ورقة أثر الاستفتاء على موارد المياه في السودان

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

جامعة الخرطوم- كلية القانون

ورشة عمل حول الاستفتاء وأثره على مستقبل السودان

الإمام الصادق المهدي

 

24 نوفمبر 2010م

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

هذا موضوع هام وهو كسائر القضايا الوطنية المتأثرة بالاستفتاء لم يحظ بالاهتمام النظري والسياسي الذي يستحقه ما يوجب تقدير كلية القانون على عقد هذه الورشة لتناوله بالجدية والإحاطة المطلوبة. وما لا يدرك كله لا يترك جله.

إذا نظرنا للأمر من الناحية القانونية الصرفة فإن الاستفتاء استحقاق دستوري يحكمه قانون، وإجراؤه وقبول نتائجه كما في حالة كيوبيك بكندا إجراء سلس لا يثير غبارا وقبول نتائجه مسلم به. كما أن موضوع الموارد المائية -وفي هذه الحالة النيل الأبيض- خاضعة لقوانين معلومة يرجى أن تستمر حتى إذا أدى الاستفتاء إلى الانفصال بموجب اتفاقية جنيف لعام 1978م المتعلقة بخلافة الدولة. وفحواها أن معاهدات الدولة السلف تستمر في السريان بالنسبة للدول الخلف.

ولكن هذه الصورة المثالية يصعب أو يستحيل توقعها في الحالة السودانية إلا إذا أجرينا تشخيصا محيطا بالحالة السودانية وتوافرت الإرادة السياسية القومية القوية المدعومة دوليا لدرء المفاسد وتحقيق المنافع.

النقاط السبع الآتية تبين أطروحتي حول هذه القضية المفصلية:

1. مهددات الاستفتاء

اتفاقية نيفاشا لعام 2005م هي التي أوجبت إجراء استفتاء لجنوب السودان في يناير 2011م. . الاتفاقية ألزمت طرفيها بإعطاء أولوية للوحدة على أن توظف الفترة الانتقالية (2005- 2011م) لجعل الوحدة جاذبة. ولكن عوامل عديدة غيرت هذا التطلع الوردي وحولت الاستفتاء إلى مبارزة سياسية ساخنة بين قيادة المؤتمر الوطني الداعية للوحدة وقيادة الحركة الشعبية الداعمة للانفصال. مما يجعل قيامه بشكل سلس ومتفق عليها مستحيلا.

تلك العوامل هي:

· اتفاقية سلام نيفاشا مع انحيازها للوحدة جعلت الانفصال جاذبا لأنها قسمت البلاد بموجب بروتوكول ميشاكوس على أساس ديني. بينما كان الأوفق تنجب ذلك وتخصيص الأحكام الإسلامية على أهل القبلة فالإسلام يجيز التعددية القانونية وكذلك القوانين الوضعية. هذا التقسيم على أساس ديني للبلاد يمهد للانفصال. كذلك بروتوكول الثروة خصص 50% من بترول الجنوب للجنوب ما يعزز دعوى الانفصالي الجنوبي للانفصال لينال كل بتروله. كان الأوفق نسبة ما يخصص للجنوب من تمييز قاصد لمجمل الثروة القومية.. هذه بعض انتقاداتنا للاتفاقية في كتاب صدر في مايو 2005م بعنوان اتفاقية السلام في الميزان. وغني عن الذكر أن كل ما يتعلق بالاتفاقية جرى على أساس ثنائي استبعد كافة الآراء الأخرى.

· انتخابات أبريل 2010م كانت مضروبة وقد أصدرنا كتابا بعنوان “الانتخابات السودانية أبريل 2010م في الميزان” لبيان حقيقة ما حدث بصورة محيطة وموثقة. ولكن في مجالنا هذا يكفي أن نقول: إن المؤتمر الوطني سيطر بموجب الانتخابات على شمال السودان وأن الحركة الشعبية سيطرت على الجنوب، كلاهما بالنسب الشرق أوسطية المعهودة – أي 90% فما فوق. وأن المؤتمر الوطني قال إن الحركة الشعبية زورت الانتخابات في الجنوب. كما أن الحركة الشعبية قالت إن المؤتمر الوطني زور الانتخابات في الشمال.

