مستقبل العلاقة بين القاهرة والخرطوم

مستقبل العلاقة بين القاهرة والخرطوم - إصدار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية 1 ابريل 2018

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

 

الإمام-الصادق-المهدي-مستقبل-العلاقة-بين-القاهرة-والخرطوم-مركز-الأهرام-1-ابريل-2018

 

 

 

مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

إصدارات المركز – الملف المصري

العدد رقم 44 بتاريخ 1 أبريل 2018

 

مستقبل العلاقات المصرية السودانية

 

مستقبل العلاقة بين القاهرة والخرطوم

الإمام الصادق المهدي

زعيم حزب الأمة ورئيس الوزراء الأسبق

 

تنطلق العلاقات المصرية-السودانية من منطلقات خمس تؤسس لمصيرية العلاقة بين دولتي وادي النيل هي (عوامل جغرافية-عوامل تاريخية-عوامل ثقافية-عوامل اقتصادية-عوامل تمازجية)، ويمكن تناول تلك المنطلقات، على النحو التالي:

أولاً: العوامل الجغرافية:

يعتبر العامل الجغرافي واحدًا من أهم العوامل المشتركة والذي يجعل من العلاقة بين البلدين مصر والسودان حتمية، ويمكن إجمال أهم العوامل الجغرافية في أربعة عوامل: الجوار دون حواجز طبيعية، والنيل النهر المشترك، والحوض النوبي للمياه الجوفية المشترك، والانتماء الجامع للقارة الأفريقية.

ثانيًا: من الناحية التاريخية:

فإن حضارة وادي النيل ذات الطابع الأهرامي المعلوم قد نشأت في شمال السودان كما دلت حفريات كرمة، ثم انتقلت شمالاً حيث يعتبر العهد الفرعوني حكم إقليماً مصريًا وسودانياً، وعبد الناس آلهة مشتركة، واتخذوا الكتابة الهيروغليفية، وأثناءه حكم فراعنة مصريون المنطقة وكذلك حكم فراعنة سودانيون مثل بعنخي وتهراقا ما وصف بالأسرة «25».

هذه المنطقة تعرضت لغزاة، وتعاقب على احتلال مصر آشوريون، وفرس، ورومان، وغزاة استعصى عليهم احتلال الإقليم السوداني، بل نشأت في الإقليم السوداني حضارة كوشية اتخذت عاصمة في نبتة ثم جنوبًا في مروي، حضارة تميزت بلغة فريدة، وديانة فريدة واستمرت أكثر من ألف عام، من 240 ق.م إلى 1400 م، فترة دخلت بعدها الديانة المسيحية للسودان، وسبقت المسيحية الدخول إلى مصر ثم تمددت جنوبًا للسودان وشرقًا لأثيوبيا. كانت تلك المسيحية على المذهب الأرثوذكسي، وكانت رئاستها في مدينة الإسكندرية.

وفي القرن السابع الميلادي تعرضت مصر للفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص، وكان في السودان ثلاث ممالك مسيحية: نوباطيا، والمقرة، وعلوة. وفي مرحلة ما توحدت دولتا نوباطيا والمقرة في مملكة مسيحية واحدة قاومت الفتح الإسلامي وانتهت الحرب إلى تعايش سلمي بموجب معاهدة البقط.

واستمرت الممالك المسيحية السودانية حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وهي فترة تمدد أثناءها الإسلام في السودان الذي احتضن ممالك إسلامية هي: الفونج، والفور، والمسبعات، وتقلي، والكنوز. وبعد صراع طويل احتلت السلطنة العثمانية مصر، حتى استقل محمد علي باشا الوالي بحكم مصر تحت ولاية عثمانية اسمية. وكانت تقود الحكم في نظام الخديوية هذا طبقة غير مصرية مما خلق توترًا وطنيًا عبرت عنه الثورة العرابية المعبرة عن الوطنية المصرية، وهي ثورة أجهضها الاحتلال البريطاني لمصر في 1882 م.

