محاضرة الإسلام والعلمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

محاضرة الإسلام والعلمانية

 جريدة الخرطوم – 3/10/2007م

تقديم: الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

شكرا أخي الرئيس وأشكر الأخ الأستاذ مختار عجوبة لدعوتي للمشاركة في منتداه هذا راجيا أن أفيد بما أقول لأنني أعتقد أن السودان محتاج جدا لمزيد من الفكر والأفكار إزاء الضبابية  التي أثمرتها تجاربنا أخيرا في بلادنا كما أشكر أخي الدكتور الباقر لفك إشكاله حول الألقاب ، وقد حدث لي ذات مرة في لندن نفس هذا الإشكال مع الأخ المرحوم الخاتم عدلان وقد قلت له حينها أنا أعفيك من كل الألقاب ، من فضلك نادني باسمي مجردا فقولك الصادق يحول الكلمة من اسم إلى صفة وهذا أفضل لي – التوجيه القرآني ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”. التوبة الآية 119.

موضوعنا اليوم هام جدا وان أردنا تناوله من زاوية أكاديمية فحسب تكون قضيته بسيطة . أعتقد أن القضية أخطر من ذلك وأن مصير العالم كله الآن معلق حول قضية الدين والعلمانية وسأبين كيف أن هذا الاصطفاف الخطير يهدد مصير العالم إن لم يجد له مخرجا. الفيلسوف الأعظم -في رأي- من فلاسفة الغرب الحديثين ، عمانويل كانت قدم عملا فلسفيا عميقا جدا عندما تحدث عن ما سماه: Categorical Imperatives وهذا يتحدث عن كل ما نستطيع أن نلم به عن طريق الحواس ويمكن أن نستوثق من صحته أو عدمها وهو أساس لمعرفة عقلية حقيقية. لكن هناك قضايا مثل الأخلاق ، الروح والجمال لا نستطيع التعامل معها عن طريق الحواس وهي ما أطلق عليه:The Hypothetical Imperatives . هذا العمل يلخص ما يمكن أن يكون مجالا وحقلا للمسائل العلمانية التي يمكن التوثق منها عن طريق فحصها بوسائل حواسنا ومدركاتنا أو : Categorical Imperatives . المسائل التي تؤثر في حياتنا جدا ولكننا لا نستطيع إدراكها عن طريق الحواس مثل القيم الأخلاقية والجماليات والفنون ..الخ أي The Hypothetical Imperatives  هي التي تتناول الغيبيات والدين منها.

كمسلمين يمكننا أن نضطلع على هذا التصنيف عن طريق أننا نؤمن بوجود حقين وصفهما الله سبحانه وتعالى بذلك: حق منزل وحق مشاهد . المنزل متعلق بالغيبيات متمثلا في الكتب السماوية وآخرها القرآن “وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا” آية 105 الإسراء، والمشاهد متعلق بما ندركه من حواس وهو هذا العالم الذي نعيش فيه وندركه بحواسنا “وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وان الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ” الحجر آية 85، وقوانين الطبيعة هي جزء من هذا الحق المشاهد. وهذا تبيان كيف أن القضية تكون بسيطة وممكنة إن كنا بصدد مجرد فك اشتباك نظري بين الحق المنزل والحق المشاهد أو الدين والعلمانية. الشاهد أن عوامل كثيرة- فكرية وسياسية- قد دخلت في هذا الأمر فعقدته للغاية.

سأبين فيما يلي كيف أن هذا الموضوع قد تعقد .

يوجد الآن صراعان: صراع داخل العقل السياسي المسلم والآخر داخل العقل السياسي الغربي وهي صراعات تدخل فيها مفردات متعلقة بالصراع الديني والعلماني وإذا لم يوجد مخرج لهذا الصراع فسوف يجر العالم إلى مرحلة ظلامية وفي السودان أيضا خاصة بعد التجربة الأخيرة فيه_المشروع الحضاري- فان هذا الصراع يرشح مستقبلنا إلى خطر كبير ما لم نتمكن من احتوائه بالصورة المطلوبة وسأبحر هذا المساء حول القضايا التي ذكرت أطرافا منها وكالعادة سأبدأ بمقدمة قصيرة.

