محاضرة بعنوان: نحو مشروع قومي للفن التشكيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤسسة أروقة للثقافة والفنون

بالتعاون مع جماعة من التشكيليين السودانيين

المجلس القومي للثقافة والفنون

الأربعاء 5 مارس 2003م

 

محاضرة بعنوان:

نحو مشروع قومي للفن التشكيلي

ضمن الاستراتيجية القومية للثقافة الوطنية

الإمام الصادق المهدي

أخي الرئيس

أشكر مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم، وكل العشيرة التشكيلية، على دعوتي لمخاطبتكم في موضوع مشروع قومي للفن التشكيلي في ظل مشروع ثقافي قومي للسودان.

ثلاث مسائل لفتت نظري بحدة للشأن التشكيلي هي:

  • نقدي للمهندسين المعماريين السودانيين لغياب أية صلة تعبر عن الهوية أو الحاجة المناخية في المباني السودانية الحديثة.
  • تعطش السوداني في الغربة التي عانينا منها لمرئيات وطنية.
  • كنا نهدي زوار السودان الأجانب تحفا من صناعات السودان اليدوية، ففضلت لأسباب كثيرة أن تكون التحف لوحات سودانية تمثل عطاء تشكيليا متقدما.. هذا الاهتمام أدى لمقابلات أصدقاء عاملين في هذا المجال، أدت بدورها لاقتراح هذا الخطاب.

ليس أقوى في ميزان الفاعلية من فكرة آن أوانها أو حضر رجالها ونساؤها.

إننا اليوم نخوض حربا أهلية طاحنة يرفدها تباين ثقافي حاد. ونواجه  حربا كونية باردة وأحيانا ساخنة يوقدها تباين حضاري. وفي الحالين القطري والدولي فإن الخيار هو بين الفصال ودمائه، والوصال ونمائه.

أنا ربيب تراث فاصل حتى النخاع، وكالجراح  التي شفيت من نزيف الجراح، غدوت أفر من الفصال فرارك من الخبائث، وأهرع للوصال حنوك للطيبات.

منذ حين تعاظم في ذهني أن نجاة السودان من التردي رهينة بمولد ثان مبرأ من  عيوب المولد الأول. وفي كتابي بهذا العنوان[1] تناولت شروط  المولد الثاني في كافة المجالات. ههنا سوف أتناول الجانب  الثقافي عموما وأركز على الفني منه. خطابي هذا المساء يقع في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: متعلق بمشروع قومي ثقافي.

القسم الثاني: يتناول الشبهات حول الدين والفن.

القسم الثالث: يرسم الطريق نحو مشروع قومي للفن التشكيلي في ظل المشروع القومي الثقافي.

القسم الأول: المشروع القومي الثقافي

الثقافة هي جملة قيم ومعتقدات وعادات وفنون وأنماط سلوك المجتمعات. وقد عد العادون عشر ألف ثقافة إنسانية حية. ويتداخل مفهوم الثقافة مع الحضارة، لأن الثقافة  إذا صارت كاتبة حاسبة واستقرت في حواضر وتجاوزت الطابع المحلي صارت حضارة. حضارات الإنسان المعتمدة بموجب هذا التعريف تبلغ عشرون حضارة اندثر أغلبها وبقيت ثمان حية.

السودان على باب مولد ثان في ثلاثة مجالات. وفي ثلاثتها للمكون الثقافي دور مفتاحي.

المجالات المذكورة هي:

المجال الوطني: السودان يخوض تنازعا يوشك أن يفصل عراه واضعا الوطن أمام أحد خيارين: أن يكون أو لا يكون.

المجال الإقليمي: هناك تداخل زاد بروزه مؤخرا بين شعوب حوض النيل طولا، وشعوب حزام السافانا عرضا.. هذا المجال الجيوسياسي زاخر بتنوع ثقافي طيفه عريض.

المجال العالمي: اندفاع العالم منذ نهاية الحرب الباردة نحو العولمة ذات الأصداء الكبيرة على حضارات الإنسان وثقافاته يوجب التساؤل عن مصير تلك الثقافات في عهد العولمة.

فيما يلي أقدم مشروع استراتيجية ثقافية عبر ثلاثة محاور:

المحور الوطني

وجدت في أراضي سودان اليوم حضارات وثقافات متنوعة منذ الأزل، منها الحضارة النوبية والمسيحية في الشمال، والتبداوية المرتبطة بحضارات حوض البحر الأحمر في الشرق، والثقافات النيلية المرتبطة بالثقافة البانتو نيلية في الجنوب، والثقافات الزنجية المرتبطة بشريط السودان التاريخي وبغرب افريقيا في الغرب.

دخل الإسلام السودان الشمالي سلميا. بل كانت الحدود بين الدولة الإسلامية التاريخية والدولة السودانية المسيحية في شمال السودان هي الوحيدة المحكومة بمعاهدة سلام في التاريخ القديم. وفي ظل هذا التعايش تعددت العلاقات والهجرات التي جعلت الإسلام يحل محل الأديان السابقة له لا سيما المسيحية في شمال السودان. التمدد الإسلامي السلمي خلق درجة عالية من التسامح بين أهل السودان وأبقى على درجة كبيرة من التعددية الثقافية.

تبع دخول الإسلام مرحلة تشرب الثقافة العربية الإسلامية ولقاحها مع الثقافات المحلية في أصقاع السودان الشمالي حيث بقي الجنوب بعيدا عن التأثير العربي الإسلامي، من تلك الممالك: الكنوز في أقصى الشمال- الفنج في الوسط- الفور وتقلي والمسبعات في الغرب. تلك السلطنات عاصرتها مشيخات وسلطات قبلية، ولم تبرز حتى ذلك الحين حدود السودان المعروفة حاليا.

الغزو التركي للسودان 1821م أقام أول دولة مركزية فيه، وترك أثرا ثقافيا محدودا ومحصورا في الطبقة الحاكمة وسدنتها في بعض الحواضر، فبدت ثقافة طبقة حاكمة موالية للأجنبي فتعاملت معها الدعوة المهدية كقشرة خبيثة.

كانت المهدية مندفعة بأجندة أممية إسلامية استهدفت توحيد وتحرير السودان كمرحلة أولى لبرنامجها الإسلامي الأممي. وفي سبيل ذلك طبقت المهدية واحدية ثقافية صارمة.

الاستعمار الثنائي الذي أطاح بالدولة المهدية مستغلا الانقسام الذي دب في الصف السوداني أقام دولة مركزية ثالثة. دولة الحكم الثنائي التزمت سياسة نحو ثقافات السودان مرتكزة على ثقافة المركز أفضت إلى صورة ثنائية بين المناطق السالكة –وهي أقاليم الشمال- والمناطق المقفلة –وهي أقاليم الجنوب.

الحكومات الوطنية التي توالت على حكم السودان منذ استقلاله اعتبرت تلك الثنائية خطيئة استعمارية، وبافتراض أن بناء الدولة القومية ينطلق من وحدة ثقافية اندفعت لتجعل ثقافة المركز ثقافة السودان. هذه الواحدية الثقافية التزمت بها الحكومات الوطنية الديمقراطية التزاما ناعما تتخلله درجة من الحوار ودرجة من المشاركة.

الحكومات العسكرية الصرف والمتحالفة مع أحزاب الأيديويجيات الشمولية التزمت بواحدية ثقافية خشنة بلغت دركا من السوء على عهد مايو المباد، ولكنها على عهد “الإنقاذ” حطمت كل رقم قياسي في فرض واحدية ثقافية بالعصا والحديد والنار.. المدهش حقا أن هذا التعصب الأعمى حل بالسودان في وقت انهيار حائط برلين وبداية صعود التيار الديمقراطي، وبشائر حقوق الإنسان عالميا.

