ورقة: مستقبل السلام في السودان وتداعيات استراتيجية الأمن الأمريكي

بسم الله الرحمن الرحيم

مركز دراسات السلام والتنمية

الموضوع: مستقبل السلام في السودان

وتداعيات استراتيجية الأمن الأمريكي

ورقة الصادق المهدي

رئيس حزب الأمة

16/2/2002م

أخي الرئيس:

أشكر مركز دراسات السلام والتنمية على إقامة هذه الندوة وعلى دعوتي لمخاطبتها في هذا الموضوع الهام الذي يتعلق بمصير الوطن ولا يملك أحد أن يقف إزاءه متفرجا فالإهتمام به والمساهمة بكل المستطاع فيه واجب وطني.

سوف أتناول هنا رحلة السودان من الاقتتال  للسلام والعوامل المؤثرة في هذه الرحلة. وسوف أفصل أسس السلام ومرجعياتها السودانية. وأتحدث عن أسباب الحاجة لطرف ثالث وسيط.

ثم أتناول الدور الأمريكي في تطوير وساطة الإيقاد الإقليمية ومآلاتها حتى مشاكوس ثم واشنطن، ومواقف القوى السياسية المختلفة منها، ومجهودات بلورة الرؤى القومية بشأنها. وأختتم ببيان مستقبل السلام في السودان وتداعيات استراتيجية الأمن الأمريكي عليه.

ألتمس صبر الحاضرين معي إذ أطرح حجتي عبر محورين يحتوي كل منهما على ست نقاط مفصلة كالتالي:

المحور الأول: رحلة السودان من الاقتتال للسلام:

أولاً: التباين الإثني والديني:

في السودان تباين أثني، ديني، ثقافي بيانه:

التنوع الاثني: ثلث إلى 40% من السكان عرب، وربع السكان قبائل نيلية واستوائية، والبقية قبائل حامية مستعربة.

التنوع الديني: 70% من السكان مسلمون. و10% مسيحيون و20% يدينون بأديان أفريقية محلية.

التنوع الثقافي: هنالك مالا يقل عن عشر ثقافات أهمها: الإسلامية العربية- النوبية- البجاوية- النيلية الأنجلوفونية المسيحية- النيلية الأفريقانية- الاستوائية الانجلوفونية المسيحية- الاستوائية الأفريقاينة-النوباوية- الإسلامية الافريقانية.

مسيرة السودان في الخمسمائة سنة الأخيرة مع اختلاف العهود أفضت إلى ترجيح كفة الثقافة الإسلامية العربية على أيدي الممالك السودانية الأفريقية الفونج، الفور، والمسبعات، وتقلي. وفي العهد التركي المصري، وفي المهدية، وفي الحكم الثنائي، وفي العهود الوطنية التي أعقبت الاستقلال.

هذا الرجحان خلق توترا بين الثقافة المركزية الإسلامية العربية والثقافات الأخرى.

ثانيا: التباين وتناقض  الرؤى: الحكم البريطاني أضاف للتباين السكاني في السودان هوية جديدة هي الهوية الأنجلوفونية المسيحية (سيرد الحديث عن دور  الحكم الثنائي لاحقا). الوعي الوطني في السودان تبلور غالبا في الشمال وكان أول تعبير علني عنه مذكرة مؤتمر الخريجين العام في أبريل 1942م. المذكرة مكونة من 12 بندا، وخصصت ثلاثة بنود منها للمطالبة بإلغاء سياسة المناطق المقفولة وما ترتب عليها من برامج وخطط. الوعي الوطني السوداني الحديث كما تبلور في الشمال اعتبر الهوية الجديدة الأنجلوفونية المسيحية غرسا أجنبيا ينبغي اقتلاعه. ما ورد في هذه المذكرة بهذا الشأن لون سياسات الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال. مع الفرق الآتي:

الحكومات الديمقراطية ربطت سياساتها نحو الجنوب بحوارات أهمها: المائدة المستديرة 1965م- لجنة الإثنى عشر 1966م- مؤتمر كافة الأحزاب 1967م- مؤتمر كوكادام 1986م- المبادرة السودانية 1988م- برنامج القصر الانتقالي 1989م.. أما الحكومات الأوتقراطية فإنها اتخذت نهجا فجائيا أحاديا: طرد القساوسة الأجانب 1964م- قوانين سبتمبر 1983م- والتوجه الحضاري الذي أعلنه نظام “الإنقاذ”.

ثالثا: محطات في رحلة الاقتتال: وفي هذا الصدد ينبغي أن تذكر المحطات الآتية:

– مذابح أغسطس 1955م كانت تعبيرا عن عدم ثقة القيادة العسكرية الجنوبية في القيادة العسكرية السودانية العليا الجديدة،واحتجاج على برنامج السودنة الذي أدى لإحلال شمالي للقيادات البريطانية كما أوضح ذلك تقرير القاضي مطران.

