حاضر ومستقبل السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

البرنامج السوداني بجامعة أكسفورد

بالتعاون مع المجتمع السوداني بأكسفورد

حاضر ومستقبل السودان

الإمام الصادق المهدي

1 سبتمبر 2018م

 

شكرا على دعوتي لمكان يذكرني بأيام رائعات. وقد نشرتُ مذكراتي لثلاث سنوات عن تلك الأحداث.

لقد دُعيت للحديث عن الوضع الحالي في السودان وما الذي يحمله المستقبل لبلادنا؟

إنني من نواح عدة مهتم بالمستقبل.

وكنتُ قد أُخذتُ في الثانية من صباح الثاني من أكتوبر 1989م، من زنزانتي بسجن كوبر، في سيارة مغطاة، إلى بيت أشباح بمكانٍ ما، كان مكاناً ظلماً وبه لمبة حمراء مضاءة. وأجلستُ في الغرفة على كرسي بثلاث قوائم، وواجهتُ لجنة من ثلاثة رجال.

عُرض عليَّ خياران: تسجيل شريط يفيد بأن الديمقراطية قد فشلت، أو مواجهة محكمة عسكرية. كان ردي هو أن الديمقراطية لم تفشل، وأننا واجهنا جميع التحديات خارج البرلمان بدون العبث بالدستور، وفي التصويت البرلماني الأخير على الميزانية، أيدها 80٪ من الأعضاء. ومع ذلك، فإن مؤامرتكم هي التي سوف تسجل فشلا تاريخياً، والديمقراطية التي أجهضتموها سوف تعود، وعلى مدى السنوات الـ29 التي تلت، تحققت تلكم التوقعات في كل التفاصيل. أما بالنسبة للمحاكمة فامضوا فيها، وطلبي الوحيد هو أن تكون محكمة علنية.

بعد تلك الحادثة، تمكنت وبرغم الحبس الانفرادي من نشر ما حدث. فاستسلموا وأعادوني لزنزانة السجن العادية. فشرعتُ في تأليف كتاب بعنوان: “الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة”. تم نشره في عام 1989.

هذه المحاضرة ستكون حول حقيقة هذه النبوءة.

النقطة الأولى: تدور حول الدليل الدامغ لفشل نظام الخرطوم:

هنالك ثمانية معالم:

(أ) الزعم بإنقاذ البلاد من الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان: كانت هناك عملية سلام سوف تكتمل بمؤتمر قومي دستوري يعقد في 18/9/1989م، ألغيت لتحل محلها حملة عسكرية. لقد عسكروا السودان. وبعد سيلان أنهار الدماء، قام نظام الحكم بإمضاء اتفاقية السلام الشامل في يناير2005. وقد نشرنا حينها تقييماً لها يؤكد أنها لن تحقق السلام ولا الوحدة ولا الديمقراطية. لماذا ا؟ التفسير موجود في تلك الوثيقة، لكنها قراءة أثبتتها الأحداث التي تلت.

(ب) الاقتصاد في حالة سقوط حر. آخر أرقام ميزانية عام 2018 فيها عجز بلغ 55 مليار جنيهاً، وعجز خارجي مقداره 6 مليارات دولار. وقد تمت تغطية عجز الموازنة المستمر بطبع العملة، بحيث أصبح حجم النقود – الذي كان 13 مليار جنيهاً في عام 1990- 220 تريليون جنيهاً الآن. وأدى الفشل في الإنتاج الصناعي والزراعي إلى عدم توازن المدفوعات الخارجية. والحكومة تشتري الدولارات من السوق السوداء. والنتيجة هي أن سعر الدولار الذي كان 12 جنيهاً هو الآن 50000 جنيهاً.

وألغى النظام دولة الرفاهية الاجتماعية ليدفع ثمن فاتورة الأمن، هذا بالإضافة لارتفاع معدل التضخم أدى لأن تكون نسبة الفقر 80٪ في المناطق الحضرية، و90٪ في المناطق الريفية.

كنا خلال حكومتي قد توصلنا لاتفاق مع شركة شيفرون التي اكتشفت النفط في السودان وعلقت مشروعها لسببين: عدم الأمان مع نهاية نظام نميري، وانخفاض سعر النفط. طالبناهم ووافقوا، بأنهم إما أن يستأنفوا عملهم أو أن يتخلوا عن امتيازهم. ففعلوا ذلك ليستفيدوا من الإعفاءات الضريبية في الولايات المتحدة الأمريكية. نظام الحكم الذي أسسه الانقلاب استفاد من ذلك الاتفاق. وتعاملوا مع شركات نفط أخرى، وفي الفترة بين عامي 1999 و2011، حظيت البلاد بعائدات تتراوح بين 60 و 70 مليار دولار.

