصاء نائب رئيس قطاع الفئات (من منسوبيهم)، حل القطاع السياسي، وتحجيم قطاع الجنوب الذي يقوده عبد الرسول النور. عدم صحة هذه المزاعم تظهر في التالي:

قطاع الشباب والطلاب: مشاكل هذا القطاع بدأت منذ عام 2000م وقبيل عودة رئيس الحزب في “تفلحون”، ففي اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 27 سبتمبر 2000م وجه بعض الطلاب نداء أخذ به المكتب السياسي علما وحوله للمكتب التنفيذي على أن يفاد المكتب السياسي بما تم في حل إشكاليتهم (الاجتماع رقم 7). وفي الاجتماع رقم (13) للمكتب السياسي الانتقالي استمع المكتب لتنوير من رئيس القطاع، والمشرف السابق على الطلاب، وبعد المداولات تم تكوين لجنة من ثمانية أشخاص لدراسة المذكرات المتبادلة بين أمناء الجامعات ورئيس قطاع الشباب والطلاب. كان ذلك بتاريخ 20 نوفمبر 2000م، وقد ناقش المكتب السياسي تقرير هذه اللجنة في 11 فبراير 2001م (الاجتماع رقم 17). لاحقا أثيرت مسألة الشباب والطلاب من جديد في الاجتماعين رقم 35 و36 في يومي 6 و20 أغسطس 2001 وخرجت توصيات منها تحويل قطاع الشباب والطلاب إلى قطاعين منفصلين، وتكوين لجنة تقوم بتنفيذ التوصيات من ثمانية أشخاص “على أن يقام القطاعان عن طريق الممارسة الديمقراطية ويكون هذا الدرس الأول في الديمقراطية الرابعة”. وقد كان النائب الأول للرئيس رئيسا لتلك اللجنة، ورئيس قطاع الشباب والطلاب مقررا فيها. (القرار رقم 105 بتاريخ 20 أغسطس 2001م). كان من المفترض أن تقوم تلك اللجنة بإجراء الانتخابات اللازمة للقطاعين لتكوين أجهزتهما، وهو ما لم توفق فيه نسبة للخلافات البالغة والاستقطابات بين الشباب والطلاب حول موضوع المشاركة في السلطة والذي كان يقوده تيار الفريق المفاوض ويحشر فيه ذلك القطاع الحساس، وفي اجتماع المكتب السياسي الخمسين بتاريخ 25 مارس 2002م اتخذ المكتب السياسي القرار رقم 117 والقاضي بالتالي: حل لجنة قطاعي الشباب والطلاب- الدعوة لملتقيين طلابي وشبابي هدفهما محو آثار الفترة الماضية واستنهاض الهمة- الدعوة بأسرع وقت ممكن لورشتي عمل لكل من الطلاب والشباب- يحدد الرئيس بالتفاكر مع رئيس الجهاز التنفيذي الآلية التنفيذية للقيام بذلك، وقد أجيز هذا القرار بالإجماع. كما أمن تقرير لجنة تقويم الأداء على ضرورة فصل القطاعين والإسراع بعقد الورش (التقرير ص 30). إن مشكلة قطاع الشباب والطلاب قديمة بدأت مع التنظيم الانتقالي نفسه، وقد كانت تلك المشاكل أحد الأسباب التي حدت بنائب رئيس ذلك القطاع أن يقدم استقالته عام 2001، وقد جعلت المكتب السياسي يكون العديد من اللجان لحل مشاكل ذلك القطاع. أما حشر هذه الملابسات الخاصة بهذا القطاع في إطار تاريخي لاحق فقفز فوق الكرونولوجيا، وتزوير للتاريخ.

القطاع السياسي: إن مزاعم حل القطاع السياسي، وقد كان يرأسه السيد مبارك المهدي، لا أساس لها من الصحة. لقد جاء في تقرير لجنة تقييم الأداء إشادة بديناميكية ذلك القطاع، ورأت اللجنة في تقريرها بعض الملاحظات منها ما يتعلق بتسمية القطاع، وانعدام الشفافية في عمله (ما أشار له التقرير بعبارتي: الحرص والكتمان) مما فتح نوافذ الخيال والتكهنات، ومشاكل الإعلام، والتداخل في عمل القطاع مع بعض القطاعات الأخرى ثم اقترح التقرير عدة مقترحات لتفعيل هذا القطاع الهام منها: تحويل أمانة الإعلام التابعة للقطاع وترفيعها إلى قطاع، وأيضا تكوين دائرة الحل السياسي التي تشمل: القطاع السياسي، قطاع الاتصال والتنسيق والعمل الجماعي، وقطاع الشؤون الخارجية. كل مقترحات التقرير بشأن القطاع السياسي أجيزت. فصدر القرار رقم 141 والذي أجاز فكرة الدوائر لمزيد من التنسيق، وكون دائرة الحل السياسي التي تتكون من رؤساء كل من القطاعات الثلاثة ونوابهم برئاسة رئيس الحزب.

الجدير بالذكر أن ترفيع الإعلام إلى قطاع كان من مطالب الوفد المفاوض ومؤيديه منذ زمن حيث كان رئيس تلك الأمانة الأستاذ الزهاوي إبراهيم مالك من منسوبيهم وكانوا يدفعون باتجاه ترفيع مسئوليته لرئيس قطاع وليس نائبا لرئيس قطاع. كما أن تكوين دائرة الحل السياسي كان من توصيات تقرير لجنة تقويم الأداء التي يعترف هؤلاء بالاحتكام لها.. أما فرية حل القطاع السياسي فلم تحدث قط.

