ندوة الدولة العميقة وإدارة الاختلافات .. تقديم الحبيب الامام الصادق المهدي

الإمام الصادق المهدي في الندوة الفكرية بتونس
الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس المنتدى العالمي للوسطية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تونس- منزل بورقيبة

 

الدولة العميقة وإدارة الاختلافات

 

تقديم: الإمام الصادق المهدي

18 يونيو 2013م

مقدمة:

 

في العهد القديم دعيت أربع مرات لزيارة تونس وحضور مؤتمر الحزب الحاكم، واعتذرت لأنني لا أريد أن أمنحه قبولاً بحضوري، ولنفس السبب امتنعت عن زيارة سوريا الأسد احتجاجاً على مجزرة حماة.

ولكن زيارتي لتونس الحرة تكررت، وكم سعدت بمناخ الحرية، وانفتاح باب الاجتهاد السياسي والإسلامي بصورة تسر الناظرين، وتجذب المؤمنين، وتشحذ العقول، فسبحان مغير الأحوال في تونس الخضرة.

وقبل أن أخوض في موضوعي ينبغي أن أعلق على الانتخابات الإيرانية.

لقد أرسلت تهنئة هذا الصباح للرئيس حسن روحاني، ويطيب لي أن أشارككم في قراءتي لدلائل الانتخابات، أقول: إنها استفتاء وقال فيه الشعب الإيراني كلمة ينبغي أن تسمع: صوّت أكثر من 50% لروحاني، و17% لمحمد باقر، و13% لسعيد جليلي، كبير مفاوضي الملف النووي، و10% لمحسن رجائي، رئيس الحرس الثوري السابق.

ولايتي انتقد جليلي لأنه فـوّت فرصة في آخر مفاوضات (5+1) في ألمانيا، وهذه حقيقة. كل المرشحين أشاروا للأزمة الاقتصادية وكلهم إلا واحد “جليلي”، نسبوها للعقوبات الدولية.

روحاني كان رمزه المفتاح، لعله يفتح باب الحلول للأزمات، فنهجه يدل على أمرين: التجديد والاعتدال، وفقه الله.

ربما سال سائل ماذا يمكن أن يفعل في الملف النووي وقد كان هو المفاوض في (2003-2005م) أثناء رئاسة محمد خاتمي؟ يومئذٍ كان الأمريكيون هم الذين قفلوا باب الرجاء بقيادة المحافظين الجدد، ورئاسة بوش العمياء، فلم تتجاوب ولم تفهم اعتدال خاتمي، وتباهى أحد حمقاهم أنه هو الذي أدخل عبارة “محور الشر” في خطاب بوش؛ العبارة التي قفلت باب التفاهم.

والآن أدخل لموضوعي:

وهو الدولة العميقة وإدارة الاختلافات، أقول:

لا أحب عبارة “الربيع” فهي وافدة أوربية، وأفضل “الفجر الجديد” أو الاستقلال الثاني أو التحرر العربي، ومهما تعثرت التجربة في حلقتها الأولى، أي تونس ومصر، فقد تحققت البركات السبع وهي:

– تصفية حكم الفرد.

– بسط الحريات العامة.

– فتح باب الاجتهاد السياسي.

– فتح باب الاجتهاد الديني.

– عودة الروح بثقة الشعب في قدراته.

– تأكيد التغيير من الداخل.

– تأكيد أن الإسلام هو الحائز على رأس المال الاجتماعي الأكبر.

ههنا أريد تصحيح تعبير آخر وافد إلينا هو “الإسلام السياسي”، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمير السرية: “إِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟”

والمستفاد هو أن ما يفعل المسلم، لا سيما في أمر العادات، اجتهادي قابل للخطأ أو الصواب. الصحيح أن نقول سياسة الإسلاميين وهي اجتهادية قابلة للخطأ والصواب.

وقبل أن أدخل في التحدي الذي يواجهونه حتماً في مجال إدارة الاختلافات، أقول: إن كل صاحب برنامج يريد تطبيقه سيواجه حتماً واقعاً معاكساً، ما أوحى لكاتب مسرحي سوداني (مصطفى أحمد الخليفة) فألف رواية بعنوان “النظام يريد” وهي مسرحية ساخرة تعرض في الخرطوم فكرتها أن النظام يريد شعب جديد!

