ندوة: الإسلام والتسامح الديني 28 أبريل 2004م

بسم الله الرحمن الرحيم

وزارة الشئون الاجتماعية والثقافية

مجلس الدعوة- بالتعاون مع مؤسسة أروقة- وثبة نحو الخرطوم 2005م

ندوة مولد الهدى رسول السلام عليه الصلاة والسلام

قاعة مجلس الشهيد

الأربعاء 28 أبريل 2004م

الإسلام والتسامح الديني

بقلم: الإمام الصادق المهدي

مدخل:

التسامح أحد منظومة أخلاق ومعاملات عرفها فضلاء البشر وأكدها الوحي على نحو ما قال النبي (ص) إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.. إنها منظومة العفو، والعرف، والاعتدال، والوسطية، وقبول الآخر.. منظومة ما برحت حقائق الوحي تستوجبها (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[1] وقوله تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين)[2] وقوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[3].

الإسلام فريد بين الأديان الكبرى، جمع بين الدعوة لعقيدة واضحة وتعاليم محددة والاعتراف بقيمة دينية لأديان أخرى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[4]. هذا نهج فريد في قبول الآخر والتسامح في التعامل معه. ولكن واقع المسلمين عرف منذ وقت مبكر ربطا للدين بالتعصب، وبالعنف، وبالاستبداد وبنفي الآخر.. فما هو السبب في أن منظومة التسامح الناصعة في نصوص الوحي لم تمنع وجود ممارسات معطونة في منظومة التعصب وإخوانه؟.

أولا: الإسلام والتسامح.. الأبعاد النظرية

 لم يقبل كل المسلمين اعتبار آيات التسامح محكمة، ومع أنها تبلغ مائة آية في القرآن المكي والمدني، فإن بعض المجتهدين اعتبروها منسوخة بآيات السيف. قال سيد قطب: إن في كتاب الله سورة هي سورة التوبة تضمنت أحكاما نهائية بين الأمة الإسلامية وسائر الأمم في الأرض. الآيات المعنية في سورة التوبة والمسماة آيات السيف ثلاث:

  • آية 5 ونصها: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
  • آية 29 وهي: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)
  • آية 36 ونصها: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
  • إن الآية الخامسة من سورة التوبة قد سبقتها الآية الرابعة ونصها (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).. هذه الآية أعطت الأمان لمن كان على عهد مع المسلمين.
  • وأعقبت الآية الخامسة الآية السادسة ونصها: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).. هاتان الآيتان -الرابعة والسادسة- تؤكدان أن الآية الخامسة إنما تقرر حكما معنيا بفئة معتدية من المشركين.

أما الآية 29 فالمقصود بها فريق معين من أهل الكتاب.. قال الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار في تفسير هذه الآية: “إنها تعني قاتلوا الفريق من أهل الكتاب، عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم أو فتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم كما فعل الروم فكان سببا لغزوة تبوك”. أما الآية 36 فهي بنصها نفسه لا تأمر بهجوم بل توجب أن نقاتل المشركين كافة كما يقاتلوننا كافة. إنها مثل الآية (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)[5].

المرجع في تبرير القتال في سورة التوبة موضح في الآية 13 ونصها: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ومما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه أن في القرآن مائة آية موزعة على 48 سورة مكية ومدنية سبقت وأعقبت سورة التوبة تأمر بالتعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن. مثلا الآية الثامنة من سورة الممتحنة: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

الإسلام هو دين (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[6]).. الدعوة لله في الإسلام بالحسنى أما القتال فهو لرد العدوان دفاعا: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[7].

إننا نلمس الاجتهاد الذي يجعل القتال في الإسلام هجوميا في روايات سيرة النبي (ص). لقد تناول السيرة حوالي ألف كتاب. ألح كثير من تلك الكتب على هجومية القتال في الإسلام ولذلك سموا السيرة المغازي، مع أن الحقيقة هي:

  • أن بيعة العقبة التي ناصر أهل يثرب بموجبها النبي (ص) بيعة دفاعية.
  • إن دور المغازي في نجاح الدعوة كان محدودا. ففي حياة النبي (ص) كان القتال ما بين عامي 3هـ و9 هـ، وكان عدد المقتولين في جميع السرايا والغزوات:

259 شهيدا من المسلمين

759 قتيلا من غير المسلمين

1018 الجملة

  • وكانت الحرب بين الطرفين على حد تعبير أبي سفيان سجالا.
  • حكمة النبي (ص) حققت أهم إنجازات للدعوة الإسلامية بوسائل سلمية:
  • أسس الدولة في المدينة في عام الهجرة دون قتال، وكتب صحيفة المدينة وهي وثيقة تسامح لا تجارى واعتراف بالآخر وكفالة حقوقه.
  • استمال غالبية سكان الجزيرة العربية للدعوة في عامي صلح الحديبية فتحا بالسلم لا بالقتال.
  • فتح مكة دون قتال.