وداخليا تنادت كل القوى السياسية – ما عدا صناع الانقلاب- للبرنامج الانتقالي الذي وقع عليه 29 حزبا ونقابة، والذي أكد العزم على عقد مؤتمر قومي دستوري في 18 سبتمبر 1989م.. مؤتمر من بنود أجندته حسم قضية الدين والدولة، والهوية السودانية، والمشاركة العادلة في الثروة والسلطة.

النظام الانقلابي الجديد أدان هذا التوجه وخونه وفرض واحديته الثقافية.

القوى السياسية التي أطاح بها الانقلاب والتي أجرت ذلك الحوار واصلت حواراتها مع الحركة الشعبية وحلفائها داخليا وخارجيا، عبر حلقات الحوار في الداخل، وعبر المؤتمرات في الخارج التي بلغت قمتها في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995م حيث تقرر الآتي:

  • التخلي عن الأحادية الثقافية واعتماد السودان وطنا متعدد الديانات، والثقافات والإثنيات.
  • إبعاد الدولة الدينية أو القومية بمفهوم إثني لصالح الدولة المدنية التي تقوم على المواطنة أساسا للحقوق الدستورية.
  • الاعتراف بوجود فجوة ثقة لا تسمح بافتراض الوحدة مستمرة تلقائيا، وتوجب تجديد الثقة في الوحدة أو نفيها عبر استفتاء حر.

لقد كان للاختلاف حول الملف الثقافي دوره الهام في هدم الجسور وتمزيق الثقة بين حراس ثقافة المركز والمجموعات السودانية الأخرى. لذلك يرجى أن يكون للاتفاق حول الملف الثقافي دورا هاما في ترميم جسور الثقة.

الرؤية الشمالية: كانت رؤية القوى السياسية كما نضجت في الشمال تفترض أن الثقافة الإسلامية العربية سوف تهيمن على كافة الثقافات السودانية الأخرى. وتعتبر أن الهوية الثقافية المسيحية الانجلوفونية التي تقمصها المثقفون الجنوبيون غرسا أجنبيا لا يؤبه به.

هذا المنطق غذى نهجاً سياسياً بدأ بمذكرة مؤتمر الخريجين التاريخية في عام 1942م فقد اشتملت ثلاثة من بنودها الاثني عشر على إلغاء المناطق المقفولة، ووقف المعونات الرسمية لهيئات التبشير المسيحي، وتوحيد التعليم في شطري البلاد. وهذه هي أدوات تكريس الهوية المسيحية الأنجلوفونية.

هذا الخط اتبعته كافة العهود الوطنية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال مع اختلاف في أن الحكومات الديمقراطية اتبعت نهجا ناعما بينما اتبعت الحكومات الدكتاتورية نهجا خشنا فحكومة 17نوفمبر بقيادة الفريق إبراهيم عبود ألغت إجازة الأحد في الجنوب، وطردت المبشرين الأجانب، وحكومة 25مايو بقيادة جعفر نميري بعد إبرام اتفاقية السلام لعام 1972م خرقت الاتفاقية وفرضت على الجنوب سياسات مخالفة لها ثم طبقت قوانين سبتمبر 1983م الإسلاموية على كل البلاد. وحكومة 30 يونيو فرضت على البلاد مشروعا إسلامويا حزبيا وحولت الحرب الأهلية إلى حرب جهادية مقحمة بعدا دينيا واثنيا.

سياسات نظام الإنقاذ بلغت بالمواجهة الدينية والثقافية قمتها ورفعت درجة الاستقطاب لحدها الأقصى وتقف الآن أمام مفرق طريق: أن تتخلى تماما عن الأحادية الدينية والثقافية في سبيل وحدة السودان أو أن تبقى على جوهر أجندتها وتحمي سلطانها بالعمل على انفصال الشمال من الجنوب.

رؤية التعايش:  هناك خط آخر في السياسة الوطنية. لقد كنا كالآخرين نتطلع لذوبان الثقافات الأخرى في الكيان العربي الإسلامي وإن اختلف موقفنا بالتطلع لحدوث ذلك طوعا.

ولكن حواراتنا مع القيادات السياسية الجنوبية أدت لتصور آخر. بدأ موقفنا بما أعلناه في كتاب مسألة جنوب السودان الصادر في أبريل 1964م. هذا الموقف تطور عبر مؤتمر المائدة المستديرة 1965م، ولجنة الاثني عشر 1966م، ومؤتمر الأحزاب السودانية 1967م ثم عبر تكوين مؤتمر القوى الجديدة في 1968م، ومؤتمر الوفاق الوطني 1987م، ومؤتمر كوكادام 1986م، وبرنامج القصر الانتقالي 1989م، ومؤتمر نيروبي 1993م، ولقاء شقدوم 1995م، ثم مؤتمر أسمرا 1995م.

خلاصة هذا التوجه يقتضي وضعا سودانيا جديدا يقوم على التنمية المتوازنة، واحترام التعددية الدينية والثقافية، وتحقيق لا مركزية فعالة، ومراجعة مؤسسات الدولة لاستيعاب هذه الإصلاحات، وتعديل سياسات البلاد الإقليمية والدولية لتتمشى مع هذه المستجدات.

هذا التوجه ينطلق من ميثاق ثقافي يرفد استراتيجية ثقافية تحقق التراضي والتعايش وتساهم مع غيرها من العوامل في تحقيق الوحدة الطوعية.

رؤى العلمنة والأفرقة: هناك رأي آخر يرى أن الاحتجاج ضد سياسات النظام الأحادية بلغ درجة من الاحتجاج الإثني والكنسي المدعوم بتعاطف دولي وإقليمي متين لا مجال معها للتعايش المنشود بل هنالك خياران: الأول سودان بديل معلمن واثنيا مؤفرق والثاني دولة جنوبية موسعة.

الحقيقة هي أن الرأي الأول (الرؤية الشمالية) والثالث (العلمنة والأفرقة) مهما وجدا من تأييد لأصحاب الأجندات الخاصة فإنهما لن يوقفا الحرب ولن يوقفا التدخل الأجنبي بل سوف يوجدان أسبابا جديدة لاستمرار الحرب ولزيادة التدخل الأجنبي.

المحور الإقليمي

كان شمال السودان ووسطه مشدودا لشمال وادي النيل، وكان شرق السودان مشدودا لحوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وكان غربه مشدودا للسودان الغربي والمغرب العربي، وجنوبه مشدودا لشرق ووسط إفريقيا.

ومنذ حرب التحرير ضد الإمبراطور هيلاسيلاسي والدكتاتور منقستو ظهر عنصر جيوسياسي بشري آخر هو لجوء الإرتريين والأثيوبيين بأعداد كبيرة للسودان الشمالي.

وبعد قيام نظام “الإنقاذ” دفعه الهوس لسياسة إقليمية توسعية فتحت أبواب دول الجوار في القرن الأفريقي للمقاومة السودانية بكل فصائلها الشمالية والجنوبية.

إن التداخل السياسي والبشري بين الشعب السوداني ودول القرن الأفريقي وعوامل أخرى سياسية وعسكرية ودبلوماسية أبرزت وجود فضاء جيوسياسي جديد واسع هو حوض النيل طولا وحزام السافانا عرضا.

