مباهلة رئيس الفاتيكان

بسم الله الرحمن الرحيم

مباهلة رئيس الفاتيكان

24 سبتمبر 2006م

ألقى بندكتوس السادس عشر محاضرة بجامعة ريغنسبورغ الألمانية بتاريخ 12/9/2006 دفاعا عن تكامل الوحي والعقل في المسيحية. ولو اكتفى بالحديث عن إيجابيات دينه لما أثار حفيظة أحد، ولكنه قّدم حجته في إطار مقارنة بعنف ولا عقلانية الإسلام.

إن فتح جبهة مواجهة مع أهل القبلة الآن بالذات تصفُّ المحاضر مع القائلين بالفاشستية الإسلامية، والذين أفزعهم تمدد الإسلام في بلدانهم على الهوية الأوروبية. خطورة المحاضرة رفدها لصناعة الخوف الموظفة لأغراض استراتيجية بلسان رئيس أكبر كنيسة في العالم ورئيس الدولة الثيواقراطية الوحيدة فيه فالمتحدث رجل دين ودولة.

سواء في الهجوم على الإسلام أوالدفاع عن المسيحية وقع المحاضر في أخطاء دينية، وفكرية، وتاريخية، وسياسية مدهشة وظاهرة البطلان:

أولا: ربط بين الإسلام والعنف مستشهدا بقول الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني أثناء الحصار العثماني للقسطنطينية «ما بين 1394و1402م» : «ما جاء به محمد شر ولا إنساني لا سيما أمره نشر دعوته بحد السيف». بعض المسلمين يرون نشر الإسلام بحد السيف واجبا دينيا ويستشهد بهم أعداء الإسلام للربط بين الإسلام والعنف. لكن القتال في الإسلام دفاعي، والقتال بين النبي «صلى الله عليه وسلم» وأعدائه كان سجالا، والدعوة حققت أهم ثلاثة إنجازات تاريخية دون قتال: إقامة دولة المدينة، واستمالة قبائل الجزيرة العربية أثناء عامي صلح الحديبية، وفتح مكة في العام التاسع الهجري.

تناول غربيون كثيرون تاريخ القتال بين الدولة الإسلامية التاريخية في إطار التنافس المعهود بين الدول وأوضحوا أن الإسلام كدين انتشر سلميا. شهد بذلك السير توماس آرنولد في كتابه «الدعوة للإسلام».

ثانيا: وصف الإسلام باللاعقلانية وآيات القرآن لا تبرح تخاطب العقل وتصف الكفر كنوع من غياب العقل، وتحتج بالبرهان: «تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» «سورة البقرة الآية 111 »، والشاطبي يؤكد أن تكاليف الإسلام تفترض توافر العقل فلا تأتي بما يعارضه. وابن تيمية قدم أطروحة: توافق صحيح المنقول وصريح المعقول. وقامت مدرسة كلامية كاملة ـ المعتزلة ـ على البرهان العقلاني. وكان التوفيق بين الدين والفلسفة هاجس كافة فلاسفة المسلمين، كالفارابي وابن سينا وابن رشد في كتابه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

المحاضر أغفل التراث القرآني والبشري مستشهدا بصورة انتقائية ببعض أقوال ابن حزم الأندلسي الظاهري عن مشيئة الله المطلقة ليدلل على أطروحته!.

ثالثا: شرح مكونات الحضارة الأوروبية شرحا ناقصا. قال: «إن التوفيق بين الإيمان الإنجيلي والفلسفة اليونانية حدث تاريخي حاسم في تاريخ الدين، بل في تاريخ الإنسانية كلها. هذا اللقاح وما لحق به من تراث روماني هو الذي صنع أوروبا». مغفلاً دور الحضارة الإسلامية في تكوين الحضارة الأوروبية. قال روبرت بريلفوت في كتابه «تكوين الإنسانية»: «التنوير الحقيقي لأوروبا حدث نتيجة الإحياء العربي الثقافي لها عبر إسبانيا» وقال منتجمري واط في كتابه «أثر الإسلام في أوروبا»: «إن أوروبا تخشى الإسلام على هويتها لذلك أنكرت دينها له وبالغت في اعتمادها على تراث اليونان وروما. علينا اليوم أن نخلص أنفسنا من هذا الزيف ونعترف بديننا الحضاري والثقافي للعالم الإسلامي».

