مستقبل العالم العربي بين التطرف والاعتدال

بسم الله الرحمن الرحيم

منتدى الوسطية  العالمي

حزب الوسط الأردني

ندوة: مستقبل العالم العربي بين التطرف والاعتدال

الإمام الصادق المهدي

5 يناير 2014م

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الرئيس

أخواني وأخواتي، ابنائي وبناتي

السلام عليكم ورحمة الله

نظم منتدى الوسطية العالمي هذا اللقاء للتحدث إليكم وأنتم تمثلون صفوة المجتمع هنا لكي نتحدث في الهم المشترك حول المستقبل، لأننا الآن كلنا نقف في حافة هوة إذا لم نستطع الخروج منها فسنقع فيها.

هذه المنطقة منطقة مهمة جداً، ليس ادعاءً ولكن حقيقة معنوية ومادية.

هناك أربعة اسباب تجعل هذه المنطقة محط اهتمام العالم وتدخل العالم أكثر من أية منطقة أخرى:

أولاً: لأنها مهد حضارات الإنسان وليس في ذلك شك.

ثانياً: لأنها مهد الأديان الإبراهيمية.

ثالثاً: لموضوع الطاقة، وما فيها من موارد الطاقة فعلياً ومن مخزونها.

رابعاً: لأن فيها اسرائيل أداة التدخل الأساسية الآن في شئون هذه المنطقة.

فإذن المنطقة لها خصوصية تبز وتفوق بها كل مناطق العالم الأخرى حتى أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قال: “the most valuable real state in the World” أي أقيم وأثمن عقار أو رقعة أرض في العالم، ومع كل هذا وما فيها من قيمة، هنالك خوف مما فيها من مخزون معنوي بيرنارد لويس دائماً يقول: “هذه المنطقة بها تطلع لأن تسيطر على العالم” مع كل ما فيها من ضعف الآن، أي كأنما:

إنّـي بِـما أَنـا باكٍ مِنهُ مَحسودُ

ولذلك الآن موجودة مكتبة كاملة بات ييور، وباتريك بوكانان، وتوني بلانكي، وكلهم يكتبون الآن على أن هذه المنطقة خطرة تمدداً، فبات ييور تتكلم عن “يوريبيا” وأن المنطقة المجاورة للمنطقة العربية ستتحول إلى يوريبيا أي أن أروبا ستصبح امتداداً للعالم العربي. ولا شك أن هذه من الأسباب الكبيرة التي تقف الآن أمام ضم تركيا للاتحاد الأوربي، باعتبار أن ضم تركيا سوف يرجح الكفة لصالح الوجود الإسلامي الذي يخافون منه خوفاً شديداً.

المنطقة لهذه الخطورة فُرضت عليها وسائل احتواء مثلما ما قالت السيدة كوندليزا رايس: (60) سنة ونحن حريصون على استقرار هذه المنطقة وأن هذا الاستقرار يقوم على قدرتنا على المحافظة على استمرارها. وقد فعلوا ذلك عن طريق نظم استطاعت أن تحقق الاستقرار بالنسبة لهم وفي نظرهم. ولا شك أنه نشأ تحالف بين النظام شرق الأوسطي  بما فيه من وسائل الضغط والضبط، وهذا العامل الخارجي للمحافظة على هذا الاستقرار المرضي، وهو في الحقيقة استقرار مرضي مؤسس على مرضين موروثين: الركود والاستبداد. أما الركود فيحوم حول العبارة:

الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا     وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ

كذلك فكرة الاستبداد التي قال عنها ابن حجر العسقلاني: “أجمع الفقهاء عَلَى وجوب طاعة السلطان المُتغلِّب والجهاد معه“. الإطار الأساسي للشرعية هو هذا التغلب، لذلك المنطقة احتوت على تناقض كبير بين الشعوب وتطلعاتها والحكام، ولا شك أن هذا التناقض ظهر بصورة أو أخرى في المنطقة كلها تقريباً.