انتخابات أبريل 2010م وهذه الاتهامات المتبادلة سوف تلقي بظلالها على عملية الاستفتاء بمعنى: توقع تزوير الحزب المعني لإجراءات الاستفتاء في مناطق سيطرته.

· كانت اللجنة الفنية المتعلقة برسم الحدود بين الشمال الجنوب قد قامت بمهمتها الفنية ولكن هنالك مناطق حدودية تفتقر لتسوية سياسية. تسوية بين طرفي الاتفاقية وبين سكان تلك المناطق. هنالك حوالي 12 منطقة تحتاج لهذا الحسم أهمها: أبيي- هجليج- الجبلين- بحر العرب- حفرة النحاس- كاكا التجارية- جبل المقينص وهلم جرا

حظيت منطقة أبيي باهتمام خاص لأنها سوف تكون موضوع استفتاء خاص بها، وخضعت لتحكيم دولي رفضه طرف من سكان المنطقة. ومع كثرة محاولات الوصول لاتفاق في عدد من المواقع: في أديس أبابا في أكتوبر 2010م وفي نيويورك في سبتمبر 2010م وفي الخرطوم عن طريق توسط أمريكي وغيرها من المحاولات فإن أمر أبيي ما زال يراوح مكانه. والخلاف ربما كان الأسرع لتفجير الصدام إذا نفذ الدينكا نقوك إعلانهم بمنع مسيرة المسيرية جنوبا وعزيمة هؤلاء القيام بمرحالهم المعهود.

العلاقات بين طرفي اتفاقية السلام الآن متوترة للغاية والاتهامات المتبادلة كذلك خطيرة للغاية أهمها:

– المؤتمر الوطني يتهم الحركة الشعبية بدعم حركات دارفور المسلحة بصورة مباشرة وغير مباشرة كقناة لمساعدات يوغندية. وكذلك اتهام بأن بعض المنسوبين للحركة يحضرون “للجنوب الجديد” ما يكفل استمرار المواجهات بين الخرطوم وحركات في مناطق الشمال الجنوبية.

– الحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني بدعم القادة العسكريين الجنوبيين الذين شقوا عصا الطاعة في الجنوب أمثال: جورج أوطور، قالواك قاي، ودافيد باوياو. وكذلك دعم جيش الرب ومليشيات قبلية.

أي أن الطرفين يتهمان بعضهما بعضا بشن حروب بالوكالة.

ومنذ بداية التسجيل للاستفتاء تواترت الشكاوى فقدم المؤتمر الوطني شكوى رسمية لمفوضية الاستفتاء تأخذ على الحركة الشعبية عشرين مخالفة مثلا: منع الجنوبيين من التسجيل في المراكز الشمالية. وشكوى الحركة الشعبية من أن المؤتمر الوطني يقوم بتسجيل موازي ليسجل أشخاصا غير جنوبيين.

– هذا المناخ المحتقن بخلافات حادة لن يجعل الاستفتاء سلسا. ولن يحفه بالتراضي السياسي ما سوف يفجر كافة بؤر الخلاف.

· كثيرون نبهوا إلى أن الاستفتاء خاصة إذا أدى للانفصال سوف يعقد أزمة دارفور وسوف يخلق سابقة انفصالية داخل الجنوب وداخل الشمال. وفي القارة الأفريقية عامة. وقد قدم الأستاذان ماريك شوميروس وتيم ألن دراسة بعنوان “جنوب السودان المتناقض مع نفسه” أوضحوا فيها أن قيام دولة جديدة في الجنوب قبل رسم الحدود الداخلية بين القبائل والوحدات الإدارية سوف يؤدي لاحتراب بينهما. وأن43% من الذين استطلعوهم في الجنوب يتوقعون ذلك.