قطاع الفئات: هذا القطاع كان يرأسه الدكتور علي حسن تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية الآن ضمن التحالف مع جماعة الوفد المفاوض سابقا، وينوب عنه الأستاذ عبد الله بركات وهو من هذه الجماعة. لقد جاء في تقرير لجنة تقويم الأداء (ص 48) كأحد معوقات الأداء لقطاع الفئات هي أن “غياب رئيس القطاع أثر على القطاع”، وجاء في توصيات التقرير لهذا القطاع (ص 49) “ضرورة مراجعة قيادته بما يتماشى مع هذه الرؤية وخصوصية القطاع” بالإشارة إلى رؤية تؤكد أهمية القطاع لإحداث حراك مدني ونقابي واجتماعي. بعد نقاش تقرير لجنة تقويم الأداء أصدر الحزب القرار رقم (140) وهو يقضي بالآتي: “قبول التوصيات المتعلقة بالقطاعات في جملتها مع تعديل اسم مجلس الشورى في قطاعي الشباب والطلاب باللجنة المركزية لكل، وأيضا أن تتم إصلاحات مماثلة لما تم في قطاعي الشباب والطلاب لقطاع الفئات”. إذا كان جماعة الفريق المفاوض سابقا قد ارتضت الاحتكام إلى لجنة تقويم الأداء كما تقول فأقل ما يتوجب عليها أن تقبل التوصيات المتعلقة بقطاع الفئات على أنها مؤسسية وعادلة.

الوفد المفاوض: لقد أورد تقرير لجنة تقويم الأداء المشاكل والمعوقات لأداء القطاع السياسي حسب رأي القطاع بنفسه، ثم حلل أداء القطاع وأكد التالي: “المسئولية الأساسية والمهمة المركزية للقطاع هي قيادة الحوار والتفاوض مع النظام بشقيه الحزبي والحكومي، وترك اختيار العضوية المشاركة فيه للقطاع الذي اختار أن يكون الجميع من المقبولين لدى (الطرف الثاني) غيب الرأي الآخر وأعطى العملية بعدا استفادت منه الحكومة تماما ورفضته المعارضة فهاجمته ونسجت حوله الأقاويل والأباطيل منها الخيالي وفيها الأصيل، وصور الحزب كأنه جسم واحد بقلبين” (التقرير: ص 35) ولهذا كان من توصيات تقرير لجنة تقويم الأداء “مراعاة التوازن في تركيبة القطاع” (ص 36)، ومن توصياته أيضا تكوين دائرة للحل السياسي الشامل “يتم في إطار هذه الدائرة التنسيق التام بين القطاعات الثلاثة المناط بها الأنشطة التفاوضية والحوار مع كافة القوى السياسية السودانية (حكومة – معارضة) والاتصال بالقوى الخارجية الداعمة لخط الحل السياسي في السودان وقفا للتضارب والتناقض والاستقطاب والاستقطاب المضاد الذي انعكس سلبا على أداء الحزب. والقطاعات الثلاثة هي: القطاع السياسي- قطاع الاتصال والتنسيق والعمل الجماعي- قطاع الشؤون الخارجية” (التقرير ص 52). وهو ما تم التأكيد عليه في قرار المكتب السياسي رقم (140) القاضي بقبول التوصيات المتعلقة بالقطاعات. والقرار رقم 141 الذي أجاز فكرة وتكوين دائرة الحل السياسي بشكلها المذكور والذي يعني ببساطة إعادة تشكيل الأنشطة التفاوضية جميعها. ومن جديد فإذا كانت جماعة الوفد المفاوض سابقا قد ارتضت تقرير لجنة تقويم الأداء فمن غير المفهوم لماذا تتشكى من إعادة تكوين الوفد المفاوض؟. وبهذا ففي اجتماع المكتب السياسي رقم (71) بتاريخ 17 يونيو 2002م صدر القرار رقم (166) القاضي بتكوين لجنة الحل السياسي الشامل وهي بالتكامل مع دائرة الحل السياسي الشامل المكونة برئاسة الرئيس وعضوية رئيس القطاع السياسي ورئيس قطاع الاتصال والتنسيق وقطاع العلاقات الخارجية، يقومون بوضع فرق التفاوض المختلفة.

قطاع الجنوب: التوصية الوحيدة التي سلبت هذا القطاع أحد أماناته في تقرير لجنة تقويم الأداء، وتم التأمين عليها في قرار الحزب رقم 140 هي أن “أمانة السلام الموجودة في قطاع الجنوب وتلك الموجودة في القطاع السياسي وبالنظر لمهام القطاعين هي أقرب للقطاع السياسي لذلك لا بد من حسم التداخل بتبعيتها للقطاع السياسي” والقطاع السياسي كان يرأسه السيد مبارك المهدي، كما أمن القرار على ضرورة تمثيل الجنوبيين في أجهزة الحزب العليا مع وضع معايير واضحة لذلك، ووضع رؤية استراتيجية لخلق قيادات للمستقبل من الشباب الجنوبي. وقد كانت التوصية بضرورة إيجاد قادة جنوبيين من رؤى السيد عبد الرسول النور نفسه التي رفد بها لجنة تقويم الأداء فتبنتها. ولا يعلم أحد داخل حزب الأمة ما هو المقصود بتحجيم قطاع الجنوب باعتبار ذلك إقصاء لجماعة الفريق المفاوض، حتى يتم الرد على أسس عارفة بمغزى تلك الجملة، فحسبنا هنا إيراد تأكيد قرار الحزب رقم 140 على أهمية هذا القطاع وضرورة تسخير كل الإمكانيات لدعمه.

ثامناً: “مؤتمر” الوفد المفاوض للنظام ومؤيديه الاستثنائي باسم حزب الأمة: يوليو 2002م