تتطلب الحوكمة الجيدة في مثل حالات الموارد الطبيعية المفاجئة هذه أن تعقد الحكومة مائدة مستديرة لتقرر حول كيفية إنفاقها.

بددت هذه الإيرادات الخاصة في تضخم الإنفاق، والأولوية الأكبر للبنية التحتية الأمنية، وفوق كل شيء في الفساد. إنها حالة كلاسيكية لمقولة لويد جورج: يبدو أن هناك أنبوباً غير مرئي يصل بين عائدات النفط وجيوب المسؤولين. تأهل السودان لتلك الحالة، وبالتالي جاء ترتيبه رقم 175 من 180 دولة في مؤشر الشفافية لعام 2018.

(ج) تحمل اتفاقية السلام كل علامات النفوذ الأجنبي الذي لم يلب في الحقيقة احتياجات بناء السلام. اعتقد النظام أنه حصل على قبول دولي، وعندما اندلع تمرد في دارفور عام 2003،  أخبرت جهة أمريكية مسؤولة النظام بأننا نعتبر دارفور مسألة داخلية، لذا قوموا بحلها وكونوا سريعين وفعالين. اعتقد قادة النظام أن ذلك كان ضوءًا أخضر للقيام بمكافحة التمرد بالطريقة التي يحبونها. فلم يستمعوا لأية نصيحة حول الحل السلمي.

قيل للجيش المحلي إن أمامكم أسبوعين لسحق المتمردين، ولتتخلصوا من الأسرى والجرحى. هذه القسوة هي المسؤولة عن حقيقة أن دارفور أصبحت جبهة حرب صار النظام فيها العدو الدولي رقم واحد، فصدر ضده 63 قراراً من مجلس الأمن معظمها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

(د) الحرب في دارفور،  انضم إليها حربان في جنوب كردفان  وجنوب النيل الأزرق بسبب مشاكل تنفيذ  اتفاقية السلام الشامل، ما حاصر النظام بجبهات حرب متعددة. من المعروف تماماً أن النزاعات المدنية ذات الدوافع السياسية لا تنتهي إلا باتفاقات سياسية. كانت تلك خلاصة دراسة لـ684 حركة من ذلك النوع أجرتها مؤسسة راند بين عامي 1983 و 2008. ورغم أن القتال الفعلي قد تراجع الآن، فإن حقيقة عدم وجود سلام قد أدت لحالة حرب باردة ، مفادها:

  • 3 ملايين نازح داخلي في عدة معسكرات تمثل نصباً قائماً لآثار الحرب.
  • أكثر من هذا العدد من طالبي اللجوء الذين طردوا لأسباب أمنية واقتصادية.
  • ميزانية حرب مستمرة تبتلع 70٪ من الإيرادات على حساب الخدمات الاجتماعية.
  • اللجوء لميليشيات قبلية غير نظامية تحمل أسماء رنانة، ولكنها تمثل تهميشاً للمؤسسات النظامية.
  • تهديد النظام بـ63 قرار من مجلس الأمن متعلقة بالحرب.
  • التهم الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، والتي تبقي قيادة النظام في حالة هروب، ومضيفيه في مأزق، على سبيل المثال، فإن إحدى التهم الستة الموجهة للرئيس السابق زوما في جنوب أفريقيا، والتي أدت لسقوطه كانت بسبب عصيانه لأوامر المحكمة بشأن الرئيس السوداني، وللسبب نفسه تم استجواب الحكومة الأردنية، كما أن إحدى التهم الـ 18 الموجهة لبول مانفورت تتعلق بخدمة شبيهة.
  • هناك العديد من الجماعات المسلحة المجمدة ولديها قدرة على الصراع.

(ه) الجانب الأكثر فضائحية في النظام أنهم أحياناً يصفون أيديولوجيتهم الإسلامية بأنها منزوعة الدسم، وفي حالات أخرى يقولون إنها كاملة الدسم. إنهم ببساطة يبحثون من خلال تلك الإدعاءات عن شرعية. قام اثنان من الأساتذة وهما: شهرزاد رحمن ، وحسين العسكري من جامعة جورج واشنطن، بتأليف “مؤشر للأسلمة” نشراه في مجلة الاقتصاد العالمي، لتقييم مدى التزام الدول المعلنة عن إسلاميتها بتعاليم وتوجيهات الإسلام. فعلوا ذلك بقياس التزام 208 دولة بـ113 متغيراً إسلامياً أصيلاً قابلاً للقياس. كان السودان رقم 190 في هذا المؤشر. وفي الواقع ، فإن العديد من الحركات التي تدعي الإسلام كقوة تعبئة، عندما تتولى السلطة تخون المبادئ الأساسية الخمسة لحقوق الإنسان: العدالة، والحرية، والمساواة، والسلام والكرامة الإنسانية؛ وتخون المبادئ الأساسية الأربعة للحكم كما حددها أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