أول ما يواجه الولاية الجديدة حقيقة أن الثورة فجرتها جماعة شبابية لم تحقق تكملة مشوار الثورة وهي إزاحة النظام القديم، واستبداله بنظام جديد، والنتيجة في تونس إحلال بعض الطبقة القديمة، وفي مصر إحلال القوات المسلحة؛ هؤلاء ليسوا ثوريين، لذلك ملأوا الفراغ بخطوات تقليدية على أساس الدستور الموجود والتحضير لانتخابات عامة. كانت التطورات مفاجئة للجميع، ولكن القوى الإٍسلامية حظيت بامتيازات منحتها الغلبة الانتخابية هي: نالوا النصيب الأوفر من البلاءات، وتخندقوا في أنشطة دينية واجتماعية ما حفظ شبكات تواصل بين أفرادهم، واستفادوا من تواصل فوق قطري مع نظائرهم.

ولكن منذ البداية تجد السلطة الجديدة واقعاً لا يزول بزوال الحكومة المبادة، يواجهون عشرة عومل متجذرة هي:

1. نعم زالت السلطة التنفيذية، ولكن مؤسسات الدولة العسكرية، والأمنية، والقضائية، والقوانين ما زالت موجودة. القضاء مستقل استقلالا اكتسب قدسية، وتكوينه في ظل نظام علماني يكسبه تلك الصفة، بحيث يصير مؤسسة علمانية مستقلة. القوات المسلحة مع إنها جزء من السلطة التنفيذية تكتسب في كل العالم درجة من الاستقلال الذاتي وهي في بلدان العالم الثالث أكثر استقلالية، وفي بعض الحالات كما في تركيا الكمالية تصير حارسة للنظام العلماني ووصية على النظام السياسي، ما أدى لعبارة الدولة العميقة، وأفضل تسميتها بالمؤسسة المتجذرة.

وفي المجال المدني فإن القوانين، إلى أن يجري تغييرها، تصير امتداداً قانونيا للنظام القديم، وهي في بعض المجالات مستعصية على التغيير، لأن فيها مكتسبات لقوى اجتماعية، مثلاً، القوانين الخاصة بالمرأة، والخاصة بالسياحة، وهلم جراً.

2. ثم هنالك النظام الاقتصادي، والطبقة التي تدير مؤسسات القطاع العام، والطبقة التي تمثل القطاع الخاص. هؤلاء يشكلون كتائب لنظام اقتصادي مستمر مهما خضع أفراد منه للتطهير بسبب الفساد.

3. وهنالك الاصطفاف النقابي الموروث، والذي اكتسب كياناً ذاتياً حتى في العهد القديم، وهو يحرص على ممارسة استقلاله مهما كانت نتائج الانتخابات العامة.

4. وهنالك الكيانات التقليدية ذات الولاءات الموروثة الدينية والقبلية.

5. وهنالك الخريطة الأيديولوجية التي في ظروفنا ذات محمولات اشتراكية، وقومية، وأفريقانية، ولبرالية، ومصيرها أن تنتعش مع فتح باب الاجتهاد السياسي المصاحب للحرية، مثلما تنتعش كذلك التيارات الإسلامية مع فتح باب الاجتهاد الديني، هؤلاء وحلفاؤهم من خارج القطر يغذون الاختلافات، ويواجهون السلطة الجديدة بخيار استيعابهم عبر حوارات أو استعدائهم عبر استقطابات.

6. وهنالك البيئة الثقافية وما فيها من محمولات: الإعلام، الكتاب، والفنون بألوانها السبعة، هذه البيئة ترعرعت في مناخ مدني ومتصل بالخارج بصورة قوية، ويعتبر نفسه حارساً للحرية الثقافية في الداخل وحرية الاتصال بالخارج.

7. وهنالك المؤسسات الدينية الإسلامية كالأزهر والزيتونة، والمسيحية كالكنيسة القطبية في مصر، هذه المؤسسات تحرص على درجة من الاستقلالية.