تنكر الجماعة التي عقدت مؤتمرها التأسيسي –باسم المؤتمر الاستثنائي لحزب الأمة- في يوليو 2002م على قيادة وأعضاء حزب الأمة أنهم اتهموا مؤتمرها ذلك بأنه عديم الشرعية بقياسات الحزب، وأنه كان مؤامرة بقولهم أنه كان علنيا ولكن لم تسمع به القيادة لعزلتها وأنه لم يكن متعجلا بل جرى الإعداد له منذ زمن كاف وبالتحضير كما يجب. وفي الحقيقة فإن حزب الأمة لا يهمه كثيرا إن كان ذلك المؤتمر حضر له كما يجب أم لا، ولكن الذي كان يهم الحزب إثباته هو أن ذلك المؤتمر لا يعني حزب الأمة المعروف بل هو تنظيم غير شرعي بقياسات الحزب، حتى ولو كانت قياداته وقاعدته تنتمي للحزب. ويهمنا هنا أن نثبت أن قولنا عن ذلك المؤتمر بأنه قام كمؤامرة وبسرية وبعجل حتى ولو خرج للعلن لاحقا، جاء من أقوال منظميه أنفسهم ومؤيديهم حينها في النظام. ففي مقابلة مع السيد مبارك المهدي بجريدة الصحافي الدولي –بتاريخ 17 يوليو 2002م- اعترف أنه حجب الأمر عن رئيس الحزب تحوطا من إجراءات مضادة تقطع عليهم الطريق. وفي مقابلة تلفزيونية في برنامج “في الواجهة” في يوم 15 يوليو 2002م أكد الدكتور قطبي المهدي توجس المؤتمرين من هجوم مضاد للحزب، وبرر الوجود الأمني المكثف في المؤتمر بذلك. وفي التغطية التلفزيونية للمؤتمر والتي تمت يوم 10 يوليو (أي يوم افتتاح المؤتمر) شاهد السودانيون السيد مبارك المهدي يقول “تنادينا في أسبوعين وجاء العدد ضعف ما نتوقع”. وقد أعيدت تلك الفقرات في برنامج “في الواجهة” وكررت بحيث حفظها الناس عن ظهر قلب ولا مجال لنكرانها.

أما أن أجهزة الحزب لم تكن تعلم فهذه مجرد أوهام. إن الدعوة التي تمت في أسبوعين للمؤتمر قد بلغت الأجهزة العليا، ولكن المؤسسات العادلة تأخذ بالبينة. ولذلك فحينما تجمعت لرئاسة الحزب معلومات وافية عن تحرك المؤتمر التآمري –مع العلم أنه تم باعتباره مؤتمرا استثنائيا لحزب الأمة، ووفقا للدستور فهذا يعقد بدعوة من الرئيس أو ثلثي الهيئة المركزية- نوّر رئيس الحزب الاجتماع المشترك بين المكتب السياسي والمكتب القيادي رقم (72) بتاريخ 8 يوليو 2002م (أي قبل يومين من عقد المؤتمر المعني) بما يتم تحت بند “التفلت”. وقد اتخذ الاجتماع المشترك حينها القرار رقم (170) الذي يبين كيفية التصدي للتحرك التآمري الذي حاول التخفي ولكن الحزب تابعه بدقة. ولذلك، وحينما انعقد المؤتمر التآمري كانت أجهزة الحزب مستعدة للتعامل معه مؤسسيا، فأصدرت الناطقة الرسمية باسم الحزب السيدة سارة نقد الله بيانا خرج في نفس اليوم، جاء فيه: “في تاريخه الطويل تعرض حزب الأمة لانشقاق واحد وعدد من الاختراقات، والفرق بينهما هو أن الانشقاق انطلق من عوامل ذاتية وخلافات داخلية وقد حدث مرة واحدة في عام 1966م. أما الاختراق فقد حدث في الماضي مرتين في ديسمبر 1951م باسم الحزب الجمهوري الاشتراكي، وفي عام 1957م باسم حزب التحرر، وكلاهما اختراق لأنه استهدف قواعد حزب الأمة واستند لدعم خارجي.. التجمع المسمي مؤتمر تداولي لحزب الأمة اجتماع يتم خارج الشرعية والنظام وهو مستهدف قواعد حزب الأمة لمصالح الآخرين”. أكد البيان أيضا أن الاجتماع المشترك للمجلس القيادي والمكتب السياسي في يوم الاثنين 8/7/2002 قرر إعلان أن المؤتمر المذكور نشاط مخالف للشرعية ولنظام الحزب المتفق عليه والمشاركة فيه خروج علي الشرعية والنظام ورأي الجماعة، وأن المشاركة فيه من قبل الذين يحتلون مواقع سياسية أو تنفيذية تعتبر استقالة من تلك المناصب. وأن أجهزة الحزب المعنية سوف تقوم بتعيين المسئولين الجدد في المواقع التي أخلاها أصحابها . كما نبه البيان كافة الأطراف الوطنية إلى أن هذا الاجتماع لا يمثل حزب الأمة وأن استخدام اسم الحزب تزوير يجب ألا ينطلي علي أحد. ورجا من أعضاء السلك الدبلوماسي أخذ علم بهذا الاجتماع وعدم الالتباس بأنه مؤتمر لحزب الأمة. وأكد أن حزب الأمة قد أوضح آلياته للإصلاح والتجديد في إطار الشرعية ولكن ما يحدث الآن يستخدم شعار الإصلاح والتجديد كلمة حق يراد بها دعم باطل المشاركة في السلطة دون المبادئ التي قررها حزب الأمة وأعلنها، فهي محاولة لاختراق قرارات حزب الأمة ويجب أن ترفض ويعلم القائمون بها أن حزب الأمة غير قابل للتدجين بهذه الوسائل وأنه سوف يحمي نظامه وقراراته المؤسسية الديمقراطية.

أما اتهام رئيس الحزب بأنه أصدر الكتاب الذي نشرته السيدة رباح الصادق، فكذب واضح وقد كفت الكاتبة الحزب القتال بدفاعها عن ملكيتها الفكرية لذلك الكتاب. صحيح أن السيد رئيس الحزب كان يردد في بعض المنابر أننا سنصدر كتابا نبين فيه حقيقة ما جرى، وصحيح أنه أشار لذلك الكتاب لمن يريد التأكد مما حدث، ولكن كتاب الحزب المفترض لم يخرج في الأوان المطلوب، وحينما خرج ذلك الكتاب استشهد به كما استشهد بغيره من قبل باعتباره كتابا صب في تعضيد رؤى حزب الأمة أصدرته إحدى المنتميات للحزب، وقد حدث ذلك من قبل كثيرا، مثلا الكتاب الذي أصدرته السيدة إخلاص مهدي عام 2000م حول الكتابات المتبادلة بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق، حيث استبقت فيه اللجنة المنوط بها إصدار الكتاب بمجهودها الذاتي.

