يا أهل العراق: انتخابات معيبة.. ولكن خوضوها..!

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أهل العراق: انتخابات معيبة.. ولكن خوضوها..!

29 يناير 2005م

 

ما برحنا نعلن أن الغزو الأمريكي للعراق كان مخالفا للشرعية الدولية، وهي حقيقة لم تعد محل خلاف.

وقبل شهر من الغزو كتبت للرئيس الأمريكي جورج بوش خطابا قلت فيه إنك سوف تحقق نصراً عسكرياً إذا خضت الحرب ولكن سوف تمنى بخسارة سياسية، وقلت إن أي عمل تكون نتائجه مناقضة لأهدافه عمل باطل.

لكنه مضى في سبيل حربه وحقق نصراً عسكرياً وخسرانا سياسيا.

واتضح أن التحضير الأمريكي لما بعد الغزو كان ساذجا ومضطربا.

كانت الخطة التي اتبعها الحاكم العسكري الأول للعراق جاي غارنر تفترض أن عليه أن يستبدل القيادات العليا في الدولة بطاقم جديد من أصدقاء الولايات المتحدة ليحصل على عراق مستقر وموال لأمريكا. لكن بسرعة تبين له عجز تدابيره فسقطت البلاد في فوضى عارمة عمت كل أرجائها في شهري أبريل ومايو من عام 2004م.

واستبدل الحاكم بسرعة بحاكم آخر بول بريمر الذي اتخذ سياسات مرتجلة حل بموجبها القوات المسلحة العراقية وقوات الأمن وحزب البعث. وقرر تصفية شركات القطاع الخاص فكانت النتيجة تشريد مئات الآلاف من العراقيين فاتجه كثير منهم نحو صفوف المقاومة.

وكانت أولى الخطوات نحو إشراك العراقيين تكوين مجلس الحكم الانتقالي ليقوم بتكوين حكومة عراقية وليضع دستورا للبلاد.

ولكن في وجه اتساع المقاومة العراقية تقرر نقل السيادة لجهة عراقية، وفي وجه الرفض المدني تقرر التخطيط لقيام مجلس منتخب لانتخاب حكومة ولوضع الدستور.

وفي 30/6/2004 نقلت السيادة لحكومة عراقية على أساس دستور مؤقت وقع عليه في مارس 2004. كانت هذه الإجراءات الفوقية خطوة نحو التحضير لانتخابات عامة لمجلس ينتخب ويناط به انتخاب حكومة ووضع دستور للبلاد. لا توجد تقاليد دستورية راسخة في العراق، فسنوات الحكم الشمولي رسبت ذهنية شمولية قابضة ولا يوجد تحضير أمريكي كاف لمواجهة الموقف في العراق بعد إسقاط النظام الشمولي. ولو وجدت تلك التقاليد وذلك التحضير لوجهت الدعوة لمؤتمر دستوري جامع تنطلق منه خطوات بناء الوطن والتطور الدستوري. ولكن اكتفت سلطة الاحتلال باتفاق بينها وبين مجلس الحكم والحكومة العراقية. واتفق على الخروج من نمط الأجهزة المعينة لإجراء انتخابات عامة لمجلس يناط به انتخاب الحكومة ووضع الدستور.

وفي عدد من المؤتمرات في طهران وفي صنعاء وفي الدوحة التقيت مع عدد معتبر من القيادات العراقية السنية والشيعية والكردية والعربية وتحدثنا ملياً عن الشأن العراقي وكان محور الحديث هو ضرورة إيجاد صيغة انتخابية في العراق تثمر آلية أكثر نيابية للتطور الدستوري.

وعندما تقرر إجراء انتخابات عامة في العراق كان رأيي لمعارفي منهم ضرورة الاستعداد لخوض الانتخابات باعتبارها أقصر طريق لتكوين حكومة أكثر شرعية، وأقدر على ممارسة السيادة العراقية، وأقدر على إجلاء قوات الاحتلال.ولكن عام 2004 شهد تدهورا فظيعا في الموقف الأمني في العراق. ففي العراق مقاومة واسعة للاحتلال كما أن بعض قوى الغلو الاسلامي نقلت نشاطها للميدان العراقي لمنازلة الولايات المتحدة وحلفائها.

وأثناء عام 2004 ارتكبت قوات الاحتلال مزيدا من الفظاعات كما حدث في سجن أبو غريب، وكما حدث من البطش بمدنيين لإخضاع المدن المتهمة بإيواء المقاومة العراقية لا سيما في الفلوجة وغيرها.

إن وجود الاحتلال، وسجال العنف بينه وبين المقاومة العراقية، وبينه وبين قوات الغلو الإسلاموي، تجعل الظروف العراقية غير مناسبة لإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة في العراق.

لذلك قررت جماعات معتبرة من أهل السنة في العراق بقيادة هيئة العلماء، مقاطعة الانتخابات مؤقتة ذلك القرار باحتجاجها على آخر عملية قامت بها قوات الاحتلال لإخضاع مدينة الفلوجة. هذا الموقف أضعف شرعية الانتخابات العراقية، فالانتخابات تكتسب حجيتها باتساع المشاركة فيها وبإقبال الناخبين عليها وبنزاهتها.

هذه العيوب جعلت كثيرا من قادة الرأي العام العربي يعتبرون الانتخابات العراقية المزمعة زائفة. لا سيما وهم يرونها ركنا من أركان السياسة الأمريكية في العراق ينبغي تقويضه.