المقدمة:

كلمة صراع أو وفاق الحضارات كلمة ملغومة لأن الحضارات سواء حضارتنا أو الحضارة الغربية لا تتكلم عن مصلحة اقتصادية واحدة ولا عن رؤية ايدولوجية واحدة ولا خطة أمنية واحدة وهي الأشياء التي يمكن أن تتعلق بها حوارات أو صراعات والحضارات من حيث هي حضارات لا يمكن أن نتخذها وسيلة للصراع ولا للحوار. لماذا إذن تحدث بعض المفكرون عن صراع أو حوار الحضارات؟ هنتنجتون مثلا يريد أن يقول مثلما أن الولايات المتحدة الأمريكية قائدة الغرب في الصراع بين الشرق والغرب وهو صراع كان حقيقيا بين معسكرين بينهما خلاف في المصالح الاقتصادية والأمنية والرؤى الفكرية وعند سقوط هذا بزوال الحرب الباردة هم يريدون للولايات المتحدة أن تستمر قائدة لمفهوم جديد هو حضارة الغرب وترث كل تلك الفترة باصطفاف جديد   ولكن هذا الإسقاط غير صحيح حيث كان في السابق للولايات المتحدة مع حلفائها مصالح مشتركة ورؤى مشتركة وأيديولوجية مشتركة ولكن بعد زوال الاستقطاب لم يوجد داع للاصطفاف والكلام عن صراع أو حوار الحضارات بلا معنى.

تحدث فوكوياما عن نهاية التاريخ بهدف اختطاف آخر للحضارة الإنسانية معتبرا أن الحضارة الغربية صارت مقياسا للحضارة الإنسانية ولذلك قضي الأمر لصالح انتصار الحضارة الغربية في الحالين_ كلام هنتنجتون وكلام فوكوياما- بلا معنى ،لأنه يلغي الحضارات الأخرى ويجبر الحضارة الغربية للامتثال للإرادة الأمريكية وهذا تحكم بلا مبررات.

موضوعات الحوار أو الصراع هي:

– الأديان التي بها رؤى مختلفة.

– واللغات بين المحلية والعالمية في وجه من وئام أو صراع ثقافي.

–  هناك مجال للصراع بين التقليدي الذي يقوم على ولاءات معروفة والحديث الذي يقوم على علاقات واعتبارات عقلانية.

–  كذلك الصراع بين العلماني والديني ،كلمة علماني هي قياس على عالم بمعنى شئون هذا العالم وأقرب كلمة لها في القرآن هي (الدهري) قال تعالى ” وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون” الجاثية آية 24 الصراع بين الدهري والقيمي ليس فقط في الإسلام بل في كل الأديان.

  • كذلك صراع اقتصادي بين الشمال الغني والجنوب الفقير.
  • صراع بين الشركات المتعدية والمصالح الإستراتيجية قصاد الفقراء.
  • صراع بين العولمة والخصوصيات الثقافية .
  • صراع بين الأحادية التي تحاول فرضها الولايات المتحدة والتعددية في إدارة الشئون الدولية .

الأشكال السابقة للصراع هي التي يمكن أن تتحدث بعقلانية عن صدام أو وفاق بينها .

كل تلك الصراعات مهمة وتشكل الواقع الدولي الحالي ولكني لن أشملها بالحديث كلها مركزا في جزئية محددة على الصراع الديني العلماني واحتمالات التوافق فيه واحتمالات الصدام الخطيرة للغاية. سيكون حديثي هنا عبر سبعة محاور:

المحور الأول: التمايز بين اللاهوت والناسوت

في الفكر الإسلامي نجد تمايزا بين اللاهوت والناسوت .

