مؤتمر حوار الحضارات محاضرة بعنوان: الحضارات الإنسانية تصارع أم تحاور

  بسم الله الرحمن الرحيم

  جامعة النيلين- كلية الآداب

مؤتمر حوار الحضارات

في الفترة من 3-6 فبراير 2003م

 الحضارات الإنسانية تصارع أم تحاور

 

الصادق المهدي

مدخل:

لقد خاطبني القائمون على أمر هذا المؤتمر واخترت الحديث في محور (جدلية الشرق والغرب)، تحت العنوان أعلاه لحساسية الموضوع الذي يتعلق به فلاح الدنيا إذا سلكت ذهنية الحوار أو طلاحها إذا اتخذت سبيل الصراع، وضروة مخاطبته للتأثير على الخيارات المتخذة. لقد صار هذا الموضوع محور الاهتمام العالمي في الآونة الأخيرة، وزاد الاهتمام به عقب أحداث 11 سبتمبر 2001م في نيويورك وواشنطن وحرب أفغانستان في 7 أكتوبر 2001م ثم التصعيد في الأراضي المحتلة   والعراق وغيرها من البؤر الملتهبة مما أبرز جانبا مما يمكن أن يلحق بالكون جراء سيادة منطق الصراع. أما في داخل العالم الإسلامي فإن مجتمعاتنا تعيش حروبا داخلية بفعل هذه الذهنية، وتصطف العديد من جماعاتها في صفوف العداء وتحمي ساحة المعركة.

.. هذه الورقة تنطلق من كتب وأوراق عديدة تناولت القضايا التي تعنى بها الورقة من قبل، وتحتوي على أهم مرتكزات التحليل لذهنيتي الحوار والصراع بين الحضارات في تقديري، كما تحتوي على برنامج مطروح للحكمة البشرية كمعضد للذهنية الأولى ومجنب للأخيرة.

مقدمة :

كانت علاقات الحضارات الإنسانية في الحقب التاريخية الماضية تتأرجح بين اللقاح والصدام. عالم اليوم عالم مختلف في أمرين هامين:

الأمر الأول: ثورة الاتصالات والمواصلات واتساع السوق العالمي الحر وعوامل أخرى حولت العالم إلى ما يشبه القرية الواحدة التي تتأثر أجزاؤها وتؤثر ببعضها الآخر.

الأمر الثاني: امتلاك عدد كبير من الدول لأسلحة الدمار الشامل. وحتى الشعوب التي لا تملك أسلحة الدمار الشامل تملك أسلحة الضرار الشامل التي سنفصلها لاحقا.

لهذين السببين فإن شعوب العالم وحضاراته أمامها خياران: الاستقطاب، فالمواجهات، فالدمار، في ظل عصر ظلامي جديد: أو الحوار والوفاق في ظل نظام عالمي أعدل وافضل.

في حضارات الإنسان المعاصرة تيارات تدفع نحو المواجهة وأخرى تدفع نحو الحوار والوفاق.

إن مستقبل العالم منوط بتحالف قوى الاستنارة ضد قوى الصدام لإنقاذ العالم من العهد الظلامي والدفع به نحو مستقبل أعدل وأفضل.

في هذه الدراسة سوف استعرض الأمر من كافة جوانبه وأبين معالم الطريق نحو الخيار المأمول.

انتماءات الإنسان:

انتماءات الإنسان التي تلزمه ذاتيا وتفسر تحركاته تقع في ثلاثة محاور:

المحور الأول: يتعلق بالولاءات الدينية والإثنية والثقافية الموروثة.

المحور الثاني: يتعلق بالفكروية أو الأيديولوجية التي يؤمن بها الإنسان.

المحور الثالث: يتعلق بالمصالح الفردية أو الطبقية التي يسعى الإنسان لتحقيقها.

عندما أطلت الثورة الصناعية في أوروبا الغربية ونما النظام الرأسمالي بدا كأن النظام الجديد سوف يطرد كافة الولاءات الموروثة الدينية والقومية والثقافية لتصبح انتماءات الإنسان طبقية أو أيديولوجية تحددها أيديولوجيات تخدم المصالح الطبقية.. هذا التصور افترضته أقوى أيديولوجية سياسية في الغرب –الأيديولوجية الماركسية- وبنت عليه تصوراتها لمستقبل الإنسانية، وسارت بهديه الكتلة الشرقية طيلة الفترة (1919-1991م).

تصور آخر أن انتماءات الإنسان سوف تحددها يد السوق الرأسمالية الخفية، وليس ببعيدة عنا أطروحة “خاتم البشر” التي صكها فرانسيس فوكوياما[1]، والتي افترضت أن مستقبل الإنسانية قد صب على القالب الرأسمالي الغربي.

لقد شهد القرن العشرين أضخم صراع عرفته الإنسانية بين المجتمعات الإنسانية الأكثر تملكا للقدرات المادية على أساس أيديولوجي وطبقي.

وبعد حمامات دم أودت بملايين الأرواح وحطمت العمران على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية (39-1945م) ساد المعمورة نظام عالمي مستقطب بين النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي فخاضا الحرب الباردة (46-1991م) على أساس صراع أيديولوجي ومصلحي كلف الإنسانية من الدموع والدماء والأموال تكاليف غير مسبوقة.

وبعد الحرب الباردة ظهر واضحا أن انتماءات الإنسان الدينية والقومية والثقافية لم تمت كما كان متوقعا بل برزت أهمية الانتماء الديني كمحرك فكري واجتماعي للبشر وتمددت ظاهرة الأصولية الدينية فعمت كل الأديان. لذلك قررت جامعة شيكاغو –بالولايات المتحدة الأمريكية-تكليف جماعة متخصصة لدراسة هذه الظاهرة، فأصدرت ستة مجلدات حاوية لهذه الدراسة في عام 1988م[2]. استنتجت الدراسة أن الحماسة الأصولية ظاهرة عمت كل الأديان. وأن السبب الدافع لها هو تمسك الجماعات الدينية بعقائدها وقيمها الخلقية في وجه هجمات فكر وثقافة علمانية نافية لها.

وفي تقرير عن التحدي للجنوب –أي جنوب الكرة الأرضية- بتاريخ عام 1990م، جاء ما فحواه أن التنمية في بلدان الجنوب أخفقت لأنها لم تراع الجوانب الثقافية في تكوينات هذه المجتمعات.

وفي نوفمبر 1995م جاء في تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية المعنون “تنوعنا البشري الخلاق”[3] Our Creative Diversity النص الآتي: إن مجهودات التنمية غالبا ما أخفقت لأن العامل البشري –تلك الشبكة من العلاقات، والمعتقدات، والقيم، والدوافع التي تجسدها الثقافة- قد أهمل في التخطيط للمشروعات المختلفة. وجاء في التقرير: إن تقرير لجنة برندلاند قد أشار لأهمية العلاقة بين التنمية والبيئة الأيكولوجية، ولأسباب مماثلة ينبغي أن نراعي العلاقة بين الثقافة والتنمية. ولأهمية الجانب الثقافي في حياة الإنسان اقترح التقرير أن يراجع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لإضافة الحق الثقافي إليه.

جاءت الأحداث التي صحبت انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة فظهر فيها وزن الانتماءات الدينية والإثنية والثقافية فأدى ذلك لتحليلات جسدها الكاتب الأمريكي صمويل هنتنجتون Samuel Huntington في كتابه “صدام الحضارات، وإعادة تكوين النظام العالمي”[4]. خلاصة أطروحته: “إن السياسة الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة سوف تدور حول الحضارات وعلاقاتها تنازعا، وتعاونا، وتنافسا، وصداما.

لا يوجد مقياس واحد لسلوك الإنسان. نعم سيكون للانتماءات الدينية والثقافية المكونة للحضارات دور في تشكيل العلاقات بين المجموعات البشرية كما سيكون للمصالح والأيديولوجيات دورها. إنني في هذه الورقة أتعرض للحضارات الإنسانية عامة بالتركيز على الحضارتين الإسلامية والغربية والعلاقة بينهما (الباب الأول)، ثم أحلل منطق الصراع الذي يحكم بعض التيارات الغربية والإسلامية (الباب الثاني)، ومنطق الحوار الذي يجد له مكانا بينهما (الباب الثالث). وأبين شروط سيادة منطق الحوار  (الباب الثالث)، وأختم بمحاولة للترجيح بين الحوار والصراع في عالم اليوم.


الباب الأول: الحضارات الإنسانية

كل مجتمعات الإنسان كونت لنفسها ثقافات، والثقافة هي شخصية المجتمع، وقد أحصى علماء الإنسان عشرة آلاف ثقافة حية. الثقافة تشمل المعتقدات الدينية واللغة والعادات والقيم الخلقية، كما تشمل الأدوات والحرف أي الثقافة المادية، فإذا تطورت وصارت كاتبة حاسبة وارتبطت بالحواضر كانت حضارة. فالحضارة ثقافة في مرحلة أعلى من مراحل النضج. الأديان وهي من أهم مكونات الثقافات والحضارات بعضها محلي كالأديان الإفريقية،وبعض الأديان الآسيوية، وبعضها أديان عالمية كالأديان الإبراهيمية الثلاثة، والزردشتية، والهندوسية، والبوذية.

كل حضارات الإنسانية فيها مكون ديني، والحضارات الإنسانية الحية في عالم اليوم ثمان هي: الصينية، واليابانية، والهندية، والغربية، والسلافية، واللاتينية (أمريكا الجنوبية) والإسلامية، والإفريقية.

ربما طرح سؤال عن ماهية الحضارة الإفريقية لأنه لا توجد حضارة واحدة عامة في إفريقيا جنوب الصحراء. هناك مراجع تؤكد أن ثمة معالم مشتركة بين اللغات واللهجات الإفريقية، كما أن ثمة عوامل مشتركة بين الأديان الإفريقية، عوامل شرحها بولاجي أدوو النيجيري في كتابه “الدين الأفريقي التقليدي: تعريف”[5].. هذه المعالم المشتركة سميت الأفريقانية. تناول الأستاذ علي مزروعي التراث الأفريقي فوجده مكونا من ثلاثة عناصر هي: الأفريقانية- الإسلام- الحضارة الغربية[6]. الإفريقانية كونت الذهنية الإفريقية ولونت تعاطي إفريقيا مع المكونات الوافدة. هذه الذهنية الإفريقية انفردت بالتركيز على العلاقة الخاصة بين البشر والطبيعة، وبين المادي وغير المادي في الطبيعة، وبين العقلاني والفطري في الحياة، وبين الأجيال الحاضرة والماضية من الناس.

اتسم تاريخ الإنسانية كله بتنافس وتلاقح وتداخل وصدام الحضارات. ونتيجة لهذه العوامل فإن الحضارات أثرت في بعضها الآخر وتأثرت ببعضها الآخر، وقيل أن العنصر الأصيل في أية حضارة لا يمكن أن يتجاوز 20%. فالحضارة اليونانية متأثرة بالحضارة الفينيقية، والفرعونية، والهندوسية. والحضارة الغربية ربيبة المسيحية، واليهودية، ومتأثرة بالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية. والحضارة الإسلامية متصلة بالأديان الإبراهيمية ومتأثرة بالحضارة اليونانية والفارسية والهندية وهلم جرا.

لقد اتسم اللقاح الحضاري على طول التاريخ بالسمات الآتية:

أولا: الحركة البطيئة. فالبوذية انتشرت في الصين بعد ستة قرون من ظهورها في شمال الهند.

ثانيا: الانحصار الجغرافي. فالهندوسية انحصرت في شبه القارة الهندية وكذلك الحضارة اليابانية.

حضارتان فقط من بين الحضارات العالمية انفردتا بثلاث أمور هامة هي: الأول: الانتشار السريع، والثاني: تجاوز الجهوية إلى العالمية.والثالث: أنهما اشتملتا على محتوى سياسي بينما اكتفت الحضارات الأخرى بأن استقرت في الوجدان الروحي والخلقي والثقافة والفن.. هاتان الحضارتان هما: الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية الحديثة. هذه الصفة المشتركة جعلتهما متنافستين وأعطت التنافس بينهما خصوصية، وجعلت مستقبل الصدام والوئام بين الحضارات يدور حول مستقبل العلاقة بينهما.

الحضارة الإسلامية

انتشر الإسلام في ثمانين عاما على رقعة من الأرض غطت أكثر مما غطته الحضارة الرومانية في ثمانمائة عام. وفي مدة قصيرة من الزمان هيمنت الحضارة الإسلامية في شكل دولتي بني أمية وبني العباس، ثم الإمبراطوريات الثلاث العثمانية، والصفوية، والمغولية على الربع المعمور من العالم لمدة ألف عام من الزمان منذ القرن السابع إلى القرن السابع عشر الميلادي.

الحضارة الإسلامية التي هيمنت على الربع المعمور من العالم هيمنت عليه سياسيا ولكنها استصحبت علومه ومعارفه وآدابه فكريا وثقافيا. قال الأستاذ منتجمري واط: “هنالك حقيقة مدهشة لا تكاد تصدق في كيفية امتصاص الحضارة الإسلامية لحضارات الشرق الأوسط القديم”[7]. واستطاع الإسلام أن يحرك قوميات عديدة في بناء حضارته: انطلق الإسلام من جزيرة العرب وكان أروع عطاء حضاري للعرب في ظله، كما كان أروع عطاء للفرس في ظل الإسلام، وأروع عطاء للأتراك تحت مظلة إسلامية، وكانت الحضارة المغولية من أروع منجزات الهند الثقافية.

ومن أول وصول الإسلام إلى أسبانيا في القرن السابع الميلادي، حتى حصار المسلمين للنمسا في عام 1529م، كانت أوروبا تتوقع انتصارا إسلاميا عليها مرتين على الأقل، في عام 1529م –حصار فيينا الأول- وفي عام 1683م –حصار فيينا الثاني.

ومع أن الكيان السياسي الإسلامي لم يستطع ضم أوروبا الغربية إليه، فإن أثر الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية كان هائلا. قال روبرت بريفلوت (1876-1940) في كتابه “تكوين الإنسانية”: “التنوير الحقيقي لأوروبا هو الذي حدث نتيجة إحياء العرب الثقافي لأوروبا. أسبانيا  بوابة ذلك الإحياء وليست إيطاليا هي مصدر المولد الحضاري لأوروبا”. وقال: “كانت أوروبا متراجعة باستمرار حتى بلغت غاية الانحطاط والتوحش، بينما تألقت عواصم العالم الإسلامي في بغداد والقاهرة، وقرطبة، وطليطلة،وكانت عامرة بالثقافة والتوقد الفكري. في تلك العواصم نشأت الحياة الحضارية الجديدة التي جسدت مرحلة عالية في تطور الحضارة الإنسانية. إن الحياة الإنسانية الجديدة كانت نتيجة مباشرة لإشعاع الحضارة الإسلامية”[8].

وقال: “من الراجح أنه لولا العرب لما ظهرت الحضارة الأوربية الحديثة. ومن المؤكد أنه لولاهم لما اكتسبت الحضارة الأوروبية الحديثة الصفات التي مكنتها من التسامي على كافة مراحل تطور الإنسانية سابقا”.

هذه الحقائق يعرفها ويكررها كثير من الكتاب والمثقفين الغربيين. ولكن التيار الغالب في الحضارة الغربية لم يتعامل مع هذه الحقائق بموضوعية.