ومع هذه الحقائق التاريخية الواضحة فإن كتّاب المغازي صوروا النبي (ص) نبيا حربيا أشبه ما يكون بملوك التوراة أو العهد القديم.

ثانيا: ظروف نشأة الغلو والتعصب:

الظروف التاريخية التي عاشها المسلمون أطاحت بهذا التسامح والاعتدال وأدت إلى نشأة الغلو والتعصب فيما بين المسلمين وفيما بينهم وبين الأديان الأخرى. أهم تلك الظروف :

  • تفرق الفرق:

كان الخوارج في أول أمرهم جماعة رفضت نتائج التحكيم بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان.. هذا الموقف تحول إلى عقيدة ثيوقراطية: لا حكم إلا لله، ومفاصلة إقصائية تكفّر الآخرين فالإمام علي –في رأيهم- كفر بقبوله التحكيم في أمر ديني مرده لكتاب الله. والتشيّع بدأ تأييدا لحق الإمام علي في خلافة النبي (ص) وحبا لآل بيت النبي (ص) مأمور به في الدفاتر الإسلامية، وتحول فيما بعد إلى مدرسة دينية تعتبر الإمامة نبوة بلا وحي مستمرة من الإمام علي وعلمه اللا دني إلى ابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى حفدته من ذرية الحسين. والإيمان بإمامتهم وطاعة أمرهم فريضة على المسلمين وطاعتهم واجب ديني لأن إمامتهم بأمر من الله وأقوالهم وأفعالهم معصومة.

والتصوف بدأ نهج زهد ورياضات روحية مطلوبة: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) [8]ثم لحقت ببعض مدارسه مفاهيم الحلول ووحدة الوجود.

في دراسته الموضوعية المحيطة للملل والنحل أوضح الشهرستاني تعددها وتعصبها لمواقفها وتكوينها لمناخ نفي الآخر.

  • عصبية أهل الكتاب:

موقف الإسلام الأصلي من اليهود والنصارى إيجابي. النصوص الآتية تؤكد ذلك.

  • قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[9] فالآية الأولى توسع مفهوم الإسلام ليشمل رسالات الأنبياء السابقين.
  • وعلى نهج هذا الفهم الموسع قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)[10]
  • وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[11] في الآية معني لطيف غاب على كثير من المفسرين إذ فسروا الصابئين بعبدة الملائكة أو الكواكب، وهذا خطأ الصائبون هم الذين اهتدوا للتوحيد بالفطرة لا بواسطة رسالة. وهذا أمر وارد لقوله تعالى(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[12]. يورد ابن منظور في “لسان العرب” تفاسير مختلفة للصابئين، منها أنهم “قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام” كما يورد أنه “كان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي (ص) قد صبأ، عنوا أنه خرج من دين إلى دين”.
  • قال تعالى(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).[13]

ولكن هذه المواقف المعترفة بالقيمة الدينية لأهل الكتاب، علاوة على القيمة الإنسانية لكل البشر الموجودة في الآية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[14] واجهتها مواقف متزمتة دفعتها نحو التعصب:

التعصب اليهودي: المؤسسة الدينية اليهودية مؤسسة إقصائية فهي تؤمن بالآتي:

إن بينهم وبين الله عهدا خاصا بهم وأنهم شعبه المختار، وهذا الاختيار نفسه ليس هبة من الله (يهوذا) باختياره بل أرغمه يعقوب على ذلك حينما لاقاه وصرعه، وإسرائيل نفسها تعنى “الذي صرع الرب”. إن للآخرين أي غير اليهود مرتبة إنسانية دنيا. إن الله منحهم أرضا هم أصحابها بموجب ذلك ولا حق لغيرهم فيها. لذلك كان موقف المؤسسة اليهودية من عيسى عليه السلام وأفكاره التسامحية موقفا متشددا جدا فأدى ذلك إلى رفع درجة التعصب والعداء الديني في تاريخ الإنسانية إلى درجة غير مسبوقة. إن فيلم “آلام المسيح” الجاري عرضه هذه الأيام يمكن أن يعاب عليه أنه بالغ في إبراز العنف وأغفل القصة خلفه، ولكنه لم يجاف حقيقة العصبية المتشددة التي واجهت بها المؤسسة الدينية اليهودية رسالة عيسى عليه السلام.