· المؤسف أن الأسرة الدولية بقيادة الولايات المتحدة غير معنية بطبيعة الاستفتاء بل بشكله: أن يجرى استفتاء في ميعاده كيفما يتفق، وأن يجبر المؤتمر الوطني بالعصا والجزرة على قبول نتائجه. هذا الموقف الأمريكي يفسره أن الرئيس أوباما يشرف الآن على حروب فاشلة في العراق، وأفغانستان، والصومال، وباكستان، كما فصل ذلك الصحفي القدير بوب وداوارد في كتابه الأخير: حروب أوباما. وصار الرئيس الأمريكي بحاجة لإنجاز ملموس في سياسته الخارجية ويتوقع إذا جرى الاستفتاء في السودان في موعده وقبلت نتائجه فسوف يعد هذا انجازا له. ولكن مراكز البحث العلمي تكاد تجمع على نصح الرئيس الأمريكي أن يهتم بالجوهر لا بالشكل لأن مراعاة الشكل وحده سوف تؤدي في نظرهم لكارثة. قال توماس تالي أحد خبراء مجلة الحروب الصغيرة بتاريخ 22/10/2010م إن مآلات الاستفتاء دون ترتيبات محددة أحصاها سوف تقود للحرب ووجه نصحا لأوباما: لا تواصل السياسة الحالية بشأن الاستفتاء في السودان لأنها سوف تمضي نحو الدمار والحرب. وابحث عن بدائل مجدية.

الاستفتاء في الأصل جزء من اتفاقية السلام ولكنه ما لم تتوافر استحقاقاته فسوف يهزم السلام ويصير سُلُّمَا للحرب.

2. موارد السودان المائية النيلية:

سوف أتناول الموارد غير النيلية في بند لاحق فالموارد النيلية هي التي سوف تتأثر بالاستفتاء لا سيما النيل الأبيض. هذه الموارد المائية تجمع السودان بالعديد من الدول كالتالي:

  •  النيل الأبيض ينبع من بحيرة فكتوريا وهي مشتركة بين يوغندا- كينيا – وتنزانيا.
  •  أكبر رافد يغذي بحيرة فكتوريا هو نهر كاغيرا الذي ينبع من رواندا بوروندي.
  •  بعد خروج نهر النيل الأبيض من فكتوريا يدخل بحيرة ألبرت وهي مشتركة بين الكنغو ويوغندا، ويخرج من ألبرت متجها شمالا.
  •  نهر السوباط والنيل الأزرق ونهر عطبرة ينبعون من أثيوبيا.
  •  أحد ورافد نهر عطبرة: نهر ستيت، يمر بإريتريا.

نسب المياه المكونة للنيل كالآتي:

86% من الهضبة الأثيوبية تفاصيلها: 59% النيل الأزرق- 14% السوباط- و13% نهر عطبرة.

14% النيل الأبيض.

وأكبر هدر للمياه هو الذي يتم في جنوب السودان لذلك أكبر فرصة لزيادة دفق مياه النيل ممكنة من النيل الأبيض كالآتي:

– جنقلي (1) بحر الجبل توفـــر 5 مليارات متر مكعب من المياه

– جنقلي (2) بحر الزراف توفر 4 مليارات

– مستنقعات بحر الغزال توفــر 7 مليارات

– مستنقعــات الســـوباط توفــر 4 مليارات

20 مليار متر³

الزيادة في دفق مياه النيل بهذا الحجم ممكنة ولكنها تتطلب اتفاقا مع ولاة الأمر في الجنوب.

ومع هذه الحقيقة فقد كان بروتوكول تقاسم الثروة ضمن اتفاقية السلام معنيا بأشياء غير المياه. فانتقدنا ذلك البرتوكول لإهماله مسألة المياه، وكان المطلوب أن ينص في الاتفاق عن الموقف المطلوب في إدارة مياه النيل الأبيض. وفي ندوة مشتركة في نادي الشرطة خاطبت وزير الري السيد كمال علي كيف أغفلوا هذا الجزء الهام من الثروة في حيثيات بروتوكول الثروة؟ قال: لم نستشر!