وفي عام 1821 م غزا محمد علي باشا مملكة الفونج السودانية بأهداف إمبريالية، وكانت مقاومة هذا الغزو ضعيفة لأن سلطنة الفونج كانت تعاني التمزق، ومع ذلك واجه الغزاة مقاومة قبلية مما جعل مهيرة البطلة السودانية أيقونة وطنية. وعامل إسماعيل باشا قائد الغزو الملك نمر بإهانة وفرض عليه إتاوة باهظة مما جعل الملك يدبر إشعال النار في الباشا ابن محمد علي. وهذا التصرف عرض البلاد لحملة الدفتردار صهر محمد علي باشا الذي قاد حملة انتقامية.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونتيجة للتدافع الأوروبي نحو الموارد والأسواق، احتدم التنافس الأوروبي للسيطرة على أفريقيا. وقرر البريطانيون الذين تنافسوا مع الفرنسيين على احتلال مصر احتلال السودان، وللتفوق على منافسيهم لاسيما الفرنسيين صوروا غزوهم للسودان على أنه لإعادته لملك الخديوية. وبنفس الحجة سخروا لغزوهم إمكانات مصرية وسموا احتلال السودان حكمً ثنائيًا.

وقد أعطى البريطانيون احتلالهم للسودان صورة ثنائية قننوها باتفاقية 1899 م، وهي اتفاقية وقعها بطرس غالي مع بريطانيا. ودفع حياته ثمنًا لهذا التوقيع على يد شاب مصري. كان واضحًا للوطنيين المصريين أن بريطانيا المحتلة لمصر قننت احتلالها للسودان. وفي ظل هذا الحكم للسودان نشأ تياران:

التيار الأول: تيار وحدوي ينادي بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري، ويتماهى مع الحركة الوطنية المصرية ضد الإمبريالية البريطانية وشعارها «وحدة وادي النيل» وجلاء القوات البريطانية من مصر.

التيار الثاني: يرفض السيادة الثنائية وينادي بالسودان للسودانيين.

وفي فبراير 1922 م استقلت مصر اسميًا عن بريطانيا، وإن كانت اتفاقية جلاء البريطانيين لم تعقد إلا في 1954 م، وفي الأثناء دخلت الحكومتان البريطانية والمصرية في تفاوض حول مصير السيادة على السودان. الطبقة الحاكمة المصرية جعلت هدفها تحقيق السيادة على السودان. وفي عام 1946 م أبرم صدقي باشا مع بيفن البريطاني بروتوكول صدقي/ بيفن ولدى عودته من الخارج أعلن صدقي باشا أنه «لقد جئتكم بالسيادة على السودان».

هذا النهج أجج عداء الحركة الاستقلالية للحكومة المصرية وعبر المؤسسات التشريعية السودانية بدا أن البريطانيين يؤيدون مصيرًا مستقلً للسودان. ومع قيام الثورة المصرية في عام 1952 م تغير هذا المشهد السياسي، لأن القيادة المصرية الجديدة أكدت للحركة الاستقلالية السودانية تأييدها لتقرير المصير للسودان.

وتوالت التطورات وأبرمت الاتفاقية المصرية-البريطانية بشأن السودان مما أدى لجلاء القوات الأجنبية، وإجراء انتخابات عامة حرة في السودان في نوفمبر 1953 م. وهي انتخابات فاز فيها الحزب الوطني الاتحادي المنادي بوحدة وادي النيل بأغلبية النواب، وبدا وكأن مصير السودان للوحدة.

ولكن كانت الحكومة السودانية بقيادة الرئيس إسماعيل الأزهري منتخبة، وكانت الحكومة المصرية أوتوقراطية، وفي الموقف من الرئيس محمد نجيب، أغلق الباب أمام أي تطور ديمقراطي. وصارت الحكومة السودانية ترفض تدخلات القيادة المصرية. هذا العامل ضمن عوامل أخرى جعل الرئيس إسماعيل الأزهري وزملاءه يحولون موقفهم نحو الاستقلال، مما أدى لاتفاق القوى السياسية السودانية على إعلانه من داخل البرلمان في ديسمبر 1955 م.

هذا السرد التاريخي مهم لبيان التداخل بين البلدين، والروابط التاريخية، والرواسب التاريخية المهمة في قراءة الحاضر والمستقبل.