وكان موقف المؤسسة الدينية اليهودية من الإسلام كذلك متشددا في العصبية والرفض.

التعصب المسيحي: المسيحية أصلا رسالة روحانية لمعادلة المادية في اليهودية، وقد كانت موجهة “للخراف الضالة من بني إسرائيل” لأنها كانت رسالة موجهة لليهود، و كان حواريي السيد المسيح وأتباع المسيحية في بداية أمرهم يسمون باليهود النصارى. لكن، وعلى يد القديس بولس تحولت المسيحية إلى دين عالمي وارتبطت فيما بعد بعدة رموز كالصليب، وبمؤسسة كنسية قوية.. هذه المؤسسة المسيحية عندما اشتد عودها ردت الصاع صاعين لليهود في حلقات مأسوية عمت كافة الأقطار المسيحية.

عمليا، عرف تاريخ المسيحية تطرفا وعصبية لم تشهد الإنسانية قبلها مثلها، والمؤسسة المسيحية تنطوي على موقف إقصائي حاد بيانه:

  • وحدهم الذين يؤمنون بالمسيح مخلصا لهم يذهبون للجنة.
  • عودة المسيح ثانية منتظرة ولن تتحقق إلا بعد معركة نهائية بين الخير والشر-أرمجدون- عندما ينجو المؤمنون الحقيقيون ويهلك الباقون.

هذا الموقف الإقصائي المتعصب كان له أثر كبير في العلاقات العدائية بين المسلمين والكتابيين، وإن كانت لم تبلغ ما بلغته عداوات المسيحيين واليهود ولا ما بلغته عداوات المسيحيين فيما بينهم، ولكنها مع ذلك كانت تنافسية متوترة يشهد بذلك التاريخ والأحكام التي استنبطها الفقهاء للتعامل مع أهل الكتاب.

هذا الموقف التنافسي كان له أثر آخر لدى بعض الأوساط الإسلامية فدب في الأدب الديني الإسلامي كثير من الإسرائيليات أهم ما فيها ما حرص عليه بعض كتاب المغازي في النظر لجهاد النبي (ص) بالقياس لما نسب لملوك التوراة.

كذلك دب في الأدب الديني الإسلامي تصور للنبي (ص) منافس في غيبياته لسيرة عيسى عليه السلام مع أن الفرق في القرآن واضح أن الله أراد لعيسى دورا مصحوبا بآيات معنية بينما أراد لرسالة محمد (ص) أن يكون صاحبها كامل البشرية: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)[15].

الحرب العقائدية الباردة بين الفرق الإسلامية وبين المسلمين وأهل الكتاب رسبت لدى جمهور المسلمين فهما إقصائيا للولاء والبراء مدعوما بتفسير متشدد لبعض النصوص وفهم هجومي للقتال في الإسلام وكثير من المسلمين يعتقدون أن يوما قتاليا فاصلا سيأتي مع اليهود بحيث ينطق الحجر للمسلم أن هذا يهودي فأقتله.

(ج)  الدولة المستبدة:

غيبت التجربة التاريخية الإسلامية الشورى منذ وقت مبكر والتماسا للاستقرار بعد الفتنة الكبرى وآثارها المضطربة لجأ معاوية بن أبي سفيان إلى الخطة التي درجت عليها الممالك الأخرى قبل الإسلام. قال المغيرة بن شعبة لمعاوية : “قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنةً”. ولما كان مبدأ الاستخلاف الوراثي هذا جديدا فإن معاوية استوفد الناس من أنحاء البلاد وأكرههم على البيعة ليزيد على حد تعبير يزيد بن المقفع الذي حضر مجلس معاوية مع الوفود فقام وقال: “أمير المؤمنين هذا وأشار لمعاوية، فإن هلك فهذا وأشار ليزيد، ومن أبي فهذا وأشار لسيفه. قال له معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء”.