وقلت له في تلك الندوة بأي منطق قررتم تقديم تشييد خزان مروي على تعلية الرصيرص وخزان ستيت وقد كانت الأولوية في التنفيذ للرصيرص ثم ستيت ثم مروي في تخطيط الديمقراطية الثالثة اعتمادا على المساهمات الفنية الزراعية الهندسية؟ فتعلية الرصيرص تتطلب ثلث ما يتطلبه مروي ويفك اختناقات الري في الجزيرة والمناقل ويضيف 280 ميقاواط في الساعة. وتزيد تعلية الرصيرص إنتاج الكهرباء في مروي وسنار وتعلية الرصيرص يجب أن تسبق مروي لأن التعلية سوف تزيد من الطاقة التخزينية لمروي. وقد التزم بنك التنمية الإسلامي بتمويل تعلية الرصيرص جزئيا وهو مشروع مجد سيجد التمويل المكمل فلماذا أخرتموه؟ قال: لم نستشر في هذا القرار!

أذكر هذه الحقائق لأدلل على سوء إدارة الموارد المائية لا سيما وتعلية الرصيرص هي الوسيلة لاستغلال 4.5مليار متر مكعب تخص السودان حسب اتفاقية 1959م ولا يمكن ان تحسب حقا مكتسبا للسودان إذا لم يكن قد استغلها فعلا. هذا بعض أسباب تمنع السودان من الموافقة على النص المقترح للبند (14) (ب) في اتفاقية حوض النيل المزمعة كما سوف أبين لاحقا.

3. الوضع القانوني في حوض النيل:

وهو الآن مضطرب في وقت يصادف انفصال جنوب السودان المرجح. انفصال تدل المعطيات الحالية على أنه سوف يكون عدائيا فيتداخل مع أزمة حوض النيل.

كان النيل على طوال تاريخه كمورد مائي شأنا مصريا. لذلك كانت كافة الترتيبات القانونية في حوض النيل تكرس هذه الأحادية في أمر النيل:

  •  بروتوكول 1891م يبن بريطانيا نيابة عن مصر وإيطاليا نيابة عن أثيوبيا.
  •  معاهدة 1902م بين منليك إمبراطور أثيوبيا وبريطانيا.
  •  معاهدة 1906م بين بريطانيا وحكومة الكنغو.

كلها كان فحواها عدم القيام بأي عمل من شأنه أن يؤثر سلبا على تدفق مياه النيل شمالا.

ولكن منذ احتلال بريطانيا للسودان بدأ التفكير في أن يكون للسودان نصيب من مياه النيل خاصة وفيه أراض شاسعة صالحة للزراعة. وعندما اغتيل السير لي ستاك حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري في القاهرة على يد وطني مصري قرر البريطانيون أن يخصص للسودان نصيب من مياه النيل على سبيل المعاقبة لمصر ولكي يستغل في ري مشروع الجزيرة في وسط السودان. وقد أدى ذلك لإبرام اتفاقية 1929م بين بريطانيا ممثلة للسودان، ويوغندا، وكينيا، وتنزانيا، والحكومة المصرية على أن يكون نصيب مصر 48 مليار متر مكعب والسودان 4 مليار متر مكعب.

لم يكن السودان بعد استقلاله راضيا عن الوضع القانوني في حوض النيل وبعد حلقات من التفاوض أبرمت اتفاقية 1959م بين مصر والسودان على أن يوزع كل فيض مياه النيل بينهما.

هذه الاتفاقية استفزت دول منابع النيل وكلها عبرت بصورة أو أخرى عن عدم رضائها- مثلا:

  •  مبدأ نيريري رئيس تنزانيا الذي أعلن بعد استقلال بلاده عدم الاعتراف بكل الاتفاقيات السابقة.
  •  كينيا أعلنت موقفا مماثلا. وكذلك يوغندا.
  •  وأعلنت أثيوبيا أن الممارسة الحالية في مياه النيل غير متوازنة ويجب إلغاؤها.

هذه المواقف استدعت تصريحات من مسئولين مصريين- مثلا- ما قاله الرئيس المصري أنور السادات: أن مصر ستحارب إذا مست مياه النيل.

دعت الأمم المتحدة لمؤتمر دولي في الأرجنتين لبحث قضية الموارد الدولية لأن النزاعات بين الدول بسبب المياه كثرت. ثم طلبت الأمم المتحدة من جمعية القانون الدولي ومن مجمع القانون الدولي العمل على تقنين الأحكام العادلة الخاصة بالمجاري المائية.