  • حركة أنيانيا الأولى 1963م كانت احتجاجا على طرد الكوادر السياسية عقب انقلاب 1958م. احتجاج أعطاه الجنود المسرحون بعد عصيان 1955م بعدا عسكريا، وأعطاه طرد القساوسة الأجانب في مارس 1964م بعدا دينيا.
  • التذمر من إدارة دمج القوات في برنامج اتفاقية السلام لعام 1972م، والشكوى من خرق الاتفاقية بإجراءات نظام مايو الفوقية، كانا سببا في انطلاق حركة الجيش الشعبي والحركة الشعبية التي صادفت عاملين آخرين هما: انحياز مايو للغرب المقنن باتفاقية الدفاع المشترك، وما صحبها من تدابير ومناورات بعد عام 1976م، وإعلان الأحكام المسماة إسلامية في قوانين سبتمبر 1983. هذان العاملان حولا تذمرا ذا طابع محلي إلى حركة ذات أصداء عالمية.

التباين وتأجيج الحرب: يعاب على الحكومات الديمقراطية البطء في الوعي بالتنوع الثقافي السوداني وبلورة استراتيجية قومية للتعامل معه. ولكن فترات حكمها كانت قصيرة وتجنبت القرارات المفاجئة والتزمت أسلوب التشاور مع الأطراف الجنوبية في كل الحالات. ولكن سياسات النظم الأوتقراطية اتسمت بأمرين هامين هما: الأول: القرار الفوقي المفاجئ. الثاني: تصعيد التشدد ابتداء من سياسة حكومة 17 نوفمبر 1958م التي اقتصرت على إجراءات إدارية وتعليمية معينة وطرد القساوسة الأجانب، ثم سياسة النظام المايوي التي حققت اتفاقية السلام استنادا على تحضيرات الديمقراطية الثانية، ولكنها نكثت غزلها بالتخلي عن بعض بنود اتفاقية السلام من جانب واحد وإعلان قوانين سبتمبر 1983م، ثم سياسة نظام “الإنقاذ” الأكثر إحاطة ومنهجية في تطبيق برنامج إسلامي عربي صارم برؤية حزبية. هذا التصعيد في التشدد قابله في الطرف الآخر تصعيد في تطرف المقاومة من حركة أنيانيا الأولى ذات الطابع المحلي والإمكانات المحدودة -لا أعتقد أن قواتها زادت كثيرا عن 3 آلاف. ولم تحتل أية مدينة. وكنت كرئيس للوزراء في الستينيات قادرا على طواف الجنوب كله بالسيارات، والقطارت، والسفن، والمروحيات، دون أدنى عائق- إلى الحركة الشعبية وجيشها ذات السند القومي العريض، والسند الإقليمي والدولي، والقدرات التي فاقت أنيانيا الأولى أضعافا مضاعفة. الحركة الشعبية وجيشها توغلت في سياسات الحرب الباردة العالمية والحرب الباردة الإقليمية، لذلك لم تتجاوب مع مبادرات السلام أثناء حكومة الانتفاضة الانتقالية، وكذلك أثناء الديمقراطية الثالثة. هذا الموقف ساعد الجبهة الإسلامية القومية في بلورة موقف شمالي مضاد انطلق من شعارات أمان السودان إلى سياسة نظام “الإنقاذ” بعد حركة يونيو 1989م.

رابعا: تصعيد التناقض: في عهد نظام الإنقاذ بلغ تناقض الرؤى أقصى مداه واتخذت الحرب طابعا دينيا ثقافيا صريحا.

استعدى نظام الإنقاذ في أعوامه العشرة الأولى قوى سياسية عريضة في الشمال، وعمق الحرب الأهلية بإدخال تعبئه جهادية، واستعدى دول الجوار بشعاراته المتشددة، وانحاز لشبكة التشدد الأممية بصورة أثارت ضده القوى الدولية العظمى.

هذه العوامل كلها تراكمت لتدعم مواقف القوى المعارضة له بصورة غيرت طبيعية المواجهة في السودان وعمقت الاستقطاب فيه وبلغ الاقتتال عمقا وعرضا مداه.