إلى جانب هذه التطورات ظهرت مشروعات تكتل اقتصادي جيوسياسي أوسع. تكتل أفريقي بانتونيلي يمتد من جنوب السودان شمالا إلى جنوب أفريقيا جنوبا على حد تعبير الرئيس اليوغندي يوري موسفيني. وتكتل في حوض البحر الأبيض المتوسط يتطلع لمصير متوسطي مشترك لدول الحوض ويحسب شمال السودان جزءا منه. هذان التصوران يقومان على قسمة قديمة لأفريقيا، قسمة أفضت إلى تصورين أيديولوجيين أحدهما يربط الأفريقانية بالزنجوية، وقد بلوره الرئيس السنغالي سنقور، والآخر يدعو لأفريقانية قارية، وقد بلوره الرئيس الغاني نكروما. هذان التصوران سوف يتصارعان لتحديد المصير الأفريقي.

إن ما يحدث في السودان سوف يكون له دور هام على نتيجة ذلك الصراع.

إذا حقق السودان سلاما ثقافيا فإنه سوف يكون لبنة قوية لوفاق ثقافي أفريقي ووصال ثقافي عربي/ أفريقي والعكس بالعكس.

 

المحور العالمي

إن حركة توحيد العالم عبر الأديان، وعبر الحضارات، وعبر المصالح الاقتصادية لم تقف أبدا.

الحضارة الإسلامية أعطت الإنسانية أكبر صورة لحضارة عالمية عرفها التاريخ قبل الحضارة الحديثة، واستمرت مع اختلاف دولها ألف عام حتى 1700م. ومنذ ثلاثة قرون حققت الحضارة الغربية طفرة أوقدتها ثلاث ثورات مكنتها من تكوين الحضارة الحديثة والهيمنة على العالم:

الثورة الصناعية: قادتها الرأسمالية الحديثة وانطلقت في بريطانيا منذ القرن الثامن عشر.

الثورة اللبرالية التي انطلقت من الثورة الفرنسية والاستقلال الأمريكي وأسست النظام الديمقراطي.

الثورة المعرفية التي طورت موروثات الإنسان المعرفية وحققت نهضة علمية وتكنلوجية تدعمها حرية البحث العلمي.

لقد كان التحليل الاقتصادي السياسي الأرجح في فجر الحضارة الحديثة هو أن الرأسمالية بموجب نظامها وعوامل إنتاجها سوف تهدم العالم القديم بحضاراته وثقافاته وقيمه وتخلق طبقات عالمية متخلية عن كل انتماءاتها السابقة الدينية، والثقافية، والقومية.. لتواجه بعضها بعضا كطبقات اجتماعية.

نعم خلق التطور الرأسمالي طبقات وأتى بمظالم اجتماعية قاسية أتاحت المجال واسعا لنقده ورفضه وتقديم بدائل شيوعية وفاشستية له: أيديولوجيات نقض الرأسمالية. الصراع الأيديولجي بين الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والفاشستية شغل النصف الأول من القرن العشرين واتصل حتى تسعين القرن العشرين.

إن المصير القاتم الذي تصوره ماركس للرأسمالية لم يتحقق.. الرأسمالية أفسحت سياسيا مجالا للطبقات العمالية وأدخلتها طرفا في اتخاذ القرار. وتمددت مشروعات الرعاية الاجتماعية في ظل الرأسمالية فمنحتها وجها آدميا. وساهمت آراء جون كينيز في إعطاء الدولة وظيفة اقتصادية حلت محل يد آدم سميث الخفية.

ولكن في السبعينيات برزت أفكار اقتصادية “لتطهير” الرأسمالية مما علق بها من عوامل غريبة عليها، وتأكيد أن الأداء الرأسمالي الأفضل لا يتم إلا بموجب أصولية رأسمالية لا تبقي ولا تذر.. هذه الآراء تبنتها مارقرت تاتشر في بريطانيا (1979) وتبناها رونالد ريغان في أمريكا (1980)، وخلاصة أطروحتها هي: تقديس آلية السوق الحر وخصخصة النشاط الاقتصادي، وتحرير حركة المعاملات المالية والتجارية عالميا.

صحب هذه الأصولية الرأسمالية عاملان أحدهما سياسي والآخر تكنولوجي. العامل التكنولوجي هو ثورة المعلومات التي فتحت العالم على بعضه بصورة لم يشهد التاريخ لها مثيلا. العامل السياسي هو انهيار الاتحاد السوفيتي وانضمام أكثر مجتمعاته للنظام الرأسمالي.

السوق العالمي الواحد المفتوح للنشاط الاقتصادي الخاص المسلح بثورة المعلومات هو أساس العولمة.

إن هذه العولمة لا تحدث في فراغ بل في عالم فيه توزيع دخل مختل بين دول الشمال ودول الجنوب، وتوزيع قوة مختل بين دول الشمال ودول الجنوب، وفي الحالتين للولايات المتحدة داخل دول الشمال نصيب الأسد.

ثورة المعلومات وطفرة وسائل الإعلام، وحصول الولايات المتحدة على مركز مهيمن فيها أتاح الفرصة لعولمة ثقافة التسلية الأمريكية وهي ثقافة رائجة بالغناء الصاخب، والرقص الماجن، والمشروبات الفوارة، والأطعمة المحمولة، والملابس العارية. هذه الثقافة ركبت ظهر العولمة ودخلت كل مكان في العالم.

إنها قاعدة متكررة أن يقلد المغلوب الغالب، كما لا حظ ابن خلدون. وقاعدة متكررة أخرى أن يتصور الغالبون أن نصرهم هو نهاية المطاف. لقد اعتبر فرانسيس فوكوياما انتصار اقتصاد السوق الحر والنظام الديمقراطي على الشمولية السوفيتية نهاية التاريخ، والعولمة سوف تكون قائمة بهذين النمطين.

هنالك نقاط ضعف هيكلية في العولمة:

أولا: شروطها قاسية اجتماعيا. فاقتصاد السوق الحر يشد الأنظار للربحية والتنافس وهذان إذا اتبعا بدقة يؤديان إلى التخلي عن برامج الرعاية الاجتماعية.. إنها “الرأسمالية النفاثة”. الرعاية الاجتماعية هي الثمن الذي دفعه النظام الرأسمالي لشراء السلام الاجتماعي.. ففي ظل نظام سياسي يكفل الحرية سيؤدي غياب السلام الاجتماعي إلى مواجهات تزعزع المجتمع على نحو ما قال كينيدي: “إن المجتمع الحر الذي يعجز عن مساعدة الأكثرية الفقيرة سوف يعجز عن حماية الأقلية الغنية”.

ثانيا: العولمة تخلق فوارق حادة بين قلة غنية وكثرة فقيرة داخل الدولة الواحدة وفيما بين الدول.

ثالثا: التركيز على الربحية والتنافس الرأسمالي يؤدي إلى إهمال المحافظة على البيئة الطبيعية.. المحافظة على البيئة الطبيعية من شروط التنمية المستدامة وإلا تحققت تنمية قصيرة النظر.

إذا لم ترشد العولمة فإنها تخلق ردود فعل اجتماعية مضادة ستجد صياغات أيديويوجية تمكنها من تعبئة قوى اجتماعية فاعلة.

كذلك إن استخفاف العولمة بالثقافات ، بل واقترانها بثقافة التسلية الأمريكية، يخلق ردود فعل مضادة.

في تقرير لجنة الجنوب التي أدارت حوار الشمال والجنوب في الثمانينات قال التقرير بعد استعراض أداء التنمية في بلدان الجنوب: إن برامج التنمية التي أهملت العامل الثقافي أدت إلى مناخات اللامبالاة والاستلاب، واستفزاز المجموعات الثقافية للاحتجاج والرفض.