هذا المجهود شاركت فيه دول ومنظمات متخصصة واستمر لمدة عشرين عاما وكان الخلاف الذي حاولت كل تلك المجهودات العثور على حل له بين وجهتي نظر:

الأولى: ضرورة الإبقاء على الاتفاقيات القديمة بموجب اتفاقية فينا لعام 1978م أي إلزامية المعاهدات وحماية الحقوق المكتسبة.

الثانية: أن الاتفاقيات القديمة مجحفة ومتعلقة بظروف بائدة والمطلوب اتفاقيات جديدة على أسس عادلة.

وبعد مداولات كثيرة صيغت اتفاقية دولية في 1997م. هذه الاتفاقية لم تحسم الخلاف المذكور حسما قاطعا بل:

  •  نصت الفقرة الأولى من المادة الثالثة على الآتي: “ليس في هذه الاتفاقية ما يؤثر في حقوق أو التزامات دولة المجرى المائي الناشئة عن اتفاقيات يكون معمولا بها بالنسبة لهذه الدولة في اليوم الذي تصبح فيه طرفا في هذه الاتفاقية”.
  •  ونصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة على الآتي: “رغم ما نصت عليه الفقرة الأولى يجوز للأطراف في الاتفاقيات القائمة أن تنظر عند اللزوم في تحقيق اتساق هذه الاتفاقات مع المبادئ الأساسية لهذه الاتفاقية”. (الاتفاقية تضمنت مبادئ عدالية).

الخلافات حول هذين المبدأين في دول حوض النيل عميقة ومستمرة. ومع أن التعاون بين دول الحوض في المجالات الفنية جيد إلا أنه محدود لغياب الاتفاق حول المجال السياسي والقانوني في علاقات دول حوض النيل. ومنذ عام 1999م تكونت لأول مرة في التاريخ لجنة جمعت دول الحوض من أجل تعاون تنموي بيئوي مشترك بمسمى تكونيل.

وفي عام 2000م نشرت كتابي “مياه النيل: الوعد والوعيد”. أهم ما ورد فيه أن دول الحوض إن اتفقت تستطيع تحقيق معادلة كسبية. وقلت إن الاتفاقات القديمة لم تعد مجدية لأنها غيبت مصالح دول المنابع لا سيما اتفاقية 1959م المصرية السودانية. وقلت إن الاتفاقية نفسها قالت: “نظرا إلى أن البلاد التي تقع على النيل غير الجمهوريتين تطالب بنصيب في مياه النيل. فقد اتفقت الجمهوريتان على أن يبحثا سويا مطالب هذه البلاد ويتفقا على رأي موحد بشأنها. وإذا أسفر البحث عن قبول أية كمية من إيراد النهر تخصص لبلد منها أو لآخر، فإن هذا القدر محسوبا عند أسوان يخصم مناصفة بينهما”. لذلك اقترحت اتفاقية جديدة من 21 بند لتحل محل الاتفاقيات القديمة. ولكن الاقتراح لم يجد أذنا صاغية، واستمر الخلاف الحاد بين دول المنابع ودولة الممر (السودان) ودولة المصب (مصر).

ومنذ بداية القرن الجديد انطلقت مبادرة حوض النيل التي طرقت كافة أبواب التعاون وتصدت لصياغة اتفاقية شاملة لحوض النيل تقوم بتنفيذ بنودها مفوضية. كان هذا تطوراً حميداً.

وعبر لقاءات مكثفة اتفق على كافة بنود الاتفاقية المزمعة. ولكن اختلف في المادة 14- ب- التي تقول: “تجنب ما يؤثر تأثيرا ملحوظا على الأمن المائي لأية دولة من دول حوض النيل”.

كل الدول وافقت على هذا النص باستثناء مصر والسودان واقترحتا الصياغة الآتية: ” تجنب ما يؤثر سلبا على الأمن المائي وعلى الحقوق والاستخدامات الحالية لدول حوض النيل”.

هذا الخلاف عطل الاتفاقية. ولكن خمسا من دول الحوض وقعت على الاتفاقية واقترحت أن يرفع الموضع المختلف عليه لقمة يعقدها رؤساء دول الحوض.

