منشور رسالة الدعوة الأنصارية بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

سماحة دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان وعضو مجلس التنسيق الرئاسي لقوى نداء السودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد للحكماء والرؤساء السابقين المنتخبين ديمقراطياً والمفكر السياسي والإسلامي

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كثير من الكيانات الدينية في بلادنا عندما واجهها امتحان الصمود في وجه الطغاة داهنتهم وكذلك كثير من الكيانات الوطنية. ما الذي عصم رسالة أنصار الله فجعلها صامدة بدعوتها الدينية وأمانتها الوطنية في وجه الطغاة مهما اشتد بطشهم ووعيدهم ومهما ازداد إغراؤهم ووعدهم؟.

الدعوة المهدية غرست في النفوس إيمانا قويا بصدق طويتها الدينية وجدية تمسكها بعقائد وعبادات الإسلام وإخلاص إمامها ومعاونيه بصورة جعلتهم يسترخصون كل تضحية في سبيل الله. وغرست في نفوسهم وطنية صادقة جعلتهم لا يدخرون شيئا في سبيل رفعة السودان.

لذلك استطاعت الدعوة أن تخلق إرثا دينيا ووطنيا يهتدي به ويفاخر به المنتمون إليها.

حققت الدعوة للإسلام في السودان تزكية لتراثه الصوفي وتجاوزا له برفع راية الجهاد وتوحيد البلاد، وتحريرها، وإقامة الدولة الرسالية ذات الطموح ألأممي فيها.

تزامنت الدعوة مع الهجمة الاستعمارية على أفريقيا وعلى العالم الإسلامي وكانت تمثل رأس رمح المقاومة الشعبية الإسلامية لتلك الهجمة.

استطاعت الإمبريالية بقدراتها التكنولوجية الفائقة أن تهدم الدولة ولكنها عجزت عن محو إرثها الديني الوطني.

إرث لم يستطع الاستعماريون أنفسهم بعد تقويض الدولة أن يتجاهلوه وفي نهاية الأمر صار رصيدا للحماسة الدينية في السودان ومصدر إلهام للتطلعات الوطنية فيه.

إرث بقدر رسوخ جذوره في أرض الدين والوطن مستعد بموجب مقولات قائده نفسها للتعامل المرن مع المستجدات إذ قال: “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال“. هذه المقولة مع الإلهام الصائب والتفكير الراشد مكنت الإمام عبد الرحمن أن يبعث الدعوة الدينية في شكل كيان مدني جامع وأن يفجر الطاقات الوطنية الكامنة فيها في حركة استقلال السودان.

أهلت الدعوة سبعة إشراقات جعلتها حية متجددة على مر الزمان:

أولا: الراتب:

راتب الإمام المهدي نبع إلهامي يفيض من ضمير صاحبه متدفقا بروحانية آسرة ومحبة خالصة متشابكة: “فأنقذني ومن صحبني ومن أحبني على حب نبيك صلى الله عليه وسلم لأجلك يا ذو الجلال والإكرام“.

إنه ديوان استغاثة بشرية ملهوفة بحاجتها للطف باريها. الراتب مدخل تخلية للنفس من كل منافع دنيوية لا لإلغاء الدنيا ولكن لإفراغ النفس من الركون إليها ومن ثم تسخيرها لأغراض إيمانية. فالماديات أقوى ما تكون في خدمة الروحانيات. والروحانيات أدنى ما تكون في خدمة الماديات: “ولا تجعل في قلوبنا ركونا لشيء من الدنيا يا أرحم الراحمين“.

الراتب عجين قرآني نبوي تمازجت فيه مختارات الآيات، والدعوات المأثورة عن أنبياء الله وأولياءه الصالحين المعهودة.

وتوارت في الراتب ذاتية صاحبه إلا من اتضاع مع ربه وتحقير لنفسه أمام باريها واتهام لها وابتهال الناسوت للاهوت ابتهالا واتضاعا، هما سر ارتفاع صاحبه في الميزان الروحي والخلقي القاضي بأن الارتفاع في الاتضاع. فارتفع روحيا وفي نفوس أصحابه الذين زودهم الراتب بإكسير روحي حفظهم من فتنة السلطة إذا حكموا فكانوا الأخلص عملاً والأعف يداً، وحفظهم من رهبة القهر إذا أخضعوا للسلطان الغاشم فكانوا الأصبر على البلاء الأكثر إقداما في منازلة الطغاة، والأشجع في ساحات الفداء قال عنهم أعداؤهم: “كانوا أشجع من مشى على الأرض”.

هذا الديوان الروحي لا يمجد شخصا ولا مذهب ولا فرقة ولا يجد كافة أهل الإيقان حرجا في التزود بنبعه الروحي الفياض.