نحن في نادي مدريد. وهو نادٍ يمثل 90 رئيس دولة سابق ورئيس وزارة سابق منتخبين قمنا بعملية بعثة لزيارة البلدان العربية واجتمعنا مع أحزاب حاكمة ومعارضة، وفي يناير 2008م في منتجع البحر الميت، وبعد اجتماع  ممثلين لـ 19 دولة عربية أصدرنا إعلان البحر الميت بأن المنطقة تعاني احتقان حاد جداً، وما لم يتفق الطرفان (الحكام والمعارضون) على برنامج إصلاحي يحقق تطلعات الشعوب فسوف تنفجر المنطقة. ولكن في حقيقة الأمر كانت وسائل الضغط والضبط الموجودة في المنطقة محكمة للغاية. محكمة لأن هناك وسائل (كونترول) سيطرة خبيثة أفرزها النظام الفاشستي والنظام الستاليني، بحيث أن هذا النظام استطاع أن يتقن تكنولوجيا القمع: الحزب الواحد، والأيدولوجية الواحدة، والإعلام المضلل، والأمن الذي لا يراعي إلاً ولا ذمة، والاقتصاد المخترق لصالح القوة الحاكمة؛ هذه الوسيلة استطاعت بكفاءة عالية أن تخترق وتضعف كل مظان التحرك المضاد بصورة كبيرة جداً كأحزاب سياسية أو  نقابات أو منظمات مجتمع مدني. الذين استطاعوا أن يجدوا ثغرة في هذا الحائط المحكم هم الشباب الذين استطاعوا بوسائل غير تقليدية أن يتحركوا كما في تونس وثم في مصر ثم في بقية المنطقة على أساس أنهم  كانوا خارج رادارات أجهزة الأمن، واستطاعوا أن يتحركوا بهذه الصورة التي أدت إلى ظاهرة الربيع في تونس أولاً ثم في مصر، ولكن بعد  تونس وبعد مصر استعدت القوة المتحكمة في المنطقة وواجهت التحركات، ما أدى إلى المقاومة المشاهدة الآن في عدد من البلدان. أي أن المرحلة الأولى اتسمت بالمفاجأة ولكن المراحل الثانية صارت مراحل فيها استعداد ومواجهة للحيلولة دون التحرك وكان ما كان. صحيح بعض الناس الآن يتحدثون كأن الربيع صقيع، ويتحدثون كأن هذه الظاهرة مفتعلة كما يقول بعضهم أو مؤامرة إلى آخر هذه المعاني. الحقيقة هذه الظاهرة ظاهرة طبيعية وحقيقية، وكما قلت نحن  قمنا بالنداء في عام 2008م بأن هناك تطلع للتغيير.

والحقيقة أن العالم شهد أربع موجات ديمقراطية وصارت المنطقة مرشحة لتكون هي محل الموجة الخامسة لأنها متأخرة بمقياس الديمقراطية بالمقارنة بالعالم، ولذلك هذه هي الموجة الخامسة من تحرر الشعوب وليس في ذلك شك. ولذلك حتى إذا تعثرت أو انتكست فالشعوب الآن صارت متطلعة للتغيير لتحقيق أهداف محددة للغاية: العدالة، والحرية، والمعيشة، والكرامة. وهذه صارت حقيقة أهداف مرغوبة ومطلوبة على طول المنطقة، حتى عندما لا تتحرك قوة اجتماعية حتى الآن، فهي موجودة كامنة في تطلعات الشعوب.

وفي هذا الصدد لا شك أن المشاكل التي واجهتها  القوة الجديدة مشاكل مهمة وموضوعية، وهي تنطلق من أن القوة التي أتى بها للسلطة الصندوق لم تكن مستعدة ولم تكن مبرمجة موقفها هذا، ولذلك القوة الأكثر تنظيماً والتي استطاعت في فترة الركود والقمع أن تجد لنفسها وسائل تعبير عبر الأنشطة الاجتماعية والدينية استطاعت أن تحصل على المركز الأول الانتخابي، ولكن هذا المركز الانتخابي الأول إذا ظن أنه جواز مرور للولاية السياسية الكاملة فهو ظن خاطئ، لأن التركيبة الموجودة فيها خندقة ليس فقط في الدولة العميقة: مؤسسات الدولة والمجتمع بكل ممارساته: المجتمع الإعلامي، والمجتمع الفني، والمجتمع الأدبي؛ وهنالك واقع لا يمكن تخطيه اقتصادي واجتماعي ومؤسسي، ولذك الولاية السياسية واجهت هذه الحقيقة.