إن إطلاق تيارات الاحتجاج الأصولي الديني والقومي في كل مكان هو نتيجة لعوامل أهمها الحرص على التحديث والتنمية دون أخذ العامل الثقافي في الحسبان. وفي عام 1997م صدر تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية وجاء فيه: “ينبغي أن تراعي التنمية الجانب الثقافي حتى لا يؤدي إغفاله إلى آثار عكسية من رفض واحتجاج”.

آلية السوق الحر آلية أثبتت أفضليتها لزيادة الاستثمار والإنتاج. ثورة المعلومات طفرة تكنولوجية فتحت العالم على بعضه. الحرية الاقتصادية خلقت سوقا عالميا واحدا.. تلك العوامل مظاهر حميدة لتطور الإنسانية.. لكن هذه العوامل مع التوزيع الحالي للثروة والقوة والإمكانات الإعلامية ستؤدي، إذا تركت وشأنها، إلى اتساع الفوارق بين عالم الشمال وعالم الجنوب، وإلى الإطاحة بالسلام الاجتماعي داخل عالم الشمال نفسه، وإلى إهمال البيئة الطبيعية، وإلى صدام حضارات وصدام ثقافات مما يؤدي حتما لظهور أيديولوجيات تقوم بتعبئة داخل البلدان المعنية وعالميا لتصحيح تلك العيوب. كما تؤدي لتظلم ورفض واحتجاج في عالم الجنوب يؤدي في مرحلة ما إلى إطلاق أسلحة الضرار الشامل، وهي: الإرهاب الدولي- الهجرة غير القانونية لدول الشمال- القنبلة السكانية- القنبلة البيئوية- الضرار الصحي- وقنبلة المخدرات.

إن وجوه العولمة التي سوف تؤدي لهذه النتائج وجوه خبيثة.. العولمة التي تكون مستدامة ينبغي أن تصحح تلك العيوب الهيكلية، وتراعي العوامل الاجتماعية، والبيئوية، والثقافية.

إن الانتماءات الدينية، والثقافية، والقومية، ليست كماليات كما يظهر في تقديرات بعض المثقفين فيستخفون بها وبدورها. إنها تمثل لأكثر الناس جذورهم وهوياتهم وراياتهم التي يموتون ويقتلون من أجلها.

إن الإيمان الديني قد تفاعل مع العطاء الإنساني ليصنع الحضارات والثقافات. إن العقائد الدينية قد أعطت الإنسانية الطمأنينة النفسية، والرقابة الذاتية، والتحصين الأخلاقي، والهوية الجماعية. إن الانتماءات الدينية، والثقافية، والقومية ليست جامدة بل حية ومتحركة، وفي عصر العولمة ينتظر أن تكون قابلة لاستصحاب النافع الوافد عليها، وإطراح الفاسد الكامن فيها، والاستعداد للتفاعل والتعايش مع الآخر الثقافي. هذا هو التأصيل الحميد.

ولكن الانتماء الديني والقومي والثقافي قابل للتعصب الأعمى المدمر وقابل لاستغلاله في صراع السلطة وطموح الأفراد والجماعات. هذا هو التأصيل الخبيث.

التأصيل ضرورة إنسانية واجتماعية. إنه يمثل الجذور والهوية والكينونة.

التحديث وصورته الحالية “العولمة” يمثل تطلعا إنسانيا واجتماعيا للتقدم والتحسن والرخاء. الاستراتيجية الثقافية في عهد العولمة ينبغي أن تحقق توازنا في هذه الجدلية.

الاستراتيجية الثقافية والميثاق الثقافي

في المراحل التكوينية للشعوب تتقاطع أدوار المثقف، والمفكر، والسياسي، والعالم.

إن تطلعنا للمولد الثاني في المجالات الثلاثة يوجب مساهمة كافة المؤهلين في رسم الاستراتيجية الثقافية لبلادنا ولتنزيلها إلى أرض الواقع في صورة ميثاق ثقافي سوداني يشكل إحدى ركائز بناء الوطن.

الحقوق الثقافية من حقوق الإنسان الأساسية.

تاريخ السودان الحديث عرف أطروحتين للتعامل مع الملف الثقافي:

  • أطروحة الأصولية العلمانية التي ترى أن قيام الدولة الحديثة، والمجتمع الحديث، والوحدة الوطنية في السودان معان لا تتحقق إلا على حساب التخلي عن الانتماءات الثقافية الموروثة. أو على الأقل تهميشها.
  • أطروحة الأصولية الدينية أو القومية التي ترى أن صد الغزو الثقافي والفكري الأجنبي، وخلق الوحدة الوطنية، والتأصيل، معان توجب تطبيق مشروع حضاري مؤسس على ثقافة المركز وفرضه على الآخرين إن لم يمتثلوا له طوعا.

 

هذان الرأيان فاسدان:

  • أثبت التاريخ الحديث في السودان وخارجه تهافتهما. فمحاولة الاستئصال الثقافي التي تمت في تركيا الكمالية، وفي آسيا الوسطى السوفيتية أتت بنتائج عكسية. إن أشد حركات الاحتجاج ضد العلمانية الأصولية أتت في أكثر البلدان التي حاولت تطبيقها وأفرزت حركات رفض واحتجاج.. بل في السودان –ذي المزاج الديني المعتدل- إن الحركة الأخوانية في كثير من حالاتها رد فعل للتمدد الشيوعي في القطاع الطالبي بعد الحرب العالمية الثانية. أصدق دليل على أنها رد فعل هو أنها انفردت بالسلطة 10 أعوام وكشفت أنها حائرة بلا برنامج معلوم.
  • إن إخضاع الثقافات الأخرى لثقافة المركز أحدثت انقسامات وحروبا أهلية. وهو في الظروف الدولية المعاصرة محاولة يائسة.
  • الوعي الإنساني المعاصر أدرك أهمية الانتماء الثقافي للبشر واعتبره حقا إنسانيا أساسيا لا يجوز قيده إلا إذا نال من حق المواطنة أو نال من احترام حقوق الآخرين.

إن للثقافة أثر في كل محاور الحياة:

  • الثقافة والسياسة: الشرعية في حكم المجتمع تعني قبول أهل الوطن بحق الحاكم أن يحكم. هذا القبول ينبغي ألا تتحفظ عليه أو ترفضه أي مجموعة ثقافية في البلاد بل تقبله. المطلوب لتحقيق قاعدة عريضة من الرضا في المجتمع أن تكون الدولة مرآة لتوازن قوى المجتمع لا مسرح لنزاعات متعصبة ومتخاصمة بداخله. هذا الرضا يوسع قاعدة الشرعية عبر الديمقراطية والتوازن.
  • الثقافة والتنمية: يجب أن تكون الثقافة مرجعا مهما للتنمية بمعنى أن تكون المجموعات الثقافية منخرطة في التنمية ومقتنعة بأهدافها، كما ينبغي أن يكون من برامج التنمية تطوير الثقافات الوطنية.
  • الثقافة والتعليم: التعليم نشاط متكامل يهدف إلى: نقل المعرفة- نقل القيم- بناء المهارات- وتدريب الناس وتكملة قدراتهم في كافة جوانب الحياة وعلى طول الحياة. التعليم مرتبط بالثقافة، وهو أهم وسائل نشرها.
  • الثقافة والإعلام: مع أن هذا التعبير أطلق على كثير من الوزارات، فإن الربط محصور في الاسم وليس في الفعل.. ينبغي أن يعبر الإعلام بكل وسائله المعرفية والتعليمية والأدبية والفنية والترفيهية عن الاستراتيجية الثقافية، وأن يعبر عن التنوع الثقافي في البلاد بصورة متوازنة، وأن يكون هيكل الإعلام نفسه متوازنا بين المركزية واللامركزية.
  • الثقافة والعلاقات الإقليمية: إن بين السودان وكافة جيرانه امتدادات ثقافية بحيث يقع السودان واسطة العقد في حوض النيل طولا، وفي حزام السافنا عرضا. وتحقيق السودان للأمن الثقافي والسلام الثقافي بداخله يمثل أقوى سفارة للتعايش والتعاون الثقافي في أفريقيا، وفي التواصل العربي الأفريقي.