ثانيا: فكريا:

إشراق فكري أعطى عقيدة المهدية معنى وظيفيا أضاف لمدارس المهدية العشر التي انتظمت الفرق الإسلامية وفرقت بينها. ففرق أهل السنة ربطتها بأوقات معينة، وفرق الشيعة ربطتها بأنساب معينة[i]، أما دعوة الإمام المهدي في السودان فربطت عقيدة المهدية بوظيفة معينة قال صاحبها: “فها أنا أوصيكم وإياي بتقوى الله وإتباع سنة رسول الله. واعلموا أن المهدية قائمة بهذين”. الفرق الإسلامية في أمر المهدية متمسكة بعقائدها وأوصافها ولا يرجى اتفاقها على رؤية واحدة بل الأمر في حقيقتها لرب العالمين (فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[ii]. ولكنهم جميعا يمكن أن يعذروا بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، ويدعم بعضهم بعضا فيما يراد من بعث للإسلام وإصلاح للحال به. إصلاح يلائم ظروف الزمان والمكان على أساس أن “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”. لذلك قال عن الدعوة من غير المؤمنين بها “تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصرها” .

ثالثا: تربويا:

 إشراقة تربوية حققت لمريديها تفردا ملفتا. قال لي أحد موظفي هيئة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة معلقا على سلوك أنصار الله في معسكرات الهجرة: أنا كمسيحي لا أجد لهم شبيها إلا حواريي عيسى عليه السلام.

لا يغالط أحد من غير الأنصار في جدية ممارستهم للعبادة والشعائر الإسلامية، ولا في حسن انضباطهم في صف صلاة الجماعة، وفي وحدة تكبيرة الإحرام. وهم الذين كانوا القدوة لصلاة القيام بالجزء من القرآن كل ليلة، وهم القدوة في صلاة العيد الجامعة التي أرادت سنة النبي (ص) أن تجعل منها مظاهرة إيمانية صاخبة وقتلت حماستها بعض ممارسة الخلف فأحيوها بصورة فريدة.

تربية الأنصار غرست فيهم أخلاق الإسلام المعهودة من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم فصارت لهم طبعا لا تطبُعا ودينا لا تديُنا.

رابعا: حول العلاقة بين القيادة والقاعدة:

اتسمت بقوة الامتثال للقيادة مع مرونة العلاقة بين القيادة والقاعدة. ففي مرحلة الدعوة الأولى قامت العلاقة على نور مفاض وفدائية اختيارية. وفي مرحلة الدولة قامت العلاقة على الحزم والعزم والانضباط.

وفي مرحلة الطور الثاني للدعوة في ظل العصر الحديث أبقت المرحلة على التربية الجهادية جهادا مدنيا لا يصير قتاليا إلا دفاعا. وأبقت على الزهد وفسرته بأن تكون الماديات في اليد لتُسخّر لا في القلب فتُعبد.

هذه المرونة في العلاقة بين القيادة والقاعدة مع المحافظة على البوصلة هي التي مكنتنا الآن من تطويرها لتتجاوز المرحلة الأبوية المطلوبة في ظروفها لتقوم الآن على المشاركة واحترام حقوق الإنسان والطاعة المبصرة. هنالك حبل متين رابط بين الأطوار المختلفة ومرونة تسمح للأطوار باستيعاب المستجدات.

خامسا:الانفتاح:

الدعوة قومية بمعنى أنها مفتوحة لكل أهل الإيمان كما نصت الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّه) [iii] لذلك أنكر الإمام المهدي أن يقال أنصار المهدي بل أنصار الله أصحاب المهدي.

صحيح طرأت على كياننا ظروف أورثته خصوصية. ولكنها ظروف طارئة لأن جوهر الدعوة هو الانفتاح على كل المؤمنين ومن هذا المنطلق أصدرنا نداء المهتدين وسعينا سعيا حثيثا للاعتراف بواقع الحركات والفرق والمذاهب والطرق، واعتبار ذلك الواقع جزءا من ماض لا يمكن ولا يراد إلغاءه، ولكن يمكن تجاوز التفرق بالتطلع للمستقبل على أساس القواسم المشتركة.

سادسا:

 إن أهل القبلة اليوم 1.5 مليار نفس ويزيدون باستمرار بفعل التناسل وبفتوحات الإسلام الطوعية. ولكنهم مختلفون فرق، ومذاهب وأقطار ومواقع، وحركات بصورة يستحيل معها تحقيق وحدة كاملة بينهم بالتراضي أو الإكراه، ولكن يمكن السعي لتحقيق أقصى درجات من الوحدة بين أهل القبلة بالحكمة والموعظة الحسنة وكافة وسائل الحسنى.