تاسعاً: التقرير الأمني والتفريط في الديمقراطية

للتدليل على أن الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة فرط في الديمقراطية، وزع في الصحف في الآونة الأخيرة تقرير أمني خاص بتاريخ 24 يونيو 1989م، موجه لكل من “السيد رئيس مجلس الوزراء- السيد وزير الدفاع- السيد وزير المالية”، ومعه تعليق من رئيس حزب الأمة- آخر رئيس وزراء سوداني منتخب- ينتقد التقرير ويرى تهافته. البيان كان عن تداعيات مذكرة الجيش واصفا لها وللتنوير الذي تلاها بالمحاولة الانقلابية وجاء في مقدمته: “أحدث البيان الذي أصدرته القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة ردود فعل متباينة في أوساط الأحزاب والتنظيمات النقابية والعسكريين والمواطنين. الرصد التالي يوضح الرأي العام في المحاولة الانقلابية.” ولم يشر الرصد من قريب ولا بعيد لمحاولة الانقلاب التي جاءت من بعد. الذين يتهمون حزب الأمة ورئيسه شخصيا بالتفريط في الديمقراطية، ويسوقون تلك المذكرة كدليل على أن رئيس الوزراء علم بالانقلاب ولم يمنعه أمامهم أسئلة عديدة يجب أن يجيبوا عليها قبل أن يطالبوا الإنسان السوداني بقبول تحليلاتهم:

أولاً: بعض هؤلاء كان مسئولا عن الأمن في حكومة السيد الصادق المهدي المتهمة بالتفريط في الديمقراطية. أحدهم وهو السيد مبارك المهدي كان وزيرا للداخلية، وقد كتب التقرير حسب توجيهه كما هو مذكور في الخطاب المرفق للتقرير، وبما أن المسئولية توجه لكل عن الذي يليه فإنه، وبافتراض أن المذكرة كانت حقيقة عن الانقلاب الذي قلب الديمقراطية(بينما هي للتطمين حول أثر مذكرة الجيش) فإن السؤال الموجه للسيد وزير الداخلية هو: لماذا لم يتخذ الإجراءات اللازمة لوقف الانقلاب، إذا كان معتقدا بصحة التقرير المعني؟، خاصة وأن رئيس الوزراء لم يكن يرى أن التقرير محكم بالدرجة التي تجعله سببا لاتخاذ إجراءات. هل من الضرورة أن يرجع وزير الداخلية لرئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ووزير المالية في كل كبيرة وصغيرة؟ وما هي حقيقة ما تم؟ هل كان حقا ناصحا لرئيس الوزراء وزملائه وزيري المالية والدفاع لكي يقوموا له بعمله هو ولكن رئيس الوزراء رفض أن يقوم بعمل وزير الداخلية لأنه لم يقتنع بالتقرير؟ وهذه مجرد أسئلة منطقية، ومن أوليات المنطق يكون الرد عليها!.

ثانياً: التقرير الأمني الموزع، وكما ذكرنا جاء متتبعا ردود فعل مذكرة القوات المسلحة الشهيرة في 22 فبراير 1989م حيث كانت الحكومة الديمقراطية تتوجس من كونها بداية لانقلاب على السلطة المدنية، ومعلوم أن قيادة القوات المسلحة كانت مضادة للجبهة الإسلامية القومية بشكل سافر. بعد ذلك جاءت مرحلة محادثات القصر تحت إشراف السيد ميرغني النصري (عضو مجلس رأس الدولة حينها) تلك المحادثات أدت لاتفاق كامل بين القوى السياسية والنقابية، اتفاق شمل الموافقة على مبادرة السلام بالتوضيحات التي أشار إليها بيان 27/12/1988م ولكن الجبهة الإسلامية عزلت نفسها وصارت أسيرة للتعبئة المتطرفة التي شحنت بها قواعدها، وواجهت إجماع السودانيين في القصر بشعارات ثورة المصاحف وثورة المساجد والجهاد، وقامت بانقلاب يونيو 1989م . صحيح أن انقلاب 30 يونيو حينما جاء استفاد من جو التوجس الذي أتت به مذكرة القوات المسلحة وادعى الحديث باسم القيادة العامة للقوات المسلحة في البداية، ولكن هذا الادعاء سرعان ما ظهر عدم صحته وعلم الجميع أن الانقلاب كان بتدبير من الجبهة الإسلامية القومية.. فهل يعتقد مروجو هذا التقرير هذه الأيام أن انقلاب 30 يونيو 1989م حقيقة تابع لقيادة القوات المسلحة صاحبة “البيان” المعني في التقرير؟ هذا السؤال أجابت عليه من قبل إفادات قيادات المؤتمر الوطني بعد المفاصلة الشهيرة بينهم، حيث تأكد أن الانقلاب من صنع الجبهة الإسلامية. ولا ضير أن نتأكد من وعي الإجابة ممن يثير ضجة حول ذلك التقرير الغافل الآن.

ثالثاً: التقرير مذيل بالتعليق التالي: ” من خلال استطلاع آراء المواطنين اتضح أن الكثيرين وبسبب المعاناة في المعيشة والحياة أبدوا تعاطفهم مع التغيير وليس الانقلاب والبعض الآخر يرى ولتفادي السلطة لأية مغامرة جديدة أن تعالج مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية وتحارب الفساد على أعلى المستويات وتقديم كل من يثبت فساده للمحاكمة وأن تمضي قدما في مساعي إحلال السلام في الجنوب والغرب. ” فالفقرة تدل على أن المواطنين لا يريدون انقلابا وهي تطمئن السيد رئيس الوزراء إلى أن المطلوب فقط معالجة قضايا الاقتصاد والسلام والفساد. فلو نسب أي شخص هذه النصيحة لنفسه هل يمكنه أن يدعي أن رئيس الوزراء لم يستمع إليها؟ هل كان لرئيس الوزراء أن يعالج قضايا الاقتصاد والفساد والسلام في ستة أيام، لتنفيذ تلك النصيحة التي دونها أعوام وعقود؟. وإن لم تكن الحكومة الديمقراطية تسعى حقيقة لرفاهية السودانيين الاقتصادية ومحاربة الفساد وإحلال السلام وكانت محتاجة لمثل ذلك التقرير الركيك لينصحها بذلك، فكيف يستمر أي وطني يحترم نفسه وشعبه وزيرا في صفها؟.