قال مونتجمري واط: “إن مشاعر الغربيين نحو الإسلام كانت في الغالب شبيهة بشعور الطبقات المحرومة في دولة كبيرة. هؤلاء يتجهون لانتمائهم الديني للتعبير عن خصوصيتهم في مواجهة الطبقات العليا. هكذا فعل الأوربيون تجاه الحضارة الإسلامية المتفوقة: تحصنوا بمذهب القديس جيمس الكمبستولي[9]، واندفعوا في حماسة الحركة الصليبية. كذلك شوه الكتاب والقادة في أوروبا صورة الإسلام لتعويض أنفسهم عن شعورهم بالدونية”. وقال الأستاذ واط: “أوروبا كانت تخشى الإسلام على هويتها. لذلك أنكرت دينها له وبالغت في اعتمادها على التراث اليوناني والروماني. لذلك فإن علينا اليوم أن نخلص أنفسنا من هذا الزيف. وأن نعترف بحجم ديننا الحضاري والثقافي للعالم الإسلامي”[10].

لمدة ألف عام كانت القوة السياسية والعسكرية الإسلامية خطرا مباشرا على وجود واستقلال دول أوروبا الغربية. ومع محافظة دول أوروبا على استقلالها السياسي والعسكري، فإن فكرها وثقافتها وحضارتها استمدت كثيرا من عناصرها ومكوناتها من الحضارة الإسلامية. لهذه الأسباب صارت نظرة الحضارة الغربية للحضارة الإسلامية محملة بأعباء وخصوصيات وآراء ومشاعر مختلفة عن رؤيتها لأية حضارة أخرى.

الإسلام والحضارات الأخرى

الإسلام دين اعتدال وتسامح. نعم هنالك ظروف سياسية معينة جعلت قادة وكتاب ودعاة مسلمين يتخذون مواقف سياسية متشددة ويصورونها- تفسيرا لنصوص إسلامية – باعتبار الدنيا مقسمة إلى دار السلام (دار الإسلام) ودار الحرب (العالم اللاإسلامي) وأن دار الحرب مستهدف بالجهاد حتى يسلم أو يعطي الجزية. هذه التصورات للعلاقات ببقية الحضارات لها أسباب تاريخية وسياسية معينة ولا علاقة لها بالإسلام كحضارة أو كثقافة. إن الإسلام أقوى محرك للمجتمع ولا تبرح المذاهب السياسية تحاول دعم مشروعيتها بمظلة الإسلام تماما مثلما دعمت الحركة الصهيونية نهجها بمظلة يهودية. والحركة الصليبية دعمت نهجها بمظلة مسيحية.

الجهاد بالمفهوم الذي يحقق مقاصد الشريعة فيه نوع من الرهبانية مشحون بمفاهيم تربوية، وروحية، وأخلاقية وهذا هو الجهاد الأكبر جهاد النفس. أو هو جهاد مدني بالمال والكلمة والتعبئة والمثابرة لإعلاء كلمة الله. ولا يصير قتاليا إلا اتقاء فتنة (أي كفالة حرية العقيدة) أو دفاعا عن النفس. لقد شرحت بالتفصيل هذا الأمر في كتابي: “جدلية الأصل والعصر”.[11] وبينت كيف أن القتال في الإسلام دفاعي: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[12].

ومبادئ الإسلام التسامحية واضحة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[13].وأيضا (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[14].

الحضارة الغربية الحديثة

عبر عوامل الإصلاح الديني، والتنوير الفكري والثقافي نهضت الحضارة الغربية بموجب ثلاث ثورات مكنتها من صنع الحداثة.

ثورة سياسية: مكونة من جانبين: ثورة سياسية نقلت دويلات أوروبا من مقاطعات يحكمها أمراء تحت ظل الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى دول وطنية عقب صلح وستفاليا عام 1648م. وثورة سياسية هي الثورة الفرنسية التي جعلت الدولة الوطنية ممثلة لشعوب ذات حقوق ومشاركة في اتخاذ القرار السياسي. هذه الثورة السياسية حلت أهم العقبات السياسية في الحكم لأنها حققت التناوب السلمي على السلطة عبر انتخابات عامة حرة. وحققت الامتثال العسكري لقرار القيادة المدنية المنتخبة. هذه الثورة السياسية هي التي أبعدت شبح الاقتتال على السلطة السياسية وشبح التسلط على الشعوب. فقامت نظم سياسية جديدة لا تناقض فيها بين الحكام والشعوب ولا مواجهة بين الطبقات المتطلعة للحكم إلا عبر انتخابات حرة. هكذا زال شبح التناحر على السلطة. كما تحررت قوات الدولة المسلحة من تسخيرها لصالح الصراع على السلطة فاتجهت نحو تجويد أدائها المهني في ظل قوانين ضبط وربط حازمة. لذلك صارت أقوى جيوش العالم قاطبة الجيوش المحجوبة عن الحكم المتفرغة لدورها المهني.

ثورة اقتصادية: تحققت عبر الثورة الصناعية التي حققت تقدما تكنولوجيا وسخرت قوى الطبيعة لصالح الإنسان. الثورة الصناعية استطاعت أن تحقق تراكما رأسماليا عبر علاقات إنتاج عقلانية بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال واستخدام الآلات الحديثة فارتفع الإنتاج إلى درجة لم تشهد الإنسانية لها مثيلا.

الثورة الصناعية حققت من الفوائض والأرباح ما مكن من بناء إدارات مدنية قوية وقوات مسلحة قاهرة فأخضعت الدول الأوروبية كافة أنحاء العالم لبأسها ومكنتها من تسخير الأيدي العاملة لخدمتها ومن توفير الخامات لصناعاتها ومن جعلها أسواقا لمنتجاتها.

ثورة ثقافية: اندفعت بحرية البحث العلمي والتكنولوجي إلى تسخير العلم لمنفعة الإنسان. كما أن الثورة الثقافية وسعت فرص التعليم للشعوب وجعلتها مصادر قدرات علمية ومهنية وفنية واسعة.

هذه الثورات الثلاث صنعت الحداثة، ومكنت الحضارة الغربية الحديثة من نهضة سياسية، واقتصادية، وعلمية، وتكنولوجية، وعسكرية، وثقافية فتقدمت تقدما نوعيا على الحضارات والمجتمعات الأخرى وأخضعتها لسلطانها.

منذ القرن الثامن عشر وعبر القرن التاسع عشر شهد العالم ظاهرتين هما:

الأولى: قوة وحيوية الحضارة الغربية الحديثة.

الثانية: فرض الحضارة الغربية هيمنتها على المعمورة.

وفي القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين بدا كأن الحضارة الغربية الحديثة هي مستقبل الإنسانية. وأن العالم كله مرشح للخضوع لها والامتثال لمفاهيمها وقيمها.

في عام 1923م قال زيا جولب المفكر التركي: “الحضارة الغربية هي التقدم . وهي مستقبل الإنسانية وعلينا أن نقبل عليها”. وهي نغمة رددها بعد ذلك عدد من المفكرين لا سيما في مصر. قال طه حسين (1889- 1973) في “مستقبل الثقافة في مصر”: “الغرب هو المستقبل وعلينا أن نقبله بخيره وشره”[15]. وعلى نفس الوتيرة تحدث سلامة موسى: “أنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب. وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يوّلون وجوههم نحو الغرب وينفصلون عن الشرق. لأني أعتقد أن لا رجاء لنا بالنجاح في العالم إلا بذلك[16]“. وكثير من الكتاب والمفكرين في الشرق قلدوا نظراءهم في الغرب لا سيما في اعتبار الدين مرحلة إنسانية بدائية سوف يحرر الإنسان منها حتما. رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ تشابه ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي أوجست كومت August Comte [17] من أن الدين مرحلة بدائية للإنسانية سوف يتجاوزها حتما لتخلفها مرحلة العلم. هذه المقولة لم تصدق في الغرب ومن باب أولى ألا تصدق في الشرق. بل إن الشعور بأن العقائد والهويات الثقافية في خطر كان من بين أهم أسباب اليقظة الدينية والقومية.

أثناء القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى (14-1918م) سيطر الغرب على العالم إلا قليلا. الحضارة الغربية الحديثة حضارة مركبة من عنصر تراثي. قال عنه بول فاليري Paul Valery الشاعر الفرنسي (1871- 1945م): أوروبا مكونة من تراث ثلاثي:

في المجال الأخلاقي: المسيحية بشقيها الكاثوليكي والبروتستنتي.

في مجال القانون والسياسة والدولة فإنها تستمد من القانون الروماني.

في مجال الفكر والفنون تستمد من التراث اليوناني.

انطلاقا من هذا التراث وعبر ثورات الحداثة نمت الحضارة الغربية الحديثة: النظام الديمقراطي التعددي- النظام الاقتصادي الرأسمالي- التمدد الحضري- محو الأمية – حرية البحث العلمي- التطور التكنولوجي- التسامح الديني- والنظام الدولي التعاهدي.

إذن الحضارة الغربية الحديثة مكونة من عنصرين: عنصر تراثي، وعنصر حداثي. الجزء التراثي خاص بأوروبا وهو نفسه إذا بحثناه بحثا دقيقا لوجدناه متأثرا بروافد غير أوروبية.

أما الجزء الحداثي فهو يمثل التطوير الغربي لمصادر ثقافية، وسياسية، واقتصادية، ساهمت فيها كل الإنسانية مما يبرر التفرقة بين التغريب والتحديث.

كثير من مفكري أوروبا يرفضون هذه التفرقة ويعتقدون أن الحضارة الغربية الحديثة كلها إنجاز حضاري غربي فريد ويعتبرون أن واجبهم المصيري أن ينقلوا حضارتهم هذه للعالم كله ليصبوا العالم في قوالبها، إنها رسالة الرجل الأبيض. تكمن هذه النظرة في عدوانية الحضارة الغربية. وتكمن في عدوانية الحضارة الغربية المشاكل التي سوف تكرس العداء بينها وبين الحضارات الأخرى لا سيما الإسلامية. اللهم إلا إذا استطاعت الحضارة الغربية التخلي عن هذه العدوانية والتعامل العادل المستنير مع الآخرين.

إن عامل الموضوعية والحرية في الحضارة الغربية الحديثة كفيل بإجراء هذا التصحيح: آرنولد توينبي في كتابه الموسوعي “دراسة للتاريخ”[18] حجم دور الحضارة الغربية وأشار إلى ضرورة الاعتراف  بدور ومكانة الحضارات الأخرى. وبعد خمسين عاما من ما قاله توينبي قال فرنارد بروديل (1902-1985م) في الستينيات من القرن الماضي[19]: “المطلوب أن يتحرر الغرب من النظرة الضيقة لنظرة أوسع أفقا تفهم النزاعات الثقافية في العالم وتفهم بعمق التعددية الحضارية فيه”.

هنالك نظرتان في الغرب:

نظرة مستنيرة تدرك أن حضارة الغرب مركبة من جزء تراثي وجزء حداثي. وأن الحداثي هذا يمثل رصيدا إنسانيا يمكن للحضارات الأخرى استصحابه بمحض اختيارها وبالطريقة التي تلائمها.

نظرة استعلائية تعتبر الحضارة الغربية الحديثة كلا متكاملا شاهدا على تفوق أوروبا الإنساني وأنه يبرر وصاية الغرب الفكرية والثقافية على الناس كافة.

النظرة الأولى هي الصحيحة والغرب نفسه تعامل مع الحضارة الإسلامية بصورة انتقائية بحيث رفض ما اعتبره عنصرا ذاتيا للحضارة الإسلامية واستصحب الجوانب الإنسانية والموضوعية منها. لكن مع عدالة هذه النظرة فإن في الحضارة الغربية نزعة استعلاء وعدوانية سوف تعمل لنفي حقوق الآخرين وبسط الهيمنة الغربية.

الغرب والحضارة الإسلامية

بعض الكتاب الغربيين،لحاجة في نفس يعقوب، وعلى رأسهم برنارد لويس في كتابه “الغضب الإسلامي” يصفون تعامل الإسلام مع الغرب باللاعقلانية وبأنه مشحون بالعداء والبغضاء دون أسباب موضوعية[20].

وعلى نفس المنوال كتب يوسف بودانسكي في كتابه “أمريكا هي الهدف” قال: إن الإسلام دين عنف وهو صنو الإرهاب. وغضب الإسلام موجه ضد أمريكا[21].

عدد من الكتاب اليهود، مثل هذين الكاتبين، يروجون لهذا التفسير لموقف المسلمين من أمريكا لأنهم يريدون إقناع الرأي العام الغربي بأن عداوة الإسلام والمسلمين للغرب عداوة دفينة وغير عقلانية ولا صلة لها بمظالم معينة مثل قيام إسرائيل. بل إسرائيل نفسها، لأنها تمثل الحضارة الغربية الحديثة، ضحية لهذا العداء الأعمى وهي مع الغرب في خندق واحد هدف للغضب الإسلامي اللاعقلاني. مثال لذلك ما أورده هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية”. لقد نشر ذلك الكتاب أول مرة في فبراير 1896م

فقد جاء في وقت مناسب وناسب مزاجا يطلبه. كتاب هرتزل كان في كل صفحاته يشكل خريطة لوطن قومي لليهود يمكن أن يقام في أي مكان: الأرجنتين، يوغندا، كندا.. ولكن في نهاية مراحل كتابه أدرك هرتزل أن فكرة فلسطين سوف تعطي المشروع جاذبية عاطفية ومن أجل ذلك أدخل فقرة تقول أن فلسطين قد تكون أفضل موقع للدولة. وفي هذه الفقرة قال إن الدولة اليهودية المزمعة في فلسطين سوف تكون “جزءا من الزحف الأوربي على آسيا” وأضاف: “سنكون رأس جسر للحضارة ضد الهمجية”. وعلى هذا النهج الذي يحاول تقديم الصهيونية باعتبارها رسالة الغرب المتحضر داخل الشرق الهمجي، سار العديد من الكتاب الصهاينة.

آخرون يرون أن الإسلام يمثل أكثر الحضارات الأخرى عصيانا لإرادة الغرب لذلك يمثل هدفا بديلا للدفاع الغربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. هذا ما قاله أمين عام الناتو مانفريد فونر Manfred Woener محذرا من “الأصولية الإسلامية”، وقد كرر خلفه في الناتو فيلي كلايس Willy Claes  نفس التحذيرات باعتبار “الأصولية الإسلامية بديلا عن الخطر الشيوعي بالإرهاب والتعصب الديني” وذلك في فبرايرمن عام 1995م[22]. وربما وجد آخرون في مواجهة الإسلام وسيلة لتعزيز الهوية الأوروبية. قال باري بوزان: “إن قيام حرب حضارية ضد الإسلام يدعم الهوية الأوربية في ظروف تكوين الاتحاد الأوروبي وهو أمر يرحب به كثيرون”

هذه الآراء تنكأ جروحا تاريخية وصورا مشوهة للإسلام في المخيلة الغربية تتحدث عن الإسلام باعتباره ديانة كاذبة وعن انتشار الإسلام بأنه تحقق بحد السيف.

إنها آراء فاسدة تعرض لها وأبطلها كثير من الكتاب الغربيين- لا أعني الذين أسلموا منهم بل الذين لم يسلموا. قال منتجمري واط في مقدمة كتابه عن محمد النبي ورجل الدولة: إن افتراض أن محمدا كاذب افتراض غير معقول. وأوضح توماس أرنولد في كتابه “الدعوة للإسلام في العالم”[23] أن الإسلام انتشر بوسائل سلمية.وفي الظروف الراهنة أوضح جون اسبوزيتو في كتابه “الخطر الإسلامي وهم أم حقيقة؟”[24] أن الإسلام دين تسامح واعتدال.