هكذا قام ملك بني أمية وبني مروان وبني العباس مؤسسا على عصبية العشيرة. واستسلم جمهور الفقهاء لهذا الأمر الواقع خشية الفتنة فاطرد الخلاف بين الورثة ولجأوا غالبا لحسمه بالعنف فقتل الأخ أخاه كما فعل المأمون بالأمين، وقتل الإبن أباه كما فعل المنتصر بالمتوكل، وقتلت الأم ابنها كما فعلت الخيزران بالهادي. بل بلغ الأمر درجة من إهدار حقوق الآخرين في سبيل السلطان أن أصدر السلطان محمد الفاتح (1451-1481م) وهو من أعظم سلاطين العثمانيين قانونا يبيح لمن يتولى العرش أن يقتل إخوته الذكور وبالفعل قتل محمد الثالث 91 أميرا هم أخوته الذكور. وسالت الدماء أنهارا لحسم خلافات الإمامة. كما قال الشهرستاني: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة.”

الدولة المستبدة راعية للعصبية التي تدعمها نافية للآخرين، تمارس عنف الدولة مهدرة كرامة وحقوق الإنسان، تتعامل مع مخالفيها من المسلمين بالإقصاء ومع غيرهم من الملل الأخرى باعتبارهم طابورا خامسا عميلا للأعداء. والتسامح والاعتدال وسائر المنظومة ضحايا للاستبداد:

ودعوى القوي كدعوى السباع       من النـــاب والظفــر برهانه

(د) التمذهب:

نشأت المذاهب تلبية لحاجة الاجتهاد لاستنباط أحكام الفقه من الأصول المعتمدة في الكتاب والسنة. وكان نهج أئمة الاحتهاد معتدلا تدل عليه مقولاتهم:

سئل الإمام أبو حنيفة عن راي قاله أهذا الحق الذي لا شك فيه؟ قال: قد يكون الباطل الذي لا شك فيه. وقال الإمام مالك: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ. وقال الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذنا.

ولكن هذه الروح اختفت فيما بعد وتحلق حول اجتهادات هؤلاء الأئمة وغيرهم أتباع تعصبوا لاجتهاداتهم حتى صارت مراجع مقدمة في نظرهم على مصادر التشريع نفسها:

ومالك وسائــــر الأئمــــــة            وأبـــو القاسم هداة الأمــــة

فواجب تقليــد حبـر منهمو            كذا قضى القـوم بقــل يفهم

(هـ) غلو التفلسف:

العقل من مصادر المعرفة وفي القرآن أكثر من خمسين آية تحث على استخدام العقل. وقال الإمام الشاطبي كلما حكم به الشرع حكم به العقل. وقال إن العقل شرط في التكليف بحيث يسقط بغيابه لدى الطفل والمجنون. وتكليف العقل بما يناقضه حرج لا يطاق.

وكان الفلاسفة الإسلاميون في عهد الكندي والفارابي معتدلين يوفقون بين الوحي والعقل. ولكن في مرحلة لاحقة نمت تيارات أصولية عقلانية لدى ابن رشد وجدت تعابير صارخة في الأدب. قال أبو العلاء المعري:

يرتجي الناس أن يقوم إمـــام          ناطـق في الكتيبة الخرســاء

كذب الظن لا إمام سوى العقل         مشيرا في صبحـــه والمساء

هذه الأصولية العقلانية أثارت ضدها موجة قوية خلقت تعصبا ضدها:

لا خير فيمـــــا الفلّ              أوله وآخره سفه

موجة عززها كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة.

كان المعتزلة من الذين طوروا علم الكلام واتخذوا نهجا عقلانيا في فهم الدين وأحكامه ولكنهم اتخذوا نهجا غير عقلاني في دعم موقفهم لا سيما عندما تبناه المأمون الخليفة العباسي وجعله ملزما بقوة القانون ففتح الباب واسعا لتطرف مضاد في مرحلة لاحقة تبناه المتوكل العباسي وعزز الانكفاء الحنبلي.

(و) العدوان:

تعرض المسلمون لغزو الصليبيين ثم التتار وكان غزوا محملا بالعصبية ضد الإسلام فأفرز تعصبا مضادا جسدته اجتهادات ابن تيمية وفتاويه واجتهادات تلاميذه كابن القيم الذي قال إن آية السيف الواردة في سورة التوبة آية محكمة ناسخة لكل ما عداها من آيات التسامح.

 

هذه العوامل الخمسة رسخت اجتهادات وممارسات أطاحت بالتسامح والاعتدال في البلاد الإسلامية.

