من برلين جاءت المعادلة: لا سلام بلا عدالة

بسم الله الرحمن الرحيم

من برلين جاءت المعادلة: لا سلام بلا عدالة

16 أكتوبر 2005م

 

كنت في الفترة من السادس وحتى الحادي عشر في الشهر الجاري في برلين، تلبية لدعوة مؤسسة برتسلمان، وهي مؤسسة ألمانية غير حكومية ذات نشاط استثماري واسع خاصة في مجال الإعلام، وذلك للمشاركة في مؤتمر بعنوان «الإدارة السياسية للتحول: دعم القدرة الحكومية».

نظام الأمم المتحدة الحالي بدأ منذ الحرب الأطلسية الثانية بميثاق الأمم المتحدة ثم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، مما أقام نظاما عالميا لبراليا. ثم انقسم العالم إلى معسكرين أيديولوجيين متنافسين في حرب باردة منذ عام 1948م.

وكان من نتائج الحرب الباردة بين المعسكرين اللبرالي والاشتراكي إبرام عهدين دوليين جديدين في عام 1966، هما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي وقف وراءه المعسكر الاشتراكي، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي دعمه المعسكر اللبرالي.

هنالك تباين عالمي بين الجزء الشمالي الغني من العالم والجزء الفقير. بروز هذا التباين أدى للحوار الشمالي الجنوبي الذي تناولته لجنة برانت، برئاسة «ولي برانت» المستشار الألماني السابق، وهي لجنة مكونة من رجال دولة وخبراء من عالمي الشمال والجنوب. أصدرت هذه اللجنة تقريرين في بداية الثمانينات ضما توصيات لتحقيق توازن تنموي في العالم وتنمية العالم الفقير، ولكنهما أهملا من الناحية العملية. بعد نهاية الحرب الباردة في عام 1991م تجدد الاهتمام بقضايا القهر والفقر في عالم الجنوب.

وفي نهاية القرن الماضي أعلنت الأمم المتحدة أهدافا إصلاحية ثمانية باسم أهداف الألفية للتنمية، ولكنها راوحت مكانها حبرا على ورق.

مؤخرا، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر الدامية في عام 2001م، ظهر جليا أن العالم الفقير سوف يصدر مشاكله للعالم الغني ما لم تجد حلا. وهذا ما كنا توقعناه في كتاب «تحديات التسعينات» الصادر عام 1989م، وأشرنا لظاهرة أسلحة الضرار الشامل ومنها العنف العشوائي (الإرهاب) والهجرة غير القانونية وغيرها.

في العشرة أعوام الماضية تعددت مبادرات الدول والمنظمات غير الحكومية لبيان ما يجب عمله لإزالة القهر والفقر، وضمن ذلك تأتي مجهودات مؤسسة برتسلمان.

وإلى ذلك ففي مؤتمرها الأخير اقترحت مقياسا للتنمية البشرية بشقيها السياسي والاقتصادي، باعتبار أن الهدف هو الحكم الديمقراطي الدستوري واقتصاد السوق الحر ذي الحس الاجتماعي.. لقياس التحول نحو هذه الأهداف اقترحوا مقياس برتسلمان للتحول BTI. والفكرة أن يعتمد هذا المقياس لقياس التحول المنشود، ولتصنيف أداء الدول المعنية، ولتوجيه سياسات وبرامج التعاون التنموي العالمي.

استعرض المدعوون للمؤتمر وهم أكاديميون وخبراء وساسة ورجال ونساء دولة وبرلمانيون من قارات العالم هذا المقياس وعلقوا على جدواه. هذا الأمر ينبغي الاهتمام به في إطار عام تشمله الحقيقة السائدة الآن، وهي أن عالم الجنوب سوف يصدر مشاكله لعالم الشمال ما لم تجد حلا ناجعا، ولكن كيف يكون الحل؟ هذا هو التحدي الذي يواجه الدول الفقيرة في المقام الأول، ويواجه الدول الغنية لتحديد ما سوف تفعل لمساعدتها. وينبغي أيضا النظر لهذا الموضوع في إطار خاص بالدول المزمعة التحول، مثل السودان الذي وقع على اتفاقيات للسلام في الجنوب، وينتظر أن يصل لاتفاقيات سلام في دارفور وفي الشرق، وأن يكون ذلك في إطار تحول حقيقي اقتصادي وسياسي واجتماعي.

هنالك تاريخان هامان في أوضاع العالم السياسية.

الأول : 9/11.

والثاني 11/9.

أما 9/11/1989م، فقد كان يوم انهيار حائط برلين، ومن بعده تداعت التطورات إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي وانتهت الحرب الباردة.

المجاهدون الأفغان وجدوا دعما دوليا غربيا ودعما عربيا ماليا، فساهموا مساهمة كبيرة في هزيمة الاتحاد السوفياتي. واكتسب هؤلاء المجاهدون لا سيما العرب الأفغان خبرات كثيرة وقدرات.

في كتاب صدر هذا العام بعنوان «الموت من أجل النصر» بقلم العالم الأمريكي روبرت بيب قال: إن الإرهاب الانتحاري الذي يشهده العالم اليوم ظاهرة عامة مارسها مسلمون وغير مسلمين مثل نمور التاميل في سريلانكا وهم حركة ماركسية لينينية.

لقد ارتكبت ما بين 1980 و2003 خمس عشرة وثلاثمائة (315) عملية انتحارية. الأمر المشترك بينها جميعا هدف استراتيجي محدد هو: إجبار دول ديمقراطية على سحب قواتها من أوطانهم، وحتى العمليات داخل تلك الأوطان فهي مرتبطة برفض سياسات الدول المهيمنة.

هناك فهم يزداد وضوحا هو توتر العلاقات بين دول الشمال الغني والجنوب الذي يعاني من القهر والفقر، وأن الاحتجاج الإسلاموي هو حالة خاصة من هذا التوتر، وأن على العالم الغني اتخاذ سياسات محددة بهدف المساعدة على إزالة القهر والفقر ومن باب أولى الاحتلال.

تتواتر الدلائل على أن تيارات كثيرة مستنيرة في الغرب، ودولا، ومنظمات غير حكومية قرأت الأحوال بوعي وموضوعية وتقدم مبادرات وأنشطة بهدف تحقيق علاقات دولية أعدل والمساعدة على تحقيق التحول في عالم الجنوب من القهر والفقر إلى الحكم الراشد والتنمية.

هنالك مشروعات لإصلاح نظام الأمم المتحدة على ضوء تجاربه عبر الخمسين عاما الماضية، وهو إصلاح مطلوب. المبادرات الكثيرة المتعلقة بتعميم الحكم الراشد والتنمية تفتقر إلى التنسيق والمتابعة.

اقترحنا في مؤتمر برلين الأخير وقبله في منابر عدة ضرورة إقامة «مجلس أمن» مواز يشرف على الأمن بمعناه الاقتصادي الاجتماعي الأوسع. هذا المجلس سوف يحقق التنسيق والمتابعة بل القيادة المطلوبة لدعم التحول نحو الحكم الراشد والتنمية المعتمدة على قوى اجتماعية داخل البلدان المعنية، القوى المستفيدة من المناخ الدولي الجديد الداعم لهذا التحول.

هذا هو الطريق لعالم أعدل وأفضل وأكثر تعاونا وسلاما فإنه لا سلام بلا عدالة.