في تقديرنا في تونس استطاعوا أن يتعاملوا مع هذه الظاهرة بعقلانية وبمرونة وباحتواء للواقع، ولذلك صارت التجربة التونسية نسبياً هي الأنجح. في مصر في تقديرنا كان هناك انتصار كبير وولاية كبيرة كذلك، ولكن القيادة السياسية في مصر لم تتخذ نفس النهج التونسي وإنما يبدو أنها استصحبت التجربة السودانية، باعتبار أن التجربة السودانية قامت على أننا ينبغي من منطلق السلطة أن نؤسس للاستمرار عبر التمكين، وهذا أدى إلى ردة فعل قوية جداً كانت السبب فيما حدث في مصر.  السبب فيما حدث في مصر هو أن النظام بدلاً أن يتخذ الخط التونسي وقبله الخط التركي لأن تركيا كانت تشهد قبل الربيع العربي تطوراً واضحاً في ولايات إسلامية عبر الانتخابات، ولكن كانت القوات المسلحة باستمرار تقوم بحل الحزب الإسلامي وبعد حله يأتي الحزب الإسلامي بصورة جديدة وهكذا أربع مرات، المهم استطاعوا عبر هذه المرونة في النهاية وعبر النجاح في تحقيق التنمية الاقتصادية وكذلك في تحقيق التصالح مع دول الجوار، يعني عبر النجاح في مواجهة مشاكل الدنيا بصورة كبيرة استطاع هذا الحزب أن يقيم لنفسه دوراً ناجحاً. تونس اتخذت نهجاً مرناً مماثلاً  أدى إلى نجاح نسبي لأنهم قبلوا المرونة وقبلوا التخلي عن المغالبة لخطة المشاركة، واعتقد أن هذه كانت لفتة عبقرية ووسيلة مرنة للتعامل.

ابن القيم مع أنه ينسب إلى التفكير الظاهري لديه أفكار عظيمة ومستنيرة جداً قال إن الفقيه عليه أن يدرك الواجب اجتهاداً وليس تقليداً ويحيط بالواقع إحاطة ويزاوج بينهما. وهذه طبعاً أصل النهج الإسلامي. ولو أخذنا نحن كمسلمين تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حيث موازين القوة معينة: (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ)[1] وما جاءت المرحلة التي بها مواجهة إلا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ)[2] مرحلة ثانية، وهكذا. لو أخذنا تجربة الصدر الأول لوجدنا اختلافات بين عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر الصديق (رض) وهكذا بقية الخلفاء، في كل منه مراعاة للواقع. إذن الواقع مهم جداً ولا يمكن القفز فوق هذه المراحل.

المشكلة المهمة أن الواقع فيه الآن تيارات قوية جداً فكرياً وواقعياً، وتقف وراء هذا الواقع قوى اجتماعية، هذه القوى الاجتماعية وهذا الواقع المستقطب مهم.

عندنا حوالي سبعة تقاطعات في المنطقة، أهميتها في أنها لا يمكن لأحدها أن يلغي الآخر:

  • هناك التوجه الإسلامي الذي ينطلق من مرجعية إسلامية ويتطلع لإقامة نظام ينطلق من أن الإسلام دين ودولة، واتجاه آخر ينطلق من أن الدين لله والوطن للجميع، هذا تقاطع.
  • وهناك تقاطع آخر سني/ شيعي للأسف هذا التقاطع فيه توجهات تكفر بعضها الآخر.
  • وتقاطع أخواني/ سلفي.
  • وفي داخل السلفي تقاطع سلفي نظري/ وسلفي عملي وحركي.
  • وهناك أيضاً التيارات التي تقودها الآن ذهنية وتكتيكات القاعدة والتي بفضل الحماقة الأمريكية انتشرت، فالولايات المتحدة منذ 2001م والحرب التي أعلنتها ضد القاعدة وطريقة إدارة هذه الحرب أدت الآن إلى انتشار القاعدة في أغلب القارات الآن: في آسيا في أفغانستان وباكستان والعراق وفي سوريا، وفي أفريقيا في نيجريا وفي الصومال وفي مالي .. الخ. القاعدة الآن تنظيم صحيح غير موحد لأنه قائم على لا مركزية ولكنه منتشر. ذهنية القاعدة استحلال سفك دماء الآخر وتكفير الآخر وعدم التمييز ما بين محارب وغير محارب فالجميع عرضة لهذا القتل.
  • التقاطع الآخر وهومهم جداً وموجود هو التقاطع القومي. صحيح إن في هذه المنطقة تطلع لوحدة عربية ولكن هناك شعوب غير عربية ولا بد من معادلة للتوفيق ما بين التطلع الوحدوي العربي والوجود القومي غير العربي.
  • ثم هنالك مشكلة حقيقة حتى إذا أمكن احتواء هذه التقاطعات فهذه المشكلة كفيلة بأن تؤدي لخرق أساسي في السلام الاجتماعي، وهي القضية الاجتماعية. المنطقة مثلما تعاني من أكبر درجة من غياب المشاركة كما كان، تعاني كذلك أكبر درجة من عدم التوازن الاجتماعي والظلم الاجتماعي، لذلك توجد قنبلة هائلة قابلة للتفجير في أي وقت تقوم على الفقر والبطالة، وهذه المسألة الآن أيضاً مهمة للغاية.