الميثاق الثقافي

انطلاقا من هذه الرؤى، أورد النقاط الآتية أساسا لميثاق ثقافي يدرس على نطاق واسع ليتبناه الرأي العام السوداني وقنوات الإرادة الفاعلة فيه، وليصبح بعد ذلك من مكونات المولد الثلاثي الجديد:

أولا: السودان وطن متعدد الأديان والثقافات والإثنيات. المجموعات الوطنية السودانية الدينية، والثقافية، والإثنية، تعترف ببعضها بعضا وتمارس هويتها الثقافية بحرية على أن تلتزم بأمرين: الأول: عدم المساس بحق المواطنة حقا يتساوى فيه الجميع. الثاني: التعايش مع حقوق الآخرين وعدم السعي لتحقيق امتيازات على حسابها.

  • n ثانيا:. برامج البلاد التنموية، والتعليمية والإعلامية، تأخذ في حسبانها التنوع الثقافي السوداني، وتسعى للتعبير المتوازن عنه، وتسعى لتمكين الثقافات السودانية من التطور، ولإشراك كافة الجماعات الإثنية والثقافية والجهوية والدينية وحماية حقوقها ومصالحها، والاهتمام بها في السياسات التعليمية والإعلامية والتنموية واللغوية وفي السياسات العامة مثل تمليك الأراضي.
  • n ثالثا: السياسة الثقافية في البلاد تتخذ طابعا يوفق بين أهدافها المركزية واللامركزية ويدعم التفاف المواطنين حول المواطنة. ويتم القيام بحملات تعبوية لنشر الوعي الجماهيري بالمواطنة. والتأكد من تمتع الجميع بالحقوق الأساسية المكتوبة على أرض الواقع.
  • n رابعا: الثقافات على تعددها وتنوعها ينبغي أن تتفاعل مع غيرها لتزيد ثراء وإبداعا. الاعتراف بالهوية الثقافية والاهتمام بها لا يعني منع التلاقح ولا رفض الوافد. هنالك قيم إنسانية عظيمة : الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمعرفة، والنهج العلمي، وكافة القيم المشتركة بين الحضارات. وهناك قيم خلقية عالمية مثل الحكمة، والعفة، والصدق، والإيثار. القيم المذكورة والقيم الخلقية ينبغي أن تسعى الثقافات السودانية باختيارها لاقتباسها وغرسها تربويا في الأجيال.
  • n خامسا: حقوق الإنسان ينبغي أن تهضمها الثقافات الوطنية وتجعلها جزءا لا يتجزأ من وسائلها للتعبير الثقافي. إن ثقافتنا الوطنية تعاني من كعب أخيل مشترك –مع اختلاف في الدرجة- هو انتقاصها لحقوق المرأة.. ينبغي الاعتراف بهذا العيب النوعي وغرس المساواة الإنسانية في كافة الثقافات.
  • n سادسا: تشجيع التسامح الديني الذي يقوم على الحسنى ويرفض الإكراه، وإجراء حوارات بين الأديان لتحديد المعاني المشتركة بين الأديان الإبراهيمية. كذلك تحديد القيم الأفريقية التي تؤسس علاقات خلقية بين الغيب والإنسان، بين البشر والطبيعة، بين العقلاني والفطري، وبين الأجيال الحاضرة والماضية.. لتدخل في تيار اليقظة الروحية والخلقية في السودان.
  • n سابعا: اللغة العربية هي لغة التفاهم الأولى بين أهل السودان. وهي اللغة الأفريقية الوطنية الأولى. اللغة العربية هي لغة السودان الوطنية. اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية الأولى، اللغة الإنجليزية هي لغة السودان العالمية الأولى. اللغات واللهجات السودانية لغات محلية يعترف بدورها في أقاليمها وتشجع المجموعات الوطنية السودانية على الإلمام المتبادل باللغات السودانية.
  • n ثامنا: تعكس سياسة البلاد الخارجية التنوع والتعدد الثقافي في السودان، وتسعى نحو التعاون الثقافي بين شعوب حوض النيل، وحزام السافانا، والشعوب العربية والأفريقية والإسلامية، والدولية على نطاق أوسع، وتشجيع الإلمام المتبادل باللغات السائدة في تلك البلدان.
  • n تاسعا: صك قوانين لمحاربة الاستعلاء الثقافي والعنصري والديني والنوعي –باستحداث عقوبات شديدة على الجرائم التي يحركها الاستعلاء الثقافي أو العنصري أو الديني أو النوعي.
  • n عاشرا: تمثيل كل المجموعات الثقافية والدينية والاثنية في الأجهزة المناط بها تنفيذ السياسات –لا سيما الشرطة التي تباشر حماية الجماعات المهمشة على أرض الواقع. واستخدام وسائل لضمان مشاركة الجميع مثل المسح الإثني والديني للتأكد من مشاركة أصحاب الثقافات والإثنيات والديانات المختلفة في الوظائف العامة.
  • n حادي عشر: استيعاب مقاصد العولمة الحميدة وبناء الدفاع الثقافي ضد العولمة الخبيثة وبرمجة التعامل الثقافي مع العولمة.
  • n ثاني عشر: رفض حتمية العداء بين الأديان على الصعيد العالمي، ورفض حتمية صدام الحضارات الذي تؤدي إليه نزعة الهيمنة في الثقافة الوافدة، ونزعة الإنكفاء في الثقافات الوطنية مما يقود حتما إلى ظلامية عالمية. والالتزام بحوار الأديان، وحوار الحضارات.. لإقامة علاقات مستنيرة تحقق الإخاء الإنساني وتليق بمستقبل الإنسان أعز وأكرم الكائنات..

القسم الثاني: قضية الدين والفن.

الجمال من مقاصد الكون لأنه موجود بكثرة بحيث لا تفسره الصدفة. ومتحرر من الوظيفة بحيث لا تفسره الضرورة.إنه مقصود لذاته.

والقرآن كتاب يمتاز على غيره من الكتب المقدسة بأنه نص فني آسر: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[2]

وكان كثير من المشركين يقعون في أسر التعبير الفني القرآني حتى لا يملكون التصرف، فقد حكى ابن اسحق أن ثلاثة من عتاة المشركين كانوا يذهبون ليلاً خلسة ليستمعوا للنبي وهو يقرأ القرآن وهم أبو سفيان، وأبو جهل، والأخنس بن شريعة.

القرآن استخدم كل فنون البلاغة، والموسيقى والتصوير الفني.

عندما تتألف الأصوات بالطريقة التي درسها علماء الموسيقى فإنها تحدث آثاراً عميقة في نفس الإنسان بل الحيوان أيضا. فالأدب يذكر لنا أن أحد الحداة ساق ناقته حادياً حتى سقطت ميتة‍‍‍. وروى أن الفارابي دخل على سيف الدولة ووجد مجلسه يتحدث عن الموسيقى. فأخذ آلته وركبها بطريقة معينة فعزف عليها فأضحكهم، وغير النغم فأبكاهم، وغيره فناموا!.

موسيقى القرآن غنة، وإدغام، وإظهار، وقلب، وهمس الحروف، وتضخيمها، وترقيقها، إن التجويد هو نوع من التلحين.