عندما أزمع الحلفاء إبرام اتفاقية فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وعلم جان سمتس بمحتوياتها، قال للويد جورج رئيس وزراء بريطانيا: ” إن اتفاقية مثل هذه سوف تؤدي لحرب أخرى بعد جيل من الزمان”. واقتنع لويد جورج بالحجة وكتب مذكرة لزملائه قال فيها: “إن الغرور والظلم الذي يصحب انتصارنا لن ينسى وسوف تكون له عواقب وخيمة”.

هذه المذكرة تسربت وثار ضدها 200 من نواب البرلمان البريطاني ووقف إلى جانبهم اللورد نورثكليف صاحب جريدة التايمز، وأنذروا لويد جورج في برقية نشرتها التايمز فورا جاء فيها: إننا نعارض أية محاولة لتخفيف شروط السلام. فتراجع لويد جورج وصدرت اتفاقية فرساي بنصوصها المجحفة. فكانت البذرة الأولى التي أفرخت النازية فالحرب العالمية الثانية. إن غرور المنتصرين الفائق وظلم المهزومين المبالغ فيه ولد الإحساس بالإهانة والإذلال ومهد للنازية.

إن معاملات الغرب للعرب والمسلمين سلسلة من اتفاقيات “فرساي” فهل يستغرب أنها فرخت شعورا عدائيا؟

القضية ليست قضية دينية بل قضية سياسية: العالم الإسلامي تجتاحه مشاعر مشروعة بالظلم والإهانة.

نعم دخل العنصر الديني والحضاري في الموضوع لأن المظلومين في الغالب مسلمون وينتمون للحضارة الإسلامية ولأن الظلمة في الغالب ينتمون للحضارة الغربية.


الباب الثاني: منطق الصراع ومآلاته

لقد تعرضنا في الباب الأول للحضارات الإنسانية معطين الانتباه الأول للحضارتين الإسلامية والغربية وتعقيدات العلاقة بينهما. هذه العلاقة يحتمل أن تتخذ منطق الصراع بهدف حسم تضارب المصالح واختلاف التصورات لصالح حضارة دون الأخرى، أو أن تسلك سبيل الحوار والتعايش. إن الخيار الأول –خيار الصراع- خيار واهم في تصوره لحسم الأمور. لقد كانت العلاقات بين الحضارات عبر التاريخ غالبا تنافسية وأحيانا كثيرة عدائية. لكننا اليوم في القرن الحادي والعشرين ينبغي أن نتناول بحث العلاقات بين الحضارات على ضوء ما ذكرناه من وجود عوامل توجب الوفاق العالمي، ومحاذير تنذر بتحول الصراع إلى فناء للبشرية.

إن خيار الصراع برغم محاذيره المشار لها تقود إليه تيارات كثيرة في العالم بين المتصارعين. سنبحث هنا منطق الصراع في الذهنية الغربية، وفي التيارات التي تتبعه في العالم الإسلامي، ونتعرض لمآلات اتباع ذلك المنطق في الحالتين:

منطق الصراع الغربي: سيادة الاستعلاء:

إذا اتبع قادة الحضارة الغربية النظرة المستنيرة وتجنبوا النزعة الاستعلائية العدوانية واعترفوا بحق الآخرين فإن ذلك سوف يساعد على إجراء حوارات مثمرة. ولكن إذا اتخذ قادة الحضارة الغربية مواقف نافية لحقوق الآخرين فإن ذلك سوف يدفع في طريق الاستقطاب والمواجهات. وسيفاقمون من النزعة العدوانية التي صارت تتحكم في السياسة الغربية منذ زمان بعيد:

تاريخ العدوان الغربي

كل حضارات الإنسان في أوج مجدها أظهرت نزعة استعلائية على الآخرين. وكل الحضارات المغلوبة أظهرت شعورا بالدونية نحو الحضارة الغالبة وحاولت تقليدها أو نقمت عليها واستعدت لمواجهتها. الفرق هو أن الحضارة الغربية الحديثة أظهرت درجة أعلى من القوة، والهيمنة، والمثابرة، والعالمية.

لقد عرفت الإنسانية في الحقب الماضية ظاهرة التطهير العرقي وعرفت ظاهرة الرق. لكن الحضارة الغربية ما رست هاتين الظاهرتين بصورة بشعة لم يعرف الناس لها مثيلا. الشعوب الأصلية في المناطق التي نزحت إليها بعض الشعوب الأوروبية مثل أمريكا أبيدت. لقد كان مصير الإنسان الأحمر في أمريكا مصير إبادة.

كما عرفت الإنسانية الرق كنتيجة للأسر في الحروب وكأرقاء في الخدمة المنزلية. أما اصطياد الإنسان الأسود وترحيله غربا عبر الأطلسي بالبشاعة التي حدثت ثم تسخيره في عملية التراكم الرأسمالي فإنه ممارسة ابتدعتها الحضارة الغربية. قال روجيه جارودي: “إن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا، والاغتصاب والاسترقاق، ودفن الأهالي الأصليين في المناجم، وتحويل إفريقيا إلى مستودع تجاري لاصطياد العبيد.. كل ذلك يطبع عصر الإنتاج الرأسمالي الدموي”[25].

علاقة الغرب بالعالم الآخر انتهت إلى قيام استعمار غربي قهر العالم بآلة عسكرية فتاكة. المفارقة الحقيقية هي أن الغرب قد شهد في دوله نهضة واستنارة ديمقراطية، ولكنه في البلدان التي استعمرها كان يمارس سياسة قهر واستغلال ويقنع نفسه بهذه الازدواجية باعتبار أن الشعوب المستعمرة متخلفة وتحتاج للوصاية الاستعمارية.

وبعد الحرب العالمية الثانية (39-1945م) انتهى عهد الاستعمار المباشر مخلفا أوضاعا مستعصية على الحل وملتهبة بالنزاعات.

إن تاريخ العدوان الغربي حافل بملفات ضخمة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  1. الاستعمار الاستيطاني على حساب الاغلبيات السكانية الأصلية بصورة بلغت قمتها في جنوب افريقيا تحت نظام الابارثيد الذميم.
  2. الصهيونية: خلق معاداة السامية التي افرزت الصهيونية، والغدر بالعرب عن طريق اتفاقية سايز بايكو. هذان الأمران خلقا مشكلة الشرق الاوسط المستعصية على الحل والمهددة بشكل منقطع النظير للسلام العالمي. فرنسا ثم اسبانيا ثم بريطانيا اضطهدوا اليهود على التوالي في القرون الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، ثم اضطهدتهم المانيا في القرن العشرين.. اضطهادات انفردت بها الحضارة الغربية ولم يحدث مثلها ابدا في احلك ظروف الحضارة الاسلامية العربية.
  3. الشوفينية الأمريكية: عند حدوث ازمة الرهائن في ايران تشاورنا، الاستاذ احمد مختار امبو وشخصي، واتفقنا ان نقوم بدور لاطلاق سراحهم لأسباب رأيناها؛ كما رأينا ان اطلاق سراحهم سوف يدعم فرص فوز الرئيس كارتر في الانتخابات الرئاسية، وكنا نرى ان كارتر افضل من ريقان في التعامل مع العالم الثالث. لم ينجح مسعانا لأن مسألة الرهائن صارت جزءا من السياسة الثورية في ايران ودخلت في لب صورة امريكا في ايران. ولدى زيارتي لأمريكا واجتماعي بالوزير سايرس فانس وجدته مع سعة افقه برما جدا بمسألة الرهائن. قلت له الم يخطر ببالك وبال صناع القرار في الولايات المتحدة كيف ان الغضبة الخمينية نفسها ما هي الا رد فعل على تنصيب امريكا للشاهنشاه؟. لقد تأله الشاهنشاه في ايران وحاول سلخ جلدة البلاد الاسلامية وغرّب ثروة البلاد ونصب نفسه كلب حراسة للمصالح الأجنبية مما استفز الضمير الديني والوطني في ايران. إن الولايات المتحدة تتحمل جزءا كبيرا من اسباب التطرف الناري الذي حدث في ايران. وقلت له أن أول خطوة في سبيل التعامل مع هذه الحالة هي الاعتراف بأخطاء الماضي والاعتذار عنها والاستعداد لفتح صفحة جديدة. .لم يكن ممكنا لأمريكا ان تتخذ تلك الخطوات المطلوبة لأن مسألة الرهائن بدورها خلقت موجة من الشوفينية الأمريكية بحيث صار الـT-Shirt الأكثر رواجا في اوساط الشباب مكتوب عليه دمروا آية الله بالسلاح النووي NUKE THE AYATULLAH .! وفي كتابه “تخاليط القوى: السياسة الخارجية البريطانية منذ 1945م”، قال مارك كيرتس الآتي: “كثير من الأمريكيين لا يعلمون أن الغضب الإيراني على بريطانيا وأمريكا كان له دور في إشعال الثورة الإسلامية في إيران في 1979م، وهو غضب له مبرراته حتى بالمقاييس الغربية، وقد كان هذا الغضب نتيجة للانقلاب العسكري في إيران والذي خططت له وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في عام 1953م، وما أعقبه من حكم الشاه الذي اضطهد الشعب الإيراني”[26].

حاضر العدوان الغربي

أ) دور الغرب في البؤر الملتهبة في عالم اليوم

إذا نحن استعرضنا البؤر الملتهبة في عالم اليوم والتي تغذي بحممها الصدام لوجدنا أن للغرب دورا هاما في تكوينها، فيما يلي استعراض لبعض تلك البؤر:

مسألة فلسطين: حتى القرن العشرين لم تكن توجد أي مشكلة تذكر بين العرب واليهود. إن الحركة الصهيونية حركة وجدت وترعرعت في ظروف أوروبا، وقد نتج عن مطالبات تلك الحركة وعد بلفور 1917م ثم تكوين دولة إسرائيل عام 1948م. كان اليهود في فلسطين يشكلون 31,5% من السكان عام 1948م (وذلك بسبب الهجرة المتزايدة لهم بسبب وعد بلفور إذ لم تتجاوز نسبتهم 8% في 1917م)، والآن فإن اليهود يشكلون 53,7% من سكان فلسطين عامة، ويشكلون حوالي 79,2% من سكان الأراضي المحتلة عام 1948م (والتي يطلق عليها اسم إسرائيل دوليا)، بينما عرب الأراضي المحتلة  من مسلمين ومسيحيين يشكلون حوالي20% من السكان[27]، وقد أصبح هؤلاء –وإخوانهم الذين يسكنون في الضفة الغربية وقطاع غزة- ضحايا الأحداث التاريخية المأساوية التي حدثت في إقليم فلسطين في نصف القرن الماضي الأخير، أحداث لم يوجهها الإسرائيليون لمضهديهم الأساسيين، قال ارنولد توينبي مشيرا للتجربة الصهيونية: “ان رد فعل اليهود الفوري على تجربتهم -المحرقة النازية- هو ان يضطهدوا اناسا لم يتسببوا بأي اذى لهم، وأن يلحقوا بهم الأذى الذي لحق باليهود لمجرد ان هؤلاء الناس كانوا اضعف منهم”.. إن المشكلة الآن تراوح مكانها. والتطلع لحل عادل لها عبر قرار يمر بإرادة الناخبين الإسرائيليين وإرادة الشارع العربي مستحيل لأنهما يدفعان في اتجاهين متناقضين. هذا معناه أن التوتر سوف يبقى ويتوالد العنف منه. ونتيجة للتحالف الأمريكي مع إسرائيل فإن هذا التوتر والعنف الناجم منه سوف يسمم العلاقات العربية الأمريكية. وسوف يتساءل القادة العرب والشعوب العربية: كيف يمكن للغرب أن يكون مخلصا لقضية الحرية التي يدافع عنها وهو يساند إسرائيل بينما تقهر إسرائيل عرب فلسطين وتحرمهم حقوقهم؟.

تركيا: تركيا حليف للغرب موال له ضمن حلف ناتو. وفي مقالة عن الجماعات الإسلامية الراديكالية في تركيا قال الأستاذ ايلي كارمون: “إن النظام الحاكم في تركيا طارد المنظمات الصحوية الإسلامية واضطرها لحماية نفسها عن طريق استبدال اسمها وتنظيمها أربع مرات: حزب النظام الوطني، ثم حزب الإنقاذ الوطني، ثم حزب الرفاهية، ثم حزب الفضيلة”. وأضاف قائلا: “إن الهجوم التركي الأخير على مظاهر العمل السياسي السلمي الإسلامي يمثل قفل الباب أمامها لتعمل داخل النظام العلماني الحاكم مما يزيد احتمالات العمل الإرهابي”[28].

أفغانستان: حتى الغزو السوفياتي لأفغانستان كانت المنظمات الإسلامية الأفغانية عديمة النشاط. إن الغزو السوفياتي استفزها ودفع بها للصفوف الأمامية للنشاط السياسي. إن الدعم المالي الخارجي، وما حصلت عليه من تسليح مكنها من خوض معركة ناجحة ضد الاحتلال السوفياتي. ولكن مع ذلك لم تكن هناك أية تدابير نحو المستقبل. قالت السيدة مادلين أولبرايت لمحطة سي إن إن CNN الآتي: “في الحقيقة إن الولايات المتحدة تخلت عن أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفياتية وتركت فراغا. من عيوبنا أننا نتخلى عما في أيدينا قبل إنجاز المهمة”. هذا الفراغ ملأته حركة طالبان.

القاعدة وابن لادن: في كتابه الجيد عن ابن لادن، وصف الكاتب الأمريكي آدم روبنسون[29] كيف نشأت ظاهرة العرب الأفغان. وذكر كيف أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت تفضل دعم العرب الأفغان على دعم المقاتلين الأفغان لأنها كانت تعتبر العرب الأفغان أهلا للثقة. ووصف في كتابه كيف استطاع ابن لادن أن يصبح بطلا –جيفارا عربي- ووصف تكوينه لجيش جهادي أممي على نمط الشركات متعددة الجنسيات.. هذا كله تحت عيون الوكالة. لا نظام طالبان ولا تنظيم القاعدة صنيعتان لأمريكا. ولكن السياسة الأمريكية خلقت مناخا مساعدا لهما وفي ظرف تاريخي معين شجعتهما.

جامو وكشمير: عندما قررت بريطانيا الانسحاب من الهند، احتد النزاع بين الهندوس والمسلمين وبلغ درجة تقرر معها تقسيم الهند إلى دولتين في عام 1946م. ووضعت قاعدة تضم الولايات للهند أو باكستان حسب ميل أغلبية سكان الولاية. ولاية جامو وكشمير أغلبية سكانها من المسلمين إذ بلغوا 70% ولكن ملكها كان هندوسيا واختار الانضمام للهند. كان ينبغي أن تحل هذه المشكلة وفق أحكام تقسيم الهند ولكن هذا لم يحدث فبقيت المشكلة مشتعلة مسببة حروبا متصلة بين الدولتين ومسببة خطرا مستمرا على استقرار المنطقة.

مسألة تايوان: عندما انهارت السلطة الوطنية في الصين عام 1950م أمام الزحف الشيوعي لجأت حكومة الوطنيين إلى جزيرة فورموزا (تايوان) وبمساعدة غربية أثناء الحرب الباردة كونت دولة فيها. وصارت تايوان من أهم جبهات المواجهة في الحرب الباردة وما زالت تشكل خطرا مستمرا على السلام والاستقرار في منطقة المحيط الهادي.