كان ينبغي تجنب هذا الاستقطاب وتوقيع مصر والسودان على الاتفاقية دون ذلك التحفظ على أن تبحث التفاصيل داخل المفوضية كما تنص على ذلك الاتفاقية. نشأة هذا الاستقطاب بين دولتي الممر والمصب ودول المنابع خطأ كبير ويدل على سوء إدارة التفاوض. وزارة الري المصرية شهدت هزة كبيرة بتغيير وزيرها القدير د. محمود أبو زيد واستبداله بشخص مؤهل أكاديميا ولكنه غريب على هذا المشهد. هذا الإجراء في الظرف الحساس الذي تواجهه مبادرة حوض النيل كان خطأ. وزير الري السوداني كذلك شخص مؤهل ولكن موقف الوزارة السلبي من تغييب رؤية الري في اتفاقية السلام، ومن تغيير أولويات السدود، ومن تفكيك وزارة الري يدل على أن وزارة الري السودانية لن تلعب دورا قياديا في أزمة حوض النيل.

تجنب هذا الاستقطاب واجب سياسي ودبلوماسي وأمني كبير لأسباب فصلناها في كتاب مياه النيل: الوعد والوعيد. ولكن الآن ظهر سبب جديد هو احتمال مولد دولة ذات سيادة في جنوب السودان.

ستولد هذه الدولة دون أن تكون اتفاقية السلام قد حددت أية معالم بخصوص مياه النيل وهي غفلة كبيرة كما ذكرنا.

فاتفاقية السلام التي أوردت احتمال الانفصال تركته قفزة في الظلام دون أية معالم لا سيما في أمر مياه النيل مع أن كل الخبراء والمعلقين كانوا يتوقعون أن يكون موضوع مياه النيل هذا من أهم مجالات التنازع.

قال يوهانس أجاوين مدير منظمة عدالة أفريقيا: استخدام مياه النيل موضع من الأرجح أن يسبب احتكاكا جنوبيا شماليا مباشرة بعد التسوية (أي بعد إبرام الاتفاقية).

4. الأجندة الوطنية:

غالبية الباحثين الغربيين يؤكدون على أن الاهتمام بشكلية الاستفتاء دون محتواه قد يترتب على ذلك من احتراب سوف يجعل اتفاقية السلام مجرد محطة لحرب أكثر دموية ودمارا من الحرب التي انتهت عام 2005م تماما كما حدث لاتفاقية أديس أبابا التي أنهت في عام 1972م حربا محدودة وسوء إدارة الاتفاقية ضمن عوامل أخرى أدت إلى اندلاع حرب في 1983م أكبر وأخطر.

وكما ذكرنا فإن خلاصة آراء هؤلاء وردت في دراسة توماس تالي الذي حذر من دمار وحرب يترتبان على هذه الغفلة. وقد لخصنا رؤاهم في كتاب صدر هذا الشهر بعنوان “ميزان المصير الوطني في السودان”.

ما الذي يمكن من تجنب هذا المصير الدامي؟ لإنقاذ الموقف المطلوب إتباع الأجندة الوطنية الآتي بيانها:

‌أ. إجراء استفتاء نزيه بواسطة جهة محايدة ومؤهلة بحيث لا يستطيع أحد أن يطعن في نزاهته.

‌ب. اتفاق قومي على أسس للوحدة تتجنب فجوات اتفاقية السلام وتطرح رؤية تقوم على الندية. رؤية حددنا معالمها تفصيلا في مجال آخر.

‌ج. الاتفاق على خطة بديلة في حالة اختار الجنوبيون الانفصال تجعله انفصالا محدد المعالم مفصلا لحقوق وواجبات الشمال والجنوب بصورة شاملة.

‌د. كافة النقاط الحدودية المختلفة عليها وأية نقاط خلافية مستعصية تستند لمفوضية حكماء يتفق عليها قوميا وتعطى ما يكفي من الوقت دون ربط ذلك بمواعيد الاستفتاء.

‌ه. أزمة دارفور خطيرة في حد ذاتها والآن تداخلت مع المشاكل الجنوبية الشمالية لذلك ينبغي الإسراع بحلها بما يستجيب لمطالب أهل دارفور المشروعة. على أن تعمم سابقة دارفور على أقاليم السودان الأخرى من باب العدالة الاستباقية.