رابعاً: تناول التقرير ردود الأفعال في الأوساط العسكرية في فقرة مقتضبة وإن كانت أطول فقرات التقرير، مستخدما عبارات مثل “يرى بعض العسكريين” و”آخرون يرون” و”يتردد أن بعض قيادات الجيش صرحت بأنها .” هكذا دون تحديد من هي هذه القيادات ومتى وأين صرحت، وبكم تقدر نسبة العسكريين من أصحاب الرأي الأول مقارنة مع غيرهم، مع ملاحظة أن التقرير معنون ب”سري للغاية” مما يوحي بدفق من المعلومات الأمنية وفي واقع الأمر فإن ما نشره التقرير لهو مما يمكن أن يقال في جميع المجالس علانية وعلى صفحات الجرائد اليومية ولو قدر أن نشر ذلك التقرير لما كان في الأمر غضاضة!. والسؤال هو هل رأى المحتفون بذلك التقرير المحتفظون به طيلة تلك السنين فيه أية قيمة أمنية تذكر؟ وهل أشار التقرير أية إشارة لاتجاه ثورة المصاحف نحو الدبابة؟ وحتى لو فعلها فلن يتعدى بلغته تلك أن يكون حدسا، لا تقريرا أمنيا مبنيا على الرصد والمتابعة والمعلومة الدقيقة.

خامساً: ربما منعت آفة الفهم مروجي التقرير والذين احتفوا به من إدراك دروس كثيرة. لقد كان تعليق السيد رئيس الوزراء لوزير داخليته مقتضباً ومركزاً، وهو بالنص كالتالي: “أخي الحبيب: تحية ، حتى الآن لم أطلع على تقرير للأمن الداخلي ألمس فيه الإحاطة بالحقائق أو شمولية التحليل. هذا التقرير كالعادة مبتسر من حيث الحقائق والتحليل، فالتنوير العسكري كان فيه رأي آخر وآراء المواطنين كان فيها ما جاء في التقرير ولكن كان ثمة رأي آخر. متى يرقى الأمن الداخلي للإحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل؟ الله أعلم؟” هل يغالط أحد أن تلك الرسالة كانت نصيحة من رئيس الوزراء إلى وزير داخليته أن يعمل على تحسين أداء أمنه الداخلي؟! هل يمكن بأية حال رؤيتها على أنها رسالة وجهت لرئيس وزراء لم يستمع لنصيحة كان مفادها أن المواطنين لا يريدون انقلابا؟.

سادساً: التقرير الموزع ضعيف في لغته وفي فكرته وقد استحق أن يعلق عليه رئيس الوزراء بتلك الطريقة، وهذا ما شهدت به أقلام كثيرة تطرقت للمسألة بعد الاطلاع على التقرير وعلى التعليق.. ولكن السؤال الذي يتبادر للقارئ السوداني العادي هو: لماذا يتحسر المشاركون في نظام “الإنقاذ” اليوم من تفريط متوهم أتى بسلطة “الإنقاذ”؟.

أما التعليقات عن الأخلاقية والمبدئية حول هذه المسألة فإنها متروكة للمواطن السوداني الحصيف والنزيه.

عاشراً: المصالحة الوطنية 1977، ومسألة أن الحزب ورئيسه صيادو سلطة:

إن ما يقوله البعض بشأن مشاركة رئيس حزب الأمة في نظام مايو الشمولي باعتبار ذلك صيد سلطة، وأنه ما خرج إلا لأنه لم ينل المنصب الذي يريد.. يواجه أسئلة مبدئية بالنسبة للبعض الذي كان يسير في ركاب الحزب برئيسه الحالي، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، اللهم إذا استطاع من يردد تلك الأقوال أن يثبت أنه وجه أية معارضة حينها لخط الحزب المعلن في المصالحة الوطنية. ولأن البعض تلقف هذه الفرية فإن الحزب يحرص على إيضاح الإطار الذي تمت فيه المصالحة. وقد حرص الحزب على التوثيق لتلك الأحداث فخرج كتاب المصالحة الوطنية السودانية (1969- 1978م) منذ أواخر السبعينات. وفيه دحض لما أشاعه البعض من أن التحرك نحو المصالحة كان انفراديا، نعم لقد تمت اجتماعات فردية ولكن كافة القرارات كانت عبر أجهزة الجبهة الوطنية وبإجماع أفرادها، وسيأتي اليوم الذي تتجمع فيه كل الحقائق والوثائق ويصدر التاريخ حكمه، كما فعل من قبل مع المهدية في طورها الأول بعد أن طالت عقود التشويه، ومع المهدية في طورها الثاني على يدي الإمام عبد الرحمن المهدي.

كانت الجبهة الوطنية التي تقود معارضة النظام المايوي عبارة عن تحالف ثلاثي ضم حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والأخوان المسلمون. وقد نظمت انتفاضة 2 يوليو 1976 المسلحة التي لم تطرح ثمارها ولكنها أقنعت النظام المايوي بجدوى المعارضة الخارجية. وبمبادرة ووساطة من بعض الوطنيين، وفي الفترة بين سبتمبر وديسمبر 1977م تمت اجتماعات عديدة بين رئيس الحزب السيد الصادق المهدي ورئيس النظام المايوي السيد جعفر نميري استغرقت عشرات الساعات ونتيجة لذلك تم الاتفاق على برنامج المصالحة الوطنية. على أساس ذلك البرنامج عادت قيادات حزب الأمة وبعض حلفائهم من الخارج، ومنذ العودة والنظام المايوي يصر على مشاركة الحزب في السلطة، وفي يوليو 1978م زار السيد جعفر النميري رئيس الحزب في منزله بصحبة السيد فتح الرحمن البشير، مؤكدا على ضرورة الاشتراك في الحكم بقوله: “لقد بحثنا كل الأمور واتفقنا عليها ولذلك ينبغي أن تكتمل المشاركة وننطلق من موقع موحد للعمل الوطني”. ورد عليه رئيس الحزب بقوله: “صحيح أننا بحثنا كل شئ واتفقنا على برنامج المصالحة الوطنية ولكن هنالك مغالطات عن ماهية ما اتفق عليه ولم يعلن على الرأي العام السوداني ولذلك وقبل مناقشة موضوع المشاركة يلزمنا أن نحدد برنامج المصالحة الوطنية وأن نعلنه على الناس وأن نلتزم به ونمنع المغالطات الجارية حاليا والتشويه الذي تلحقه أجهزة الإعلام بالمصالحة.” وقد وافقه النميري وسأله أن يضع خلاصة النقاط المتفق عليها في مكتوب ويرسلها له للمراجعة لتنقل للرأي العام السوداني عبر مؤتمر صحفي يعقده السيد الصادق المهدي يغطى داخليا وخارجيا ويذاع في الإذاعة والتلفزيون. وقد أكد السيد الصادق المهدي أنه إذا “تم الاتفاق على النقاط وأعلنت للرأي العام يزول كل مانع أمام المشاركة في كل المستويات والانطلاق من موقع واحد”. (كتاب المصالحة الوطنية، حيث يوجد محضر ذلك اللقاء تفصيلا).