ثالثا: موجبات التسامح والاعتدال إسلاميا

هناك منطق يعتبر أن حقائق الوحي في الكتاب والسنة ثابتة وأن أئمة الاجتهاد أعملوا فيها وسائل الاستنباط الصحيحة فأثمر ذلك تفاسير وأحكاما لا يملك الخلف إلا اتباعها. هذا يعني أن مواقف السلف واجتهاداتهم إزاء التعامل مع الآخر الملي يجب أن تطبق على ظروفنا المعاصرة. نعم اتبع السلف منطقا صوريا عبر القياس والإجماع وأنتجوا ثورة فقهية عظيمة. ولكن رحابة الإسلام أوسع من ذلك:

  • إن للشريعة مقاصد هي المراجع حيثما يراد القول الفصل في أمر متشابه-مثلا- قال قوم بالجبر لأنه تعالى يقول (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[16] وقال (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[17] وقال آخرون بالاختيار (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر) ْ وقال (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[18]. الجبر ينافي الأخلاق وهي من مقاصد الشريعة الإسلامية ولا تتحقق إلا ضمن التسليم بالاختيار. هذا النهج ينبغي اتباعه في فهم كافة المتشابهات.
  • الحكمة: قال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[19] الحكمة توجب مراعاة ظروف الزمان والمكان في استنباط الأحكام.
  • السياسة الشرعية: علق ابن عقيل على كلام الشافعي “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” قائلا: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس فيه أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي.
  • العقل: قال الإمام الرازي: ينبغي تأويل النص القرآني إذا تعارض مع حكم قطعي من العلم-مثلا- قال تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)[20] وتأويل ذلك بحسب رأي العين.
  • المصلحة: قال الغزالي والطوفي: النص إذا عارضته مصلحة راجحة قدمت المصلحة على ظاهر النص، وهو رأي عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة.

انطلاقا من هذه العوامل الخمسة نقدم مرافعة لا ترد تؤيد التسامح والاعتدال في الإسلام وهذا يتطابق مع ما يتطلع إليه الوعي الإنساني الصاعد كما تعبر عنه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتعايش الأديان والثقافات. وفي هذا المناخ تتحقق للإسلام مصلحتان فثلث المسلمين يعيشون أقليات بين أغلبيات مغايرة. كذلك أدى مناخ التسامح والتعايش إلى مجال أكبر لانتشار الإسلام فصار أسرع الأديان انتشارا في كل القارات.

ولكن كيف السبيل لهذا التسامح والاعتدال وهنالك عوامل تستفز المسلمين إلى نهج آخر؟

رابعا: معيقات التسامح والتعايش

العوامل التي تستفز المسلمين لنهج التعصب بعضها داخلي مثل سيادة الاستبداد والظلم الاجتماعي والفقر المعرفي والتخلف وهذه تحتاج لصحوة ذاتية وإصلاح داخلي، ولكن العوامل الخارجية تعيق الصحوة الذاتية، وتبرر مواقف دعاة الانكفاء الإسلامي بحيث يقوم حلف غير مقدس بين الطرفين فيبرران بعضهما بعضا:

  • أول هذه المواقف هو عدم الاعتراف الديني بالإسلام وافتراض تفوق المسيحية عليه.
  • كثير من أدبيات الغرب تفترض تفوق الحضارة الغربية، عدد من مفكري الغرب لا سيما أرنولد توينبي يعيبون هذا الموقف. إن على الغرب قبول التعددية الثقافية في العالم.
  • في الحضارة الغربية الحديثة ثلاثة مكونات: المكون الأول ثقافة أوربية غربية تشمل التراث الأوربي الثقافي والديني، هذا المكون خاص بثقافة أوربا. المكون الثاني: لقد كان عهد التنوير في اوربا شديد المعاداة للدين لأن الكنيسة وقفت ضد الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي فانتصر عهد التنوير للعلم بدرجة حكمت العلوم الطبيعية في كل مجالات الحياة حتى تلك التي تقع خارج نطاق المعارف التجريبية. وكانت النتيجة انتشار تفسير مادي علماني للكون والحياة. هذا التفسير المادي العلماني الذي أفرزته التجربة الأوربية أيدلوجية افرزها عهد التنوير. المكون الثالث: الحضارة الغربية الحديثة ثمرة تراكم  الجهد الإنساني، ثمرة وجدت في أوربا وأمريكا افضل أطوار نضجها ولكنها مع ذلك ثمرة العطاء الإنساني عبر العصور. هذا الجانب من الحضارة الحديثة يشمل حرية البحث العلمي، حقوق الإنسان العالمية، والحريات العامة واقتصاد السوق الحر. والجانب الأخير من الحضارة مرشح أن تستصحبه كل ثقافات وحضارات الإنسان الأخرى في نظامها الاجتماعي والثقافي وكل ما برزت هذه الحقيقة واعتبرت الحداثة ظاهرة عالمية عامة كل ما كان قبول الثقافات الأخرى لها أكثر سهولة. الاتجاه للربط بين تلك المقومات وجعل الحداثة قرينة لازمة للثقافة الأوربية حالة محل الثقافات والحضارات الأخرى يعيق ثقافة التسامح ويعيق استصحاب الحداثة الطوعي داخل الحضارات المختلفة.
  • العولمة وهي ثمرة ثورة الاتصالات والسوق العالمي الحر ظاهرة كونية محتومة. ولكن واقع التوزيع الحالي للثروة والقوة الاستراتيجية يخضع العولمة أكثر وأكثر لمصالح الولايات المتحدة وسيطرة أمريكا على وسائل الإعلام الحديثة ستجعل ثقافة الترفيه والطعام المحمول الأمريكية الثقافة المسيطرة عالميا مما سيعطي العولمة وجها ثقافيا أمريكيا ويجعلها (أمركة). وهذا باب للاحتجاج من منظور ثقافي وديني وحضاري لكافة الثقافات. أيضا، في البلدان الفقيرة لا يمكن اعتبار السوق الحر حقيقة قائمة. عوامل التخلف والثقافات التقليدية توجب أن يصنع السوق الحر بجهد إرادي. كذلك فإن تنمية النصف الجنوبي من العالم لا يمكن أن تترك لقوى السوق العالمي وحدها. إن الالتزام العالمي بالقضاء على الفقر وعلى الظلم الاجتماعي ينبغي أن يصبح واجب إنساني ودولي. إن العولمة النفاثة أثارت ردود فعل استطاعت القوى المضادة في الغرب من نقابات وجمعيات بيئة وجمعيات طوعية أن تبلورها في مجالات عديدة. ولكن القوى المضادة للعولمة النفاثة في البلدان الفقيرة لم تستطع التعبير عن مشاعرها مما يجعلها تتعاطف مع قوى الإرهاب العالمي باعتبارها قوى تقاوم العولمة.
  • البؤر الملتهبة: الولايات المتحدة الأمريكية الآن منغمسة في العالم العربي والإسلامي في بؤرتين ملتهبتين بشكل يسمم العلاقة بالغرب ويشجع التيارات المتطرفة بشكل عاطفي وبعيدا عن العقل والمصلحة. ففي العراق خلص الغزو الأمريكي البريطاني الشعب العراقي من طاغية مستبد، وانطلقت قواها السياسية تفرض شروطها على قوات الاحتلال، ولكن إذا اختارت الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض إدارة امبريالية في العراق وتنفرد بالشأن العراقي فسوف تواجه مقاومة واسعة وفاعلة وسوف تناقض المطلب الديمقراطي فتهزم معنويا قبل هزيمتها السياسية، وفي هذه الحالة فإنها ستكون من أهم مشجعي تيارات التطرف في المنطقة. أما في فلسطين فقد دخلت المنطقة في مساجلات دموية كان آخرها اغتيال الشيخ الشهيد أحمد يس في فجر 22 مارس 2004م ثم خلفه الشهيد عبد العزيز الرنتيسي في 17 أبريل 2004 عمدا ومع سبق الإصرار. وفي نفس أسبوع اغتيال الأخير  يوم 14/ 4 أعلن الرئيس الأمريكي رؤية لحل المشكلة مطابقة تماما لرؤية إسرائيل وهذه الرؤية تغلق باب التفاوض وتفرض على الطرف الآخر الحل والرؤية هي:
  • تخلي اللاجئين الفلسطينيين عن حق العودة إلى إسرائيل وتوطينهم في دولة فلسطينية.
  • تحتفظ إسرائيل ببعض المستوطنات حفاظا على أمنها.
  • لا يتوقع أن تنسحب إسرائيل لحدود ما قبل 1967م بل لحدود آمنة.
  • يجب أن يعترف الفلسطينيون والعرب بالأمر الواقع لأن الظروف تغيرت ولا مجال لإدعاء الحق والشرعية.
  • قيام الدولة الفلسطينية مرهون بقيام السلطة الفلسطينية بالقضاء على الإرهاب وتفكيك بنياته حفاظا على أمن واستقرار إسرائيل.