(و) لقد شظَّت سياسات النظام الانتهازية والاحتكارية جسد البلاد السياسي رافعة إياه للأس النوني، واستغلت التنوع الإثني كسياسة لمكافحة التمرد، مما جعل الناس أكثر وعياً من أي وقت مضى بهويتهم الإثنية. وصارت القبلية والإثنية مرجع الهوية الرئيسي.

(ز) كانت سياسات السودان الإقليمية والخارجية دوماً تصالحية. لعب السودان دوراً رئيسياً في المصالحة بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر في ستينيات  القرن الماضي، وبين الأردن والفلسطينيين في السبعينات، وبين إيران والعراق في الثمانينات. لم يكن السودان أبداً من مرتزقة الصراعات العربية والأفريقية. لكن ذلكم الدور الانتهازي يتم تبنيه الآن.

(ح) أدرك كل المفكرين الذين انتموا لصانعي الانقلاب تقريباً فشل المغامرة برمتها، ووثقوا إدانتهم لها.

 

النقطة الثانية: حتمية الإحياء الديمقراطي

كل ذلك عن النبوءة بفشل المغامرة. فماذا عن الجزء الثاني منها حول حتمية الإحياء الديمقراطي؟

هناك أسباب عديدة لذلك. لكن من الضروري قبل إدراجها، الإشارة لأن النظام الديمقراطي الذي حاولناه على غرار نظام وستمنستر، أضعف قدرته على البقاء الفشل في إدراك أنه نظام تطور على مدى فترة طويلة ولا يمكن زراعته دون مراعاة بعض الاشتراطات، وبعض التوازنات.

ومن الضروري في هذه المرة القيام ببعض الأقلمة الثقافية، وبعض التوازنات؛ وهي: تلبية متطلبات التنوع، تلبية متطلبات الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية، تحقيق اللامركزية، ومجابهة تحديات الهوية والتحديث. ينبغي أن تكون خبرتنا الديمقراطية هذه المرة مدركة لتلك التحديات، وسوف تبني الحركة السياسية السودانية الديمقراطية في ضوء هذه الدروس المستفادة.

وعلى الرغم من أن تجربتنا الديمقراطية كانت ناقصة في هذه الأمور، إلا أن الديكتاتورية كانت فشلاً كاملاً في جميع القضايا المذكورة.

  1. ينعم المجتمع السوداني ببعض الصفات التي تتسق مع الحوكمة التشاركية. وهي:

(أ) كانت العديد من دول المنطقة جزءً من دولة الخلافة ذات المركزية العالية. وفي السودان نشأت الأسلمة من حركة سلمية عبر المجتمع. هذا الصعود من الأدنى للأعلى يُمكِّن المجتمع.

(ب) شهد السودان إدارة تعددية حقيقية مع ضمان كامل للحريات الأساسية. مثل هذا المناخ السياسي شجع على تطوير انتماءات سياسية حرة لم تفلح أية سياسات استبدادية في محوها.

(ج) على الرغم من أن علي مزروعي، رحمه الله، وصف السودان بأنه مجتمع “هامشية متعددة” ، فإن تلك الحالة قد ساعدت من خلال خبرات أفضل للبلاد، في زيادة الوعي بأهمية موقف ناضج إزاء مشاكل الدين والدولة، والإدراك الأفضل لضرورات وموازنات التعامل مع التنوع. وقد تناولتُ هذا الجانب  في كتابي “الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك”.

(د) أصبحت القوات المسلحة في العديد من البلدان تتأهب لتكون حزباً سياسياً. وقد خلق اختراق النظام للقوات المسلحة ظروفاً تهيئ لإعادة بناء القوات المسلحة، بما يتناغم مع سيادة الشعب.

(هـ) أدت الصراعات المدنية المتعددة لزيادة إدراك أسباب الصراع ومطالب السلام الشامل والعادل.

  1. واتساقاً مع تلك الشروط، فإن الحركة السياسية الرئيسية التي بإمكانها ادعاء ذلك الوصف هي عبارة عن:

(أ) مزيج بين قوى الشرعية التاريخية، والشرعية الناشئة.

(ب) تحالف بين النشطاء السياسيين في المركز والهامش.

