بسم الله الرحمن الرحيم

إني لكم من الناصحين

30 أكتوبر 2005م

 

موجة حقوق الإنسان انطلقت عاتية بعد الحرب الأطلسية الثانية، يدفعها الشعور بالذنب للآثام التي ارتكبتها الإنسانية، وبلغت أقصاها في النصف الأول من القرن العشرين. ومنذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1946) تتالت المعاهدات والمواثيق التي تجسد حقوق الإنسان في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، كانت الحرب الباردة قد فرضت أولويات استراتيجية غطت على حقوق الإنسان، ولكن حتى أثناء الحرب الباردة لعبت قضية حقوق الإنسان دورها في تقويض الاتحاد السوفياتي، إذ اضطر إلى تجميل وجهه الإنساني والتحق بميثاق هلسنكي (1975)، وأجبره الوفاء بمبادئ هلسنكي على كبح جماح الشمولية.

قبل نهاية الحرب الباردة جددت موجة حقوق الإنسان صعودها في كل المجالات، فشهدنا سيداو للمرأة (1981) وحقوق الطفل (1990) وغيرها على الصعيد الدولي، وتعددت المنظمات الأهلية المعنية بحقوق الإنسان مراقبة ومتابعة وكشفا للتجاوزات، وانتصارا للضحايا مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، وغيرهما مئات المنظمات.

محكمة العدل الدولية قديمة ومنذ قيام مجلس الأمن صارت تابعة له، ولكن في عام 1997 خطت الإنسانية خطوة كبرى للأمام بتكوين المحكمة الجزائية الدولية المستقلة لمحاكمة جرائم التعدي على حقوق الإنسان وجرائم الحرب.

بعض التيارات الإسلامية ترى حقوق الإنسان هذه أداة في يد الهيمنة الدولية. نعم يمكن استغلال قضايا حقوق الإنسان، ولكن الولايات المتحدة التي تستغلها لأغراضها السياسية ليست راضية تماما عن ثقافة حقوق الإنسان. وهي تقف متهمة في نظرها، فقد أبرزت منظمة «هيومان رايتس واتش» أن القانون الوطني الأمريكي Patriot Act متعد على حقوق الإنسان ، كما أن كثيراً من المفكرين المعنيين بحقوق الإنسان عابوا على أمريكا تعدياتها، مثلا : قال اللورد ستين مشيرا الى سجناء جوانتانامو : «إن حبسهم بهذه الطريقة وصمة عار للعدالة الأمريكية وهو مناقض للقانون الدولي». كما أن أمريكا عارضت تكوين المحكمة الجزائية الدولية ولا يمكن أن تعد أداة لسياساتها.

كثير من الدول العربية تحكمها نظم مخالفة تماماً لمبادئ وقيم موجة حقوق الإنسان العالمية هذه ، بل نظمها استمدت أساليبها ومؤسساتها من الستالينية والفاشستية.. نظم تجمع بينها الصفات الآتية:

* أيديولوجية أحادية .

*حزب واحد مسيطر.

* نظم أمنية مطلقة الصلاحيات.

* إعلام لإخفاء الحقائق.

* استخدام الاقتصاد لدعم السلطة الحاكمة..

نظم عرف عنها أنها تقتل معارضيها وتخفي الحقائق ولا تعرف حدا في تسخير كل شيء لسلطاتها.

قتل المعارضين ليس حكرا لتلامذة ستالين والفاشستية وقد لجأت إليه دول ديمقراطية، مثلا، كشفت لجنة الكنغرس في عام 1976 أن وكالة الاستخبارات الأمريكية قتلت رؤساء معادين لأمريكا مثل باتريس لوممبا، ورفائيل تروجيلوو، وسلفادور الندي؛ رؤساء الكنغو والدومنيكان وتشيلي. ولكن الشفافية في الدول الديمقراطية تلاحق هذه الممارسات وتكشفها. أما الدول الشمولية فإنها تغطيها بحجاب سميك.