النظرة اللاهوتية هي تلك التي تجعل مصدر المعرفة كلها غيبي من مصدرها الإلهي والإنسان بها متلقي رسالات من الغيب وليس عليه الا الامتثال.

النظرة الناسوتية ترى أن الإنسان هو مصدر المعرفة وهو مقياس كل شيء حتى الدين نفسه مصدره الإنسان هو الذي يفكر وينحت ويكون الفلسفات والأديان…الخ (كل الصيد في جوف الفرا الإنساني) الذي تطور من الجماد إلى إنسان إلى الحياة بعوامل طبيعية والغيب ما هو الا من خيالات الإنسان!

لهذه المعركة حيثيات هامة جدا في التاريخ الإسلامي على غير مما نعتقده غالبا من أن هذا النوع من الصراع  جاءنا من الغرب فهو في حقيقة أمره نشأ عندنا بصورة واضحة بدأ منذ عهد الصحابة (رضي الله عنهم) بين من كانوا يترخصون ومن يرتبطون أكثر بالنصوص مثل بن عباس وبن عمر وقد تحول هذا فيما بعد لنوع من الصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث حيث أعتمد أهل الرأي مصادر أخرى للاستنباط منها الاستصلاح والاستصحاب بينما اعتمد أهل الحديث على الحديث وحده كأساس لمعرفة العلم.

أقوى مثل للنظرة اللاهوتية في التاريخ الإنساني هو الكنيسة التي اعتبرت في وقت ما ،أن المعرفة ما تراه وتقرره هي!

الإسلام لم يؤسس سلطة دينية لكن تقديس النص واجتهاد السلف صار يشكل سلطة واجبة الإتباع وصارت تلك الرؤية مع رؤية الكنيسة تمثلان خلاصة للنظرة اللاهوتية  .

الملف الثاني: نظرة غيبية ونظرة دهرية

في تراثنا نجد أن هذا تباين موجود حتى في الفكر الجاهلي مثلا “وقالوا ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا و ما يهلكنا الا الدهر…”الجاثية آية 24 وهي إشارة قرآنية لنظرة دهرية والنظرة الغيبية تمثلها أديان كتابية(يهودية،مسيحية،إبراهيمية) وتوجد أيضا عقائد الحنفية الذين اهتدوا للتوحيد بوسائل ذاتية مثل أمية بن أبي الصلت وعبد الله بن حويرص وغيرهم .

أول دلائل الاختلاف بين العقل والنقل ظهرت في ظروف كثيرة جدا مثلا كان الصحابة في الطريق إلى دمشق وسمعوا أن فيها طاعون فقرر عمر العودة إلى المدينة قال له أبو عبيدة(أفرار من قدر الله يا عمر؟) أجابه عمر (بل فرار من قدر الله إلى قدر الله) باعتبار أن استخدامنا عقلنا لتجنب الشر هو جزء من قدر الله . وكما قلنا الخلاف بين أهل الرأي والحديث في الفقه والتفسير ومذاهبه النقلي والعقلي مثل تفسير الزمخشري والاختلاف الذي حدث بين أهل الكلام وقد كانا طرفا نقيض في موقف الظاهريين الذين يقولون بأن نأخذ ظاهر النص والمعتزلة الذين أدخلوا العقلانية في فهم النصوص . وقد كان هذا جزء من هم الفلسفة الإسلامية من الفارابي إلى بن رشد الذي طور الجانب العقلاني في الفلسفة الإسلامية إلى أقصى درجة ممكنة هذا التطوير العقلاني أزعج كثير من المفكرين والفقهاء الإسلاميين فكانت ردة الفعل القوية هي التي واجه بها الإمام الغزالي مسألة العقلانية  وكتب كتابه : تهافت الفلاسفة ونشأ هذا النزاع بين رأيين – الداعم للعقلانية والرافض لها.

على الصعيد السياسي كان الصراع بين علي ومعاوية ، هو في حقيقة الأمر بين نظرة استمرار الخلافة الراشدة وما فيها  من علائق دينية ونظام وضعي محض.

