منشور الصيام بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المدخل:

الصيام معروف في كل الأديان وهو حلقة وصل قوي بين الحسي والنفسي إذ أن ما فيه من صبر على الشهوات يعلم الشجاعة وما توجب من تضحيات ويعلم العفة وما فيها من قهر الشهوات. وهو وصل بين الحسي والروحي فالتجرد من المطالب المادية والمطالب الغريزية يورث الإنسان شيئا من الصمدية ويؤهله لعالم الرياضات الروحية والصيام يؤكد حقيقة أزلية هي أن الفعل “جَهَد” ثمن مطلوب لكل الإنجازات الساميات كما أن الفعل “رَغِب” نافذة سالكة لكل الهفوات والسقطات.

لقد دخل علينا رمضان شهر التوبة والغفران شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[i].

 إن أحكام الصيام مختلفة بين الأديان وهى في الإسلام نوعان: جانب ظاهري وجانب باطني. فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً والتزم بأحكامه الظاهرية وبأغواره الباطنية فقد فاز بوعد المصطفى صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[ii].

تعاليم الصيام

علينا الالتزام بما جاء في منشور الصيام للإمام المهدي عليه السلام من مطالبات ست للأحباب أن يحفظوا صومهم في الظاهر والباطن فيها وهي:

الأولى  :         غض البصر وكفه عما يذم ويكره.

والثانية :         حفظ اللسان من الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة.

والثالثة :         كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه كسماع الكذب والغيبة.

والرابعة:         كف بقية الجوارح عن الآثام.

والخامسة:       ألا يتكثر من الطعام الحلال عند الإفطار.

والسادسة:        أن يكون قلبه (أو قلبها) عند الإفطار مضطربا بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أقبل صومه حتى يكون من المقربين أم رد حتى يكون من الممقوتين..

إن الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس وحده لا يبلغ الصوم مبلغه المرام، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ )[iii] .

الصيام عبادة وكل عبادة لها غاية واضحة وتكمن فيها حكمة تفوق الغايات الواضحات. فالصوم جنّة أي وقاية من الوقوع في المآثم، وهو وقاية من العلل والأدواء الناشئة من الإفراط في تناول الملذات.

ولذا فإن عدم الإفراط في تناول الطعام عند الإفطار هو أحد الأمور الواجبة لحفظ الصوم. والمؤسف حقا أن كثيرا من الناس يزيدون من استهلاكهم في رمضان حتى أن الإحصاءات والبيانات المجموعة من بلدان المسلمين، تقول إن كثيرا من البلدان الإسلامية تشهد زيادة في مستهلكاتها من طعام وشراب في رمضان حتى قال أحدهم يبدو أننا نصوم أحد عشر شهرا ونفطر شهرا واحدا هو رمضان!!. الصيام كما فرض علينا هو ابتعاد عن الملذات لا غرق فيها، فإن حولناه إلى شهر تخمة وتلذذ بالمآكل والمشارب فاتنا خيره.

قال في ذلك الإمام المهدي: “كيف يستفاد من الصوم كسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند إفطاره ما فاته ضحوة نهاره؟”. إن من أهداف الصوم أن نتدرب على مقاومة الشهوات لكي تكون النتيجة إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع. وهذا يصدقه الحديث: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع. والأثر: ما ملأ ابن آدم وعاءا شرا من بطنه.

والصوم مدرسة للصبر. والصبر سبب لكثير من الفضائل، ولا يبلغ ابن آدم شأنا في الروحانيات بدون أن يصبر على العبادات ومشقتها، ولا شأنا في الدنيا بدون بذل الجهد والصبر على العنت الذي يلاقيه في نيل المرام.

كذلك فإن في الصيام مع التحكم على سلطان البدن ومادته سمو لروح العبد لأن الصوم هو باب العبادة.. والصوم يكسر سلطان العادات، ويغسل الذنوب، ويفتح الباب للنجاة.