قال كيسنجر، الأعمق تفكيراً بين وزراء الخارجية الأمريكية، والذي اجتمعت في عهده ولايتي الخارجية والأمن القومي، معلقاً على الحرب العراقية الإيرانية: “هذه حرب ينبغي ألا يكون فيها منتصر”. هذه حالة قال عنها الشاعر العربي مخاطباً أبا تمام ومشيراً لعروبة اليوم:

يَكْفِيـكَ أَنَّ عِدَانَـا أَهْـدَرُوا دَمَـنَـا    وَنَحْـنُ مِـنْ دَمِنَـا نَحْسُـو وَنَحْتَلِـب

واليوم نقول للقادة المجتمعين في الرياض من بلدان سنية إن التضامن الدفاعي واجب، ولكن مع الاستعداد لرد العدوان، فإن المطلوب بإلحاح هو إبرام معاهدة وفاق وتعايش سلمي بين أهل السنة والشيعة، والعمل على إبرام معاهدة أمنية عربية تركية إيرانية، وتأكيداً أن للسلام مع إسرائيل استحقاقاً هو رد الحقوق لأهلها.

وبنفس المنطق نخاطب الرئيس الإيراني المتجددة ولايته أن يدعم كل مجهودات الوفاق السني الشيعي والتعايش السلمي بين دول الجوار.

إن تجار السلاح في العالم يراهنون على اقتتال المسلمين. اقتتال تزوده اختلافات عمرها 14 قرناً لا يمكن حسمها حربياً بل تكرر مأساة حرب 1980- 1989م التي أضرت بطرفيها.

الأديان الإبراهيمية تتطلع لمخلّص يسميه اليهود المسيح، ويسمه المسيحيون العودة الثانية، ويسميه المسلمون عيسى عليه السلام. ومع اختلاف في الروايات فقد جاء في حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه أبو هريرة أنه قال: “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ”[i].

وهناك أحاديث مختلفة تدل على أن عهد عيسى القادم سوف يخلو من الحرب ويعم السلام ويقر صحة الإسلام ويوحد الدين الكتابي وسوف يقتل الدجال.

إن تفاصيل هذه الأمور مختلف عليها ولا يرجى زوال الخلافات طوعا أو كرهاً، وأمرها حقا إلى الله (إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[ii].

ولكن الذي يمكن تأويله هو أن الدجال كائن قوي يبصر بعين واحدة أي يرى بعض الحقيقة.

إن الحضارة الغربية الحديثة حضارة قوية ولكنها تفتقر للروح، والأخلاق، والغاية. ولا يستقيم أمرها إلا إذا توافرت فيها هذه العوامل المطلوبة لتوازن الحياة وتأمين مستقبلها. هذا هو المشروع الذي ينقذ الإنسانية من تدمير نفسها.

التوازن المطلوب للحضارة الحديثة، والتوافق المطلوب للأديان على القواسم الروحية والخلقية المشتركة، تطلعات يمكن أن يسعى إليها كافة أصحاب الملل والنحل. إنه سعي إذا تحقق فإنه يحقق سعادة الإنسان المعنوية والمادية المطابقة لإرادة الله للإنسان: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهاَ)[iii] أي جعلكم عمارها.

نعمل على اتفاق باسم “ميثاق الإيمانيين” للاتفاق على القواسم الإبراهيمية المشتركة. ونعمل على التعامل مع أصحاب الملل الأخرى على أساس (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ)[1] و(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[2]. ونعمل على أساس التعامل مع الحضارات الأخرى بالتزام الكافة بمنظومة حقوق الإنسان العالمية.

سابعا: إمامة الأنصار:

بعض الناس قد يغالط في هذه المعاني سواء كانوا من الأنصار الذين انقطع مددهم من فيض الجماعة أو الذين ناصبوا الدعوة العداء لأسباب معلومة. هؤلاء جميعا نسأل الله أن يهديهم. إن قيادة الأنصار الحالية تستمد شرعيتها العامة من كتاب الله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[i] وتستمد شرعيتها الخاصة من مقولة الإمام المهدي في وصف القيادة: من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المؤمنين. ومن وصية الإمام الصديق: الإمام ينتخبه الأنصار.

إمامة الأنصار الشرعية حددت هذه المعالم لرسالة الأنصارية. والسعيد من ركب السفينة ومن تخلف فقد انقطع: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمََ: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى[ii].

لمن يريد أن ينتسب للأنصارية بمولده حق هذا الانتساب، ولكن للدعوة استحقاقات أهمها:

– الجهاد والاجتهاد.
– والانتماء للجماعة.

_________________________________________________________________

هوامش الفصل الأول

[i] لبيان مدارس المهدية أنظر الفصل الثاني “أيديولوجية المهدية”

[ii] سورة البقرة الآية 113

[iii] سورة الصف الآية 14

[i] أخرجه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وابن حبان

[ii] سورة المائدة الآية 48

[iii] سورة هود الآية 61

[1] سورة البقرة الآية 256

[2] سورة الكافرون الآية 6

[i] سورة الشورى الآية 38

[ii] في كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك رواه ابْنُ الْمُنْكَدِرِ