فهنالك عدد كبير من الدول ما زالت تعيش تحت تلك النظم المتخلفة عن ركب الإنسانية المتعدية على حقوق الإنسان بانتظام.

ينبغي أن تدرك تلك الدول أن تلك الممارسات لم تعد مقبولة دوليا، ومثل نظام الرق البشري البائد فإن الاسترقاق السياسي إلى زوال.

في 14 شباط (فبراير) 2005 اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق المحسن المصلح رفيق الحريري. عين مجلس الأمن لجنة للتحقيق أصدرت تقريرها في 19 أكتوبر الجاري. هذا الاغتيال وفي ظروف المنطقة المعروفة زلزال سياسي كان أول آثاره تغيير الحكومة ديمقراطيا في لبنان، وهو تغيير سوف يبلغ مداه حتما حتى يبلغ رئاسة الدولة، ولكن هذا الزلزال لن يقف عند هذا الحد.

إن لسوريا دورا هاما وطنيا وقوميا، وقد كانت صمام الأمان للبنان في طي صفحات الحرب الأهلية، كما كانت وما زالت تمثل الصمود القومي في وجه مشروعات الاستسلام. ولكن النظام السوري مثل نظم أخرى لا يرقى للمستوى المطلوب من المشاركة والمساءلة والشفافية. وتقرير السيد ديتلف ميليس (رئيس لجنة التحقيق) أحاطه بالشبهات.

ومهما كان التقرير نفسه مهنيا وقانونيا فإنه سوف يحدث دويا سياسياً كبيراً من الأوجه التالية:

* إسرائيل سوف تستغله ضد سوريا الصامدة في وجه الاستسلام لأطماعها.

* أمريكا سوف تستغله ضد سوريا لأربعة ملفات: الملف الإيراني ، والملف العراقي، والملف الفلسطيني، والملف الداخلي (لتوجيه الأنظار بعيدا عن فضائح داخلية محرجة).

* الشعب السوري سوف يرفع صوته مطالبا بالتحول الديمقراطي.

إن خير ما يمكن أن تفعله القيادة السورية، هو أن تقطع الطريق أمام استغلال الخصم الإقليمي والخصم الدولي، وذلك بالإقبال على برنامج إصلاح وطني يحقق تحولا ديمقراطيا عبر ملتقى وطني سوري يبرمج لانتقال سلمي حر للسلطة تحت مظلة الحريات وحقوق الإنسان.

أما مجلس الأمن فيرجى ألا يساق لأجندات دول معينة، فإن العقوبات ضد سوريا لن تجدي بل سوف تؤذي الشعب السوري دون طائل. هذا لا يعني أن يسمح للجناة بالإفلات من العقوبة. سوف تقترح بعض الدول تكوين محكمة دولية خاصة لمحاكمة الجناة. ولكن المحاكم الخاصة هذه قابلة للتحكم الدولي. الأداة الصحيحة لاستكمال التحقيق ومحاكمة الجناة هي المحكمة الجزائية الدولية. وينبغي أن يحال لها هذا الملف لمحاسبة الجناة.

المحكمة الجزائية الدولية مستقلة وغير قابلة للاستغلال، وهي تستهدف الجناة خلافا للعقوبات الاقتصادية التي تستهدف المدنيين الأبرياء.

اغتيال الرئيس الحريري، وتقرير ميليس، حدثان داويان لا يمكن للأوضاع في منطقة الشام أن تبقى بعدهما كما هي.

الهجوم على النوايا الإسرائيلية والأمريكية وارد ومشروع، ولكن مهما اشتد فلا يكفي لحماية الأوضاع لتبقى على ما هي عليه.

التغيير في المنطقة آت، والأفضل أن يكون في اتجاه ما يشبع تطلعات الشعب السوري المشروعة. قيادة سوريا تستطيع أن تسحب البساط من أعداء الوطن بالتماهي مع الشعب السوري بما يحقق تطلعاته المشروعة، وبالتعاون مع الأسرة الدولية بما يحاسب الجناة .. بيدي لا بيد عمرو.