الوراثة في السلطة هي استصحاب للسلطة الفارسية والبيزنطية ولا دخل له إطلاقا بأية مقدمات إسلامية ،إنها دولة وضعية أقامها معاوية استماعا لنصيحة من المغيرة بن شعبة الذي قال أن الخلافة بالطريقة الراشدية فتحت بابا لصراعات ونزاعات عنيفة جدا لا حسم لها الا باتخاذ قاعدة جديدة ففعل ذلك وعلى ذلك الأساس أقام معاوية دولة وضعية ، صحيح في إطار أن المجتمع مسلم ولكن مبدأ العرش الذي يقوم على أساس العصبية الأموية المتوارثة مستصحب من خارج الإسلام.

إذن صار عندنا من التجربة التاريخية تمدد العقلانية وتمدد نظام الحكم الذي يقوم على قاعدة مختلفة من حكم الخلفاء الراشدين . لا شك أن التاريخ الإسلامي شهد هذه العقلانية وشهد نهضة علمية كبيرة وسلطة زمنية قائمة على أساس الوراثة والعصبية وهذا خلق حضارة إسلامية قوية جدا لكن لا شك أن الجزء الوضعي فيها كان كبيرا جدا :

– من حيث ما أدخل في نظام الحكم وما تطور من اعتبارات عقلانية في الحضارة الإسلامية هي الشيء الذي انتقل إلى الغرب بشهادات كثيرين مثل روبرت برفلوت كاتب-في تكوين الإنسانية- حيث قال بأن التنوير الحقيقي لأوروبا حدث نتيجة إحياء العرب الثقافي لها. ومع أن ثقافتنا أفرزت هذا العطاء الإنساني إلا أن عاملين دمرا هذا  الانجاز:

1/ الاستبداد: نظام الحكم الوضعي تحول إلى مستبد حجر الحرية.

2/ الركود: بعد مرحلة نشأت الفقه الأولى صار هناك رأي قبله الجمهور وذلك بأن النصوص موجودة يتم تطويرها وتعديلها على الواقع باستخدام منطق صوري (القياس والإجماع) وبذلك تم تحديد كل ما يجب معرفته وصار هذا ملزما للخلف ودون حاجة لاتخاذ قرار بقفل باب الاجتهاد ،كان هذا الموقف بمثابة قفل لباب الاجتهاد.

الملف الثالث:

حدث التطور في الغرب عبر ثلاث ثورات:

  • ثورة سياسية حولت السلطة إلى الشعوب .
  • ثورة اقتصادية فعَلت الإنتاج.
  • ثورة علمية أدت إلى حرية البحث العلمي وتحريرها من قبضة الكنيسة مما أدى لانتصار الفكر الناسوتي الذي دحر الكنيسة وادعاءاتها ونشأت عن كثير من عمالقة الفكر الغربي أفكار تؤكد وتؤيد هذا، مثلا داروين الذي اعتبر أن الإنسان تطور عبر عوامل طبيعية وليس في الأمر غيب. وماركس الذي جعل حركة المجتمع كلها معتمدة على الصراع الطبقي والمادية الجدلية. وفرويد الذي أفرغ النفس الإنسانية من أي محتوى فيها إلا المحتوى المادي. نتيجة لهذا نشأت فلسفات أهمها ما قاله أوغست كومت –بالقياس لموضوعنا- الذي ذكر أن الفكر الإنساني مر بثلاث مراحل:
  • مرحلة ثيوقراطية.
  • مرحلة ميتافيزيقية.
  • والمرحلة العلمية .

وكأن قدر الإنسان أن  ينمو من الطفولة الثيوقراطية إلى الميتافيزيقية كمرحلة وسطى وصولا إلى المرحلة العلمية العليا .  (كما تدركون) هذه نفس المراحل التي أشار إليها المرحوم نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا) والتي أعجبت الغرب لوجود هذه المعاني وتركز الرواية على أن هذه المراحل حتمية وينتهي الأمر كله إلى سقوط الدين وسيادة العلم.