(ج) تحالف بين مجتمعات النهر والسافنا. وقد تبلور هذا التجميع السياسي في حركة تبنت ميثاق سلام شامل وعادل يدعو إلى تغيير النظام لتنفيذ هذا الميثاق كمخطط لبناء الأمة. وسيرفق بهذا الميثاق برنامج خاص بالسياسات البديلة المدروسة.

(د) لتحقيق إجماع قومي فإن هذا الميثاق وبرامجه سوف يقدمون لجميع القوى السياسية التي تسعى لتغيير النظام.

ومن المأمول أن يتم إقرار الميثاق عبر برلمان شعبي.

  1. نظام الخرطوم الآن خالٍ من الأيديولوجيا والبرنامج. وشغله الرئيسي هو التواري عن المحكمة الجنائية الدولية والمساءلة الوطنية. أدى هذا الفراغ لنمو مراكز قوى متشعبة، كلٌّ منها يهدف للاستيلاء على السلطة.

على أية حال، فإن لدى القوى السياسية الرئيسية في البلاد طريقتان لتغيير النظام، وهما:

  • السودان موطن للربيع السياسي (الثورات الشعبية). وبالفعل حدثت العديد من حركات الربيع الصغيرة. والنظام في يأسه مستعد لإطلاق النار للقتل. الربيع القادم سيكون عبر مئات الاعتصامات التي تؤدي إلى إضراب عام. سيكون هذا هو محرك التغيير.
  • ومع ذلك، إذا قرأ النظام الكتابة على الحائط، وأخذ الحكمة من دي كليرك في جنوب أفريقيا، وبينوشيه في تشيلي، وخوان كارلوس في أسبانيا وآخرين عديدين ، فقد يختار تفعيل اتفاقية خريطة الطريق التي وقع عليها في مارس 2016، ووقعناها في أغسطس من ذلك العام.

4- فيما يتعلق بالمساءلة ، فإن جميع الهيئات السياسية التي تسعى لتغيير النظام تدعم المحكمة الجنائية الدولية، وتدعو للعدالة العقابية فيما يتعلق بالجرائم الأخرى التي لا يغطيها نظام روما الأساسي. ولإكمال المساءلة فقد دعونا لإنشاء لجنة للحقيقة والعدالة حول جميع الأحداث في السودان منذ عام 1956 فصاعداً.

وقد توقعت أنه في حال استعداد النظام لتطبيق اتفاقية خارطة الطريق كوسيلة لتغيير النظام على نمط الكوديسا، وفي حال رغبة ضحايا الجرائم في ذلك، فإن قانون روما سوف يوفر من خلال المادة 16 وسيلة لما يمكن تسميته بالعدالة المحرية. هذه الإشارة لحقيقة قانون روما والظروف المتعلقة به جلبت شعلة من الحرارة بدون ضوء، تعبر عن الغضب ولكن بدون أن تغير الحقائق المعنية.

  1. إن مجهوداتنا لا تتم في فراغ دولي. وتتوقع مساعينا أن يكون المجتمع الدولي صادقاً مع ميثاق الأمم المتحدة ومع قيمه وأن يدعو لعقد مؤتمر لدعم عملية السلام وإرساء الديمقراطية في السودان. ونتوقع منهم أن ينسقوا سياساتهم لدعم التطلعات المشروعة للشعب السوداني. يجب ربط أية خدمة لنظام الخرطوم بخطوات إيجابية نحو السلام والديمقراطية.

لكني أدرك أن قضية الهجرة قد لوثت سياساتهم. وأن الانجراف يميناً سوف يعمل على استقطاب مجتمعاتهم ويكون بمثابة موسيقى لآذان المتطرفين في جميع أنحاء العالم. لقد نشرتُ في عام 1990 كتاباً أشرت فيه إلى أزمات النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وقلتُ إنه ما لم تحل تلك الأزمات في الجزء الخاص بنا من العالم، وبعضها أسبابه ذاتية ولكن البعض الآخر سببه سوء الإدارة الدولي؛ فسوف يكون هناك فاعلين غير رسميين يديمون التطرف والإرهاب والهجرة غير القانونية وجميع المآسي الشبيهة.

من مصلحة المجتمع الدولي مساعدتنا بشكل أكبر في التخلص من الحروب والاستبداد والتخلف.

ختاماً: شكراً لكم على الاستماع ، وأنا مستعدّ لأية أسئلة وتعليقات تودون طرحها.

 

 

 

ملحوظة: ألقيت المحاضرة باللغة الإنجليزية، وقام المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي بترجمة النص الإنجليزي للغة العربية.