لم يعد هناك شك في حجم الدور الذي لعبه التحريض الإسرائيلي لغزو العراق، كما لم يعد هناك شك في تطابق السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية في المنطقة مما هيأ لإسرائيل الفرصة للقيام بحملاتها العدوانية الدموية لمحاولة حسم النزاع مع أهل فلسطين بالقوة العسكرية الغاشمة.

لذلك صار كثيرون في الرأي العام العالمي، والعربي خاصة، يحملون الولايات المتحدة المسؤولية عن التعديات الإسرائيلية وسفك الدماء الفلسطينية. وأظهر الاستطلاع الذي أجراه الاتحاد الأوربي حول الخطر على السلام العالمي أن الشعوب الأوربية تصنف إسرائيل الخطر الأول تليها الولايات المتحدة. لدى كثيرين انسحب الرفض الشديد للسياسات الأمريكية على الانتخابات العراقية. الموقف ضد السياسات الأمريكية أوجب موقفا مضادا للانتخابات العراقية. ولكن لنستعرض الموقف بهدوء لتحديد رأي قاطع حول هذه الانتخابات.

أولاً: إن ما يجري في العراق لا يطابق السياسات التي خططت لها الولايات المتحدة. فقد كانت سياساتها مضطربة ومضطرة لأخذ ضغوط المقاومة العراقية والمعارضة المدنية العراقية في الحسبان.

ثانيا: نعم. الانتخابات معيبة، لكنها سوف تأتي بمجلس أكثر نيابية وأوسع تمثيلا للشعب العراقي من التكوينات الحالية.

ثالثا: الحكومة التي سوف ينتخبها المجلس الجديد سوف تكون أكثر شرعية بالمقياس الديمقراطي من سابقتها وسوف تكون أقدر على اتخاذ قرارات مستقلة من سلطات الاحتلال وسوف تكون أكثر تأهيلاً لاتخاذ قرار جلاء قوات الاحتلال.

رابعاً: الانتخابات شرط من شروط الديمقراطية، ولكن الديمقراطية تتطلب مراعاة التوازن في مجتمعات مكونة من ولاءات مذهبية وإثنية.

لذلك يرجى أن تراعي القوى المنتخبة الحاجة للتوازن وإيجاد صيغة لمشاركة القوى التي غيبتها ظروف هذه الانتخابات.

خامساً: المجلس المنتخب منوط به وضع الدستور ويمكن للقوى التي غابت عنه أن تمثل في لجنة صياغة الدستور. وهنالك آلية تستطيع بموجبها أن تعطل هذا الدستور إذا وجدته عائباً. فإذا صوتت ثلاث من الولايات الثماني عشرة بأغلبية الثلثين ضده سقط.

سادسا: ليس هذا المجلس نهاية المطاف وسوف تجرى انتخابات عامة في ديسمبر2005م.
سابعاً: نعم. هنالك عيوب في هذه الانتخابات، لكنها أفضل بما لا يقاس من أية انتخابات أجراها النظام السابق، عندما كانت نتيجة آخر انتخابات أعلن نتائجها عزت إبراهيم 100% لصالح رئيسه. وهي أفضل من كثير من الانتخابات في البلدان العربية التي تجرى في ظروف الطوارئ وتزور وتتجاوز الـ 90%. وهي أفضل من البدائل التي تطرحها المقاومة الزرقاوية أو الصدامية. فكلتاهما تطرح رؤية خارج التاريخ.

لا يمكن أن يرمى جميع الذين أقبلوا على هذه الانتخابات بالحمق أو الخيانة، فقد أقدم أكثرهم على ما رآه أفضل الخيارات المتاحة. وأتوقع أن تتخذ الأغلبية المنتخبة السياسات الآتية: اعتقاد مستند إلى معلومات لا مجرد أمنيات.

أ ـ الحرص على سيادة ووحدة العراق وجلاء القوات الأجنبية منه.

ب ـ بناء مؤسسات الدولة العراقية النظامية والمدنية.

ج ـ استئناف التنمية وتأهيل الخدمات الاجتماعية.

د ـ الحرص على تضميد جراحات الانتخابات وتحقيق درجة أعلى من التوازن.

هـ ـ الالتزام بالحق العربي المشروع في فلسطين والحرص على أمن الخليج القائم على أساس مشترك بين كافة الدول المتشاطئة عليه.

إن تناول الانتخابات العراقية بمقياس ما ينبغي أن يكون تناولٌ طوباوى على أحسن الظن وربما كان فيه خوف من آثار النجاح في تحقيق تحول ديمقراطي واعد.

الانتخابات العراقية هي أسوأ خيار إذا استثنينا الخيارات الأخرى لأنها بلا شك أسوأ منه والناس أمام اختيار بين حقائق الواقع.

التحدي أمام السلطات الحالية في العراق هو أن تجرى انتخابات مراعية أعلى درجات النزاهة.

وأمام الشعب العراقي أن يجتهد لانتخاب أفضل المرشحين. وأمام الذين يفوزون أن يلتزموا بأجندة العراق الوطنية وأهم عناصرها الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة العراق وتحقيق التنمية لشعبه في ظل معادلة حكيمة بين التأصيل الديني والقومي. ومطالب العصر الحديث لبناء الوطن العراقي الديمقراطي. هذا ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية داخلياً وتوافر لها تأييد إقليمي ودولي.