إذا خوطبت هذه البؤر بحلول عادلة فإنها تمهد السبيل لإنهاء مسلسل الاستعلاء الغربي وتفتح الباب  لعلاقات ودية بين أطراف النزاع. ولكن إذا استمرت مشتعلة فإنها سوف تسمم العلاقات بين أطراف النزاع فيها.

ب) ميل الميزان العالمي لصالح الغرب

بعد مرحلة الاستعمار المباشر فرض الغرب نظاما دوليا يجسد هيمنته بيانها:

أ. اقتصاديا: العملة والنظام النقدي. والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الجنسية (اسما)، والنظام التجاري العالمي.

ب. دبلوماسيا: آلية العضوية الدائمة في مجلس الأمن.

ج. عسكريا: التفوق الحاسم لحلف ناتو وتكوين النادي النووي.

د. واجهزة العالم الاعلامية والفنية والرياضية غربية الرموز والقيادة والسياسات.

ان التباين الأوضح اليوم في شكل العالم هو التباين بين الشمال الغني القوي الذي يقوده الغرب، والجنوب الفقير الضعيف الذي يمثل اكثر الحضارات الاخرى بما فيها الحضارة الاسلامية.

في اواخر الثمانينيات نشرت لجنة الجنوب تقريرا اوضح اخفاق حقب التنمية بسبب تراخي تعاون دول الشمال مما ادى لحدوث ازمة التنمية.

أحصوا أسعار تبادل السلع بين الشمال والجنوب، وكيف انها مالت دائما لصالح الشمال مما ادى مع ظاهرة الدين الخارجي والتزاماته الى تدفق الاموال من الجنوب للشمال. وشجبت اللجنة الغرب على انه قاوم بشدة امرين هامين لاعادة الأمل في تنمية الجنوب، هما:

أ. تنظيم عمل دولي للتنمية.

ب. تحقيق تعامل جماعي مع ازمة الدين الخارجي.

هنالك أسباب عديدة كانت توجب على الغرب التعامل مع أزمة التنمية في دول الجنوب بصورة مستنيرة هي:

* أسباب سياسية هي استحالة حصر مشاكل الجنوب في الجنوب، فإن تأزمت أحواله طفحت على أنحاء العالم الأخرى.

* أسباب اقتصادية هي: ان تنمية الجنوب تتيح فرصا لرؤوس اموال الشمال وتتيح اسواقا لمنتجاته.

* وأسباب اخلاقية هي مذمة تجاور الرخاء والحرمان في مسرح بشري واحد.

* وأسباب ايكلوجية تنطلق من وحدة البيئة العالمية وتوجب رؤية موحدة.

لقد اوصت اللجنة بطائفة من التوصيات التي توجب تغيير موقف السياسة الغربية أهمها:

أ. احتواء ازمة الدين الخارجي وايقاف تدفق رأس المال من البلاد الفقيرة الى البلاد الغنية.

ب. التمويل الميسر للتنمية في الجنوب.

ج. فتح أسواق الشمال لمنتجات الجنوب.

د. اتخاذ اجراءات للبيئة الصالحة.

هـ. ايجاد وسائل لحماية دول الجنوب من تقلبات الأسعار.

لا يوجد أي دليل أن الغرب يهتم بهذه التوصيات. بل العكس تماما هو الصحيح فقد كانت الحرب الباردة أهم اسباب المساعدات التنموية لدول الجنوب فانحسرت بانحسارها.

ان النهج الاقتصادي الذي يرعاه الباب الاقتصادي العالي العالمي -جماعة الحكومات الثمانG8 – هو ان عصر العولمة قد جاء ومعه عهد التحرير الاقتصادي والخصخصة، فما على العالم النامي الا تأهيل نفسه للانتفاع بهذه الخيرات القادمة.

ان العولمة والتحرير الاقتصادي في عالم مشوه اقتصاديا وماليا وتجاريا سوف يؤدي حتما لمكافأة الأغنى واستنزاف الأفقر مما يؤدي الى تهميش الجنوب أكثر مما هو مهمش الآن!.

صحيح ان حكومات بلدان الجنوب تتحمل جزءا كبيرا من المسئولية عن التخلف فقد تركت بلدانها نهبا للاستبداد السياسي والفساد والاضطرابات الداخلية.

لا فائدة ترجى اذا لم تحدث اصلاحات هيكلية تجعل الحكومات منتخبة ومساءلة وتجعل الهياكل الاقتصادية صالحة للتنمية والسوق الحر. لكي يصبح السوق حرا وينتفع بالعلاقات الاقتصادية الحرة يجب أن يسبق ذلك اصلاحات هيكلية والا فالتشويهات الاقتصادية والمالية والتجارية تمنع الانتفاع بالعلاقة القوية بالاقتصاد العالمي.

ان النظرة المستنيرة تؤكد ان تنمية الجنوب من مصلحة الشمال.. تنمية تقوم على الاصلاحات المطلوبة قبل فتح المجال للسوق الحر ليكون حرا بحق.

مآلات الاستعلاء الغربي

ينبغي أن يهتم عالم الشمال كقيادة فعلية للأسرة الدولية اهتماما خاصا بالتنمية في عالم الجنوب لأسباب كثيرة ..إن تهميش الجنوب الذي تقود اليه العوامل الاقتصادية والمالية والتجارية الحالية ليس من مصلحة الغرب ولا الشمال في المدى الأوسط والأبعد.. إن حالة الفقر واليأس تجعل من الجنوب مصدر أذى كبير للآخرين فالاحتجاج والتظلم لا يمكن حصره في عالم الجنوب بل سوف يتعداه إلى الشمال عبر عدد من الوسائل:

أسلحة الضرار الشامل وهي:

  • الضرر السياسي: التشدد والعنف والاستقطاب والإرعاب هي المواقف التي سيواجه بها عالم الجنوب عالم الشمال وإن اتجه الأخير للهيمنة والاستغلال والاستعلاء والاستكبار فإحساس عالم الجنوب بالغبن والظلم سيجعل من مجتمعاته تربة خصبة للتجنيد وإتقان وسائل الأذى وتصديرها إلى الشمال. وتوتر أحوال أقاليم دول الجنوب سيجذب إليه تجارة السلاح من كل أنحاء العالم مما يرفع مستوى العنف العالمي وستجد دول الشمال أنفسها طرفا في تجارة الموت. لقد كان ذلك واضحا منذ فترة ليست بالقصيرة، ولكن الغرب سدر في غيه غير آبه بما يمكن أن تؤدي له المظالم من تكوين مصادر مستمرة لحركات الإرعاب الذي يمكن أن يسمي نفسه أسماء عديدة ولكنه في النهاية احتجاج سياسي يتخذ العنف أسلوبا. لقد أثبت الإرعاب أنه يمكن أن يشكل شرارة حرب عالمية بين الجنوب او بعض بلدانه والشمال او الغرب. ان مخاطر الارعاب تزداد يوما بعد يوم، وهنالك عوامل تجعل احتمالات وصول اسلحة الدمار الشامل الى اياد ارهابية كبيرة جدا. بل لقد أثبتت أحداث 11 سبتمبر أن الإرعاب يمكن أن يتخذ أساليب جديدة، . فإن  أول حروب القرن الحادي والعشرين الجديد يمكن أن نسميها أيضا حرب غير متوازنة باعتبار أن الطرف المعادي فيها يستغل ضعف الطرف الأقوى ويلتف حول قوته ويستغل نقاط ضعفه معتمدا على وسائل مبتكرة بحيث أنه يدير حربا مختلفة من الحروب الماضية.
  • القنبلة السكانية : سيكون العالم الجنوبي ميدانا للقنبلة السكانية حيث لا التزام بخطة سكانية عالمية وإقليمية وقومية كما ينبغي فتكون لها آثار سلبية في كافة أنحاء العالم.
  • القنبلة الأيكولوجية. إن تصرف أي جماعة أو دولة في العالم بطريقة غير مسئولة نحو البيئة والطبيعة سيكون له آثاره السلبية العامة.
  • قنبلة المخدرات: المجتمعات الغربية تواجه بعض أمراض الجوع الروحي والعاطفي والترف وأهمها الإقبال الملح على المخدرات بصورة وبائية فأمريكا وحدها صرفت على مكافحة المخدرات في ما بين أعوام 1985م و1989م مبلغ واحد وعشرين بليون دولار. إن المخدرات جزء من حالة نفسية واجتماعية شائعة في العالم كله ولكنها بدرجة أعلى في المجتمعات الغربية، ومحاربتها تحتاج إلى خطة محكمة من جانب الإنتاج، والتوزيع، الوقاية والعلاج، هذه الخطة لن تنجح إذا لم تكن عالمية . إذا لم يجد العالم الجنوبي نفسه جزءا من عالم واحد يشارك في مصيره فإنه لن يتعاون بل وسوف توجد عناصر كثيرة فيه تستغل هذا الوضع .لقد اعترفت القمة التي درست مشكلة المخدرات ان جزءا مهما في احتواء المشكلة كامن في جانب العرض..
  • القنبلة الصحية. إن العالم يشكل بيئة صحية واحدة، وربما كانت مجتمعات عديدة في عالم الجنوب مفرخة لأمراض فتاكة وهي بالطبع سوف تؤذي مجتمعات الجنوب في المقام الأول وستجد سبيلها لإيذاء عالم الشمال أيضا. إن علاج الأوبئة والوقاية من المخاطر الصحية يتطلبان مشروعا صحيا عالميا لأن السلوك الصحي غير المسئول أو الذي تفرضه قلة الامكانات –في عالم الجنوب- يزيد من المخاطر الصحية في العالم.
  • الهجرة غير القانونية. مثلما أدى إهمال الريف في كثير من البلدان إلى هجرة غير صحية من الأرياف إلى المدن فإن أحوال العالم الجنوبي الغارق في مشاكله سوف تدفع كثيرا من سكانه إلى هجرات غير قانونية للغرب ولن يستطيع الغرب إيقافها إلا على حساب إهدار كامل لحقوق الإنسان في مجتمعه. هذه الظاهرة سوف تستمر وتتصاعد ما لم تعالج أسبابها الأساسية. وعالم الشمال لا يستطيع أن يتعامل معها كظاهرة أمنية فحسب وإن حاول ذلك فلا يحقق إلا نجاحا جزئيا وعلى حساب إقامة الدولة البوليسية.!!..

 

أسلحة الدمار الشامل:

ومن مآلات الاستعلاء الغربي أيضا المزيد من خطر وضرر أسلحة الدمار الشامل:

أولا: إن سياسة منع انتشار السلاح النووي في ظل الاستعلاء الغربي ستفشل للأسباب الآتية:

* لأنها تقوم على ازدواجية المعايير.

* لأن هنالك بؤر ملتهبة وقضايا متأزمة صنعتها سياسات الغرب وسوف تسعى اطرافها لكل انواع التسليح.

ثانيا: ستزداد الهمة في عالم الجنوب الفقير لامتلاك واستعمال أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيلوجية التي سميت نوويات الفقراء.. هذه الأسلحة فتاكة جدا: الكيميائية تستخدم مواد من صنع الانسان ذات آثار سامة وقاتلة. والبيلوجية تستخدم مواد طبيعية جرثومية او فيروسية لنشر امراض قاتلة. وفي هذا الصدد فإن جراما واحدا من الانثراكس اذا وزع بطريقة جيدة يمكن ان يقتل عشرة مليون شخص.

المطلوب من الشمال في هذا المنحنى التاريخي الهام هو ان يتخذ موقفا ايجابيا من تنمية الجنوب يساوي ويماثل ما قامت به دول الشمال نفسها لانعاش الجماعات الفقيرة والمحرومة في اوطانها. هذا الموقف الايجابي ينبغي ان يشترط اصلاحات جذرية داخلية في دول الجنوب تصلح حكوماتها ونظمها الاقتصادية.. هذا التوجه الغربي (الشمالي) الايجابي، والاصلاح الجذري الداخلي الجنوبي: أو الطوفان.

منطق الصراع الشرقي: التشدد الأصولي الإسلامي:

الاستعلاء الغربي سمم الواقع السياسي للعديد من الحضارات بردة الفعل. لقد انطلقت الجهات المستهدفة والمتضررة من ذلك الاستعلاء اتجاها مضادا –من ناحية شكلية- ومعضدا للمنطق الغربي من حيث رفدهما المتبادل، ومن حيث اقتناع كل منهما باستحالة التعايش الحضاري في الكون وبضرورة ديمومة الصراع حتى تغلب حضارة الأخريات. هذا المنطق –منطق ردة الفعل للاستعلاء الغربي- حكم بعض التيارات في العالم الإسلامي. فالعالم الإسلامي مكون من تيارات كثيرة يمكن إجمالها في ثلاثة: تيارات الأصولية العلمانية، وتيارات الأصولية الدينية، وتيارات التأصيل الصحوي. التياران الأول والثاني هما اللذان يرفدان عقلية الصراع حيث يقف الأول مساندا للمنطق الغربي الظالم بفعل الاستلاب، ويقف الثاني مناهضا له بردة الفعل، مما يشكل حربا داخلية داخل المجتمعات الإسلامية، يمتد أوراها للعالم موجها ومستقبلا لمفردات الصراع، خير مثال على ذلك ما حدث إبان وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001م من حوار عقيم بين تنظيم القاعدة وطالبان من جهة والإدارة الأمريكية وإسرائيل والعدوان المضاد من الجهة الأخرى.

.. لقد أثبت في العديد من الكتابات أن تصور الإسلام للعلاقة مع الحضارات على أنها صراعية وحربية تصور يرجع لاجتهادت مربوطة بواقع عصورها، ولكن الاجتهاد الصحوي المرتبط بالعصر الراهن يؤيد قيام العلاقات الدولية على أسس التعاون والمصالح المشتركة[30]. ولكننا هنا بصدد بحث التيارات من داخل البيت الإسلامي التي تعضد منطق الصراع، وتتبع أسباب نشوئها وانتشارها.

الفتنة الكبرى في تاريخ الاسلام افرزت تشددا عبر عنه الخوارج. والهجوم التتاري والصليبي افرز تشددا عبر عنه كثيرون على رأسهم ابن تيمية.

المسلمون الذين يعيشون أقلية في الهند يتهددهم بحر هندوسي طامح ومتشدد. تلك الظروف افضت الى تشدد اسلامي جسده فكر الشيخ ابو الاعلى المودودي، وعبر عنه باوضح صورة الاستاذ سيد قطب في المجال العربي وإن كان الدافع للتشدد عند قطب هو دخول الحركة الاسلامية في صراع السلطة وما جره اليها من “تجربة مرة” أودت  بتسامح نهجها الأول على يد الشيخ حسن البنا واسلمتها الى تشرذم وتشدد عبر عنه قطب بقوله وهو يتحدث عن “من يسمون انفسهم مسلمين ويظنون انهم اسلموا واكتسبوا صفة الاسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وادائهم الشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين واستسلامهم ودينونتهم لغير الله من العبيد. وكلها جاهلية. وكلها كفر بالله كالأولين او شرك بالله كالآخرين.” هذا المنطق هو الذي أسفر عن توالد جماعات التكفير والهجرة ومختلف المسميات التي تعمل سيفها في أخوة الدين بلا هوادة.. شهدنا نحن في السودان ازدهارا لهذا المنطق في العقد الأخير..خير مثال على ذلك أحداث الجمعة 4 فبراير 1994  حيث اعتدى مسلحون على مسجد الحارة الاولى(المهدية) بمدينة أم درمان ، وقتلوا جماعة من انصار السنة المحمدية وغيرهم وتكرر الحدث في مدني بحصد أرواح السجد في حرم الجامع، كما تكرر في حادثة مسجد الجرافة في أم درمان، منفذو الجريمة كانوا من تلك الجماعات المتشددة، وشهداء الحوادث لم يكونوا من المفرطين بل كانوا ينتمون لجماعة تشدد أصولي إسلامي أخرى.