ثالثًا: الروابط الثقافية:

تقوم على أن أغلبية شعبي وادي النيل مسلمة، وكذلك ناطقة باللغة العربية. وحظي التعليم في السودان بدعم مصري كبير في المجالات المختلفة لا سيما في التعليم الجامعي: بعثات جامعية، ومقاعد جامعة القاهرة فرع الخرطوم، ودور الأزهر الشريف في التعليم الديني. ومع أن المذهب الديني الشائع في مصر هو الشافعي، وفي السودان هو المالكي -هذا على الصعيد الشعبي لأن الموروث منذ العهد العثماني هو المذهب الحنفي- على الصعيد الرسمي، ومع أن القراءة للقرآن السائدة في مصر
هي قراءة حفص وفي السودان هي قراءة الدوري، فقد صار للثقافة الدينية في مصر دور قيادي في السودان. كما أن عددًا من الطرق الصوفية في السودان وفدت من مصر وإن كان ما وفد من المغرب والحجاز من طرق صوفية أكبر.

وفي مجال الثقافة السياسية فإن كثيرًا من الحركات السياسية السودانية مدينة لأصول مصرية؛ فالحزب الوطني الاتحادي تكون في القاهرة، والحركتان الشيوعية والإخوانية المصرية كان لهما أثر كبير في السودان.

رابعًا: من الناحية الاقتصاية:

توجد أسواق في السودان للمنتجات الصناعية المصرية، وفي مصر أسواق للمنتجات الزراعية السودانية لا سيما اللحوم، ولكن العلاقات الاقتصادية والتجارية الآن أقل
بكثير مما توجبه الظروف الموضوعية.

خامسًا: عامل تمازجي:

وهو مهم يمثله وجود قبائل مشتركة في البلدين: الكنوز، والجعافرة، والحجازية، والمسيرية، والرزيقات، وبني هلبة، والبشاريين، والهواوير، والنوبة، وغيرهم، كما توجد أسر كثيرة ذات أصول مشتركة.

سادسًا: مستقبل العلاقات بين مصر والسودان:

العلاقة بين البلدين ينبغي مستقبلً أن تراعي تصورًا مشتركًا للعلاقة مع دولة الجنوب خاصة وتراعي سياسة مشتركة نحو حوض النيل. كذلك الحاجة ماسة لعلاقة
خاصة بليبيا وتشاد، وهنالك حاجة كذلك لعلاقة تنموية بين ضفتي البحر الأحمر أي الخليج والقرن الأفريقي.

إن علاقة السودان بأفريقيا جنوب الصحراء تعاني من تهميش، وهو تهميش أكثر في علاقة مصر بأفريقيا جنوب الصحراء، كما شكى من ذلك المرحوم بطرس بطرس غالي. إن مستقبل العلاقة بين السودان ومصر لا يمكن أن تتقوقع في الإطار الثنائي، بل ينبغي أن تكون لها أبعاد إقليمية ودولية تتطلبها الضرورات التنموية والأمنية.

ومهما كانت الحاجة للعلاقة الاستراتيجية بين البلدين ملحة وضرورية، فإن اختلاف نظم الحكم في البلدين يمنع تطور العلاقات مستقبلً في الاتجاهات المنشودة. والدليل على ذلك مايلي:

  • كانت حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري ديمقراطية ومنتخبة وكان الحكم في مصر أوتوقراطيًا، كان هذا من أسباب تحول الأزهري ورفاقه نحو الاستقلال.
  • كنت في ثمانينيات القرن العشرين على رأس حكومة ديمقراطية وصارت الخرطوم قبلة القوى المدنية العربية ولجأ إليها المجلس العربي لحقوق الإنسان الذي لم يجد قطرًا عربيًا يستقبله، ولجأت إليها مؤتمرات الأطباء، والمهندسين، والشباب وكانوا جميعًا يشيدون بمناخ الحريات في السودان. هذه الحقيقة أثارت حفيظة كثير من النظم العربية والأفريقية لذلك رحب الرئيس المصري حسني مبارك بالانقلاب على الديمقراطية دون معرفة هوية هذا الانقلاب، المهم أنه خلصهم من الصداع الديمقراطي، رغم أن القادمين إلى السلطة تآمروا على قتله. وقادت الحكومة المصرية يومئذ حملة دبلوماسية وإعلامية لصالح انقلاب يونيو 1989 م ولكن بعض الأقلام المصرية الحرة لم تفقد الميزان هكذا كتب المرحومون: أحمد بهاء الدين، ومصطفى أمين، وخالد محمد خالد وغيرهم من أحرار القلم.