8. وهنالك البنية الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وأدوات التواصل الاجتماعي الحديثة، هؤلاء يشكلون وجوداً ذا ثقافة واضحة المعالم.

9. ولمن يريد قيادة المجتمع هنالك قطاعات مؤثرة، مثلاً، الشباب من رواد الثورة، والمهجريون من أبناء الوطن لديهم رؤاهم ومواقفهم المحددة.

10. وهنالك معاهدات إقليمية في الإطار العربي والأفريقي، والإسلامي ومواثيق ومعاهدات دولية مراعاتها واجبة.

السلطة المنتخبة ذات المرجعية الإسلامية أمامها خياران في وجه هذه العوامل العشرة: خيار جربه من اليسار بول بوت في كمبوديا، وجربه من اليمين الملا عمر في أفغانستان، وهو خيار القمع وإملاء الإرادة، ومعلوم الديوان المأسوي لذينك التجربتين. وخيار آخر مستمد من روح “صحيفة المدنية” التي كتبها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بداية عهده في المدينة، ومعلوم السجل الذهبي لذلك الديوان.

كيف يمكن تحقيق ذلك في إطار الدولة الحديثة؟

سأتعرض لأهم ثلاث تجارب في القرن الواحد وعشرين، هي:

التجربة التركية على يد حزب العدالة والتنمية: هذه التجربة استصحبت العلمانية، والحريات العامة والديمقراطية، ومع أنها لا تصف نفسها بالإسلامية لكنها صنعت بيئة صديقة للتوجه الإسلامي لأنها: عرفت العلمانية بصورة صديقة لا معادية للدين كما فعلت الكمالية، حجمت دور القوات المسلحة حاضنة الدولة العلمانية الكمالية، واتبعت سياسة خارجية أكثر استقلالاً، ورغم مرونة نهجها فإن فلول الكمالية والقوة المعارضة تحاول تضخيم الخلاف حول ميدان تقسيم لتقويض التجربة.

التجربة الثانية المهمة هي التجربة المصرية: وهي الآن مشتبكة في استقطاب حاد بين مطالبة السلطة واصطفاف في المعارضة لتقويضها رغم الشرعية الانتخابية كما تسعى لذلك حركة تمرد.

التجربة الثالثة المهمة هي التجربة التونسية: والتي اتخذت نهجاً ما بين التجربتين التركية والمصرية وتواجه الآن نقداً حاداً من اليمين يمارسه السلفيون ومن اليسار يمارسه لبراليون واشتراكيون وقوميون.

إن الصراع السياسي هذا لا يجرى في فراغ بل يجرى في خلفية العوامل العشرة المتجذرة في المجتمع، فما العمل؟

القوى الإسلامية الحاصلة على ولاية انتخابية ينبغي أن تدرك أولا: أنه لا سبيل لحلول جراحية ولا سبيل للتخلي عن المسؤولية ما دامت صاحبة إيمان برسالتها، وسند شعبي ما يوجب عليها الإقدام على هندسة النظام الحديث ذي المرجعية الإٍسلامية.

أهم خطوة هي التي تتعلق بحوار واسع النطاق للاتفاق على الدستور، وهي خطوة اتخذت بكفاءة في تونس، ولكن في المجال الفكري ينبغي توضيح النهج الفكري الإسلامي الذي يوفق بين التأصيل والتحديث على النحو الآتي:

معنى الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية:

الدولة المدنية تعني المساواة في المواطنة، وأن الشعب هو مصدر السلطات. والمرجعية الإسلامية تعني تطابق مبادئ الإسلام مع حقوق الإنسان العالمية، وحق المسلمين في تشريعات إسلامية ما دامت لا تنتقص من حريات الدين للآخرين ولا حقوق المواطنة، وحق المسلمين في رفض تشريعات تتناقض مع قطعيات مقاصد الشريعة بالوسائل الديمقراطية، وأن حرية التعبير لا تعني حرية الإساءة للمقدسات، وأن للمجموعات الدينية الحق في التواصل فوق القطري ما دام لا يتناقض مع مصالح الوطن.