المطلوب بصورة عاجلة الاتفاق على هذه الأجندة الوطنية على الصعيد القومي لتحقيق مقاصدها الوطنية. هذا الإجراء وحده الكفيل بإجراء استفتاء مدفوع الاستحقاقات شرعي النتائج مكفول بإحدى الحسنين: وحدة محسنة أو جوار أخوي بين دولتين.

5. خطة قومية لإدارة الموارد المائية:

بصرف النظر عن نتائج الاستفتاء فالسودان بحاجة لخطة قومية لإدارة الموارد المائية وهي:

  •  موارد النيل المحددة وفق ما يتفق عليه في اتفاقية جديدة لحوض النيل يشترك فيها الجنوب وكافة دول الحوض.
  •  موارد الأمطار وما توفر من مياه سطحية وتقدر سنويا بما لا يقل 200 مليار متر مكعب أي ثلاثة أضعاف تدفق مياه النيل سنويا.
  •  موارد المياه الجوفية وتقدر بحوالي 180 مليار متر مكعب ومطلوب التخطيط لاستغلالها وإبرام اتفاقيات حول الأحواض المشتركة بين السودان وجيرانه.
  •  بعد الاتفاق على حصص مياه النيل يمكن للسودان لأنه يملك أكبر مساحة أراض صالحة للزراعة أن يتفق مع بعض جيرانه على أساس المزارعة لتحقيق الأمن الغذائي.
  •  على نفس أساس التكامل ينبغي الاتفاق الحوضي على توحيد الشبكة الكهربائية واستغلال مرتفعات الكنغو وأثيوبيا لتوفير الكهرباء الكهرومائية.
  •  ينبغي ضبط استهلاك المياه بتسعيرها فالماء ليس موردا طلقا كالهواء.
  • أكبر نسبة من المياه هي التي تستخدم في الري الزراعي. ويقدر ما يهدر من الماء عن طريق الري بالغمر بحوالي40% عن طريق السرب، والرشح، والبخر، والطفح. ينبغي استخدام وسائل الري الحديثة التي توفر المياه كالرش والتنقيط.
  • تتكون من هذه الأسس خطة قومية للموارد المائية يديرها مجلس قومي للموارد المائية وتنسق مع الخطة التنموية في المجالات: الزراعية- والصناعية- والسكانية- والبيئية.

هذه الخطة القومية للموارد المائية كفيلة بتوفير المياه اللازمة للتنمية في السودان بصورة تكفل أمن البلاد المائي. هذا التوجه الواعد يفترض أمرين هما الآن معلقان في الهواء: تحقيق سلام شامل وعادل في السودان. وتحقيق اتفاق شامل وعادل في دول حوض النيل.

هذان الأمران معلقان في الهواء لا بسبب استحالة تحقيقهما فتحقيقهما ممكن ولكن بسبب غياب الوعي لدى صناع القرار، وغياب الإرادة السياسية المطلوبة. غياب في الوعي ونقص في الإرادة السياسية تفتحان باب الاقتتال وبالتالي أوسع الأبواب للأجندات الأجنبية المعادية.

بعض الزعماء زحموا الأثير تحدثا عن عزمهم عدم استئناف الحرب وربما كانوا صادقين ولكن منع الحرب لا يتوقف على حسن النوايا. فللحرب أسباب لا يمكن منعها إلا بإزالة تلك الأسباب.

الحديث عن الامتناع عن الحرب دون إزالة أسبابها الماثلة للعيان دروشة سياسية جوفاء.

ومن أكبر مسوغات الوصف بالدروشة السياسية تصور أن مشاكل البلاد محصورة في ثنائية حزبية أثبتت عجزها حتى الآن وحيلتها الوحيدة هي الاستنجاد برافع دولي، قل أمريكي، كل الدلائل تدل على جهله بتشخيص الحالة السودانية. جهل تدفعه لوبيات ذاتية المصالح قصيرة النظر.

ولا نجاة إلا بالتخلص من الهيمنة الثنائية، والاستنجادية الأجنبية، والاعتماد على نهج قومي لحل مشاكل بطبيعتها قومية.

وذي علة يأتي عليلا ليشتفى به وهو جار للمسيح ابن مريم .