استفاد كثير من الغربيين بهذه الفكرة :

أولا: لاعتبارها أن الحضارة الغربية طليعة الإنسانية وسوف تحدد مستقبل الإنسانية.

ثانيا : لرفدها لفكرة عبء الرجل الأبيض (مسئول عن تطوير الآخرين حتى يبلغوا سن الرشد الإنسانية) مما يعطي الحضارة الغربية رسالة إنسانية.

الملف الرابع: فصل الدين عن الدولة 

قام الغرب بطرد الدين ليس فقط كنتيجة للأفكار المادية ولكن أيضا لأنهم وجدوا أن الصراع الديني أدى إلى عدم استقرار فظيع جدا كان هو المسئول عن حرب الثلاثون عاما (1618م-1648م) والتي انتهت بصلح وستفاليا ومن هنا صار فصل الدين عن الدولة من المسئولية السياسية.استطاع الغرب عبر تجربته تلك تحقيق قوة اقتصادية،فكرية،سياسية وعسكرية وغزا العالم واستطاع أن يسيطر عليه كله.

الملف الخامس:الاستلاب والمقاومة 

عوامل عديدة مثل : تعفن الخلافة،الركود والانحطاط، التمكن الاستعماري أدت إلى أن طبقات الصفوة المثقفة في بلداننا صار عندهم إحساسا بكراهية الذات والتعلق بالآخر وهذا شهدناه في تركيا وفي مصر وفي السودان مثلا بالنسبة لنا خريجو كلية غوردون كان عندنا تعلق وافتتان بالتجربة الغربية وقد قال سلامة موسى معبرا عن ذلك(أنا معجب بالغرب وكاره للشرق) وقد أخذ هذا التعلق أقوى تعبير له في تركيا عن طريق حركة أتاتورك التي عملت على إلغاء التاريخ والتراث وإعادة التشكيل وفقا للأجندة الغربية.

ووجهت هذه الاتجاهات بمقاومة أخذت أشكالا مختلفة منها ما كان بالعنف وقد هزم هذا النوع من المقاومة المسلحة لأن الغرب كان دائما متفوقا وعنده أولوية للاستعداد العسكري.أنواع المقاومة الأخرى التي نشأت كانت إحيائية،قومية ودينية. أهم ما حدث في هذا الصدد هو أن التعلق بالانبعاث الديني والإسلامي أخذ شكلا محددا عبر منظمات وأحزاب وصار معاديا للشيوعية وللقومية وللاستعمار مما أدى لنشوء أحزاب دينية ذات أهداف متماثلة : أخوان مسلمين،جماعة إسلامية،شبان مسلمين…الخ من المنظمات المختلفة ذات التطلع لتطبيع الشريعة الإسلامية كوسيلة من وسائل التأصيل والاحتماء من الغزو الفكري والثقافة الأجنبية.لهذا نستطيع قول أن الظروف التي مرت بها تجربتنا أدت إلى أن الطرح القومي واجه  عقبات فانهزم مفسحا مزيدا من المجال للطرح الإسلامي وصار هذا الطرح الإسلامي هو وسيلة المجتمعات المختلفة لمواجهة الاستغراب والاستلاب حدث هذا في تركيا في إيران في باكستان في البلدان العربية وفي اندونيسيا. كل هذا أدى إلى تمرد سياسي إسلامي واضح المعالم . في أفغانستان كانت التجربة فريدة وذلك لأن القوى الدينية فيها كانت خاملة ولم يتم تنشيطها إلا بعد الغزو السوفيتي  الذي اشتركت في إزاحته الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية. ما حدث خلق وعيا إسلاميا جديدا انتقل من مرحلة أولى سادت فيها الأحزاب الدينية الأفغانية في فترة ما إلى  طالبان التي نشأت كوسيلة لملأ الفراغ الذي عجزت الأحزاب الدينية الأفغانية عن ملئه مما أدى إلى تفريخ شيئا جديدا: بروز حركة القاعدة متعددة الجنسيات التي اتخذت موقفا راديكاليا على أساس أن وحدتنا الجهادية كمسلمين مكنتنا من طرد السوفيت مما يجعلنا مؤهلون لطرد الأمريكان كذلك من بلاد العرب وبلاد المسلمين . أدت السياسة الأمريكية عبر تدخلها غير المحكم في أفغانستان إلى تحويل طالبان من حركة وطنية محلية إلى حركة تحرير  إسلامية باشتونية متحالفة مع حركة القاعدة ذات الروابط الدولية والعالمية وقد اتخذوا موقفا راديكاليا للغاية من المستقبل الإسلامي والنظم القائمة الحاكمة وطرد الأمريكان من بلاد العرب والمسلمين لنصرتها لهؤلاء الحكام وإقامة خلافة موحدة للمسلمين.