هذه التقاطعات كلها قابلة للمعالجة عبر تصور تستطيع النخبة الفكرية والسياسية أن تتطرق له بما يمكن احتواء التعارض والتناقض الإسلامي العلماني، خصوصاً وأن التفكير الإسلامي استطاع ليس عبر التجربة التونسية وحدها، ولكن عبر تجارب كثيرة أن يطور الموقف، فهم يتحدثون عن الدولة المدنية، وطوروا التسمية نفسها إلى عدالة وتنمية بدل تسمية أخرى دينية، ويتحدثون عن الدولة القطرية وليس الخلافة، ويتحدثون عن معانٍ جديدة تمثل مراجعة للموقف الإسلامي يمكن أن تخاطب الموقف العلماني إذا هو كذلك تحرك، لأن الموقف العلماني إلى حدٍ كبير هو أكثر جموداً، وينطلق من مفاهيم مراد وهبة وغيره من الذين يرون ألا دور للإسلام أو للدين في الحياة العامة، وينطلقون من مفهوم أن الدين مسألة خاصة، بينما حتى مشايخ  الفكر العلماني راجعوا أنفسهم من هذه المسألة: بيتر بيرقر الذي قال “كنا نظن أن العلاقة هي ما بين الديمقراطية و العلمانية، ولكن وجدنا حقيقة أن أسوأ التعديات على الديمقراطية جاءت من العلمانية: هتلر، وستالين، وموسوليني..إلخ”. وكذلك عندنا في المنطقة. وقال بيرقر: العلاقة ليست بين الديمقراطية والعلمانية ولكن بين الديمقراطية والتعددية، قبول التعددية هو الشرط للديمقراطية. كذلك شارلس تايلور وكلامه عن ضرورة مراعاة أن المجتمع الحديث مجتمع متنوع ويحتاج إذن لقاعدة تجمع ما بين المتدين وغير المتدين في إدارة الحياة العامة.

إذن هنالك حاجة لتسوية هذا التناقض حتى لا يحدث ما يحدث الآن في مصر، وهو المفاصلة بالصورة التي لا يمكن أن تؤدي إلا لتدمير نفسها، لا يمكن أن تؤدي لضربة قاضية لأن هناك تجذران.

نفس الشي متعلق بالمعادلة السنية الشيعية، مهما فعلنا لا يستطيع طرف من الطرفين أن يلغي الآخر.

إذن صرنا محتاجين في كل هذه المسألة لمعادلة ميثاقية تجمع بين الاضداد في مستوى أعلى من الوفاق، هذا ليس فقط ممكن بل ضروري. لأنه إذا تركت المسألة الآن مع الحرية التي صارت للشعوب والطموح الشعبي الموجود، هذا سيؤدي إلى أن تنفذ المنطقة كل آمال وأشواق ورغبات الأعداء بحذافيرها. الأعداء منذ مدة أوضحوا تماماً أن المنطقة يجب أن تتفكك. قال الرئيس السابق لإسرائيل: “إنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الخطر على الحضارة الإٍنسانية الأصولية الاسلامية”، وقال آفي ديختر Avi Dichter الوزير الاسرائيلي السابق: “أن المنطقة تقوم على علاقات غير موضوعية ولذا لا بد أن تتفكك مذهبياً وطائفياً وإثنياً وجهوياً… الخ”،  والترشيح أن هذه المواجهات يمكن أن تؤدي إلى هذه النتيجة وهي تفكك المنطقة.

وفي تقديري أن الخطر قائم على المنطقة ما لم تستطع النخبة السياسية والفكرية أن تتجاوز هذه التناقضات وهو تجاوز ممكن بميثاق حاكم للتحرك، يواجه المسألة الفكرية والمسألة السياسية في الحكم والمسألة الاقتصادية .. الخ، وما لم يحدث ذلك سننتهي إلى نتيجة أسوأ من النكبات التي واجهناها: نكبة الأندلس، ونكبة فلسطين، ونكبة سايكس بيكو، بل سوف نعمل بأنفسنا سايس بيكو ذاتية:

لَا يبلُغَ الأَعْـدَاءُ مِـنْ جَاهِـلٍ    مَا يَبْلُـغُ الْجَاهِـلُ مِـنْ نَفْسِـه

فنحن إذن أمام تحدٍ حقيقي.