ثم لا يكتفي القرآن بوصف الأشياء بل يصورها تصويرا فنيا آسرا يحبس انتباه السامع مثلما حبس المعشوق عاشقه:

وقف الهوى لي حيث أنـت           فليس لي متقـــدم عنه ولا متــــأخر

يبحر الأستاذ جمال البنا في كتابه نحو فقه جديد في هذه المعاني موضحا أساليب القرآن الجمالية.(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)[3]

روت السيدة عائشة[4]: “كان عيد يلعب السودان بالدرق والحراب في المسجد فقال النبي: تشتيهن تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده يسترني بثوبه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون. فزجرهم عمر، فقال النبي: أمناً بني أرفدة، دونكم بني أرفدة. حتى إذا مللت قال حسبك؟ قلت نعم. قال فاذهبي”.[5] وروى السائب بن زيد أن امرأة جاءت  للنبي (ص) فقال: “يا عائشة أتعرفين هذه؟ قلت لا يا نبي الله. قال: قينة بني فلان تحبين تغنيك؟ فغنتني.”[6]

أحاديث تحريم الغناء والسماع مجروحة جرّحها في القديم بن حزم[7] وفي العصر الحديث د. محمد عمارة في كتابه الإسلام والفنون الجميلة.

كذلك الصور والتماثيل فإنها محرمة إذا وجدت شبهة وثنية أما إذا كانت للجمال وللزينة أو لأية منفعة حياتية ولتنمية المشاعر الإنسانية فلا حرمة. كذلك جاء في الكتاب: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)[8] والشعر قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم ” إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا”[9] وقال: “إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قيبح”[10] وقال لحسان: “قل وروح القدس معك”.[11]

وعندما نزلت الآية: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ)[12] جاءه الشعراء المسلمون عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت،وقالوا: هلكنا يا رسول الله. فنزلت الآية (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون)[13]َ.

الإسلام دين الفطرة والفطرة الإنسانية متعلقة بعشرة مطالب: روحية، مادية، خلقية، معرفية، جمالية، اجتماعية، عاطفية، بيئوية، ترفيهية، رياضية.

والإسلام يلبي هذه المطالب بصورة موزونة ولكن العقلية المنكفئة أقامت باجتهادها تناقضاً بين الإسلام وبين بعض هذه المطالب فعارضت بذلك مقاصد الشريعة، وأجبرت كثيرين لاستنتاج أن الإسلام عقبة في سبيل الحياة العصرية هذا ما قاله ابن القيم الجوزية[14]: ”       وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب. فرطت طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد. وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولعمر الله أنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع من تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر” [15]

القسم  الثالث: نحو مشروع قومي  تشكيلي:

الفنون التشكيلية هي الفنون  الجميلة المرئية: تلوين،  تصوير، رسم، نحت، عمارة،  خزف، تصميم داخلي، نسيج وأزياء، تصميم صناعي، خط  عربي، طباعة، تصميم أماكن،  تخطيط مدن وتزيينها. ومؤخرا تمدد التشكيل بإمكانيات التصميم على الكمبيوتر واخترق آفاقا جديدة.  وعلى الصعيد  الشعبي الفنون التشكيلية هي الحرف ذات الوظيفة العملية والفنون الشعبية. وتدخل فيها أواني الفخار وأعمال السعف وأدوات الزينة  والأدوات المنزلية، والتلوين بالأصباغ والوشم ونقش الحناء وتزيين  البيوت والعمارة التقليدية والنسيج والأزياء الشعبية، وأعمال الخرز وغيرها.

تاريخيا يمتلك السودان ثروة تشكيلية هائلة ابتداء من التاريخ القديم السابق للحضارة الفرعونية، إلى كوش وكرمة ونبتة، و مروي التي بدأت فيها الحضارة النوبية تستقل عن الحضارة المصرية الفرعونية بلغتها المروية وإلهها الأسد أبادماك –بدلا عن إله المصريين الحمل آمون- ثم العصر المسيحي، ثم  الممالك الإسلامية (الفونج  والفور وتقلي والمسبعات والكنوز والممالك القبلية)، ثم التركية، والمهدية.. هذا هو التراث التاريخي السوداني.

الحركة التشكيلية الحديثة نشأت كما يقول الأستاذ أحمد  الطيب زين العابدين –رحمه الله- في أحضان التعليم النظامي. إن في السودان الآن أربعة حركات تشكيلية هي:

الأولى: التراثية المستمدة من ثقافات السودان المختلفة.

الثانية: الحركة الموجودة في الحواضر وإنتاجها من المرئيات.

الثالثة: الحركة الحديثة المنبثقة من مدرسة التصميم التابعة لكلية غردون وقد أنشئت في 1946م، وما تبعها من تطورات حتى صارت كلية الفنون الجميلة عام 1951م.

الرابعة: التشكيليون الذين استخدموا تقنيات حديثة في التصوير معتمدين على مواهبهم، أمثال علي عثمان وجحا وحسن محمد عثمان البطل وعيون كديس.

الحركة التشكيلية والتحكم الأيديولوجي

نظام مايو ثم نظام الإنقاذ اتخذا نهجا أيديولوجيا وتطلعا لإعادة صياغة الإنسان السوداني:

  • في المرحلة الأولى من العهد المايوي اتبع أيديولوجية ماركسية حاول أن يخضع لها كل الحياة السودانية العامة وفرض على التعليم بكل شعبه رؤاه.
  • ثم انقلب النظام على نهجه الأول واتخذ نهجا براجماتيا، وفي الفترة التي تلت التوقيع على اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972م سمح النظام بفرصة للتنوع الثقافي في الظهور، ما أدى لانتعاش في الحركة التشكيلية عامة مع قيود على المخالفين سياسيا، ثم  اتخذ نهجا إسلامويا قهريا شنت في ظله حملات شعواء على الفنون بأنواعها.
  • أما نظام الإنقاذ فقد كان الأكثر منهجية في محاولة إخضاع الفنون لخطابه  الأيديولوجي. واتخذ أطروحات حول “الدين والفن” مستمدة من مصدرين:
    • قراءة مستصحبة لاجتهادات فقهية تحرم التصوير ترى أن الشريعة تمنع الفن، وأن السياسة الواردة للتعامل مع الفن هي استخدامه في الحرب الجهادية المعلنة، ثم الدعوة لفن إسلامي ملتزم يتخلص من القيم  الجاهلية الموجودة في الفن السوداني. وذلك مصداقا للآية الكريمة } إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [16]{.
    • قراءة فلسفية تقوم على أن الفن ليس نشاطا عقليا موضوعيا بل نشاط مرتبط باللذة الحسية وبالشهوة مثله مثل السلطة والمال والجنس. هذه القراءة التي بشر بها بعض منظري النظام تجد مكمنها في بعض الفلسفات القديمة العربية والغربية على حد سواء. ويعد كانط –وهو من أعظم الفلاسفة الألمان ومن أهم الفلاسفة الذين بلوروا مفهوم الاستيطيقا Aesthetics- مثالا للتخلص من تلك الفكرة في الفلسفة الغربية. فقد درس كانط في كتاباته مواقف الفلاسفة  الحسيين والعقليين وأولئك الذين كانوا يميلون للتصوف، وبدأ بالميل نحو الحسيين، في المشكلات الاستيطيقية، ثم صار عدوا للحسيين والعقليين ووصل إلى أن الجميل “يمتع دون غاية، ليرد على الحسيين، وبأنه يمتع  دون مفهومات، ليرد على الفكريين[17] أو العقليين. وقد كان ذلك التحول بداية الحديث عن قوة ثالثة (ليست عقلية ولا حسية) هي مصدر التأمل والشعور . أما في الفلسفة  الجمالية العربية، فقد كانت نزعة العرب منذ اللحظة الأولى حسية في تذوق الجمال. يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: “كان العربي يدرك الجمال بحسه القريب، وحاول القرآن أن يلفته إلى جمال أرقى يتمثل أمامه في الكون العريض” ولكنه يرى أن تأثر المسلمين بهذا الموقف الجمالي القرآني كان محدودا، وأن أغلب الفلاسفة والفقهاء المسلمين وقعوا في هذه النظرة الحسية للفن[18].