من مقتضيات هذا الموقف ان تكون الحاكمية لله ركن الدين الاول المقدم على العقيدة والشعائر فاذا غابت الحاكمية بطل كل ما سواها من مقتضيات التدين. هذا الاجتهاد افرز جماعات اسلامية تقدم الالتزام السياسي على سائر واجبات الاسلام وتعتبر نفسها ناطقة الهية ومفوضة باسم الاسلام: جماعات ثيوقراطية.. هذا يقودنا للحديث عن ظاهرة الأصولية.

الظاهرة الاصولية

كثير من الكتاب اعتبروا الاصولية قرين التشدد والارهاب. التعبير في الاصل نشأ في المسيحية لوصف موقف الذين رفضوا نظرية النشوء والارتقاء التي قال بها شارلس دارون واحتجوا بما جاء في الكتاب المقدس من بيان لقصة الخلق. صار التعبير يطلق على موقف اولئك الذين لا يعتدون بالحقائق العلمية والتطورات ما لم تطابق نصوص الكتاب المقدس. بهذا المعنى يمكن ان يكون لكافة الملل والنحل اصولية بمعنى قياس الامور والمستجدات على نصوص اصلية نقلية. والمستفاد من الفكر الحديث ان هذا النهج يبطل الحقائق العقلية والتجريبية.

ولكن في المصطلحات الاسلامية فإن عبارة أصولية شيء مختلف، إنه لفظ مرتبط بالمعرفة الشرعية. فالرجوع للأصول في العلوم الشرعية ليس ذنبا بل كل العلوم تهتم بالرجوع الى اصولها دراسة وبيانا. هذه الاصولية المعرفية الى جانب الاصولية الروحية والاصولية الخلقية واجبات دينية. ولكن هنالك اصوليات اخرى: الأصولية الفكرية التي تعلِّب الفكر، والاصولية الثقافية التي تحبس الثقافة، والاصولية السياسية التي تقدس نمطا سياسيا معينا وتوجب فرضه على الورى.. هذه الاصوليات ذميمة وهي تتناقض مع مقاصد الشريعة الاسلامية التي تمنع الجمود في تلك المجالات.

الأصولية التي تقدس نمطا سياسيا معينا وتوجب فرضه اسميها الاصولية الحركية وبيانها:

أ. لا اله الا الله محمد رسول الله تعني امتثالا كاملا لأمر الله في الدينونة والاتباع والطاعة في كل مجالات الحياة، باعتبار هذه المجالات قد فصلت بدقة متناهية لا تحتمل اختلاف الرأي إلا باتباع الهوى أو البدع.

ب. أوجب الله احكاما سياسية محددة سميت الحاكمية، والحاكمية هي ركن الاسلام الاهم.

ج. الجماعة التي تلتزم بهذا الفهم للإسلام هي الناطقة باسم الاسلام. انها تجسيد للأمة وما عداها كافر أو مشرك.

د. طاعة امير الجماعة من طاعة الله ومعصيته من معصية الله، والذين يصدون عن هذه الدعوة يستهدفهم الجهاد.

هذه الجماعات تكون الآن طائفية حركية، اذا قسنا موقفها على أساس مرجعية اسلامية لم نجد لها سندا:

أ. نصوص الاسلام الواضحة تبني النسق الديني كله على الشهادة وعلى الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع اليه سبيلا. إن الالتزام بهذه الأركان مقدم على التوفيق في اقامة النظام السياسي الأمثل في المجتمعات الاسلامية. لأن هذا الأمر يتصل باجتهاد المسلمين في كل زمان ومكان وهو محاولة مستمرة للتوفيق بين مبادئ الاسلام السياسية وبين الواقع التاريخي.

ب. لا أحد يجوز له ادعاء التحدث باسم الاسلام، وإن جازله التحدث باسم المسلمين فلا يكون ذلك الا بموجب: {وامرهم شورى بينهم}.

ج. القيادة الاسلامية كالامامة امر عام وايجاب الطاعة الدينية لعصبية حزبية معينة لا مبرر له.

د. الجهاد له احكام وضوابط ولا يجوز لأية جماعة لم تتحقق لها ولاية الأمر بصورة شرعية أن تجعله وسيلة تتعامل به مع الآخر المذهبي أو الآخر الملي أو الآخر الدولي.

ولكن مهما كانت المرجعية الاسلامية واضحة فإن الأصولية الحركية، لا بل التطرف السياسي الوضعي، سوف تتمد في الساحة السياسية اذا توافرت مظالم معينة تستفز الناس الى النهوض ضدها.

المظالم والتخلف يفرخان التطرف

السلام الاجتماعي والاستقرار لا يمكن تحقيقهما في مناخ حافل بالمظالم. وفي منتصف القرن العشرين كان التعبير عن الاحتجاج  على تلك المظالم يتخذ شكلا قوميا او شيوعيا. لكن لأسباب كثيرة تراجعت الفكرويات (الآيديولوجيات) الوضعية وشهد العالم كله ظاهرة العودة للدين.

هنالك خمسة امور تؤرق الشارع السياسي في كثير من بلاد المسلمين، هي:

اولا- في العالم كله أدى زحف الحداثة الى رفض الاستلاب الفكري والثقافي، وتلمس الثقافات في كل مكان لجذورها.

          ثانيا- هنالك تطلع للمشاركة والمساءلة في المجال السياسي، واحتجاج على الحرمان السياسي.

          ثالثا– هنالك تطلع للتنمية والعدالة في النطاق الاقتصادي، واحتجاج على الحرمان والظلم الاجتماعي.

          رابعا– هنالك رفض للهيمنة الدولية، والنظام الاقتصادي العالمي الجائر، والنظام الدولي الذي يتبع سياسة ازدواجية المعايير ويضع أوزانا دولية أعلى للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية.

          خامسا– العامل الصهيوني. ودعم الغرب وأمريكا السافر لإسرائيل ومساندتها في عدوانها وانتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني.

هناك أيضا ثلاثة عوامل تدفع  نحو الغلو بسبب تخلف المجتمعات الإسلامية بعد ازدهار وهي:

أولا: الفهم المنكفيء للنصوص الدينية مما أدى لاندفاع نحو تطبيقها دون مراعاة لتغيرات الزمان والمكان.

ثانيا: غياب برامج أخرى تخاطب التطلعات للتأصيل، وغياب حركات أخرى تنظم المقاومة والاحتجاج قادرة على مخاطبة الجماهير العريضة.

ثالثا: الفجوة المعرفية، وغياب المؤسسات العلمية المكينة في كل المجالات الشرعية والتقنية والعلوم الحديثة، ناهيك عن قيام تقليد علمي حديث ومؤصل.

هذه الأسباب –وبعضها مظالم وبعضها الآخر نتاج التخلف- لا المرجعيات الاسلامية تفرخ التطرف الذي يرفع شعار الاسلام، وكلما كان الشعور به حادا كلما راجت الطائفية الحركية، وكلما تجاوزت الجماعات الحركية ضوء الاسلام المتسامح الى حرارة الرفض والاحتجاج.

لقد تبارى كثير من الكتاب الغربيين في استنكار ظاهرة الطائفية الحركية ونسبتها للاسلام باعتباره مصدرها، واليك طائفة من كتبهم –وقد أشرنا آنفا لطرف منها- التي تدل عناوينها على معانيها: الاسلام المتطرفMilitant Islam، خنجر الاسلام The Dagger of Islam، الغضب المقدس Divine Rage، ويستهدفون امريكا Target America. وتبارت الصحف والباحثون في ايجاد صلة بين الاسلام والعنف..           هذه قراءة غريبة للحقائق، وقد أشرنا إلى أن عدد من الغربيين المنصفين شجبوها وردوا عيها.

لقد أثبتنا في الباب الثاني من هذه الورقة أن للغرب دورا كبيرا في صناعة التطرف في الحضارات الاخرى لا سيما الحضارة الاسلامية العربية، واستنكار هذه الظاهرة يُشبه:

                   القاه في اليم مكتوفا وقال له               اياك اياك ان تبتلّ بالماء!

لقد أشرنا لتاريخ العدوان الغربي، ولواقعه المتعلق بالظلم السياسي والغبن التنموي الواقع على المسلمين.. لقد ولّدت اقامة اسرائيل بنفي حقوق الشعب الفلسطيني إحساسا قويا بالظلم والمذلة لا يبرح يزود الحزن والغضب في المنطقة. فيما يلي لوحة من مشاعر الذل والتذمر رسمها نزار رحمه الله:

          سقطت..

          -للمرة الخمسين- عذريتنا

          دون ان نهتز او نصرخ

          او يرعبنا مرأى الدماء

          ودخلنا في زمان الهرولة

          ووقفنا بالطوابير كأغنام أمام المقصلة

          وركضنا ولهثنا

          وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة

          جوعوا اطفالنا خمسين عاما

          ورموا في آخر الصوم الينا

           بصلة                               …وهلم جرا.

ان الاسلام دين تسامح واعتدال واستعداد كبير للانفتاح نحو الآخر الدولي والملي والثقافي والحضاري والتعايش معه والتعاون من اجل عالم مستنير يليق بكرامة الانسان. تحقيق هذا الموقف الواعد متوقف على شرطين: الشرط الأول متعلق بصحوة المسلمين. والشرط الثاني معتمد على موقف الحضارة الغربية باعتبارها الحضارة المهيمنة على العالم.

مآلات الانكفاء الإسلامي

إننا حينما تحدثنا عن مآلات الاستعلاء للغرب أظهرنا أن الواقع المتميز الذي يحظى به الغرب الآن لن يمكن الاستمرار فيه مع ذهنية الاستعلاء التي يتخذها قادته.. أما بالنسبة للعالم الإسلامي فإن جرحه الغائر المتمثل في المظالم السياسية والاجتماعية والحرمان والتخلف وكل ذلك لا يخفى على عين بل هو سبب سيادة منطق التشدد الأصولي.. فماذا يمكن أن تكون مآلات التشدد الأفظع  من الواقع الآن؟

إن تحديات العالم الإسلامي تكمن في اتخاذ سبيل النهوض المؤصل والعصري بإحداث نقلة حضارية إسلامية في القرن الحادي والعشرين.. هذه النقلة يعوقها منطق الصراع والتشدد لأنه إذا صار موقف المتشددين، مثل نظام طالبان وتنظيم القاعدة، هو خيار أمتنا فسوف تصيبها الخسائر الآتية:

  • إثبات أن الإسلام هو دين استبداد في الحكم على شاكلة طالبان، ودين إرعاب (إرهاب) في المعارضة على شاكلة تنظيم القاعدة.
  • تأكيد العداء الفاصل بين الإسلام والعصر الحديث على نحو اجتهاد طالبان.
  • الاطاحة برابطة المواطنة الحاوية للوحدة الوطنية في البلدان التي تتعايش فيها أغلبية مسلمة وأقليات آخرى أو أغلبية غير مسلمة وأقلية مسلمة.
  • تفرقة كلمة المسلمين على نطاق أوسع وبصورة أعمق على نحو ما فعلت طالبان بشعب أفغانستان.
  • فتح باب “مشروع ” للتدخل الأجنبي فإن من يهاجموا بأساليب بن لادن سوف يلاحقون المهاجمين.
  • منح إسرائيل ما تريد من أسباب لاقناع الغرب أن يقف كله مع أساليبها الاستئصالية للعرب وللمسلمين وأن يعتبرها خبيرته للتعامل معهم.
  • مبادئ الإسلام السمحة شدت اليه الآخرين فأصبح أوسع الأديان انتشارا في كل القارات على نحو ما ذكر مراد هوفمان السفير الألماني الذي اعتنق الإسلام. إن الانحياز لبرنامج طالبان معبرا عن الإسلام يوقف هذا التمدد ويضع الإسلام في قفص اتهام.
  • وضع الأقليات المسلمة حيثما كانوا في حصار ” غيتوهات” بتهمة الظهير للإرعاب (الإرهاب).
  • عزل الإسلام دينيا وحضاريا إذ أن قيم تنظيم القاعدة ونظام طالبان تتناقض مع القيم الإسلامية ومع القيم الدينية والإنسانية السائدة في عالم اليوم.
  • هنالك ما يعاب على كثير من نظم الحكم في البلاد الإسلامية اليوم ولكن إذا كان البديل هو نظام شبيه بطالبان فإنه بديل يزيد من شقاء الشعوب.
  • إعاقة بل قطع الطريق نحو النهضة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتأخير الوصول للنهضة الحضارية الإسلامية المنشودة.

خلاصة: إن منطق الصراع تحكمه لغة الاستعلاء الغربي والذي سيكون نتيجته وبالا على الغرب في المدى الطويل كما هو وبال عليه الآن بفعل النشاط الإرعابي الأخير، وبفعل العديد من أسلحة الضرار الشامل وأسلحة الدمار الشامل التي تنذر العالم بالويلات. وتحكم الصراع من جانب آخر المظالم التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية داخليا وبفعل الهيمنة الدولية والتخلف الذي لم تتحرر من ربقته المجتمعات الإسلامية باكتشاف طريق النهضة الصحوي المؤصل باستنارة، فهي –المجتمعات الإسلامية- لا زالت تتخللها التيارات المتشددة الإنكفائية التي تخاطب العاطفة المتأججة بالشعور بالظلم ويفوت عليها السماع لصوت العقل “الفش غبينته خرب مدينته”، هذه التيارات ستكون وبالا على المسلمين بنسف مشروع النهضة التأصيلي بل نسف الشعار الإسلامي وتعويق طريق النهضة للحضارة الإسلامية، كما ستكون وبالا على تلك المجتمعات بما تزيده من الحصار الداخلي والفتن الدينية والمذهبية، ومن الحصار الخارجي عليها.

 


الباب الثالث: منطق الحوار

لقد تعرضنا للواقع الحضاري المعقد في العالم، ولخصوصية العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلامية مما جعلهما أكثر عرضة لمنطق الصراع، وأثبتنا أن ذلك المنطق وبال على متخذيه أنفسهم وعلى العالم وأنه لا بديل للتعايش عبر الحوار.. فما هي مقومات الحوار بين الحضارات الإنسانية عامة وبين ذينك الحضارتين على وجه الخصوص؟.

الاستنارة الغربية

لقد ذكرت آنفا أن النظرة المستنيرة في الغرب تدرك أن الحضارة الحديثة إنجاز رفدته كافة الحضارات وإن تم تحت أعلام الحضارة الغربية، وتدرك أن الآخرين سيستصحبون منجزات الحضارة الحديثة بمحض اختيارهم وبعد استبعاد المكون الذاتي الغربي والتأصيل لحضاراتهم. وهي نظرة تقابلها النظرة الاستعلائية والعدوانية في الغرب.