ومن فوائد الصوم أيضا شعورنا بحرمان المحرومين وبمعاناتهم من الجوع والعطش، حتى يفهم الموسر بلاء المعسر، ويخف لنجدته ومساعدته إذا لاقاه.

 ولذلك وجب على الجميع في هذا الشهر المبارك الكف عن المنكرات والخبائث جميعا فهي من واجبات الصيام وهي دروس مطلوبة للحياة كلها فالحياة لا قوام لها بلا حسن الخلق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

 وجب التمسك بالسنن الحميدة في التكافل الاجتماعي ما أمكن ذلك. ففي السودان وبعض ديار المسلمين الأخرى يقيم الناس الإفطارات في الطريق لينضم إليهم السابلة المارون وقت الإفطار، ويعملون موائد عامة يقصدها المحتاج الذي لا يجد ما يفطر به.. موائد الإفطار المفتوحة هذه تضامن على نهج الأشعريين الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كان الأشعريون إذا أرملوا وضعوا ما عندهم في إناء وتقاسموه فهم مني وأنا منهم.

وكذلك الإكثار من الصدقات، عن ابْنِ عَبَّاسٍ (رض) قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)[iv]. خاصة في هذا الزمان الذي زادت فيه ضائقة العيش ونسبة المحتاجين من الفقراء والمساكين.

زكاة الفطر

في نهاية شهر الصيام شرعت سنة زكاة الفطر شكراً لله على النعمة، وتكافلا اجتماعيا بين المسلمين، وجبراً لما يعتري الصيام من هفوات فكل بني آدم خطاء وزكاة الفطر كسجدة السهو في الصلاة، فهي كفارة لصاحبها ومؤونة لمستحقها.

وعلى المسلمين تنظيم الزكاة وجمعها وتنظيم صرفها على المصارف الشرعية لها، وبالنسبة للأنصار تقوم هيئة شئون الأنصار بذلك مما يوجب على الأنصار أينما كانوا سواء في العاصمة أو الولايات، إخراج الزكاة وتسليمها للهيئة، لتقوم بتوزيعها للمحتاجين في مصارف الزكاة المعروفة.

بعض عادات الصيام

الصيام يغير رائحة نَـفـَس الإنسان حتما والحديث يقول: (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)[v]. بعض الناس يستند على هذا للإبقاء على رائحة الخلوف ما استطاع لذلك سبيلا.. هذا ليس هو المقصود، فالنظافة من الإيمان والسواك المستمر واجب فإن تغيرت رائحة الفم رغم ذلك كله فهذا من آثار الصوم ولكن تعمد ترك النظافة والسواك استزادة من أجر الصيام كما يفعل البعض يخالف آداب الإسلام. ولذلك وجب أن نكثر من السواك وقد قال (ص): (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ )[vi].

أيضا الصوم امتناع عن الأكل والشرب، ولكن البصق المستمر لكيلا يبلع الإنسان ريقه بحسبان أن ذلك زيادة في التقوى أمر غير صحيح ولا أصل له في الدين، وهو مخالف لآداب الإسلام وللذوق فالمهم ألا يدخل الجوف طعام أو شراب من خارجه.

رخص الإفطار

وكل مريض يعرضه المرض لمشقة زائدة على المشقة العادية مرخص له ألا يصوم على أن يقضي ما فطره في أيام أخر. وهذا يسري أيضا على المرأة الحامل أو المرضع في أشهر تخشى على جنينها أو على نفسها. فإن كان المرض مستمرا كأمراض تلف الأعضاء البدنية فإنه يبيح ترك الصوم مثلما يبيحه تعرض الصائم لمشقة زائدة بسبب الشيخوخة، أو غير ذلك وعلى الذين يؤدون الصيام بشق النفس فدية طعام مسكين.