الملف السادس:

في مقابل ما يقوله الغلاة ،فان التجربة الإنسانية قد نضجت ولا يمكن لبرامج عملي أن يسقطها لما احتوت من حكمة ومعرفة تراكمية مثلا: الحقائق العلمية والتكنولوجية،الدولة التي تقوم على مؤسسات،نظام الحكم الديمقراطي،النظام الاقتصادي،الأديان المقارنة،ضرورة التعايش بين الأديان،العلاقات الخارجية التي تقوم على أساس التعاون والتعايش وليس الحرب وقد صارت كل تلك المكتسبات جزءً من أطروحة عالمية موجودة.إزاء مكتسبات التجربة الإنسانية كيف يمكن للفكر الإسلامي التعامل معها؟ في كتابي نحو مرجعية إسلامية أوضحت  كيفية ذلك وكيف يمكن للفكر الإسلامي أن يستصحب النظام الديمقراطي والاقتصاد الحديث والتعايش بين الأديان والعلاقات الخارجية التي تقوم على التعاون بدل العداء “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” الممتحنة آية 8، وكذلك في مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة . علينا كمسلمين الإجابة على سؤال هل نستطيع أن نكون مسلمين وديمقراطيين ونقبل الاقتصاد الحديث الخ من مكتسبات التجربة الإنسانية وبهذا الطرح يمكننا استصحاب ايجابيات العلمانية مثلا المواطنة كأساس للحقوق والواجبات. الآن توجد قوى اجتماعية في تركيا ،في السودان،في ماليزيا في السودان وفي إيران في ارتباط بمدرسة السيد محمد خاتمي هذه القوى الاجتماعية ترى أن المسلمين يستطيعون استصحاب ايجابيات التراث الإنساني وما حققه الفكر الليبرالي العلماني انطلاقا من مرجعية إسلامية مما يعني أننا نتحدث ليس عن مجرد أفكار نظرية بل هي أفكار مسنودة بتلك القوى الاجتماعية.أقسى وأقصى تجسيد لمن يرون أن الإسلام مكتف بذاته هو موقف طالبان والقاعدة ،التي تتطلع لمحاربة وإسقاط النظم الحالية والولايات المتحدة الحامية لها بالقوة مما يعطي فكرة عن معالم الصراع حول المستقبل الإسلامي.

لم يعد – في رأي- هناك فرصة للحديث عن مستقبل علماني بمفهوم طرد الدين من الحياة وهو مفهوم أمامه مشاكل كبيرة :

  • عدم إمكان التعامل مع الأصالة والإسلام.
  • الاتهام بأنه مستورد.
  • لا شعبية له.

هذا يعني أن الشارع السياسي المسلم صار منقسما بين إسلام مدني وجهادي وبينهما صراع على العقل والقلب الإسلامي . هذا الصراع سيتأثر ويؤثر على الموقف الدولي لسبب بسيط هو أن الولايات المتحدة التي تقوم بدور مهم في العالم حصل في أمرها تطورين هامين:

الأول: في إسرائيل حدث تحول كبير من دولة تحاول التعلق بمفاهيم علمانية (حزب العمل) إلى دولة يمينية بقيادة الليكود وصارت السياسة الإسرائيلية قائمة على نفي الحق العربي وفرض الإرادة الإسرائيلية بالقوة.