لقد توقعت في كتاب تحديات التسعينات الذي نشرته في عام 1989م، أن يحدث استقطاب ما بين التفكير المنكفئ في حضارتنا، وبين تفكير الهيمنة في الحضارة الغربية وهذا الاستقطاب يمكن أن يؤدي عبر المساجلة العدائية إلى عهد ظلامي وأن الخيار الآخر هو خيار النظرة المستنيرة التي تنطلق من حضارتنا للتعامل مع الآخر بصورة مختلفة وأن تتخلى الحضارة الغربية عن الهيمنة، وتكلمت عن شروط هذه المسألة بحيث يحل التعاون والحوار محل المواجهة الاستقطابية وأعتقد أن أحداث نيويورك وواشنطن وأفغانستان الآن وضعت العالم أمام هذا الخيار أو هذا الاحتمال وعلينا أن نرى في أي اتجاه نسير، وهذا يتوقف على الفعل ورد الفعل في هذه المساجلات. قلت في ذلك الكتاب في فصل بعنوان (المتوقع من الغرب) ما ملخصه:

” في كتابه عن قيام وسقوط الدول العظمى قال بول كندي القوة هي القدرة على التأثير على الأحداث ونتائجها. بموجب هذا التعريف يمكننا أن نتفق مع الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول عندما قال هنالك قوة أعظم واحدة في العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت بعض أوساط اليمين الأمريكي تثير الشك حول جدية التطورات في شرق أوروبا وذلك لأن وجود خطر سوفيتي ماثل يساعد على توحيد المعسكر الغربي وعلى امتثاله للقيادة الأمريكية، ويبرر ضخامة ميزانية الدفاع الأمريكي واستمرارها بنسبة 6.5 % من الدخل الأمريكي مما يخدم المصالح الصناعية العسكرية المتداخلة.

حاول هؤلاء بأساليب مختلفة أن يستخفوا بتطورات المعسكر الشرقي. ولكن الوقائع هناك تحدثت بلغة أقوى وأوضح من تحليلاتهم ونظرياتهم. لذلك فإنهم سوف يغيرون لغتهم إلى منطق جديد: إن السلام العالمي كان قائما على توازن القوى بين المعسكرين وأن الوضع الجديد في أوروبا وآسيا سيكون غير مستقر وأمريكا هي الدولة المؤهلة لتكون الشرطي العالمي الذي يحافظ على الاستقرار في كل مكان. أمريكا ينبغي أن تستعد عسكريا لتحفظ السلام و الأمن في العالم فإن مصالحها تقتضي حماية النشاط الاقتصادي العالمي والتجارة العالمية. .. إن اختارت أمريكا هذا الخط فإنها ستقع في الخيار الأسوأ وسوف تخلق ظروفا تؤدي حتما لتحالفات مضادة لم تعهد من قبل، وسوف تستفز عالم الجنوب فتنشط تيارات التشدد والمواجهة. هذا الخط الأمريكي القبيح سيكون وبالا على السلام العالمي وسيكون وبالا على أمريكا نفسها على المدى البعيد. إن مصلحة الغرب نفسها إن نظر إليها بصورة واعية تدفعه نحو الخيار المستنير.

إن في أمريكا تيار مستنير يدرك أن لأمريكا تراثا ثوريا إنسانيا عظيما عبر عنه بأقوى صورة الرئيس الأمريكي التاريخي أبراهام لنكولن في عبارة: أسرة الإنسان. هؤلاء يرون أن المرحلة الجديدة تتيح لأمريكا فرصة لتقوم بدور قيادي في بناء نظام عالمي أفضل. هؤلاء يقولون أن وضع أمريكا الاقتصادي الحالي لا يؤهلها لدور الشرطي العالمي…

إن في السياسة الأمريكية قبسا من نهج روزفلت الجديد، ومشروع مارشال ، وآفاق كنيدي الجديدة، ويمكن أن تكون مداخل لتعامل أعدل وأفضل مع العالم. إن حجم أمريكا ودورها القيادي يرشحانها لتكون مركز التفكير المستنير فإن فعلت فستكون قد ساهمت مساهمة كبرى في نقل العلاقات الدولية إلى أعلى . هذا يقتضي الآتي:

مقتضيات النهج الغربي المستنير:

أولا :- تجاوز رواسب الحرب العالمية الثانية نهائيا وحسم كل المسائل المتعلقة بها فالذين كانوا يواجهون بعضا في خنادق الحرب اليوم أصدقاء في نطاق سلام واحد والمطلوب أن تقنن الحدود والحقوق نهائيا بحيث لا يسمح بالعودة لظروف ما قبل الحرب. القوى التي خسرت الحرب كألمانيا، واليابان، ينبغي ألا تعامل من الآن فصاعدا على أساس ماضيها ولكن على أساس وضعها الراهن فأجيالها الحالية لا تقبل أن تعاقب على جنايات أجيال سبقت وأي محاولة لفرض ذلك عليهم سيأتي برد فعل مضر للسلام العالمي.

ثانيا:- النظام الدولي الحالي الذي تجسده الأمم المتحدة نظام أقامه المنتصرون وهو نظام خطى بالعلاقات الدولية في الاتجاه الصحيح . ولكن ينبغي الآن على ضوء تجربة الأربعين عاما الماضية، وعلى ضوء آراء الذين لم يشاركوا فيه مشاركة تأسيسية من الدول التي هزمت ودول العالم الجنوبي أن يراجع ليصبح بحق برلمانا دوليا. كما يراجع تكوين مجلس الأمن ليصبح أداة للسلام والتعاون الدولي عادلة التمثيل للأسرة الدولية . إن الفكر اللبرالي قد وضع مقاييس لكيفية النيابة والقيادة وهي مقاييس عادلة ولا يجوز أن تكون المؤسسة الدولية الأولى نابية في تكوينها عن تلك المقاييس. في هذا الصدد فإن العالم محتاج بحق إلى شرطة دولية وهو دور ينبغي ألا تقوم به أي دولة مهما عظمت قوتها ولكن تقوم به الدول ضمن ضوابط النظام الدولي والقانون الدولي. الدور واجب وإهماله تفريط في السلام الدولي وممارسته بضوابط عادلة ضرورة.

ثالثا: – لقد تطورت المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة تطورا صحيا والتزمت بمقاييس التمثيل العادل مثل منظمة الصحة العالمية ، منظمة الفاو، اليونسكو، وغيرها ولكن هذه المنظمات قعدت بها الإمكانات المادية والفنية دون تحقيق درجات أعلى من العطاء . إن مراجعة نظام الأمم المتحدة بحيث يخرج من كونه ظلا لهيمنة المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية سوف يوظف موارد مادية أو سع لتمويل المنظمات المتخصصة.. هنالك قضايا خطيرة جدا استجدت على الساحة الدولية وزاد خطرها مثل :

  • الحروب الإقليمية.
  • العنف الدولي.
  • الدين الخارجي.
  • المخدرات.
  • تدهور البيئة.
  • التوازن السكاني.
  • الجفاف والتصحر.
  • الفقر.
  • الأمراض الفتاكة لا سيما الإيدز[31].

هذه القضايا ينبغي علاجها في إطار دولي ليتعاون الجميع وفق رؤية متفق عليها لمواجهتها بحزم شديد وكفاءة عالية.

رابعا : – لقد لعب البنك الدولي دورا إيجابيا ، كذلك صندوق النقد الدولي ومنظمة القات للتجارة العالمية . ولكن مطلوب تطوير هذه المؤسسات على نحو توصيات لجنة برانت -وزيادة- لتناول وحل مشاكل ما كانت في حسبان الذين خططوا لهذه المؤسسات .إن ثروة العالم اليوم قائمة على وجود نظام اقتصادي، ومالي ، وتجاري عالمي حر ومستقر. إن النظام الحالي مع الدور العالي الذي يقوم به مدفوع بأنه نظام منحاز لمصالح مخططيه. الآن توجد فرصة كما لم تكن في الماضي أبدا للتخطيط لنظام اقتصادي عالمي حر يرتضيه الجميع بعد أن يشاركوا في التخطيط له ويجنبوه مظالم وأخطاء التجربة التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية.

خامسا: – إن في العالم الجنوبي في أمريكا الجنوبية ، وفي بعض بلاد آسيا، وفي أفريقيا مشاكل تنموية من نوع خاص بكل إقليم منها بحيث أن أسوأها هي مشاكل أفريقيا السوداء. هذه البلاد تعاني من مشاكل هيكلية لا يمكن حلها  إلا في إطار تعاقد بين دولها وجهة دولية متخصصة ومؤهلة ومشاكل استثمارية ينبغي حلها في إطار تفاوض بين الدول الفقيرة والشركات الاستثمارية العالمية للاتفاق على برامج استثمارية تقبل عليها الشركات وترتضيها الدول المعنية. المطلوب في هذا الصدد هو تكليف هيئة متخصصة مؤهلة لوضع أسس تتعاقد عليها الدول المعنية لإحداث حقنة تنموية تعالج المشاكل المزمنة في العالم الجنوبي وتنتشله من الهاوية وتعده للمساهمة في بناء حضارة الإنسان. إن العالم الغني المستنير المدرك لوحدة مصير الإنسان مطالب بتطوير نظرته لمشاكل العالم الجنوبي على نمط الأسلوب الذي عالجوا به مشاكل الفقر والتظلم الاجتماعي داخل مجتمعاتهم الوطنية. أي درجة من الاهتمام أقل من ذلك لا تجدي.

سادسا:- إن للقوة العسكرية حدودا في تحقيق الأهداف السياسية , هذا هو الدرس المستفاد من تجربة أمريكا في فيتنام وروسيا في أفغانستان. و لا جدوى لسباق التسلح لأن ما تحقق من توازن الرعب جعل كل طرف قادرا على تحطيم الآخر ولا يستفيد البادئ بل كلاهما يواجه مصيرا واحدا هو الدمار الشامل النتيجة لن تكون غالب ومغلوب ولكن مغلوبين.”[32].

هذه الخطة ذات الستة أضلع هي التي يمكن أن تحكم منطق الحوار بين الحضارات وتفتح الباب للتعايش السلمي بينها.

الاستنارة الإسلامية

في الاسلام ثابت هي العقائد والعبادات، ومتحرك هو المعاملات. انطلاقا من النصوص الاسلامية في الكتاب والسنة قام أئمة الاجتهاد باستنباط أحكام الفقه في كافة المجالات.ان اجتهاداتهم هذه ليست ملزمة لسائر المسلمين لا سيما في مجال المعاملات. ولكن ظروفا تاريخية معينة ادت الى تقديس تلك الاستنباطات في كافة المجالات. وما دامت كافة الأحكام منطلقة من النصوص المقدسة بوسائل استنباط شرعية فإن النتيجة صارت ملزمة للورى.

إن المجتمع الاسلامي قبل أن يجتاحه الاستعمار استبد به ركود بحيث غلبت الغيبيات على وسائل المعرفة وغلب الركود على الفكر الاسلامي وقفل باب الاجتهاد.

العالم الإسلامي يضج بتيارات أصولية علمانية تنفي كل الإرث الحضاري والديني الإسلامي أو تحيده أمام تحديات العصر باعتباره مجردا من أي محتوى سياسي أو اجتماعي وخاص بالعبادات فحسب، وتيارات أصولية دينية تنفي كل الإرث الحضاري الإنساني وتلزم المتغيرات بقميص الاجتهادات السابقة في كل مجالات الحياة، وتيارات تأصيل صحوي تتلمس الطريق لحل جدلية الأصل والعصر بحلول إبداعية وفق اجتهاد جديد.. هذه التيارات الأخيرة هي الوحيدة القادرة على حمل راية الحوار الحضاري، فالنوع الأول من التيارات تيارات اتباع واستلاب، والنوع الثاني تيارات صراع ومواجهة.

ولكن ما هو المنطق الذي يسيطر على ذهنية التحديث المؤصل أو التأصيل العصري؟ إنه يشتمل على صحوة سياسية، وصحوة ثقافية وعلمية تسفران عن أقلمة لمنجزات الحضارة الحديثة واستصحابها بصورة مؤصلة في العالم الإسلامي.. الصحوة الثقافية الإسلامية هي التي فصلتها في كتابي “جدلية الأصل والعصر” وهي تشمل ست محاور:

مجالات الصحوة الثقافية

  • مفهــوم الإسلام إن اعتراف الإسلام بقيمة دينية للأديان الأخرى يعزز خصوصيته على مستوى أعلى من الفهم ولا يجحدها.

ب- المعرفـــة: الإسلام يذكر ويقر كل وسائل المعرفة الإنسانية: الوحي، والإلهام، والعقل، والتجربـة. النظرة الصحيحة في المجال المعرفي هي أن نقر وسائل المعرفة الأربع ونقول إن الإنسان يوفق بين نتائج معارفه المتعددة المصادر عن طريق ملكات وهبها الله للإنسان هي: الحكمة، والميزان، والقسط. وهي ملكات لا مندوحة عنها للفلاح في الحياة.

ج. الأخـــلاق: الأخلاق هي مراجع النفس الإنسانية وركائز تماسك المجتمعات، الفكر العلماني يقيم الأخلاق على المنافع، والفكر الإسلامي المنكفئ يقيمها على أوامر الشارع ونواهيه. ولكن الفهم الصحيح هو أن للأخلاق أسساً موضوعية تبدأ في أدنى حالاتها بالمماثلة. وتتدرج الأخلاق سمواً لتقوم على إثبات ما يتعارف الناس على حمده وإنكار مايتعارفون على ذمه.وتسمو الأخلاق لتبلغ درجة أداء الواجب على حساب المنفعة الذاتية “الإيثار”.    هذه أسس موضوعية للأخلاق والشرع الإسلامي يقرها، وبإقرارها يسبغ عليها قيمة روحية ويرتب على إتيانها جزاءاً أخروياً ورضاً إلهياً.

د. الجهـــاد:  الجهاد هو بذل الوسع كله لإعلاء كلمة الله في نفس الإنسان وفي كل دروب الحياة، فالإنسان يغالب الشر في نفسه مجاهداً، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة مجاهداً، ويغالب الجهل والفقر والمرض مجاهداً، ويقاتل لكي لا يفتن في دينه ودفاعاً عن نفسه جهاداً.. الجهاد بهذا الفهم الواسع ليس حصة في الحياة، إنه كل حياة المسلم، إنه رهبانية الأمة. هنالك فهم آخر ضيق للجهاد، هذا الفهم الضيق يجعل الجهاد قتالاً هجومياً.

هـ. الدولــة فـي الإسلام إن في الإسلام مبادئ سياسية وأحكاماً ولكن ليس فيه شكل معين لدولة. الدول التي حكمت المسلمين في الغالب كانت دولاً استبدادية غير آبهة بمبادئ الإسلام السياسية حتى كاد أن يطويها النسيان. أما على الصعيد النظري فقد نشأت نظريات حول الدولة الإسلامية أهمها نظريتان: النظرية السنية، و النظرية الشيعية، هاتان النظريتان لا تصلحان أساساً لدولةٍ عصرية. الدولة هي سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وشعب، وأرض. بهذا الفهم لا توجد دولة إسلامية ملزمة للمسلمين في كل زمان ومكان.        إن مبادئ الإسلام، وحقائق التجربة التاريخية لا تقول بوجود دولة إسلامية معينة ملزمة للمسلمين، إنما توجد مبادئ سياسية إسلامية كالشورى، والعدالة، والحرية، والوفاء بالعهد،.. وهلم جرا. كما توجد أحكام معينة ملزمة للمسلم. إن مبادئ الإسلام السياسية تجعل المسلمين مسئولين عن اختيار الحاكم وهم المسئولون عن محاسبته أي أنه حاكم مدني مفوض أمره للجمهور.