ولكن الدستور وحده لا يكفي بل ينبغي أن تدعمه مواثيق تبرمها القوى السياسية أهمها:

أ. ميثاق وطني تبرمه كل القوى السياسية شأنه الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان الخمسة: الكرامة، الحرية، العدل، المساواة، والسلام؛ والالتزام بالديمقراطية وسيلة للترجيح بين التوجهات، ويؤكد الميثاق تجنب العنف في التصدي للاختلافات، وتجنب العنف اللفظي من تخوين وتكفير.

ب. عقد اجتماعي تبرمه القوى السياسية والنقابية يلتزم بالتنمية والعدالة الاجتماعية الطبقية والجهوية.

ج. ميثاق نسوي يلتزم بإزالة أسباب التمييز ضد المرأة لتمارس دورها الإنساني والإيماني المواطني، ويوضح أن اختلاف الجنسين هو اختلاف تكامل لا تفاضل لأن: (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [1] و(أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) [2].

د. ميثاق إعلامي ينظم ممارسة حرية التعبير ويمنع السب والقذف والتكفير والتخوين.

ه. ميثاق شبابي يعطي أولوية لحل مشاكل الشباب لا سيما البطالة ويضع خريطة طريق لتواصل الأجيال وتمكين الشباب.

و. ميثاق عسكري ينص على احترام دور القوات المسلحة الدفاعي ولحماية ذلك الدور ابتعادها عن الاختراق السياسي.

ز. ميثاق دولي يحدد الحميد والخبيث في مجال العلاقات الخارجية تشارك في وضعه القوى السياسية وتلتزم به.

هذه الوثائق السبع هي لبنات القوة الناعمة الممكن استخدامها في التعامل مع العوامل العشرة المذكورة، وفي هندسة رفق لبناء الوطن البديل، لا هندسة عنف من شأنها أن تؤدي لاستقطاب حاد يمزق الوطن، ويفتح أوسع الأبواب للتدخل الأجنبي؛ وقديماً قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ” [3].

هذا النهج هو الأقرب لميزان صحيفة المدينة، ,هو الألصق بالصفة: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [4] وهو الأكثر مراعاة لمقولة ابن مسعود (رض): ما من أمر إلا للشيطان فيه نزغتان لا يبالي بأيهما ظفر هما: الغلو والتعطيل أي الإفراط والتفريط.

وهو نهج في إدارة الاختلافات سوف يستفز أهل الإفراط الذين ينطلقون من نصوص مجردة من إطارها وبعيدة من قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [5]. هؤلاء في الحقيقة يغردون في سرب خارج التاريخ، وإن شئت فاتل فتاواهم تجد عجباً. هاك بعضها:

صالح بن عواد، في شراء رقيق من موريتانيا لعتقهم في بعض الكفارات.

عبد الله الداود، بدعوة التحرش بالنساء العاملات “كاشيرات” لمنعهن من العمل. وعدم الخلوة بالشاب الأمرد أو المراهق الوسيم!

علي العلواني، في أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف ومن قال غير ذلك أنكر الجهاد فهو كافر.

أبو زيد محمد صالح، أن انتخاب امرأة كفر بالله.

بل فتاوى تكفر بإسراف، وتهدر دماء البشر بلا حدود:

وَالقاتِلُ مَن يَضَعُ الفَتوى

بالقَتْلِ

وَليسَ المُستفتي

وشجباً للنصوصية بلا تدبر، قال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً تكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي، ونفس المعنى كرره ابن القيم.

وهذا النهج سوف يستفز الذين شدتهم أوهام لطرد الدين من الشأن العام، وهي مهمة لم تنجح في أعتى الدول التي نصت على العلمانية، وفي هذا الصدد قال أحدهم وهو أهم دعاة العلمانية “بيتر برقر”: حسبنا أن الصلة هي بين التحديث الديمقراطي والعلمانية ولكن الحقيقة هي بينها وبين التعددية.

أقول في ختام هذا الحديث:

أمامك فاختر أي نهجيك  *****  تنهجُ طريقان شتى مستقيم وأعوج