وفي أثناء هذه المواجهة الحادة استطاعت القوى الحاكمة قبل انقلاب 30 يونيو 1989 والتي أوشكت أن تعقد مؤتمرا دستوريا قوميا لابرام اتفاقية سلام في 18 سبتمبر 1989 أن تواصل حواراتها مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي وهم جميعا في معارضة ومقاومة النظام الجديد. حوارات أفضت إلى قرارات أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو1995 وهي قرارات حسمت لأول مرة في تاريخ السودان الحديث القضايا الهامة الآتية:

  • الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية واعتماد المواطنة أساسا للحقوق والواجبات الدستورية.
  • الاعتراف بأن القسمة لعائدات الثروة القومية غير عادلة ووجوب تحقيق التوازن.
  • تأكيد لا مركزية الحكم في البلاد وضرورة مراجعة هياكل الدولة لاستيعاب اللامركزية والتنوع الثقافي.
  • الاعتراف بأن أسس الوحدة قد اهتزت بما يوجب الالتزام بالوحدة الطوعية عبر استفتاء لتقرير المصير بعد فترة انتقالية يتم أثناءها رفع المظالم لإعطاء أولوية للوحدة.

خامسا: استدراك من التصعيد: ومنذ عام 1997 أدرك النظام الحاكم في السودان استحالة حسم النزاع عسكريا فوقع مبادئ الإيقاد الستة وأبدى استعداده للحوار مع الرأي الآخر في كل المجالات، وعبر اتفاقيات السلام من الداخل عام 1997 استصحب أغلبية قرارات مؤتمر أسمرا 1995 التي كان قد رفضها في البداية.

إن الأٍسس التي اتفقت عليها المعارضة للسلام في 1995 والتي قبلتها الحكومة فيما بعد والتي  تمثل مفرداتها أساسا لحل وسط تقبله كافة أطراف النزاع أسس كونها الاجتهاد والحوار السوداني.

سادسا: الحاجة للوساطة والوساطات التي جرت: تجربة نظام الإنقاذ وما صحبها من سياسات استئصالية للآخر عمقت الاختلافات الفكرية والسياسية السودانية وخلقت فجوة ثقة كبيرة لم يمكن معها لأطراف النزاع السودانية إجراء حوارات مباشرة وتبادل التنازلات وإبرام الاتفاقيات. لذلك ظهرت الحاجة لطرف ثالث وسيط.

بعد اخفاق محادثات أبوجا خاطب النظام حلفاءه في منظمة الإيقاد للقيام بدور الوساطة ففعلوا واقترحوا إعلان المبادئ الستة أساسا للتفاوض في عام 1994.

لم يشأ النظام السوداني في تلك المرحلة التوقيع على إعلان المبادئ وانتظر ثلاثة سنوات ليوقع عليها في 1997.

مع أن مبادرة الإيقاد هذه خطت خطى إيجابية إلا أنها تعثرت لأسباب أهمها:

  • مبادئ الإيقاد بسطت أمرا معقدا وهو إما سودان علماني ديمقراطي موحد وإما تقرير مصير.
  • دول الإيقاد نفسها تورطت منذ عام 1998 في حروب إقليمية غيرت أولوياتها.
  • وساطة الإيقاد حصرت التوسط في الحكومة والحركة الشعبية ولم تعبأ بأطراف النزاع الأخرى. كذلك لم تعبأ بمشاركة دول الجوار الشمالية للسودان.

وفي عام 1999 قامت ليبيا بمبادرة لحل النزاعات السودانية وافقت عليها كل القوى السياسية السودانية وأصبحت أساسا للمبادرة المصرية الليبية المشتركة.

هذه المبادرة حققت تقدما لاسيما عندما قبلت كل الأطراف السودانية مذكرتها في يونيو2001 لكن المبادرة المشتركة بدورها عجزت للأسباب الآتية:

  • صرفت النظر عن فكرة تقرير المصير التي صارت مطلبا جنوبيا مشتركا.
  • غيبت المبادرة جيران السودان في القرن الأفريقي وكذلك دول الأسرة الدولية المعنية بالشأن السوداني.
  • لم تتخذ المبادرة لنفسها آليات حركة خاصة بها مما أفقدها مرونة الحركة والمبادأة.
  • كان منبر شركاء الإيقاد المكون من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان مهتما بالشأن السوداني عبر محادثات الإيقاد. ولكن كان واضحا أن تلك المحادثات غير جادة وظلت تراوح مكانها سنوات.

ولكن استجابة لتنافس المبادرة المشتركة حاولت دول شركاء الإيقاد نفخ الروح في مبادرة الإيقاد من جديد بتشجيع تكوين آليات جديدة وبتمويل تحركاتهم.

المحور الثاني: الدور الأمريكي وماشاكوس

أولا: بروز الدور الأمريكي:  كان الموقف الأمريكي في ذلك الوقت عازفا عن إنجاح محادثات السلام السودانية ومركزا على عزل واحتواء النظام السوداني.