و. الاقتصاد الإسلامـي: المشكلة الاقتصادية واحدة، إنها تتعلق بندرة السلع والخدمات وسعة حاجة الناس لهما. الإنتاج الذي تشترك فيه عوامل عديدة: الخامات، ورؤوس الأموال، والأيدي العاملة يسعى لإنتاج السلع والخدمات لكي تلبي حاجة الناس. عملية الإنتاج تواجه مشكلتين، الأولى: اختيار الاستخدامات البديلة للموارد، والثانية: توزيع عائد الإنتاج بين العوامل المساهمة فيه. هنالك مبادئ إسلامية ذات محتوىً اقتصادي مثل التعمير والملكية والتكافل، وهنالك أحكام إسلامية كالزكاة، وكتحريم الربا، والمواريث ذات أثر اقتصادي إذ أنهما تحولان دون تعطيل المال وتساهمان في عدالة توزيع الثروة بين الناس. الكثير من  أشكال الأحكام الإسلامية ذات المضمون الاقتصادي تحتاج للاجتهاد الذي يأخذ المستجدات في الحسبان ولكي تحقق مقاصد الشريعة في ظروف العصر الحديث. في هذا العصر الحديث هنالك ثلاثة مهام للفكر الاقتصادي وللأداء الاقتصادي هي: تحقيق التنمية بمعدلات عالية- العدالة الاجتماعية- قيام علاقات اقتصادية دولية في كل المجالات تحقق مصالح مشتركة لكل أطرافها. آلية الاقتصاد الحديث ستقوم بالدور الأهم في تحقيق التنمية ولكن التنمية تتوقف على دوافع وسلوك العنصر البشري. الانضباط الخلقى والسلوك غير الاستهلاكي وهي من شروط تحقيق التنمية تعتمد على قيم خلقية مستفادة من الإسلام. آليات التنمية تركز على الربح وعلى التنافس ولكن العدالة الاجتماعية مطلوبة في حد ذاتها كقيمة خلقية وإنسانية، ومطلوبة لأنها شرط للسلام الاجتماعي وهي من العوامل الغائية التي يحث عليها الإسلام وتتطلبها النظرة الحكيمة للتنمية.. والعلاقات الاقتصادية الدولية ينبغي أن تقوم على أسس مصالح متبادلة ومتكافئة، هذه المعاني تجعل العلاقات الاقتصادية الدولية مستدامة وهي تجد من الإسلام على قاعدة (لاتظلِمون ولا تُظلمون) سنداً روحياً خلقياً.

مجالات التحديث المؤصل:

الحضارة الحديثة التي طورها الغرب لم تنشأ من فراغ وقد صبت فيها انجازات الحضارات السابقة لا سيما الحضارة الاسلامية. لقد حققت الحضارة الغربية انجازات لا غنى عنها لسائر الحضارات الانسانية ، ولكن استصحاب تلك المنجزات يجب أن يترك للحضارات المختلفة لتنزع عنه المكون الذاتي الأوربي وتصبغه بصبغتها الحضارية المميزة من خلال تراثها الفكري والثقافي. إن الفشل في استصحاب منجزات الحداثة وأقلمتها سيساهم بدوره في عرقلة الحوار العالمي وتأجيج الصراع داخليا للمجتمعات المعنية –الإسلامية في حالتنا- وخارجيا بالتدخلات الأجنبية بمبررات تقبلها الشرعية الدولية.

المجالات التي تمثل ثقافة العصر الإنسانية العلمية والتي ينبغي أن تستصحبها الحضارات الأخرى بتأصيل تعاملها معها لتحقيق زحف شامل من كافة حضارات وثقافات الإنسانية نحو العصر الحديث هي:

  • الحداثة.
  • حقوق الإنسان.
  • التعايش بين الأديان.
  • التعايش بين الحضارات.
  • العلاقات الدولية القائمة على السلام والتعاون.
  • سلامـة البيئــة.
  • العولمــة.

صحوة المسلمين متوقفة على ادراك ان هذه المنجزات لها اصول في نصوص الاسلام وأن للمسلمين باع فيها وان الواجب يقتضي استصحابها. الخطاب الاسلامي السائد اليوم لا يمكن ان يستصحبها. لاستصحابها ينبغي حدوث الثورة الثقافية المشار إليها أعلاه والتي ترفد اجتهادا جديدا يحقق ذلك الاستصحاب.. هذه الصحوة الإسلامية هي الكفيلة بترجيح الميزان الدولي لصالح الحوار والتعايش.

العولمة وحوار الحضارات

هنالك عوامل جديدة في عالم اليوم هي:

  • تكنولوجيا المواصلات نسفت المسافات. وتكنولوجيا الاتصالات كمشت الزمان فصارت أطراف العالم متداخلة وصار كوكب الأرض أقرب إلى حاضرة واحدة.
  • المصلحة البيئوية (الأيكولوجية) لكوكب الأرض واحدة مما يوجب التعامل معها كوحدة طبيعية واحدة.
  • هنالك فضاءات تملكها الإنسانية ملكا مشتركا:. الفضاء والبحار والمحيطات والأجزاء غير المأهولة من الكوكب.
  • أثناء تسعينيات القرن العشرين انعقدت مؤتمرات قمة قاربت بين وجهات النظر حول كثير من القضايا الهامة: السكان- المرأة- النواحي الاجتماعية.. وهلم جرا.
  • هنالك عدد من الأديان العالمية كالمسيحية والإسلام والبوذية والأديان التي كونت حضارات كالمسيحية والإسلام والهندوسية، والحضارات المتعددة الأديان كالصينية واليابانية والثقافات الإنسانية الكثيرة.لقد انطلقت حوارات جادة بين أطراف هذه الانتماءات وهي حوارات تصب في خانة تبين القيم المشتركة بينها والتنوع والتعدد فيها. إن هذه الحوارات تتجه لتكوين تصور موحد للتعايش والتسامح الديني والحوار بين الحضارات تجنبا للصدام والخصام.
  • التطور الاقتصادي والتجاري وحركة انتقال الأيدي العاملة والاستثمارات والحركة المالية العالمية تتجه لخلق سوق عالمي واحد.

هذه العوامل الستة هي التي تقف وراء العولمة كظاهرة مرتبطة بتطور الوعي الإنساني والتاريخ الإنساني. هذه الظاهرة أي العولمة التي صنعتها الظروف الموضوعية المذكورة هنا تمثل حلقة من حلقات التطور الاقتصادي العالمي وينبغي الإلمام والتعامل الإيجابي معها، ولكن:

  • أولاً: العولمة تتم في عالم فيه توزيع غير عادل للسلطة والثروة والقوة العسكرية، لذلك فإن القوى المهيمنة عالمياً إنما تلون العولمة بلونها وتدفع بها نحو مصالحها الذاتية. هذا جانب ذاتي للعولمة ينبغي إدراكه والإحتياط من آثاره السلبية.
  • ثانياً: صحبت العولمة سرعة حركة انتقال الأموال من بلد إلى بلد ومن نشاط إلى نشاط بصورة وصفت بالرأسمالية النفاثة. هذه الظاهرة عرضت وتعرض كثيراً من البلدان لتحركات مالية ونقدية انفعالية يمكن أن تطيح بقيمة الأسهم وبأسعار العملة الوطنية في لمح البصر. هذا ماحدث في أزمة دول جنوب شرق آسيا واضطرت ماليزيا للتصدي له بوسائل حماية غريبة على منطق العولمة ولكنها نجحت في احتــواء أضرارها.
  • ثالثاً: الهيمنة العالمية على أدوات الإعلام والوسائل التي أتاحتها العولمة توشك أن تجعل من ثقافة التسلية الأمريكية ـ وهي ثقافة ضحلة وضارة تربوياً ـ ثقافة عالمية، بل توهم كثيرون أنها ثقافة العولمة. هذه الظاهرة ينبغي احتواؤها.
  • رابعاً: إن العولمة تزيد من حدة التنافس والحرص على الربحية وقلة دخل الدولة والمدفوعات لها. هذا كله يتم على حساب الرعاية الاجتماعية. الرعاية الاجتماعية هي التي كسرت حدة الصراع الطبقي وحققت درجة عالية من السلام الاجتماعي. العولمة إذا تركت لتعمل بمنطقها سوف تقوض الرعاية الاجتماعية، لذلك ظهرت الدعوة إلى الطريق الثالث أي بين الرأسمالية الحرة والإشتراكية الموجهة.
  • خامساً: العولمة إذ تتعامل مع العالم كسوق واحد لاتأبه بالخصوصيات الحضارية، والدينية، والثقافية. هذه الخصوصيات مهمة وقد بحثها توماس فريدمان في كتابه (اللكزس وشجرة الزيتون)[33] والكتاب يرمز للعولمة بالسيارة اللكزس لأن إنتاجها يتم بآخر الإنجازات التقنية بينما يرمز للخصوصية الثقافية والدينية بشجرة الزيتون لما يعهد فيها من عمر طويل… إن الخصوصيات الدينية والثقافية سوف تهب لمقاومة العولمة مالم تؤخذ في الحسبان.

هذه هي الجوانب الخبيثة للعولمة.. ومع استصحاب الجوانب الحميدة للعولمة المذكورة أعلاه، فإنه من الضروري محاصرة الجانب الخبيث منها لأنه ينذر برجحان أطروحة صدام الحضارات.

حوار الحضارات بلغة الاندراج في حضارة الغرب

تيارات الأصولية العلمانية في العالم الإسلامي تسلم بفكرة النظرة الاستعلائية في الغرب أن الحضارة الحديثة راجعة للغرب مائة بالمائة وأن استصحابها يكون بالإيمان بها ككل شامل  والكفران بالثقافات والحضارات الأخرى. هذه التيارات تفهم الحوار بين الحضارات على أنه إندراج في الحضارة الغربية الحديثة بدون أدنى تردد، وتعيش بعض هذه التيارات في وئام حتى مع أكثر المنابر الغربية استعلاء وعدوانا.. هذا النهج الاستلابي يعوق حوار الحضارات لأنه وإن أظهر إمكانية للسلام فهو سلام ظالم، وقلق، تفجره المظالم ببراكين الغضب التي لا تهدأ.

خلاصة: الحوار بين الحضارات هو الخيار العاقل الذي يفتح باب غد إنساني أفضل. منطق الحوار في الغرب ينطلق من تيارات داخله تدرك مغبة سيادة منطق الاستعلاء للغرب نفسه وتسعى لوضع عالمي أفضل وأعدل. وفي العالم الإسلامي فإن منطق الحوار تحكمه الرؤية المستنيرة التي تدرك وبال الخيارات المتشددة علينا وعلى العالم كما تدرك سقوط النهج الاستلابي من قائمة الخيارات الحكيمة لما يدخل مجتمعاتنا فيه من ردود فعل متطرفة. هذه الرؤية المستنيرة متوقفة على إحداث صحوة ثقافية للمسلمين تخرجهم من حالة حبس الحاضر والمستقبل في الماضي، وتتيح لهم استصحاب النافع من حضارة العصر.. الحوار يكون في ظل استنارة غربية وصحوة إسلامية، وأي تبادل أو تعامل أو احتكاك خارجهما هو إما صراع مكشوف ضيق الأفق، أو اتباع واستلاب وخيم العواقب وإن أرضى طرفيه لوقت ما.

 

الباب الرابع: نداء حوار الحضارات

 

ذاتية وأنانية الحضارة الغربية تحول دون علاقات صحية بين الحضارات تحقق التعايش والتعاون. إن في الغرب عقولا نيرة تدرك ذلك وتتطلع لاستنارة غربية تجعل ذلك ممكنا.  ظاهرة التشدد الإسلامي في مجتمعاتنا، والتشدد الأصولي في غيرها من المجتمعات، وظاهرة الهيمنة الحضارية في الغرب تياران يبرران ويغذيان بعضهما بعضا ويدفعان بالإنسانية نحو الخصام والصدام. وظاهرة الاستنارة الإسلامية -والاستنارة عند أهل الحضارات المختلفة- وظاهرة الاعتدال الغربي تشكلان تيارين يغذيان  بعضهما بعضا ويبرران بعضهما بعضا. فإن تغلبا فإنهما يفتحان أبواب التواصل والحوار البناء ويمهدان لتنوير عالمي يبشر بمستقبل إنساني أفضل. شروط ذلك التواصل هي:

شروط الاستنارة الغربية

أولا:-أن يدرك الغرب ويعترف بأن الحضارة الغربية الحديثة حضارة مركبة ساهمت كل حضارات الإنسان السابقة لا سيما الحضارة الإسلامية في تكوينها.

ثانيا: الاعتراف بأن الحضارات الإنسانية والثقافات الأخرى لها دورها في بناء حاضر ومستقبل الإنسانية، ولا يجوز التعامل معها ككائنات منقرضة أو  في طريقها للانقراض الوشيك.

ثالثا: التسليم بأن منجزات الحضارة الغربية الحديثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية التي نضج عودها في الغرب والصالحة لاستصحاب البشر لها في كافة البلدان، سيتم استصحابها برؤية ذاتية لا بالإكراه، والرؤية الذاتية هذه تشتمل على أقلمة ثقافية واجتماعية تحددها الشعوب المعنية باختيارها.

رابعا: إدراك أن الظلم الاجتماعي على صعيد الدولة الواحدة مثل الظلم الاجتماعي على الصعيد   العالمي.كلاهما يقوض الاستقرار والسلام. إن إزالة الغبن التنموي عن عالم الجنوب والسعي الحثيث لدعم التنمية في عالم الجنوب المتخلف ضرورات لحفظ السلام العالمي.

خامساً:- إقامة علاقات حوار إيجابية بالحضارات الأخرى على أساس التعلم المتبادل.

سادساً:- التوصل عن طريق حوار متكافئ قدر المستطاع للاتفاق على غايات إنسانية وأيكولوجية مشتركة.

سابعا ً:-  إدراك أن الغرب قد كان سببا أساسيا في تكوين عدد من بؤر النزاع الساخنة، ومهما كانت مسئولية الأطراف المحلية عن استمرار تلك البؤر الملتهبة فإن اعتراف الغرب بدوره في تكوينها واستعداده للقيام بدور تكفيري في علاجها أمر هام وعتبة نحو علاقات دولية سليمة وسوية.

.. ذلك النهج الغربي المطلوب يشكل لنا بيئة خارجية صالحة. ولكن الأهم منها أن نقف نحن المسلمين – ويقف جميع أهل الحضارات- وقفة صدق مع الذات نحاسب أنفسنا ونحسب خطانا لأن تجديد دورنا الفاعل في الحياة يبدأ بصحوة ذاتية.

شروط الاستنارة الإسلامية

أولا: الالتزام بالقطعي ورودا والقطعي دلالة من نصوص الوحي في الكتاب والسنة وتحرير الاجتهاد فيما سوى ذلك.

ثانيا: الاتفاق مع الآخر المذهبي على القطعيات والتسامح معه حول الاجتهادات.

ثالثا: الأحكام الإسلامية تقننها مؤسسات منتخبة مستهدية باستشارات فقهية فنية.

رابعا: ثلث المسلمين يعيشون أقليات في بلدان العالم وفي غالبية الأقطار الإسلامية توجد جماعات وطنية ذات أديان خاصة بها. المواطنون في هذه البلدان أهل عهد مواطنة على نمط صحيفة المدينة التي كتبها النبي (ص). المواطنون سواسية في عهد المواطنة. والتعامل بينهم يقوم على لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[34]. وعلى }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. الآية{[35].

خامسا: الجهاد قائم حتى قيام الساعة والجهاد هادف لتكون كلمة الله هي العليا. وهو قائم بكافة وسائل العمل. ولا يصبح قتالا إلا دفاعا عن النفس على أساس: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[36].