 

والصوم في رمضان يسقط عن المرأة الحائض والنفساء وذلك للتخفيف عنها على أن تقضي ذلك في أيام أخر. وقد فسر البعض ذلك على أنه نقص في النساء إتباعا لما ساد عند بني إسرائيل حيث كانوا يعتبرون الحيض عقابا للمرأة ويعتبرون الحائض نجسة ومعاقبة. أما الإسلام فقد كرم النساء واعتبر أن الحيض والحمل والنفاس والرضاعة والحضانة هي متاعب تتعرض لها المرأة من أجل الأمومة ولذلك تستحق الأم مكانة رفيعة لما تتحمله من مشقة: (الجنة تحت أقدام الأمهات). وقول النبي للسائل: من أحق الناس ببري يا رسول الله ؟ قال:أمك وكررها ثلاثا ثم قال أبوك. وفي الكتب التي تجمع صحاح الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة عن أمهات المؤمنين تؤكد كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وهو متكئ في حجر الواحدة منهن وهي حائض، وكيف أنهن كن يفرشن له سجادته وهن حيض، ويغسلن له رأسه وهو بالمسجد، ويصلي والواحدة منهن قربه فيصيبها ثوبه وهي حائض. روى مسلم (عن عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُنَاوِلَهُ الْخُمْرَة –المصلاة-َ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ إِنِّي حَائِضٌ فَقَالَ تَنَاوَلِيهَا فَإِنَّ الْحَيْضَةَ لَيْسَتْ فِي يَدِك)[vii]. والإمام المهدي –المقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم – قال لزوجه الحائض وقد امتنعت عن مناولته المصحف ناولينيه فان المؤمن لا ينجس.

قيام رمضان

قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ احْتِسَابًا خَرَجَ مِنَ الذُّنُوبِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )[viii]. فقيام رمضان سنةٌ كما صومه فرضٌ.. لقد كان أنصار الله دوما في كل بقاعهم، محتفين برمضان الاحتفاء الذي يستحقه، يقيمون فيه صلوات القيام الجامعة التي لم يكن يتخلف فيها أحد يرتلون في ركعاتها كل يوم من أيام رمضان جزءا من القرآن حتى يختمونه في آخر الشهر الكريم.. صلوات بكاها شاعرهم متحسرا على زوال الدولة (دوب لي صيامهم وصلاة قيامهم). ولكن ما لبث الإمام عبد الرحمن أن رفع الراية، فعاد الصيام والقيام، مع دعوات القيام المأثورة عن الإمام المهدي ودعوة “جالية الكروب” المأثورة عن الإمام عبد الرحمن المهدي تتردد في مساجد الأنصار في كل بقاع السودان بل وخارج السودان كل عام حتى اليوم..

 

نشر أنصار الله في السودان صلاة القيام بالجزء من القرآن كل ليلة تتخللها دعوات ملهمة سنها الإمام المهدي وهي التي أضافت لصلاة القيام باقات روحية ندية بالابتهالات وآسرة بالضراعات.

إن في إحسان العبادات فوزا للذوات وتنجية لها من مساقط الهوى والرذيلة، وفي صلاة القيام وصفوفها المتراصة عبادة للرحمن، ورص للبنيان، ومقابلة يومية للحبان في رحاب بيوت الله، فعلينا أن نحرص عليها..

ولقد فهمنا الأمور الست الواجب حفظ الصوم ظاهرا وباطنا بها، وعلمنا فوائد الصوم وأحكامه، وفرائضه وسننه وآدابه، فعلينا التزامها والالتزام بالصلوات في أوقاتها، والإكثار من تلاوة القرآن ومن التفكر في دلالته والتنور منه بأحسن الأنوار.

ختام:

صيام المسلمين حزمة فضائل تربوية ونفحات روحية ورياضات بدنية وتكافلات اجتماعية تجعل شهر الصيام درة الزمان.

_____________________________________________________

 سورة البقرة الآية 58[i]

 رواه مسلم [ii]

 رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي[iii]

 رواه البخاري و مسلم والنسائي و أحمد[iv]

 متفق عليه[v]

 متفق عليه[vi]

 رواه مسلم[vii]

أحمد والنسائي وابن ماجة رواه [viii]