ولكن في مارس 2001  تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مسألة السلام في السودان وأصدر تقريره الشهير الذي يقترح فيه نهجا أمريكيا جديدا.

انشغلت السياسة الأمريكية في أواخر عهد الرئيس كلنتون بالانتخابات الرئاسية التي أعقبها فوز الرئيس بوش.

واستنادا لدراسات كثيرة غيرت إدارة الرئيس بوش سياستها نحو السودان بصورة جعلتها أقرب للموقف الأوروبي. نتيجة للخط الأمريكي الجديد عين الرئيس الأمريكي الشيخ السابق جون دانفورث مندوبا خاصا له للسودان.

وبعد زيارة السودان والاتصال بكل القوى السياسية السودانية اقترح دانفورث أربع اتفاقيات لتكون أساسا لبناء الثقة وتأكيد الجدية وأبرمت الاتفاقيات ونجحت في مقاصدها.

وبالتفاهم مع كينيا استطاع الجهد الأمريكي أن يساعد على ترتيب لقاءات مشاكوس التي أثمرت البروتوكول في 20 يوليو 2002 ثم مذكرة التفاهم في 18 نوفمبر 2002م والاتفاق على هدنة شاملة حتى مارس 2003.

وبعد نهاية الجولة الأخيرة من المحادثات دعت الحكومة الأمريكية أربعة من كل فريق من فريقي التفاوض للاجتماع في واشنطن في ديسمبر الجاري.

ثانيا: مواقف القوى المختلفة: وجد بروتوكول مشاكوس ومذكرة التفاهم والهدنة ترحيبا واسعا في السودان. ولكن بعض القوى السياسية كالمؤتمر الوطني الشعبي تحفظت على هذه الاتفاقيات كذلك كان موقف مصر وليبيا في جوهره متحفظا بدرجة متفاوتة.

القوى السياسية السودانية غير الممثلة في المحادثات تنادت إلى اجتماع في دار الأمة ووقعت مذكرة في 19 أغسسطس 2002 أيدت تلك الاتفاقيات ووضحت رأيها في بعض النقاط القابلة لأكثر من تفسير وطالبت بإشراك القوى السياسية في المحادثات باعتبارها شأنا قوميا وطالبت بضرورة ربط اتفاقية السلام بالتحول الديمقراطي بصورة واضحة.

إن المراكز الدراسية والمنابر المهتمة بالسلام في السودان كثيرة جدا اشتركنا في حزب الأمة بصورة أو أخرى في 21 مركز ومنبر وكلها أعدت دراسات مفصلة حول قضايا السلام، كما شاركت العديد من الفعاليات السياسية ومنظمات المجتمع المدني  فيها.

هناك توقع  عام أن اتفاقية السلام سوف تكون محركا سياسيا كبيرا في السودان نحو التغيير.

إن أهم سببين للقبول الواسع في السودان للاتفاق هما أنها تضع حدا لحرب مرفوضة وإنها أداة تغير قادم.

هناك أربع رؤى حول عملية السلام هي:

الرؤية الأولى: رؤية النظام أو قل جزء هام من صناع القرار داخل النظام. هؤلاء يتطلعون لاتفاق مع الحركة الشعبية وجيشها يكون أشبه باتفاقيات السلام من الداخل بحيث يضع حدا للاقتتال ويقتسم السلطة مع الحركة بصورة تترك نظام الحكم إلى حد كبير كما هو.. هذا خيار التصالح الثنائي الذي لا يمانع في إشراك قوى سياسية أخرى ولكنه إشراك التوالي.

الرؤية الثانية: هنالك رؤية داخل الحركة أو قل جزء هام من صناع القرار فيها، وهم يرون مواصلة التفاوض والاستمرار في خلق واقع عسكري وسياسي ودبلوماسي خارج طاولة المفاوضات-  التحركات العسكرية النشطة أثناء التفاوض والتحركات ا لسياسية الإقدامية مثل مؤتمر كاودا في 4 ديسمبر 2002م- والهدف إقامة سودان معلمن مؤفرق بقيادة الحركة أو جنوب موسع مستقل. هؤلاء تربطهم تحالفات مع بعض دول الجوار وبعض الدوائر الدولية(دولتا إريتريا ويوغندا واليمين الأمريكي المتطرف).

الرؤية الثالثة: هنالك رؤية منظمات مجتمع مدني نشطة تتطلع لاتفاقية سلام تحقق أكبر درجة من المكاسب للجنوبيين وغيرهم من المناطق الأكثر تخلفا. ويرون ضرورة ربط اتفاقية السلام العادل بالحكم الصالح في البلاد عامة، وكذلك في الجنوب: الحكم الذي يقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية. هؤلاء هم الذين وقفوا وراء مؤتمر كيسومو في كينيا في 16-22 يونيو 2001، وهم وراء تكوين المنبر المدني السوداني Sudan Civil Forum الذي عقد اجتماع عنتبي في 5-12 أكتوبر 2002م، وملتقى القيادات الكنسية وحلفائها في عنتبي في 29 يونيو- 3 أغسطس 2002م، وإعلان كمبالا لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق في 21-24 نوفمبر 2002م.