وفي اليوم التالي لهذا اللقاء أرسلت نقاط الاتفاق حسب الاتفاق ووجه رئيس الحزب الدعوة لقيادات الحزب لبحث الموقف فاتفق الجميع أنه إذا وافق النظام المايوي على النقاط الآتية وأعلنت للرأي العام السوداني يزول كل تحفظ في التعامل مع النظام وتمت المشاركة التامة:

إصلاح الاتحاد الاشتراكي وفق النقاط التسع المقترحة في برنامج المصالحة الوطنية وحله وإعادة انتخابه من القاعدة للقمة وتوقيت هذه الإجراءات.

إجراء تعديلات دستورية في دستور البلاد القائم تنص على إسلامية التشريع وتحقق مزيدا من الديمقراطية وتزيل النصوص التي تقيد الحريات.

إلغاء القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات المؤثرة على سير العدالة.

الاتفاق النهائي على برنامج مصالحة الأنصار وإعلانه.

(انعقد هذا الاجتماع في منزل السيد الصادق المهدي وحضره مائة وخمسون شخصا من قيادات الحزب). (وهذا بالنص من كتاب المصالحة الوطنية).

وقبل انفضاض الاجتماع وصل السيد فتح الرحمن البشير موفدا من رئيس النظام المايوي ليبلغ رئيس الحزب بموافقته على النقاط المرسلة إليه وإبلاغه بدعوته لمؤتمر صحفي موسع ليخاطبه السيد الصادق المهدي أصالة عن نفسه ونيابة عن رئيس الجمهورية ليعلن للرأي العام السوداني برنامج المصالحة المتفق عليه. وبالفعل انعقد المؤتمر بوجود ممثلي الصحافة والإذاعة والتلفزيون السوداني ومندوبي الصحافة العربية والأفريقية والدولية الموجودين في الخرطوم وقد خاطبه السيد الصادق المهدي بحديث خلاصته:

1/ أن المصالحة الوطنية مبادرة تاريخية أملتها ظروف ذاتية وموضوعية محددة وأهمها رغبة أهل السودان في إيجاد بديل سلمي صحيح للعنف والقهر ورغبتهم في حماية الإرادة السودانية من التدخلات الأجنبية.

2/ لقد حققت المصالحة عبر عام من الزمان إيجابيات محددة نذكر منها إطلاق سراح المحبوسين، العفو العام، إزالة أضرار المواطنين إقامة الجسور بين خصوم الأمس، إشاعة التفاهم بين السودانيين، تمكين السودان من الانطلاق بإرادة مستقلة في السياسات العربية والأفريقية على نحو ما انعكس في خطاب الرئيس في مؤتمر القمة الأفريقي الأخير (حينها)، تمكين الأطراف المتنازعة سابقاً من الاطلاع على أحوال بعضها بعضاً وإجراء انتخابات حرة في مجالات مختلفة، وتعطيل قانون أمن الدولة عملياً، وإتاحة الفرصة لنشر الآراء المختلفة حول قضايا البلاد الهامة، بحرية وأخيراً التوصل لنهج محدد للمصالحة الوطنية.

3/ وأعلن برنامج المصالحة الوطنية وخلاصته:

مراجعة أحوال الاتحاد الاشتراكي لإصلاحه وفق نقاط تسع ملخصها: مراجعة تكوين الاتحاد الاشتراكي لأنه تكون في حالة انقسام وفرقة ليكون مفتوحاً وديمقراطياً من القاعدة للقمة وأن تسقط معالمه الديوانية وأن تصفي علاقته بأجهزة الأمن وأن تعطي المنظمات الفئوية والجماهيرية المكونة له استقلالاً أكبر في تصريف أغراضها الخاصة بها وأن يكون تكوينها ديمقراطياً وشاملاً لكل سوداني أو سودانية مؤهلين. وأن يكون هذا الحزب الحاكم وأن تراجع وتصحح علاقاته بالحكم الشعبي المحلي وأن يوسع الولاء له ليكون وريثا لكل إيجابيات الحركة السياسية السودانية الحديثة ومولودا شرعيا لكل الثورات السودانية وأن يراجع اسمه ليكون له اسم يتجاوز مرحلة الانقسام..

حل أجهزة الاتحاد الاشتراكي وإعادة تكوينها من القاعدة للقمة عن طريق الانتخاب المباشر وهذا يشمل أجهزته القاعدية والفئوية والجماهيرية والعليا. على أن يتم ذلك بعد موسم الخريف والحصاد.

تعديل الدستور للنص على إسلامية التشريع ولتحقيق مزيد من الديمقراطية ولإزالة النصوص الاستثنائية المقيدة للحريات على أن تقدم التعديلات المتفق عليها لمجلس الشعب لاتخاذ قرار بشأنها.

تمت الموافقة على إلغاء القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات وسيقدم المشروع الذي وضعته نقابة المحامين السودانيين بهذا الصدد لمجلس الشعب لدي انعقاده.