إن الاختلاف حول الديمقراطية لا يسمح بتطور العلاقات بين البلدين على الأسس الاستراتيجية كما ينبغي.

سابعًا: مرجعية النظام الإخوانية:

النظام الحاكم في الخرطوم اليوم ذو مرجعية إخوانية، والفرع السوداني لحركة الإخوان الأممية مشارك في نظام الخرطوم. والنظام السوداني الحالي منخرط في محور فوق الأقطار إخواني، هذا ما أبرزته زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة للسودان. وكنت قد التقيت عضوًا قياديًا في حزب العدالة والتنمية التركي في إسلام آباد قبل أكثر من شهر، وقلت له إن حزبكم قد قام بمراجعات أساسية ولكن الحركة الإخوانية لم تفعل ذلك، لذلك فإن تبني أطروحاتها دون إجراء تلك المراجعات ينطوي على تناقضات، نحن نرحب بزيارة الرئيس أردوغان للسودان على أساس تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين مع تحاشي أن تأخذ طابع المرافعة الإخوانية والمرافعة العثمانية لأن تجربتهما في السودان منفرة، ولكن الزيارة عندما تمت وقعت في المحظورين وما برح الرئيس التركي يلوح بشعار رابعة في زيارته مما عزز فكرة أن النظام السوداني جزء من المحور الذي يقوده الرئيس التركي.

الحركة الإخوانية في مصر منذ 30\6\2013م ثم 3\7\2013م تعتبر أن ما حدث هو انقلاب على الشرعية الديمقراطية وتنادي بالإسقاط والانتقام، وفي المقابل فإن نظام الحكم في مصر صنف الحركة الإخوانية حركة إرهابية. وهذا العامل الإخواني هذا سمم العلاقات بين القاهرة والخرطوم.

القضية ليست مبالغات إعلامية بل تعود لاختلاف حول الإخوانية. اختلاف من شأنه إشعال خلافات أخرى، يؤجج مسألة حلايب، وفي أمر سد النهضة فإن السد من الناحية الموضوعية قد صار أيقونة وطنية أثيوبية. وبالنسبة لنا، فإن مجرى النيل ومصبه فيه منافع ومضار، ودور السودان انحاز لمصر في اتفاقية 1959 م وتجاوز الحديث عن السد للحديث عن علاقة استراتيجية بأثيوبيا. والسودان هو الجار المشترك لمصر وأثيوبيا، وفي الحالين دوره ليس انحياز بل القيام بدور توفيقي، فتجنب الاقتتال وتحقيق الوفاق قدر السودان بل قدر كافة دول حوض النيل، فالوفاق يحقق الوعد والصدام يحقق الوعيد كما رافعنا في كتاب «مياه النيل».

ثامنًا: شروط الانتقال:

مع التباين في الموقف من الإخوانية نهجًا وتحالفًا، فإن مستقبل العلاقات بين القاهرة والخرطوم سوف يكون صداميًا مهما لجأ الطرفان لمسكنات وقتية. وتتمثل شروط الانتقال من خانة النزاع في تخلي النظام السوداني عن الرابطة الإخوانية وتحالفاتها. أو بروز موقف جديد في مصر يقوم على مصالحة مع الإخوان تتجاوب معها الحركة الإخوانية بإجراء مراجعات شبيهة بالتي أجراها حزب العدالة والتنمية في تركيا، أو حركة النهضة في تونس. بل تصفية كل تطلعات الحاكمية والفصل بين العمل السياسي والدعوي وقبول التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة.

ما لم يتحقق أحد هذين الشرطين فإن التطلعات الشعبية سوف تدفع بالحكومتين لتعايش الأضداد الهش، إلى أن تتغير لظروف تجعل التكامل الحقيقي ممكنًا. العزاء الوحيد للذين يأملون في غد أعدل وأفضل هو أن القانون الاجتماعي الوحيد الثابت هو دوام الحال من المحال، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الَْأرْضِ).