وهنالك الجمعية القانونية السودانية التي يقودها د. بيتر نيوت في رمبيك، وشباب غرب بحر الغزال، وعدد من الجمعيات المقيمة في خارج السودان أو في المناطق التي يديرها الجيش الشعبي.

هؤلاء جميعا يريدون السلام ويرون ضرورة تقرير المصير كوسيلة لضمان حقوقهم، فإن تحقق الإصلاح فإنهم يرجحون وحدة البلاد. وهم يربطون بين السلام وكفالة حقوق الإنسان والحكم الصالح. هؤلاء يمثلون أجندة إصلاحية بتركيز خاص على إنصاف الجنوب والمناطق المتظلمة ويذكر بعض المشتركين في مباحثات مشاكوس أن عددا من أعضاء وفد الحركة في السر يريدون ضمانات ديمقراطية للمستقبل خشية فرض رأي الفرد.

الرؤية الرابعة: خيار الحل السياسي الشامل الذي يقوم على اتفاقية سلام عادل يحقق العدالة والتوازن وعلى تحول ديمقراطي يحقق الديمقراطية المستدامة ويكون أساس الضمان لاتفاقية السلام.. هذه هي الأجندة الوطنية.

هذه الرؤى سوف تسعى جاهدة لتحقيق مكاسب سياسية عبر التفاوض مكاسب سياسية ودبلوماسية ولكنها كلها سوف تسعى للتأييد الأمريكي لماذا ؟ لأن أمريكا وسيط فعال وفاعلية أي وسيط تتوقف على ثقة الأطراف فيه،أو طمعها في نواله،أو خوفها من عقابه، وهذه العوامل كلها أو بعضها تتوافر لدى الولايات المتحدة في نظر كافة أطراف النزاع.

الصراع السياسي بين هذه الاجندة الآن علي اشده وكل اجندة تسعي لاستقطاب تأييد واسع داخليا وخارجيا.

من جانب النظام هنالك مخاوف من نتائج انتخابات عامة حرة ومخاوف من آثار التنازلات على قواعده الفكرية. ومن جانب الحركة هنالك مخاوف من نتائج التحول لكيان سياسي ومن نتائج الانتخابات كما تجد صعوبة في التوفيق بين التطلع لتحرير السودان في  مستوى القيادة والتطلع لتحرير الجنوب في  مستوى القاعدة.

وهنالك مخاوف من غياب جيران السودان في شماله سيما مصر  وليبيا والغياب العربي كله.

هذه المخاوف ينبغي مخاطبتها بوضوح وشفافية وتطمين المشروع منها وعزل التحكمي منها. مستقبل اتفاقية السلام يتوقف على إبرام اتفاقية عادلة وضمان استمرارها أي السلام المستدام وليس مجرد وقف الحرب.

ثالثا: مبادرة الأمة للتعاهد  الوطني:

هنالك مبادرات سياسية كثيرة في اتجاه دعم الأجندة الوطنية مثل ندوة العميد في جامعة الأحفاد ومنبر “السودان أولا” وغيرهما.

حزب الأمة قام باتصالات واسعة بكل القوي السياسية السودانية ممهدا لمشروع قدمه بعد دراسة أجهزته له مشروع أو مبادرة الأمة للتعاهد الوطني.

هذه المبادرة ترحب بدور الوسطاء في الشأن  السوداني ولكنها ترى نقل مركز الثقل لاهل الشأن لسودنة وشعبنة مشروع السلام السوداني وربط السلام العادل بالتحول الديمقراطي.

هذه المبادرة قسمت المسائل الهامة والمختلف عليها إلى 31 بند وتقع في ثلاثة أقسام.

القسم الأول نقاط اتفق عليها من حيث المبدأ ولكن تفتقر إلى توضيح وتفصيل. والقسم الثاني نقاط طرقها التفاوض دون الوصول لاتفاق  حولها. والقسم الثالث نقاط لم يطرقها التفاوض بعد ولكنها هامة لتحقيق اتفاق سياسي شامل في السودان يحقق المطلبين المشروعين: السلام العادل والتحول الديمقراطي الحقيقي. إننا نعمل علي توحيد الرؤية الوطنية حول هذه النقاط وبعد ذلك جعلها أساسا لتعبئة فكرية وسياسية وشعبية ودبلوماسية ناطقة باسم الشعب السوداني ومخاطبة وعي ووطنية طرفي التفاوض- أي الحكومة السودانية والحركة الشعبية وجيشها.