تمت الموافقة على مراجعة الجوانب الهامة من التجربة القائمة آنذاك وخاصة في مجالات الحكم الشعبي المحلي والتنمية والاقتصاد وغيرهما لدعم الإيجابيات وإسقاط السلبيات.

تم الاتفاق على الآتي: تمسك السودان بعدم الانحياز في السياسة الدولية. وحرصه على حسن الجوار مع كل جاراته. وقيام السودان بدور رائد في المجالين العربي والأفريقي وبدور واصل بين البعث العربي والصحوة الأفريقية. واتفق أن يكون التكامل مفتوحاً بين السودان والبلاد المجاورة له وخاصة السعودية ومصر وليبيا وأن لا يكون هذا التكامل محورياً بل موسعاً ليكون خطوة عملية في اتجاه الوحدة العربية.

واختتم المؤتمر الصحفي مؤكداً أن هذا البرنامج سيمكن أهل السودان من العمل معا لتحقيق الاستقرار في البلاد وإزالة الضائقات التي يعاني منها الشعب السوداني ومؤكدا أن المقياس الحقيقي لنجاح أو إخفاق المصالحة هو في مواجهة وعلاج ما يشكو منه أهل السودان. (كتاب المصالحة الوطنية).

هذا هو أساس الاتفاق مع النظام المايوي وأساس قبول الدخول في الاتحاد الاشتراكي، وهو أن يصفى روحا واسما، وهو ما لم يتم تنفيذه وما أدى لإعادة النظر في الاتفاق من قبل حزب الأمة. لقد كانت الفترة التي دخل فيها الحزب النظام المايوي هي ثلاثة أشهر من يوليو إلى أكتوبر 1978، اختبر فيها جدية التحول والتنفيذ في النظام. وما كانت ملابسات إعلان الرأي حول اتفاقية كامب ديفيد إلا القشة التي قصمت ظهر البعير. إن كافة تلك الأحداث موثقة بتفاصيلها في كتاب المصالحة الوطنية المذكور، فقد اتضح جليا أن النظام نكث في تنفيذ البرنامج المتفق عليه، ولذلك قدم السيد الصادق المهدي مذكرة استقالة من عضوية المكتب السياسي خلاصتها:

أولاً: رفض صدور بيان التأييد لكامب ديفيد الذي يفترض أن الروابط الأزلية بين السودان ومصر توجب تأييد السودان لمصر في كل ما تفعل. ورفض اعتبار موقف الرئيس السادات هو بالضرورة موقف مصر. ورفض اعتبار التضحيات التي قدمتها مصر دفاعاً عن حقوقها الوطنية والقومية مبرراً لتنصلها عن التزاماتها الوطنية والقومية التي التزمت بها في مؤتمرات القمة العربية.

ثانياً: نقد اتفاقيتي كامب دافيد نقداً مفصلا. وبيان أنه ليس دور السودان هو تأييد مصر ظالمة أو مظلومة بل الالتزام بعهوده واتفاقاته التي دخل فيها في مؤتمر القمة العربية ومطالبة مصر بالالتزام المماثل والعودة عن طريق الانفراد. والعمل على توحيد الصف العربي للصمود دفاعاً عن الحق العربي والسلام العادل.

ثالثاً: إن كيفية إصدار البيان تدل على أن المؤسسات السياسية وعلى رأسها المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي لا وزن ولا قيمة للاشتراك فيها لذلك فهو مستقيل من المكتب السياسي واللجنة المركزية ولن يشترك في مؤسسات سياسية إلا إذا كانت منتخبة انتخاباً مباشرا وذات صلاحيات فعالة.

لقد خرج الحزب بكافة أعضائه عن مؤسسات النظام المايوي وفقا لقرار مؤسسي، والذين عصوا توجيهات المؤسسة وظلوا في مناصب النظام المايوي تمت محاسبتهم وفقدوا عضويتهم في حزب الأمة. أما قسم الولاء الذي أداه رئيس الحزب وزملاؤه حين اشتراكهم في تلك المؤسسات فقد كان مرتبطا بعهد وميثاق كان النظام المايوي هو الذي ابتدر نكثه، ورغما عن ذلك فقد برأوا ذمتهم الدينية والوطنية بصيام الكفارة عن القسم وإعلان الاستقالة على رؤوس الأشهاد، وهذا يختلف عن فكرة العمل في مؤسسات الدول الشمولية أو الديمقراطية وأداء القسم ثم الإصرار على الاستمرار مع تفاقم الريبة وبيان التذبذب، والقبوع على كراسي لا يؤدي الجالس من عليها شيئا.. وقد ظل الحزب يصر على أن يصاحب القول المبدأ ويتبع القول العمل.

لقد قبل حزب الأمة ورئيسه المشاركة في المكتب السياسي واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ليعمل على الدفع نحو تحقيق المطلوب من الناحية السياسية والتشريعية، بينما رفض رئيس الحزب أن يتقلد أي منصب تنفيذي بدون انتخاب وقد عرض عليه النظام المايوي حينها أن يكون نائبا أول للرئيس وخليفته. ولكنه تمسك بموقف مبدئي ألا ينال أية مناصب بدون انتخاب. على عكس ما يردد بعض الكاذبين من أن رئيس الحزب كان يريد أن يكون رئيسا للوزراء، ولو أراد أي منصب خلا منصب رئيس الجمهورية لقدم إليه على طبق من ذهب، فالديكتاتوريون دائما يبحثون عن شرعية شعبية مفقودة، وهل من مغالط حول شعبية حزب الأمة ورئيسه؟!.

إن الدروس التي تلقاها الحزب من المصالحة الوطنية مفيدة جدا، فمن جهة ثبتت صحة الجنوح للسلم وإيجابيات العمل والحراك الداخلي والتي تجعل الحريات المصاحبة للاتفاق في حد ذاتها مكاسب للحراك الشعبي والذي أعطته المصالحة الوطنية دفعة قوية تصاعدت حتى أدت للانتفاضة الشعبية في مارس/ أبريل 1985م، ومن جهة أخرى ظهرت محاذير الاشتراك ولو في الأجهزة التشريعية في نظم تقوم ذهنيتها على الفرد لا المؤسسة. ولذلك استمر الحزب يجنح للسلم إذا جنح لها العسكريون، واستجاب للتحولات داخل الإنقاذ حتى وقّع “نداء الوطن” وهو يدفع الآن باتجاه الأجندة الوطنية التي تربط بين السلام والتحول الديمقراطي وتدعو لنبذ العنف.