وفقا لهاتين الفكرتين، فقد تم التعامل مع الجمال والفن باعتبارهما مؤديان للغواية والانصراف عن الله. فإما أن نخوض فيهما أو نتجاوزهما ونستغلهما لمصلحة توجهنا الديني.

  • ومنذ 1997م غير نظام الإنقاذ خطابه الأيديولوجي المتشدد وأظهر نوعا من الانفتاح، بدأت فيه  الحركات الصحفية والتشكيلية والسياسية تتخذ لنفسها حيوية أكبر وتسعى لفك القيود التي لا زالت تكبلها، إذ أن موقف النظام لا زال يتذبذب بين المناورة والحوار.

هنالك نظرتان ثقافيتان:

  • نظرة أصولية علمانية تسقط الانتماء الديني والثقافي وتتعامل مع الإنسان كأنه محكوم بالزمان والمكان.
  • ونظرة أصولية دينية تقف عند حد الانتماء الديني وحسب.

هاتان النظرتان تنطلقان من فهم مبتسر للحالة الإنسانية والحالة الاجتماعية، وهما تغذيان بعضهما بعضا. لقد كان التمدد الشيوعي في القطاعات الحديثة السودانية في أواخر الأربعينيات في السودان أحد أهم أسباب تكوين الحركة الإخوانية الحديثة.

النظرة الشيوعية ركزت على التحديث وأسقطت التأصيل، والنظرة الإخوانية ركزت على التأصيل وأسقطت التحديث، وفي  الحالين كان لهما خطاب ثقافي أيديولوجي كان له صداه الواضح في  التأثير على الفنون التشكيلية.

المدارس التشكيلية السودانية

أهمها ثلاث مدارس هي:

  • مدرسة الخرطوم: ظهرت هذه المدرسة في رسومات الصلحي في أواخر الخمسينيات. وهي مدرسة تنطلق من مفردات الخلوة من الخط العربي والشرافة بإضافة رموز نوبية وإفريقية. هذه المدرسة لم تصدر إعلانا عن  تكونها أو بيانا يصف توجهاتها. ومع قوة حركة النقد التشكيلي السودانية فقد نالت هذه المدرسة نصيبها من تبيان  الجماليات ومصادر الاستلهام، كما تعرضت  لنقد بعض التشكيليين أمثال الأستاذ حسن موسى بأنها اكتشفت المفردات التراثية بعيون غربية. ولا شك أن رواد هذه المدرسة كالصلحي وشبرين وغيرهما قد أنتجوا فنا جميلا مهما طعن الآخرون في أصالته. ويهتم أصحاب هذه المدرسة بالجذور المتعددة (إفريقية عربية) للإنسان السوداني، وهي تشبه محاولات مدرسة الغابة والصحراء الأدبية في الستينيات. صحيح أن القراءة الثقافية المنصفة يجب أن تعطي انتباها لجانب التعدد الثقافي السوداني حين إشارتها للثقافة المركزية – ثقافة الانصهار العربي الإفريقي- فلا تعتبرها ثقافة جامعة مانعة لكل أهل السودان. ولكن هاتين المدرستين الفنيتين –الخرطوم والغابة والصحراء- كانتا محطتان هامتان في تطور الوعي بالثقافة الوطنية السودانية. تلتهما مراجعات عديدة أثمرت ما يشبه الإجماع الآن بين المثقفين السودانيين –بل والساسة- في الاعتراف بواقع التعدد الديني والإثني والثقافي السوداني.
  • المدرسة البلورية أو الكريستالية التي نشطت في السبعينيات من القرن العشرين، ودعا لها محمد حامد شداد وكمالا إبراهيم إسحق وغيرهما. وعلاوة على أعمالها الفنية التي عرضت في المعارض –مثلا مشاركتها في معرض الفنان والأفكار عام 1980- فقد أثمرت البلورية فكرا غزيرا ودعت دعوات فنية أثارت لغطا كبيرا بين التشكيليين. دعت البلورية للنظر للكون باعتباره مشروع بلورة شفافة، ولأسلوب توفير الجهد في العمل الفني. ولفظت كل دعاوى استلهام التراث: “إن  دعوى التراث تقود بالضرورة إلى أحضان العرقية”، وتعددت  دعواتها الفنية حول التجريب والألوان وغير ذلك. وقد تلقت الكريستالية نقدا لأعمالها ولأفكارها على السواء. وقد شكلت مرحلة هامة في التشكيل السوداني لإثارتها التساؤلات ونقض المسلمات وعلى حد  تعبير إحدى ناشطاتها – نائلة الطيب- “إننا نسبح ضد التيار”. ولكن أفكار وأعمال الكريستالية اليوم غير موجودة على الساحة.
  • مدرسة الواحد: التي وقعت بيانها عام 1988م وانتمى إليها أحمد عبد العال وإبراهيم العوام وغيرهما. وهي تتطلع لصهر الثقافات السودانية المتعددة، وتوحدها حول التوحيد وكلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. تنطلق هذه المدرسة من قراءة صحيحة أن الفن نابع عن ثقافة وفكر، وأن نقل الجمالية الغربية كما هي نهج استلابي –يوازيه على المستوى السياسي النهج الكمالي. وبالطبع فإن تجميع السودانيين حول التوحيد ممكن حسب قراءة “قوتة” فيلسوف وشاعر ألمانيا الشهير حيث قال”: إذا كان الإسلام يعني الامتثال لإرادة الله فكلنا مسلمون، البشر يسلمون طوعا والطبيعة تسلم كرها.. هذا الفهم يعني أن الربوبية لله ـ وهو فهم متعلق بطبيعة الأشياءـ الربوبية لله مفهوم انطولوجي. هذا الفهم ممكن سحبه على أهل الأديان  الإفريقية، فقد وصلت الدراسات حولها أنها كلها قائمة على التسليم بإله واحد هو خالق الكون، وتختلف في درجة اعتبارها لكائنات أخرى وسيطة ولكن بعضها –مثلا دين النوير-   فيه توحيد مطلق. إن جمع السودانيين حول التوحيد بهذا المفهوم ممكن. أما بأطروحة أن يحمل الجميع عقيدة التوحيد  الإسلامية بالذات فإنها أطروحة أحادية تنفي وجود العقائد  الأخرى في السودان. ولعل ذلك ما جعل البعض يظن هذه  الأطروحة “إنقاذية” بالرغم من أنها نشأت قبلها.

المدارس التشكيلية السودانية تعيد إنتاج أزمة الثقافة السودانية بين التأصيل المنكفئ والتحديث المستلب.

إن الحل على مستوى الثقافة كلها هو في نهج التأصيل الصحوي الذي يستصحب التعددية الثقافية، والانفتاح نحو العصر الحديث أو التحديث المؤصل الذي يتطلع للعولمة ويستصحب الخصوصيات الثقافية. وفي إطار هذه الرؤية العامة تتاح الحرية ويمكن الإبداع من العطاء دون وصاية.