المنطقة واعدة، ولديها إمكانات هائلة معنوية ومادية، واستعداد لأن تقوم بدورها التاريخي.

الآن القوى الأساسية المتحكمة أو ذات الوزن في المنطقة هي: إيران، تركيا، وإسرائيل، الغياب من الكيان العربي. هذا الكيان يمكن له أن يملأ هذه المكانة وزيادة، ولكن هذا يتطلب اجتهاداً أساسياً، ليس فقط في المسألة السياسية والمسألة الفكرية، كذلك في المسالة الاقتصادية.

عندما انتهت الحرب الأطلسية قررت الولايات المتحدة أنه إذا لم تضخ أموالاً أساسية في أوربا الغربية سوف تنهار أوربا الغربية. ولذلك عن طريق مشروع مارشال ضخوا أموالاً هائلة، نفس الشيء عمله الاتحاد الأوربي مع دول المعسكر الشرقي السابق، وكذلك ألمانيا الغربية مع ألمانيا الشرقية. ضخوا تريليونات.

هذه المنطقة والتحديات الموجودة الفكرية والسياسية وغيرها موجودة ولكن التحدي الذي يتعلق بالمعيشة محتاج لضخ أموال أيضا بالتريليونات. المنطقة فيها هذه الأموال، ولكن توزيع الإمكانات الآن غير منطقي مع هذا. المنطقة محتاجة لمواجهة الفقر ومواجهة العطالة عبر صندوق سيادي يعمل في المنطقة ما عملت الولايات المتحدة في أوربا الغربية بحجم أكبر أيضاً، وهذا ممكن والقدرات متاحة ولكن الإرادة السياسية غائبة، فإذا استطعنا أن نحقق الإرادة السياسية لمعالجة المشاكل الفكرية بشيء من الاجتهاد والمراجعات للمواقف الاستقطابية، ومسألة الحكم بتحقيق الديمقراطية، ومسألة الاقتصاد بتحقيق التنمية، وكذلك العلاقات الخارجية؛ استطاعت المنطقة بناء المستقبل الأفضل.

هذه المنطقة ما لم تتحرك للقيام بمصالحها وأهدافها لأهميتها ستفرض عليها إرادة خارجية وستصبح حقيقة منطقة لاحتلال جديد لأن المنطقة لأهميتها لن تترك وشأنها.

في النهاية المعادلة السياسية إذا لم تحقق الديمقراطية بالتوازن المطلوب فالذي سيحدث حتماً احتلال داخلي ومحاولة إحياء الاستبداد لأن الفوضى ستدعو لهذا الموقف، مثلما حدث بالنسبة للنصيحة التي قدمت لمعاوية ابن أبي سفيان من قبل المغيرة بن شعبة وتقول: إن الفتنة لا سبيل لوقفها إلا إذا بايعنا ليزيد، والبيعة ليزيد كان المبرر لها حقيقة منع الفتنة. وهذا نفس الذي جعل الفقهاء يقولون بطاعة المتغلب بصرف النظر عن الشورى ومبادئ الإسلام السياسية.

إذن نحن أمام هذا التحدي، واعتقد أن القوى الواعية في المنطقة إذا ادركت هذه الخطورة وهذه الخيارات المتاحة يمكن أن تتحرك لتجنب هذا المصير الحالك، مثلما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “”يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ،  يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ”[3].  لابد من دور للعدول الذين ينقذون المنطقة من الغلو بطرفيه لأنه إذا لم يحدث هذا فالغلو بطرفيه سيجر المنطقة للمواجهات التي في النهاية سوف تؤدي للأسف إما لاحتلال داخلي (أي حكم الاستبداد) أو لاحتلال خارجي المباشر أو غير المباشر.

وأعتقد أن الوعي الموجود حالياً والاستعداد الموجود حالياً يمكن أن يتحرك لتجنب هذه المخاطر، وتستطيع هذه الأمة أن تحتل مكانتها اللائقة بها معنوياً ومادياً وتاريخياً.

وشكراً.

 

 

 

 

ملحوظة: ألقيت الكلمة شفاهة وقام المكتب الخاص للحبيب الإمام الصادق المهدي بتفريغها من تسجيل الكاسيت.

[1] سورة النساء الآية (77)

[2] سورة الحج الآية (39)

[3] رواه البيهقي