إن الموقف المبدئي الذي يرفض نيل المناصب بدون انتخاب هو الذي جعل الإمام الصادق المهدي يرفض مبايعة ملايين الأنصار له كإمام لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان مصرا أن يتم انتخاب الإمام بصورة مؤسسية. وقد كثرت عروض السلطة لحزب الأمة وقيادته من قبل النظم العسكرية فلم يستجب. في أواخر عام 1993 عرض الدكتور حسن الترابي على رئيس حزب الأمة إقامة شراكة كاملة مع النظام يقتسمون السلطة فيها مناصفة فلم يجد عنده قبولا لذلك وطلب أن تناقش أية شراكة ممكنة في جو الديمقراطية والحريات. وفي عام 1996 وبعد انتخاب الرئيس عمر حسن البشير عرض على رئيس الحزب الاشتراك في الحكومة وفي لجنة الدستور على أن يختار الحزب عدد ونوع الوزارات. فكان رد رئيس الحزب أن لجنة الدستور ليست قومية التكوين وليس لحزب الأمة أو لغيره من الأحزاب عضوية في المجلس الوطني مما سيجعل الموافقين على عضوية لجنة الدستور تحت رحمة الأغلبية، وقد صح ذلك الموقف فحتى المسودة التي خرجت بها اللجنة لم تراع وأبدلت بدستور جديد. أما بالنسبة للحكم فقد كرر رئيس الحزب موقفه أنه يرفض الحديث عن شراكة واقتسام بدون أن تكون عبر الانتخابات الديمقراطية والحريات. وبالرغم من هذا الموقف الواضح تمت وساطة أخرى من السيد عثمان خالد مضوي الذي قال لرئيس الحزب إن تكوين الحكومة تأخر لأنهم ينتظرون مشاركة حزب الأمة، وكان رد رئيس الحزب كالسابق. وفي لقاء جنيف بين رئيس الحزب والدكتور حسن الترابي كانت الاستجابة لأن الحديث كان عن مبادئ وعن تحول ديمقراطي. ولهذا أيضا تم التوقيع على “نداء الوطن” لدى اللقاء بين رئيس الحزب ورئيس النظام، وهو إطار فضفاض يؤكد الحل السلمي والتحول الديمقراطي لا يتطرق لمناصب سلطوية.. وإبان مفاوضات الحزب مع النظام كان الأخير يصر على اشتراك الحزب في السلطة وعرض عليه عروضا أعجبت الفريق المفاوض من الحزب حينها، ولكن أجهزة الحزب المعنية هي التي قررت في 18 فبراير 2001م مؤسسيا ألا يشترك الحزب في السلطة إلا عبر حكومة قومية أو انتخابات حرة، وأكد على قرارها ذلك في أبريل 2002م.. هل يظن عاقل أن عدد الوزارات التي كان سيأخذها حزب الأمة لو قبل المشاركة كانت ستكون أقل من ضعف تلك التي أعطيت لجماعة الوفد المفاوض الآن وهم يمثلون حوالي 22% من قيادات حزب الأمة وأقل من 1% من قاعدة الحزب ؟. إنها مسألة رفضناها مبدئيا، وسنرفضها على الدوام. ولكن بعض المشاركين الآن تندروا من قبل على تلك المبدئية وقالوا: (شخص يقال له نقسم على اثنين يقول: اقسموا على عشرة!): تهكما من فكرة رفض المشاركة الثنائية والدعوة للمشاركة القومية!!. والسؤال هو: هل يمكن أن يصف صاحب قسمة الاثنين صاحب قسمة العشرة بأنه صائد سلطة؟!.

ختام

إن كان البعض من لاعبي الحركة السياسية السودانية يراهنون على أن ذاكرة الشعوب قصيرة، فإن حزب الأمة يؤكد على ضرورة تقوية ذاكرتنا بالتوثيق، والتأريخ الدقيق. إن الأحداث المذكورة هنا مرصودة ومقيدة بتفصيلات مذهلة. فكتاب المصالحة الوطنية وإن كانت نسخه قد نفدت إلا أن نسخة منه مودعة بدار الوثائق القومية، وكتاب “أدبيات الحل السياسي الشامل” الذي أعدته لجنة جمع أدبيات الحل السياسي الشامل في أغسطس 2002م، والذي يضم غالبية الوثائق المشار إليها هنا موجود بدار الوثائق ويمكن الحصول عليه من المركز العام للحزب. علاوة على قرارات ومداولات المكتب السياسي وهي مؤرشفة ومحفوظة لدى كل من رئيس ومقررة المكتب السياسي الانتقالي. أما اللقاءات الصحفية والتلفزيونية التي يستشهد بها البعض بشكل يخفي نصف الحقيقة أو يوحي بغيرها فإنها متاحة في مضابطها في دور الصحف المعنية أو بدار الوثائق القومية أو تلفزيون السودان.

تبقى جزء وحيد خاص بمالية الحزب وفرية تمويل نظام الإنقاذ له، وسيطالب الحزب الجهات الحكومية المعنية إيضاح أطر التعامل بيننا، وحقيقة المبلغ الذي تسلمه الحزب ومستحقاته التي لم يتسلمها بعد. فإن كانت الأقوال حول تمويل بعض الجهات بشكل غير منضبط وغير منصوص عليه في ميزانية الدولة قد راجت غير مرة ولم تكن الحكومة مكترثة بمثل هذه الأقوال، فإننا كحزب نكترث جدا لهذه المسألة ونطالب بإقرار خلو الذمة من مال الشعب السوداني الذي يوزع يمنة ويسرة بدون رقابة ولا شفافية مطلوبة.

لجنة تبيان الحقائق

19 مايو 2004م