الجديد في هذا الموقف مناقضته للشرعية الدولية ممثلة في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وهذا معناه مواجهات دموية حتى النهاية وقفل باب التفاوض من أجل حل سلمي.

و- الموقف الداخلي: الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة ليسا كومة صماء ففيهما تيارات مستنيرة تدعو للعدل العالمي واعتبار الآخر الحضاري مثلما توجد فيها تيارات الاستعلاء والهيمنة .. الشارع العربي والإسلامي تحركه المظالم الداخلية والخارجية ويتجه بشك كبير نحو اعتبار أمريكا شريكا لإسرائيل واعتبار النظم الحاكمة في العالم العربي شركاء لأمريكا وتصعيد المواجهة ضدهم جميعا- هذه هي الصورة السائدة حاليا في كل البلاد العربية والإسلامية. فما العمل أمام هذا التصعيد وهذه المواجهة؟. الموقف الشعبي العربي يجب أن يكون كالآتي:

  • المرحلة الحالية جديدة وتوجب استراتيجية جديدة، فلا ينبغي أن ننحاز للموقف الأمريكي ولا أن ننحاز للموقف المتطرف المهووس بل ينبغي أن نسلك مسلكا وسطا.
  • التمسك بالشرعية الدولية والقيام بتعبئة مضادة للمتخلين عنها.
  • العمل على إخراج ملف السلام من اليد الأمريكية ليوضع في يد الأسرة الدولية.
  • التنسيق مع مواقف الشعوب العربية الرافضة لسياسات الظلم.
  • العمل على تنظيم منبر للاجئين الفلسطينيين ليتحدثوا باسم أنفسهم في كافة المجالات.

وعلى الصعيد الرسمي العربي يجب اتخاذ الموقف التالي:

  • رفض مسبب واضح للموقف الأمريكي الجديد يعلنه مؤتمر القمة العربي المرتقب.
  • يعلن المؤتمر الالتزام بمنع التعامل مع أية جهة لا تقر بالشرعية الدولية.
  • العمل على تسليم الأمم المتحدة ملف السلام عبر مؤتمر دولي جامع كذلك تسلم الأمم المتحدة ملف العراق على أن تلتزم الدول العربية بالقيام بدور أمني في مرحلة انتقالية إلى حين استقرار الحكم الديمقراطي في العراق.
  • وضع تعريف جامع مانع للإرهاب والتمييز بينه وبين حروب التحرير.

وإذا لم تكن القمة العربية مستعدة لموقف واضح وعادل في هذا المنعطف الخطير وإذا لم تستطع أن تكون بقامة المسؤولية التاريخية فيجب أن لا تنعقد ويجب إلغاؤها:

إذا لــم تجد شيئــــــــا تقولـه                   فصمتك عن غير السداد سداد

أي موقف دون ذلك يفجر التناقض الذي أطل برأسه بين النظم والشعوب وفي هذا الصدد يجب علاج استراتيجي للعلاقة بين النظم والشعوب.

خامسا: السودان والتسامح الديني:

السودان الوطن الذي نعرفه هبة التسامح الديني وعلى ذلك اتحدت أجزاؤه وإثنياته الأربع: الزنجية ـ النوباوية ـ البجاوية ـ العربية. هذا التسامح رعاه التصوف. المهدية كانت حركة تشدد أوجبها إلهام صاحبها وظروف موضوعية لدحر الاستعمار، وتوحيد البلاد، وإقامة دولة إسلامية، وتطلع لتحرير وتوحيد المسلمين. ولكن دولتها هزمت بسبب عوامل خارجية وتحالفات داخلية معها- أي مع العوامل الخارجية.. الإمام عبد الرحمن المهدي راجع تعاليم الدعوة في اتجاه التسامح والاعتدال.

النظام الحالي في السودان بدأ بصورة متشددة فخلق انقساما داخليا بين المسلمين واستقطابا حادا مع غير المسلمين، ونشرا لأساليب العنف، ومظلة تعاطف خارجية مع معارضيه. بعض الناس يحاول استغلال هذا الاستقطاب وما صحبه من تعاطف خارجي لتجريم وإلغاء السودان القديم كله بجرة قلم.