رابعا: تحدث عن تاريخ الفلسفة الإنسانية كأنها ولدت في اليونان من فراغ. هذا الوهم بثه الاستعلاء الأوروبي. لقد تناولت في مقام آخر بيان تأثير الفلسفة الهندية على اليونانية. وشرح مارتن برنال في كتابه «أثينا السوداء» تأثير الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الفينيقية على اليونان.

خامسا: وصف الكتاب المقدس المسيحي وصفا رفع التأثير اليوناني عليه إلى مستوى الندية مع الأصل العبري قائلا: «إن الترجمة اليونانية للنص العبري ليست مجرد ترجمة للنص، إنها خطوة متطورة في تاريخ الوحي حققت لقاحا بين النص والثقافة اليونانية لقاح له أهميته في ميلاد ونشر المسيحية، لقاح بين التنوير والدين». أي أن الترجمة لم تكن مجرد بيان للنص، بل تطوير له! هذا ليس صحيحا وإن صح فليس صائبا.

سادسا:المناخ الذي تحّدث فيه الإمبراطور البيزنطي مناخ استقطاب عدائي كامل ديني وسياسي. اليوم يحاول كثيرون خلق استقطاب حاد يعيد الحرب الباردة وربما الساخنة على صعيد كوني. والقيادات الدينية تحاول إبعاد الدين من الاستقطاب بالتقارب والحوار. هذه المحاضرة من شأنها نسف الجسور وفتح باب واسع للمباهلة. بأي منطق عقلاني يمكن الدفاع عن ألوهية البشر، وقيامة السيد المسيح، وتوارث الخطيئة الأولى، وعصمة البابوية؟ وحتى العنف فإن العهد القديم يفوق كل ما عداه من نصوص مقدسة تعبيرا عنه. المسلمون مارسوا في تاريخهم وحاضرهم العنف ولكن المسيحيين في الحالتين مارسوه أضعافا مضاعفة. ليس من مصلحة الجالس في بيت زجاج حصب الآخرين بالحجارة!.

سابعا: دافع عن رأي الامبراطور صاحب المقولة عن العنف البنيوي في الإسلام معتبراً الآية: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» «سورة البقرة الآية 256» وردت في مرحلة مبكرة من تاريخ الدعوة «عندما كان محمد ضعيفا ومهدداً». الآية مدنية وليست مكية. وآيات التسامح في القرآن كثيرة جدا في السور المكية والمدنية.

ختاما: جاء في اعتذار البابا: «إنني اشعر بأسف عميق لردود الفعل في بعض البلدان لفقرات قليلة من خطابي بجامعة ريغنسبورغ واعتبرت مسيئة لمشاعر المسلمين. لقد كانت هذه في الواقع اقتباسا من نص يرجع للعصور الوسطى ولا يعبر بأي صورة عن فكري الخاص».

صحيح ما جاء في المحاضرة أساء لمشاعر المسلمين ولكن الأهم أنه أساء للحقيقة.

أما الاستشهاد بالنص القديم فلم يكن معزولا بل جزءاً من تصنيف للإسلام.

المطلوب تعامل أكثر جدية مع الأمر. إن للمسيحية عامة وللكاثوليك وجودا في أغلب البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وللمسلمين وجود في أغلب البلدان ذات الأغلبية المسيحية لا سيما في أوروبا وأميركا حيث الإسلام اليوم هو الدين الثاني وأعداده متزايدة. والسلام الديني والعالمي يوجب أن يتعامل البابا والكنيسة الكاثوليكية مع ما جاء في المحاضرة وآثارها بصدق ومنهجية.

هنالك عدم توازن في التعامل بين الإسلام والمسيحية فالإسلام يعترف بالمسيحية كدين، وبقيمة روحية وخلقية فيها: «مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» ، «سورة آل عمران الآيتان 113 و114» .

ولكن المسيحية لا تعترف بقمية روحية وخلقية للإسلام، بل تتعامل معه بحكم الأمرالواقع. لقد حلت المسيحية بعض عقدها مع اليهودية ولكن أبقت على عقدتها مع الإسلام. إن السلام العالمي يقوم في بعض ركائزه على السلام الديني الذي يؤسس على القبول المتبادل، وإزالة الأوضاع والمفاهيم المرتبطة بعهود الصدام الساخن والبارد.

إن لمبدأ الإخاء الإنساني، ولهدف السلام الديني، استحقاقات ينبغي أن تدركها القيادات الدينية وأن تخطط بجدية لدفعها حتى لا يترك الأمر عباهل مباهل للفتنة الدينية وأهلها.