وفي الطريق لهذا التعاهد عقد اجتماع يوم الاثنين 17/12/2002 ضم القوي السياسية السودانية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية التي وزعت عليها نصوص التعاهد المقترح لتداول الرأي بشأنه تم فيه تداول المبادرة واتفق على مواصلة الاجتماع يوم  الاثنين 24/12/2002م.

رابعا: وثائق هامة تبين الموقف الأمريكي: ما هي حقيقة الموقف الأمريكي من ما يجري في السودان وماذا يكون الموقف الأمريكي من الاجندات المتصارعة بشأن مستقبل السلام في السودان؟

هنالك ثلاثة وثائق أمريكية هامة يمكن أن تلقي ضوءا علي الجواب.

الوثيقة الأولي: بيان عن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي نشرت في سبتمبر 2002 خلاصتها:

  • شن حرب شاملة علي الإرهاب بعون دولي أو بدونه.
  • تبني تطلعات الشعوب في افريقيا للسلام والتنمية والديمقراطية انطلاقا  مع أربعة مراكز هي: جنوب افريقيا ـ ونجيريا ـ وكينيا ـ وأثيوبيا
  • الحيلولة دون امتلاك العدو أسلحة الدمار الشامل وتأكيد ان هناك خط تلاقي بين الإرهاب ودول ساعية لامتلاك أسلحة الدمار الشامل هي العراق وكوريا الشمالية.
  • لا نلتزم بضوابط الدفاع عن النفس العادية في القانون الدولي لأن عدونا الآن يمتاز بالتحرك السري المباغت وهذا يبرر لنا العمل الوقائي المنفرد.
  • سوف نعمل بكل الوسائل لنشر الديمقراطية والتنمية ومحاربة الفقر.
  • لا نعتبر أنفسنا طرفا في صدام حضارات وما نشاهده هو صراع داخل الحضارة الإسلامية لتحديد أي اتجاه سوف يسيطر علي مستقبل العالم الإسلامي؟
  • سوف نتعاون مع مراكز أخرى هي روسيا ـ الهند ـ والصين ضد الإرهاب.
  • يجب أن نجهز أجهزتنا الأمنية والعسكرية للمهام الجديدة.
  • يجب ألا نسمح لقوة أخرى أن تنافسننا عسكريا في العالم.

هذه الوثيقة تعني أن الولايات المتحدة سوف تقوم بدور شرطي عالمي فيما يتعلق بحرب الإرهاب كما تعرفه، وفيما يتعلق بامتلاك دول معينة لأسلحة الدمار الشامل.

وتعني الوثيقة أيضا أن الولايات المتحدة سوف تقوم بدور مصلح اقتصادي وسياسي في اتجاه التنمية والديمقراطية علي صعيد العالم. ويبدو واضحا من الوثيقة الحقائق الآتية:

  • أنها تمثل توفيق بين رأي الصقور ـ الشرطي ـ ودور الحمائم ـ المصلح.
  • أن الولايات المتحدة تخشى تحركات الشعوب أكثر من المقاومة العسكرية فأسقطت إيران من محور الشر للحركة الاحتجاجية الشعبية الواسعة في إيران. وأسقطت ذكر إسرائيل ضمن الحلفاء ضد الإرهاب مع وجود هذا التحالف خوفا من إثارة الشعوب العربية.

الوثيقة الثانية: خطاب وجهه ستون عالما أمريكيا من الطراز الأول في الحياة الأمريكية للعالم الإسلامي في فبراير 2002م. خلاصته:

  • دولتنا ترتكب أخطاء معترف بها.
  • حضارتنا فيها مثالب كالنزعة الاستهلاكية والأنانية وضعف كيان الأسرة والانشغال بثقافة التسلية ونحن نرفضها وعلينا إصلاحها.
  • لكن لا أخطاء دولتنا السياسية ولا مثالب حضارتنا تبرر العدوان العشوائي علي الأبرياء الذي وقع في 11/9/2001م.
  • هنالك قيم نحترمها وهي قيم كلية علي البشر احترامها هي : كرامة الإنسان، وحرياته، والأخلاق، وهي القيم التي جعلت مجتمعنا جذابا للناس من كل مكان.
  • نحن علمانيون بمعني أن المسؤولين في المؤسسات الدينية ليسوا هم في الوقت ذاته المسؤولين في المؤسسات الرسمية الحاكمة. ومع ذلك فنحن أكثر الغربيين تدينا ونقسم يمين الولاء لدولة في ظل الله وعلاقة الدين والدولة عندنا متطورة بحوار مستمر.
  • الحرب كريهة ولكن وقف الشر واجب. وما دام أعداؤنا مصرين علي مواصلة العدوان فإن علينا أن نشن الحرب عليهم دفاعا عن أنفسنا.
  • حربنا الدفاعية يجب ألا تكون توسعية، وأن توجه ضد المعتدين دون سواهم، وأن تكون منضبطة أخلاقيا.
  • ما حدث 11/9 جريمة جماعية ولكنها لا تمثل إلا أقلية من المسلمين. أقلية تعلن العداء ضد الآخر من حيث المبدأ في إشارة لعقيدة الولاء والبراء الإنكفائية.
  • علينا أن نحمي أنفسنا وأن نتجنب غطرسة القوة. ونمد أيدينا للحوار والصلح مع العالم الإسلامي علي أساس العدل والاحترام المتبادل.