السودان القديم فيه خير كثير أهمه:

  • الانتشار السلمي للإسلام.
  • الانتشار السلمي للغة العربية.
  • الحرص على الديمقراطية.
  • صحوة الخريجين.
  • الاستقلال مرتين بصورة عبقرية.
  • انتفاضتا أكتوبر ورجب-أبريل.
  • إقامة الدولة الحديثة المجدية.
  • دولة الرعاية الاجتماعية.
  • رسوخ أخلاق فاضلة “إنسانيات سودانية”.

ولكن فيه شرور أهمها:

  • الرق.
  • الاستعمار.
  • المناطق المقفولة.
  • الاستعلاء الديني.
  • الاستعلاء الثقافي
  • التنمية غير المتوازنة.
  • الأيديولوجيات الواهمة.
  • سرعة اللجوء للمقاومة المسلحة.
  • الحرب الأهلية.
  • الاستعانة بالأجنبي.

علينا ألا نبخس السودان القديم ـ السودان التليد ـ حقه. وألا نتراخى في التخلص من شروره. ولكن ظروف الاستقطاب الحالية لا تسمح بالدرجة المطلوبة من الموضوعية. بل تحول دون إبرام اتفاق السلام وإذا أبرم بجهد دولي فإنها تعرقله.

لقد أطلت الآن برأسها تيارات خطيرة صدامية مثل مقولة السودان المعلمن المؤفرق، ومقولة الانفصال العاجل التي صار لها عدد كبير من المؤيدين لا سيما في الشمال.

التسامح الواعي هو مفتاح المرحلة القادمة إذا أردنا أن نجنب البلاد مواقف تفتت أو تدويل خاسرة.

ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

خمسة مطالب لتحقيق الحل:

الأول: أن يحزم أهل الإنقاذ أمرهم متخلين تماما عن الانفراد بأمر الإسلام والسودان وما صحب ذلك من أساليب الاختراق للآخرين، ومخاطبين الآخرين بالتخلي المقنع عن أحادية الماضي والالتزام بقومية الحاضر والمستقبل في أمر الدين والوطن وبالاحتكام للشعب احتكاما نزيها حرا.

الثاني: أن يحزم معارضو النظام أمرهم للتعافي المتبادل ونبذ العنف والانتقام والعمل من الخارج ملتزمين بنتائج الاحتكام للشعب ومتبعين نهجا قوميا.

الثالث: أن تخاطب القوى السياسية الشمالية قوى التظلم الديني والجهوي، والثقافي، والاثني، والاقتصادي بالالتزام برفع المظالم والعمل لإقامة سودان العدالة والمشاركة المتوازنة.

الرابع: أن تتحد القوى السياسية الجنوبية للدخول  في اتفاق يعطي كل ذي حق حقه بموجب هندسة وطنية تستعين بالجهد الدولي ولا تعتمد عليه.

التسامح والاعتدال هما اليوم الصمغ الذي يمكن أن يحافظ على السودان وطنا حرا مستقلا عادلا.

والغلو والتعصب هما اليوم مدخل التفتيت والتدويل.

ختاما:

التسامح يوجبه ديننا وتوجبه مصالحنا الدينية والوطنية والالتزام به ممكن ولكن تعرضه لمؤثرات خارجية وارد.

السؤال المشروع هو: هل يمكن للسودان أن يحقق القدر المطلوب من التسامح والاعتدال بينما تعصف بالمنطقة تيارات الغلو والتعصب والعنف؟

حتى الآن أمكن للبلاد أن تتجنب حمم الجحيم المجاور ولكن الأمر محتاج لوعي وطني كبير للإبحار في مياه صعبة ولتصرفات دولية قادرة على مراعاة خصوصية الموقف السوداني حتى يخرج من مستنقعه.

والله ولي التوفيق.

 

 

[1] سورة الأعراف الآية 199

[2] سورة آل عمران 159

[3] سورة النحل الآية 125

[4] سورة آل عمران الآيات 113-114-115

[5] سورة البقرة الآية 193

[6] سورة النحل الآية 125

[7] سورة الحج الآية 39

[8] سورة الحديد الآية 28.

[9] سورة آل عمران  الآيتان 84 و 85

[10] سورة الشورى الآية 13

[11] سورة البقرة الآية 62

[12] سورة الأعراف الآية 172

[13] سورة المائدة الآية 48

[14] سورة الإسراء الآية 70

[15] سورة فصّلت الآية 6

[16]  سورة التكوير الآية 29.

[17]  سورة الصافات الآية 96.

[18]  سورة الطور الآية 21.

[19] سورة البقرة الآية 269

[20] سورة الكهف الآية 86