الثاني: لا بد من فهم أمريكا لأنها ليست مجرد دولة كبيرة وقد حصل في داخلها انقلاب فكري هام .للدين البروتستانتي في أمريكا مكانة كبيرة ورغم أن الدستور الأمريكي به إبعاد الدين عن السياسة ولكن في الواقع للدين أثر كبير. الكنيسة البروتستانتية في الثلاثينات والأربعينات كانت تسيطر عليها تيارات ليبرالية تروج أفكارا كثيرة.وكل القادة الأمريكان الذين ساهموا في الاستنارة الدولية في الخمسينات أمثال روزفلت،ترومان،أيزنهاور متأثرون بهذا ويغرفون منه. البروتستانتية بها ثلاثة تيارات:ليبرالي- أصولي _ وتبشيري.

الليبرالي: تعرض كغيره إلى تكمش وانحسار و الليبراليون في التيارات الدينية يعتقدون أنه من الأفضل للمسيحية الاعتماد على الأخلاق والفضائل.

التبشيري: يعتقد أتباعه أن من لا يعتقد بفداء السيد المسيح لا أمل له في الحياة وهو ملغي إنسانيا ولا قيمة للأخلاق دون ذلك وهم يؤمنون- وهذا هو الأخطر- بصحة النبوات التوراتية أي بعودة المسيح كمقدمة لألف عام من السلام والرخاء وأن أية محاولات لبناء السلام قبل ذلك لا جدوى منها وقد ارتفعت نسبتهم من 1960م-2003م من 41% إلى 59% وأهمية ذلك في أنهم صاروا لوبي كبير حيث أن 40% منهم صوتوا لبوش مما جعل بوش (أمير مؤمنين) مثل الملا عمر والشيخ بن لادن (النزع من نظرة انكفائية محددة) وهؤلاء يعتقدون أن لليهود دورا مستمرا في خطط الله وأن جهود اليهود وعودتهم إلى فلسطين برهان على صحة النبوءات التوراتية وما يحدث للعرب من تشريد هو برهان آخر لأن الله قال لإبراهيم أبارك ذريتك وألعن من يلعنهم نتاج محاولة لفهم موجه للتوراة حسب رؤية قياداتهم مثلا المحرقة في نظرهم هي إعادة لما حصل لليهود في مصر من فرعون، ومحاولة لإلغاء دور إسماعيل والمفارقة أن العرب أيضا من ذرية إبراهيم  وقد بارك ربنا في توراة اليوم، الاثنين ووعدهم بأنه سيجعل منهم أمما كثيرة .

الأصولية: الأصولية المسيحية تدعم بهذه المستهلكات الأصولية اليهودية .

لا شك أن هذه الأفكار غذت الغلو الإسلامي وهو لم يأت من فراغ  بل من ظلم وتظلم وقع في العراق.. في فلسطين وهكذا منظومة تغذي بعضها بعضا وتشترك حول مصير العالم .

ملخص :

توجد عوامل تجعل الليبرالية العلمانية التي تؤسس كل شيء على عالم الشهادة وتلغي الغيب غير واردة في الواقع قد تكتب في بعض الدساتير وعند بعض المفكرين خاصة الولايات المتحدة في شكلها الحالي وقد حدث في كل البلدان تصالح بين المجتمع والكنيسة ،بين الدين والدولة فلا توجد علمانية كاملة الدسم في أي مكان في العالم الرئيس الأمريكي الحالي مثلا يتصرف كقائد ديني ويقول أنه يتخذ قراراته وهو راكع وأن عنده ما يشبه الخط الساخن مع رب العالمين الذي يخاطبه يا جورج افعل كذا وكذا و هذا لا شك هوس واضح إن كان علينا تقييمه! المسألة الدينية مهمة جدا و لا يمكن تجاوزها. دستور السودان مثلا الذي فيه إشارة للإسلام والإجماع فيما يخص الشمال والعادات والإجماع بالنسبة للجنوب علق د.فرانسيس دينق على ذلك منبها بأن العادات بالنسبة لهم في الجنوب تعني الدين (مؤسسة على العقائد الدينية) حيث لم يلغ الدين ودوره عبر العادات والتقاليد.