هذه الوثيقة وإن لم تصدر عن جهة رسمية تمثل توجها إيجابيا من شخصيات ذات وزن كبير في الولايات المتحدة. وبها بعض ازدواج المعايير لأنها لا تذكر إرهاب الدولة الذي تشنه إسرائيل في فلسطين. ولكن الوثيقة تفتح بابا هاما لحوار حضاري مثمر يساعد علي احتواء اندفاعات الصقور ويدعم مواقف المعتدلين في السياسة الأمريكية.

الوثيقة الثالثة: قانون سلام السودان الصادر  في نوفمبر 2002م.

خلاصة هذا القانون:

  • الحكومة السودانية تقوم بممارسات بغيضة مثل غارة المليشيات الحكومية علي القبائل الجنوبية واسترقاق أهلها ـ واستغلال عائدات النفط لشن الحرب ـ والتطهير العرقي ـ والتفاوض غير الجاد مع الآخرين بأسلوب فرق تسد ـ وحرمان مناطق كثيرة من الإغاثة الإنسانية ـ وقصف جوي للمناطق المدنية.
  • علينا أن ندعم السلام والحكم الديمقراطي في السودان ونقدم المساعدات في هذا الصدد.
  • نثمن مجهود المبعوث الأمريكي الخاص للسلام في السودان وسنراقب ما يحدث للتأكد أن الطرفين يتفاوضان بحسن نية وعزيمة صادقة عن طريق تقارير تقدم لنا كل ستة أشهر.
  • في حالة إخلال حكومة السودان بهذا النهج فسوف نقوم بفرض عقوبات اقتصادية وحرمان النظام من عائدات النفط وحظر السلاح. وعلي وزير الخارجية أن يجمع معلومات عن أحداث يمكن أن تشكل جرائم  ضد الإنسانية، الإبادة الجماعية، جرائم الحرب وأي انتهاكات أخرى للقانون الدولي والإنساني ترتكب بوساطة كل أطراف النزاع في السودان بما في ذلك الاسترقاق والقصف الجوي للأهداف المدنية.
  • علي الرئيس أن يقدم لنا بعد 90 يوما من إجازة هذا القانون تقريرا عن سير عملية السلام في السودان.

هذا القانون ليس ملزما للإدارة الأمريكية ولكنه مرآة صادقة لآثار اللوبيات القوية التي انتشرت في أمريكا والتي غذتها سياسات النظام السوداني في العشرة أعوام الأولي من عهده وصارت ذات حيوية ذاتية. لقد أوضحت دراسة عن هذه الأنشطة أنها بعد تكوينها تكون لها منافع ذاتية بحيث تذهب نصف التبرعات التي تجمعها لمصلحة العاملين عليها.

هذا القانون يرسم صورة لما عليه الرأي العام داخل الكنغرس الأمريكي حول الشأن السوداني ومع أنه غير ملزم للإدارة إلا إنها لا تستطيع تجاهله.

لذلك  جدد الرئيس الأمريكي في أوائل نوفمبر 2002م وقبل إجراء الانتخابات النصفية قانون عقوبات السودان الأمريكي بعد أن انتهت مدته في 1/11/2002.

ولا شك أن دعوة فريقي التفاوض السوداني لواشنطن الآن مخاطب  بها الرأي العام الأمريكي لتأكيد اهتمام الإدارة بالشأن السوداني وارضاء استطلاع الجهات الأمريكية المعنية. كذلك  أن الدعوة تزيد من الدور الأمريكي في عملية سلام يبدو أنها انجح من عمليات السلام الأخرى التي أحرقت أمريكا فيها أصابعها مثل سلام الشرق الأوسط.