سادسا: النظام الدولي يقوم على العهد لا التفرقة بين دار سلام ودار حرب. والعهد يقوم على أساس: لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ..الآية.[37]

سابعا: نهضة العصر الحديث مؤسسة على ثلاث ثورات: ثورة سياسية حققت كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة وثورة اقتصادية حققت التنمية وثورة معرفية حققت حرية البحث العلمي والتكنولوجي. هذه المنجزات ينبغي استصحابها في تحديث مؤصل وليس تبعيا.

ثامنا: العولمة هي المرحلة الحالية لتطور الإنسانية واستصحابها ضروري واحتواء سلبياتها مطلوب.

تاسعا: هنالك حقائق جديدة كالوطنية، والقومية، للوطنية دورٌ إيجابي كأساس لتنظيم الأمن والتنمية والخدمات، كما للقومية دورٌ إيجابي جمعي تنموي وثقافي. ينبغي التعامل الإيجابي مع الوطنية والقومية ورفض ما قد يلحق بهما من سلبيات نتيجة العصبية.

عاشرا: وحدة المسلمين هدف مطلوب ويمكن أن يتحقق منه ما يتكامل مع المصالح الوطنية، والقومية، والدولية.

حادي عشر: الغرب ليس كومة صماء، على المسلمين إدراك الوضع العالمي بكل تناقضاته والسعي لإقامة العدالة فيه عبر الدعوة بصوت عال لإزالة المظالم العالمية الاقتصادية التي تلحق بكل عالم الجنوب والسياسية التي تلحق بالمسلمين على وجه الخصوص.. هذه الدعوة يجب أن تتخندق مع كل يقظي الضمير في العالم، وأن تدرك أن في الغرب بؤرا مستنيرة ترفد دعوتها العادلة.

ثاني عشر: الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق علما بأن هامش الالتزام الإسلامي واسع:  يمتد من “الجهر بالكفر”لـ (مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان[38] ، إلى ” (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُون)[39] ويمتد من “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[40] إلى “اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ[41]“. ويمتد من (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ[42])، إلى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ[43]). ويمتد من (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[44])  إلى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[45].)  ويمتد من تعليق أحكام الإسلام في ظروف معينة خوف الفتنة -مثلا رفع الجزية عن نصارى نجران لأسباب سياسية، وتجميد الحدود في عام الرمادة- إلى الالتزام الكامل بها. ويمتد من (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[46])، إلى (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ[47].) ويمتد من تخصيص النص بأسباب النزول أو بظروف معينة، إلى لا اجتهاد مع النص. التطبيق المطلوب الآن هو ذلك الذي يراعي حقوق المواطنة للآخرين والمغايرة الدينية، ويستصحب مستجدات العصر، ويشرع بوسائل ديمقراطية.

ثالث عشر: التعامل مع ظاهرة العنف والتطرف الديني يكون بإزالة المؤثرات التي أحدثته على الصعيد الداخلي: القهر، ولغة التطرف وتكفير الآخرين، يتم ذلك بالسعي نحو التحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وأقلمة الحداثة بخطى ثابتة تشيع الحريات وتوفر الشفافية وتشيع العلم، وتقطع دابر القهر والعنف المضاد.

التمسك بنهج الاستنارة الإسلامية ضروري لتجفيف منابع الشر والضر.. إن غلبة هذا النهج ضرورية لسيادة الحوار والتعايش بين الحضارات محل الصراع والاحتراب.

خلاصة: على الغرب القيام بتعديلات في مفهومه لحضارته ومكوناتها وواجبية اتباعها بحيث يدرك المكون الذاتي فيها ومقتضيات الأقلمة وحريتها، ودور الحضارات المختلفة في الكون. وعليه إجراء العديد من الإصلاحات في الواقع السياسي والاقتصادي العالمي الظالم. وعلى المسلمين في المقابل التزام طاقم من التعديلات المفاهيمية والأسلوبية لإدارة الخلاف والسعي للإنصاف.

 

 


ختاما: الترجيح بين الحوار والصراع  بين الحضارات في عالم اليوم

الاعجاب بالصدرالاسلامي الأول، والنزعة لإلباس الأحكام الاجتهادية قدسية، واستنكار المظالم الداخلية، والهيمنة الخارجية.. هذه العوامل غذت تيار الأصولية الحركية في المجتمعات المسلمة. هذه التيارات أفلحت في كثير من الأحيان في الاحتجاج والمقاومة ضد الأجنبي. وحتى ضد الحكومات الوطنية فإنها نظمت درجة من الاحتجاج ولكنها عندما لجأت للإرهاب حركت ضدها آلة الأمن والنظام فأحاطت بها.

لقد استطاع تيار الأصولية الحركية أن يصل الى السلطة في عدد من البلدان كالسودان وافغانستان. ان هاتين التجربتين اخفقتا اخفاقا تاما ودمرتا وطنيهما باسم تطبيق الشريعة الاسلامية.

إن العزاء الوحيد في التجربة السودانية الأولى على عهد جعفر النميري، والثانية الحالية هو انها جعلت من السودان مختبرا أوضحت نتائجه ما ينبغي تجنبه في أمر التطلع الاسلامي، وهي الآن –التجربة الثانية- متجهة في طريق يمكن أن تسفر عن برنامج للتحول الديمقراطي إذا نجحت فيه فإنها تكون قد ساهمت في إنقاذ الشعار الإسلامي الذي لطخته بوحل القهر والاستبداد، وإلا فإنها ستفتح الباب عريضا لسيادة منطق العنف الداخلي، والتدخل الأجنبي الخبيث.

ان تجربة الاصولية الحركية في المقاومة والاحتجاج اندفعت نحو الارهاب ولكنه ارهاب ذو وسائل حديثة مستمدة من اساليب عصابة بادرماينهوف الالمانية والفهود السود الامريكية والجيش الأحمر اليابانية.

وتجربتها في السلطة لا يمكن ردها لأية تجربة اسلامية تاريخية بل استمدت من المرجعية الفاشستية والشيوعية في اقامة الدولة البوليسية وإن رفعت عليها اعلاما اسلامية.

ان الاصولية الحركية بحماستها غير المرشدة من امراض المجتمعات الاسلامية المعاصرة.

ان النزوع الى الهيمنة من امراض المجتمعات الغربية المعاصرة. انه مرض كامن وراء كثير من التيارات الغربية. تحدث فرانسيس هوكوياما عن نهاية التاريخ باعتبار ان الانسانية كلها سوف تمتثل للانموذج الغربي وتكون الانسانية قد بلغت محطتها الأخيرة.

وكتب صموئيل هنتجتون عن صدام الحضارات. هذه الأطروحة ترجح الصدام لأنها تفترض استمرار الحضارة الغربية في بسط هيمنتها.

هنالك عوامل ذكرتها تحتم الكوكبية أو العالمية GLOBALITY ولكن عوامل الهيمنة الغربية تتجه لتفعيل تلك العوامل من منظور هيمنة الحضارة الغربية، أي من منظور ايديولوجي لتكوين هيمنة احادية عالمية  Globalism.

المرضان: مرض مجتمعاتنا المقترن بالأصولية الحركية. ومرض المجتمعات الغربية المرتبط بالهيمنة يبرران بعضهما بعضا ويغذيان بعضهما بعضا. كلاهما ماض الى سبيله ترفده اوهام ورموز، وهما اخطر من اسلحة الدمار الشامل لأنهما في نهاية المطاف لن يترددا في استخدام تلك الأسلحة.

هنالك عوامل ايجابية وسلبية في عالم اليوم تدفع دفعا نحو الايمان بمصير مشترك للإنسانية وتوجب تجنب الصدام والعمل على الوفاق الحضاري. تلك العوامل هي التي رصدناها في الحديث عن العولمة، وهي تصب في تيار الكوكبية Globality.

ان في الاسلام، ولدى كثير من المسلمين، بل غالبية المسلمين، توجها تسامحيا يحترم كرامة الانسان وحقوق الانسان ويسعى للتعامل مع الآخر الملي والدولي بالحسنى.

هنالك في الحضارة الغربية كثيرون يدركون مخاطر الهيمنة ويدركون ان مصلحتهم ومصلحة الانسانية توجب التعايش من اجل مصير انساني مشترك . فإن سادت نظرة هؤلاء واتجهوا لجعل موقف الحضارة الغربية مستنيرا فإن في ذلك سببا مهما لاحتواء الاصولية الحركية.

لا سبيل للترجيح بين فرص الصدام والحوار بين الحضارات في القرن الحادي والعشرين، لكن القول الفصل هو ان الصدام سوف يجر العالم الى عهد ظلامي ، كما ان التعايش مع الظروف التي هيأتها الكوكبية يأذن ببزوغ عهد تنوير عالمي يليق بكرامة الانسان وخلافته في الأرض.

العناية الالهية والوعي الانساني عليهما المعول في اخراج الانسانية من الظلمات الى النور.

 

مراجع الورقة

 

أ. المراجع باللغة العربية:

 

  1. السيوطي- تفسير القرآن.
  2. محمد رشيد رضا- تفسير المنار.
  3. مسند الامام احمد
  4. الشاطبي- الموافقات
  5. ابن عبد ربه- العقد الفريد
  6. روجيه جارودي- حوار الحضارات (مترجم)
  7. فهمي هويدي- الاسلام والديمقراطية
  8. الصادق المهدي – الدولة في الاسلام (مقال)
  9. الصادق المهدي – الاعتدال والتطرف وحقوق الانسان في الاسلام. (مقال )
  10. التنوع البشري الخلاق: تقرير اللجنة الدولية 1997، تقديم د. جابر عصفور.

 

 

ب.المراجع باللغة الانجليزية:

1- Fukoyama, Francis: The end of History.

2-Hodgson , J. The Venture of Islam.

3- Huntington, Samuel P. The Csh of Civilizations and the Remaking of World Order,1996.

4- Toynbe , Arnold: The West and the World.

19955- Globalization and Liberization, Report of the UNDP,  

 

 

 

[1]  Fukyama, Francis The End of History and the Last Man, New York, Free Press, 1992

[2]   تم نشر الكتاب الأول الناتج عن ذلك المشروع Fundamentalsim Observed، المحرران Martin E Marty & R. Scott Appleby الناشر University of Chicago Press.

[3]  تم تعريب التقرير ونشره بمقدمة في: جابر عصفور (دكتور) –تحرير وتقديم- التنوع البشري الخلاق المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة- 1997م. ولملخصات التقرير باللغة الإنجليزية أنظر على الانترنت  بالموقع: www.unesco.org/cultureldevelopment/wccd

[4] Huntington The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, Newyork, Simon & Schuster, 1996 وقد كان هنتجتون أشار لنفس المفهوم في مقال له نشر في صحيفة “شئون خارجية” Foreign Affairs بنفس العنوان بتاريخ 1993، يعد الكتاب تصعيدا لنفس الأطروحة.

[5]  Idowu, E. Bolaji, African Religion: A Definition  , Maryknoll. Orbis Books, 1975

[6]  Mazrui, Ali A.,The Africans: A Triple Heritage, حلقات تلفزيونية أنتجت بالاشتراك بين BBC وخدمة الإذاعة العامة بواشنطن WETA والتعاون مع التلفزيون النيجيري، 1986، نشرت ايضا ككتاب: BBC Publications & Little, Brown & Company 1986.

[7]مونتجرمري واط: “أثر الإسلام على أوروبا العصور الوسطى (بالإنجليزية) وهو:  Watt,W. Montgomery: The Influence of Islam on Medieval Europe , Islamic Surveys no. 9 , Edinburgh University Press, 1972, p, 10.

[8]  Briffault, Robert The Making of Humanity, London 1919 وهو طبيب بريطاني شارك في الحرب العالمية الأولى ثم تحول من الطب إلى الكتابات في  الأنثروبولوجيا والاجتماع.

[9]  Saint James  كان في كمبستيلا Compostela في شمال غرب إسبانيا. ويعتبر بطلا قوميا في أسبانيا وقد تم تحت قيادته توحيد المسيحيين لمحاربة المسلمين وإبادتهم في الأندلس في القرن التاسع الميلادي.

[10] Watt مرجع سابق ، ص 84

[11] الصادق المهدي جدلية الأصل والعصر ، سلسلة الطريق الثالث- دار الشماشة للنشر- الخرطوم 2001 م

[12] سورة الحج الآية 39

[13] سورة النحل الآية 125

[14] سورة الأعراف الآية 199.

[15]  حسين، طه مستقبل الثقافة في مصر.

[16] موسى، سلامة: اليوم والغد، ” المطبعة العصرية، القاهرة، 1927″، ط1، ص 256

[17]  August Comte (1798-1857) فيلسوف فرنسي منشئ مدرسة الإيجابية Posivitism باعتبارها دين بديل للعالم، ويؤكد أن هدف المعرفة هو وصف الظواهر المشاهدة وليس التساؤل عن وجودها من عدمه، وقد صاغ مصطلح علم الاجتماع sociology كمفهوم بديل للأخلاق عما اعتبره “هرطقات” الدين!.

[18]  Toynbee,Arnold A Study of History, 12 Volumes, Oxford University Press, لندن، نيويورك، تورونتو، 1963م.

[19]  Braudel, Fernard Writings on History , Flammarion, Paris, 1969 مؤرخ فرنسي.

[20]  Bernard Lewis The Roots of Muslim Rage , 1990

[21]  Bodansky, Yossef, Target America: Terrorism in the US Today , SPI Books, Shapolsky Publishers, Inc, 1993.

[22]  أنظر مثلا مقالة Robert Fisk بعنوان The West’s Fear of Islam is No Excuse for Racism في The Independent November 7, 1999 وقد استقال كلايس في أكتوبر من عام 1995 ليواجه تهما في بلده بالفساد، وإن كان ساد بين بعض الأوساط الإسلامية أن الاستقالة كانت بسبب تصريحاته تلك. لاحقا حوكم كلايس بالسجن لسنوات ثلاث مع وقف التنفيذ.

[23]  Arnold, Thomas The Spread of Islam in the World,  ISBN, Goodword books, 2001

[24]  Esposito, John L., The Islamic Threat: Myth or Reality?  Newyork, Oxford University Press, 1992

[25]  روجيه جارودي ذكر هذا المعنى في العديد من كتبه، منها حوار الحضارات، و وعود الإسلام

[26]  Curtis, Mark, The Ambiguities of Power: British Foreign Policy Since 1945,  Zed Press, 1995

[27]  الإحصائيات مأخوذة عن موقع الجزيرة نت بالانترنت.

[28]  Carmon, Ely Radical Islamic Political Groups in Turkey, Journal, Vol. 1, Number 4, December 1997, MERIA “Middle East Review of International Affairs”.

[29]  Robinson, Adam, Bin Landen , Arcade Publishing, Inc., 2002

[30] أنظر: الصادق المهدي جدلية الأصل والعصر، والعقوبات الشرعية

[31]  القضيتان الأخيرتان أدرجهما الكاتب في نص الفقرة المأخوذة عن تحديات التسعينيات  ولم تكنا فيه

[32] الصادق المهدي تحديات التسعينيات  ص 138-141

[33] توماس فريدمان: اللكسس وشجرة الزيتون

[34] البقرة 256

[35] النحل 125

[36] الحج 39

[37] آية 8

[38] النحل 106

[39] المائدة 44

[40] التغابن 16

[41] آل عمران 102

[42] النساء 77

[43] الحج 78

[44] الكافرون 6

[45] آل عمران 85

[46] البقرة 286

[47] البقرة 284