التيار الغالب في العالم الإسلامي اليوم مدني وجهادي والنظم الموجودة مؤقتة لأنها لا تشبع تطلعات شعوبها لذلك صارت الأنظار متجهة إلى ما ورائها حيث يوجد الخياران المدني والجهادي ولا يدور الصراع بينهما في فراغ بل حول الصراع العالمي وكلما وجدت نظم ديمقراطية في البلدان الإسلامية وكان المجتمع الدولي عادلا كلما انتصر الجهاد المدني وله منابر كثيرة تعبر عنه. والعكس يؤدي لتقدم الطرح الجهادي أي أن الصراع الدولي يؤثر سلبا أو إيجابا على الصراع الداخلي المرتبط بالعلاقة الإسلامية العلمانية.

الملف السابع: تنزيل الصراع الإسلامي العلماني على الواقع السوداني

شهد السودان تجربة المشروع الحضاري الاسلاموي العروبي وأكثر تعبير عنه المؤتمر الشعبي العربي ولكن الفكرة ولدت رد فعل وهو الآن تيار يسعى لما يمكن أن نسميه السودان النقيض (علماني، أفريكاني) وهذه هي المواجهة التي يمثلها طرفا الحكم القائم ومنهم – مهما قيل- مشدودون للمشروع الحضاري وهو مبرر وجودهم رغم الحديث المخفف وحليفهم متطلع لمشروع نقيض وهذه معادلة حرب إذ لا يمكن أن يسود احد هذين الاتجاهين دون أن يقهر الآخر . لا بد لنا من الخروج من ذلك للسودان العريض الذي يسعنا جميعا بصورة تعترف بالآخر – ذات مرة قال د.فرانسيس دينق (لا يمكن تكون هناك وحدة وسلام في السودان إلا بتخلي من يقولون أنهم عرب عن ذلك)! هذا غير ممكن وغير صحيح – الصحيح هو المطالبة بعدم فرض العروبة أو الثقافة والدين .

في الصعيد العالمي لهزيمة المحافظين الجدد والإسلاميين الجدد وهذا ضرورة حياتية معركته هي المعركة الفاصلة بالحياة أو بالموت(ارماغيدون-Armageddon).

في الخارج لا بد من الخروج من الغلو الشرقي والغربي بصورة تمكنا من أن نعيش عالمنا كلنا كذلك في الداخل لا بد من التخلي من سيناريو الحرب الذي يؤدي لتصفية متبادلة.

ختاما:

أعتقد أن العلاقة بين العلمانية والدين مهمة وتعقيداتها خطيرة وهي متداخلة مع الصراع العالمي ومستقبله والوطني ومستقبله فلا مفر من أن نتخلص من النظرة الاقصائية إلى الاستيعابية لقبول الآخر في إطار التعايش الداخلي والدولي وإلا فهي خطة حرب لا سبيل فيها إلا بالتصفية مع وجود الإمكانات النووية.

الحديث عن إيقاف أسلحة الدمار الشامل بلا محتوى ، ذلك أن تملكها متوقف على ثلاثة عوامل هي: المعرفة- الإمكانيات- الدوافع ،حيث لا يمكن حجر المعرفة والإمكانيات متاحة لمن يملكون المال والعامل الوحيد الذي يمكن السيطرة عليه هي الدوافع وذلك عن طريق الرؤية التي قدمنا الحديث عنها.

وفي السودان كذلك لا يمكن سيادة أيا من النظرتين المتطرفتين والتمددات الكثيرة التي نشهدها محاولة فرض حزب على الآخر بالقوة.