مشاكل وقضايا التشكيل:

  • التشكيل التراثي يعاني من الإهمال من حيث معداته وإمكانياته ورواده تماما مثلما يعاني القطاع التقليدي في كل مجالات الحياة في السودان. إنه يواصل أداءه كأننا في عهد سلطنة الفور أو السلطنة الزرقاء.
  • التشكيل الحديث يعاني من الاستلاب وجوهه تماما مثلما هو الحال في كل مجالات التعليم الحديث. فكلية الفنون الجميلة تعنى ببحوث عن المدارس الفنية الغربية والعربية ولكنها ليست معنية بالمدارس الفنية السودانية. والمدارس الفنية السودانية الحديثة مهتمة بالاستلاب الغربي أو بردة الفعل الأصولية.
  • وعدد خريجي كلية الفنون الجميلة ارتفع ليبلغ أكثر من مائة في العام دون اتساع وسائل استيعابهم في التنمية في المجالات المناسبة.
  • ولا يوجد تصور قومي كيف يمكن للفن التشكيلي أن يقوم بدوره في التنمية وفي حياة البلاد.
  • وفي هذا الصدد والبلاد تتطلع لمرحلة جديدة في حياتها، يتوقع من التشكيليين عطاءات في جوانب معينة، من ذلك عمل مسابقات لتصميم بعض الرموز الهامة للبناء الوطني. إننا في كياننا قبيل الاستقلال فكرنا في علم تتحد حوله رمزيته البلاد فكان هذا العلم ذي الألوان الثلاثة ممثلة لأقاليم البلاد والهلال رمزا إسلاميا والحربة رمزا مقدسا للقبائل النيلية في الجنوب. علم السودان الذي رفع في الاستقلال ألقاه نظام مايو وجاء بعلم لا نشعر نحوه بعاطفة. أرجو أن نفكر في علم جديد نرضى رمزيته ويأسر عاطفتنا. وكذلك أرجو أن نفكر  جماعيا في رمز للبلاد نرضاه.

أرسلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر وفدا يستمع لمواطنين سودانيين عن رأيهم في أداء الصليب الأحمر. كنت من بين الذين أدلوا لهم بآراء حول الموضوع وقلت لهم أن الهلال الأحمر والصليب الأحمر رمزان حصريان، وحبذا لو فكرنا في رمز مقبول لكل الثقافات والأديان، فطلبوا مني اقتراح رمز وبدوري أشرككم في هذا  الأمر.

  • والتشكيليون أنفسهم كسائر القطاعات الحديثة يعانون من خلافات حادة وتصورات متأثرة بالاستلاب أو بالانكفاء في وقت تحتاجهم الثقافة الوطنية لدور يواكب التراضي الثقافي المطلوب لتجاوز الاستقطاب والرضا بالآخر الوطني والدولي.
  • إن البلاد على مشارف مولد جديد للفن التشكيلي دور هام فيه ضمن المشروع الثقافي القومي، لذلك ينبغي الدعوة لملتقى للتشكيليين مهامه:
    • تنوير المجتمع بأنفسهم وبدورهم.
    • الاتفاق على مشروع قومي تشكيلي يواكب الميثاق الثقافي القومي.
    • اقتراح آلية قومية لتنفيذ المشروع القومي.
    • تحديد مطالبهم المشروعة لتلبيتها في إطار برنامج بناء الوطن.

ربما وجد بعض الناس هذه التطلعات بعيدة المنال، ولكن، قال التيجاني يوسف بشير- رحمه الله:

فتخير وصف وصور رؤى الوحي             وصغ واصنع الوجود المغاير[19]

 

 

هوامش

[1]  عنوان الكتاب بالإنجليزية هو: Second Birth of Sudan in the cradle of sustainable Human Rights وقد ترجم الكتاب ونشر بالعربية، أنظر: الصادق المهدي السودان وحقوق الإنسان دار الأمين-  القاهرة- 1999م ترجمة عبد  الرحمن الغالي

[2]  سورة الزمر الآية 23

[3]  سورة الملك  الآية 3-4

[4]   عائشة بنت أبي بكر (ت 58هـ): هي عائشة بنت أبي بكر الصديق التيمية القرشية. أمها أم رومان بنت عمرو ابن عامر, من بني مالك, من كنانة. تزوجها الرسول وبنى بها بعد قدومه إلى المدينة في شهر شوال من السنة الأولى للهجرة وكناها بأم عبد الله وهو اسم ابن أختها عبد الله بن الزبير كانت أحب نساء النبي e إليه وأكثرهن رواية عنه..

[5]  رواه البخاري.

[6]  رواه النسائي.

[7]  ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت 456هـ): هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم فارسي الأصل، ولد في قرطبة، وكان مواليا للأمويين، ثم اعتزل السياسة، شهد انحلال الخلافة الأندلسية وهاجم مجتمعها. كان ظاهري المذهب، درس الفلسفة والمنطق والحساب، ثار على التقليد واعتبره حراما، كان يأخذ بالعقل، اتهمه فقهاء عصره بالإلحاد والزندقة، فأحرقت كتبه وحرمت قراءتها، ومن أهم كتبه: الفصل في الملل والأهواء والنحل، جوامع السيرة، المحلى في الفقه، الإحكام في أصول الأحكام.

[8]  سورة سبأ الآية 13

[9]  رواه البخاري.

[10]  رواه البيهقي.

[11]  رواه البخاري.

[12]  سورة الشعراء الآية 224.

[13]  سورة الشعراء الآية 227.

[14]  ابن قيم الجوزية (10 صفر691- 23 رجب 571هـ) الإمام ابن قيم الجوزية    هو الفقيه، المفتي، شيخ الإسلام الثاني أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، زُّرعي،  ثم الدِّمشقي، الشهير بـابن قيم الجوزية. له عشرات المؤلفات أشهرها:  زاد المعاد في هدي خير العباد-  والطرق الحكمية في السياسة الشرعية-.

[15]  د. محمد سعيد العوا، الفقه الإسلامي في طريق التجديد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1998م، بيروت.ص 216.

[16]  سورة الكهف الآية 7

[17]  دكتور عز الدين إسماعيل الأسس الجمالية في النقد العربي ص 46-47

[18]  نفسه ص 113 وما بعدها

[19]  التجاني يوسف بشير، ديوان إشراقة، دار الثقافة، بيروت، الطبعة السابعة، 1980م ص 112.

 

 

مراجع:

 

  • جابر عصفور (تقديم) التنوع البشري الخلاق تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 1996م
  • جمال البنا نحو فقه جديد
  • الصادق المهدي تحديات التسعينيات
  • الصادق المهدي السودان وحقوق الإنسان
  • صلاح حسن أحمد أدبيات التشكيل في السودان كتاب لم ينشر بعد.
  • عز الدين إسماعيل (دكتور) الأسس الجمالية في النقد العربي دار الفكر العربي- القاهرة 1992م
  • محمد سعيد العوا، (دكتور) الفقه الإسلامي في طريق التجديد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1998م، بيروت.
  • محمد عمارة الإسلام والفنون الجميلة – دار الشروق- القاهرة – 1991م- الطبعة الأولى
  • مجلة الخرطوم- العدد 15- 1995م
  • مجلة الثقافة السودانية
  • مجلة كتابات سودانية
  • أحمد عبد لعال، الفنان والأفكار
  • بيان مدرسة الواحد.

 

مراجع أجنبية:

  • Idowu, E. Bolaji, African Religion: A Definition , Maryknoll. Orbis Books, 1975.
  • Prichard, Evans Nuer Religion
  • The challenge to the South: the report of the South Commission
    Oxford, England; New York: Oxford University Press, 1990