خامسا: قائمة وأولويات المصالح الأمريكية كالآتي:

  • حرب الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
  • تأمين انسياب النفط.
  • أمن إسرائيل.
  • الاستجابة للوبيات حقوق الإنسان.
  • اهتمام جديد للتعامل  مع القهر والفقر باعتبارهما مصدري إرهاب ومن ثم اهتمام بالديمقراطية والتنمية.

بالنسبة للسودان هنالك مصالح خاصة ينبغي ذكرها هي:

  • السلام في القرن الأفريقي الكبير مطلوب لجعله خط دفاع ثان عن الخليج.
  • سودان موحد علي أسس جديدة خير من انفصال يجعل الشمال مندفعا في توجهات متشددة تقلق محيطه الجيوسياسي وتجعل الجنوب عرضة لحروب تفان قبلية واضطرابات في القرن الأفريقي وشرق افريقيا.

سادسا: الاستراتيجية الأمريكية: ومستقبل السلام

أي  الاجندات السودانية المتعلقة بمستقبل السودان أقرب للتجاوب الأمريكي؟

الاجندة الحصرية للتصالح الثنائي مع الإبقاء علي الشمولية سوف تركز علي جدواها في محاربة الإرهاب وجدواها في إقامة حكم مستقر لتنال تقديرا أمريكيا لمشروعاتها في المستقبل.

أصحاب الاجندة الحصرية الثانية الذين يسعون لاقامة سودان بديل استنادا للاحتجاج الاثني سوف يركزون علي أفضلية رؤاهم لسودان معلمن ومؤفرق.

الاجندة الوطنية اذا هي اتسمت بوضوح الرؤية الفكرية في إزالة أسباب الحرب واقامة سودان عادل، واقامة حكم ديمقراطي مستقر ودعمت موقفها بسند شعبي عريض واستطاعت أن تؤكد موقفها الواضح من الإرهاب وتطلعها للتوازن فيما يتعلق بأمر البترول هي الأقدر علي تحقيق درجة أعلى من الاستجابة الأمريكية في الأوساط الأكثر اعتدالا وعقلانية في الولايات المتحدة.

هنالك  أسباب غلبت الاتجاه المعتدل في أمريكا نحو السودان أهمها:

  • إخفاق سياسة العزل والاحتواء.
  • تجاوب كافة أطراف النزاع مع الدور الأمريكي للمساعدة علي إنهاء الحرب.
  • في السودان فرصة لإيجاد معادلة كسبية ونجاح للسياسة الأمريكية خلافا لمناطق أخرى.
  • السلام والاستقرار في السودان مطلوب لسلام القرن الأفريقي المطلوب لاهداف استراتيجية.

اذا صح هذا التحليل فان الاجندة الوطنية السودانية هي الأقوى حجة لدي المعتدلين الأمريكان:

  • الأجندة الحصرية الشمالية غير مأمونة وتكمن فيها عوامل لها خطورتها مثل احتمالات تجدد التشدد عندما يزول ضغط الحرب الأهلية.
  • الأجندة الحصرية الجنوبية وإن كانت حبيبة للمتشددين تفتح باب مزيد من الحروب لأنها سوف تثير ردود فعل واسعة مضادة.
  • السلام في السودان لا يمكن تأمينه بضمانات داخلية إلا في إطار ديمقراطي.
  • الديمقراطية في السودان تؤدي لاعتدال لا تطرف مثلما في كثير من البلدان الأخرى فالسودان اكتوى بالتشدد الإسلامي ويتطلع الشعب لاعتدال إسلامي قادر على التعايش مع الأديان الأخرى ومستجيب لمطالب العصر.

يضاف لهذه العوامل أن مناخ الدعوة للديمقراطية في المجالين العربي – يدل على ذلك تقرير هيئة التنمية التابعة للأمم المتحدة 2002 – والأفريقي- يدل على ذلك موقف النيباد-  مناخ لا يمكن  الاستخفاف به.

مطالب الشعب المشروعة في السودان هي سلام- ديمقراطية- تنمية- عدالة وهي تتفق تماما مع رؤى التيارات المستنيرة في الأسرة الدولية.

هذه التيارات كانت تتخذ  موقفا معاديا لكل ما هو إسلامي ولكنها الآن وبفضل نشاط القاعدة وطالبان صارت تميز بين الاجتهاد الإسلامي القاعدي الطالباني والاجتهاد الإسلامي الذي يحرس الواقع الاجتماعي والسياسي بما فيه  من مآخذ والاجتهاد الإسلامي الصحوي.

الموقف الإٍسلامي المعتدل خير منبر لمخاطبة الأسرة الدولية المستنيرة وخير مستجيب لقضايا  السلام والديمقراطية ولتنمية والعدالة وهو الوحيد القادر على محاصرة وعزل أجندة طالبان ومحاصرة وعزل أجندة اليمين الغربي المتطرف.