خطبة الجمعة التي أعدت لساحة الاعتصام أمام القيادة العامة وألقيت في دار الأمة بأم درمان

عودة الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة 12 أبريل 2019م التي أعدها الإمام الصادق المهدي لساحة الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة

والقاها في دار الأمة بأم درمان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد-

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

أبدأ بتفسير سبب إقدامي على الصلاة معكم. فعندما رأيت هجوماً قتالياً ضدكم بلغ أوجُه يوم الثلاثاء الماضي قررت أن الصلاة معكم توفر نوعاً من الحماية، وأرسلت للقوى النظامية أقول لقادتها عيب وطني وإنساني ومهني أن تفتكوا بالعزل المدنيين، ورد بعضهم نعم لن نفعل. وعقدتُ في يوم الثلاثاء نفسه مؤتمراً صحفياً ذكّرت فيه المجتمع الدولي بدوره في حماية المدنيين.

يطيب لي أن أحييكم في دار الرباط الوطني الذي بالحزم والعزم أضاف سلاحاً جديداً للجهاد المدني. فقد استخدم شعبنا الإضراب السياسي، وها أنتم استخدمتم الاعتصام المليوني المثابر الذي بلغ حتى اليوم سبعة أيام. هذا الاعتصام ليس من أجل منافع معينة بل من أجل المطالبة بحقوق الإنسان المهضومة:

آفة الشرق حاكمٌ معبودٌ        وشعوب تذلهن قيود

والتصدي لمواجهة الظلم واجب ديني ووطني وإنساني. قال نبي الرحمة عليه السلام: “لتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ”[1].

حقوق الإنسان التي ضيعها النظام الظالم باسم تطبيق الإسلام تنطلق من خمسة مباديء هي: الكرامة، والعدالة، والحرية، والمساواة، والسلام.

منظومة حقوق الإنسان صارت اليوم معبأة في مواثيق وعهود، يعتبر خارج العشيرة الإنسانية من يعتدي عليها؛ أهمها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948م، العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في 1966م، والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979م وهلم جراً. هذه الحقوق كلها وليدة القرن العشرين، وربما ظن بعض الناس أنها غريبة علينا، ولكن كل الأسس الخمسة المكفولة فيها موجودة في نصوص الوحي الإسلامي أي قبل 1400 عاماً.

فيما يتعلق بالكرامة: جاء في نص الوحي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[2]، وفيما يتعلق بالحرية النص القرآني: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[3]، وفيما يتعلق بالعدالة النص: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان)[4]، وفيما يتعلق بالمساواة جاء في كتاب الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[5]، وجاء في الحديث “كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ”[6]. وبالنسبة للرجل والمرأة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[7] ، وفي الحديث: “النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”[8]. وفيما يتعلق بالسلام: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[9] ، وجاء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)[10].. حقاً كما قال حافظ إبراهيم:

أيُّ شَــيٍء فِي الغَربِ قَد فتنَ الناسَ         جَمالاً وَلمَ يكُـن مِنه عِندِي

ولكن طغاة الحكام باسم الخصوصية الثقافية وباسم الأمن والاستقرار أهدروا حقوق الإنسان فأوجبوا التصدي لهم.

إذن المعتصمون في رباطهم هذا إنما يؤدون واجباً دينياً ووطنياً وإنسانياً. المواثيق الدولية كلها تحث على احترام حقوق الإنسان، وهنالك محاكم كثيرة متخصصة في المساءلة آخرها المحكمة الجنائية الدولية للمساءلة على خمسة تعديات. وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر”[11]. وقال استغفروا الله فإنه مخ الدعاء.

 

*الخطبة الثانية*

 الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على الحبيب محمد وآله وصحبه مع التسليم، وبعد-

إن ثورة الشعب السوداني التي انطلقت من منتصف ديسمبر 2018م واستمرت 4 أشهر وبلغته قمتها في اعتصام السادس من أبريل 2019م والذي استمر قوياً فتياً سبعة أيام بصورة حاشدة بأعداد غير مسبوقة، وظهرت أثناءه بسالة من شبابنا من الجنسين، وكان مهرجاناً سياسياً أظهر فيه أبناؤنا وبناتنا والشيوخ والشيخات قيماً إنسانية فيها التحلي بمكارم الأخلاق، وفيها النفير الذي جعل الغذاء والماء والدواء متوافراً للكافة، وأظهروا أنواعاً من الإبداع الفني من شعارات وأناشيد. تجربة الاعتصام سوف تسجل في تاريخ السودان بأحرف من نور.

هذه التجربة الرائدة حققت حتى الآن خمسة إيجابيات هي:

  • تنحية رئيس محمل بالإخفاقات والملاحقات الجنائية والرفض الشعبي العريض.
  • حماية الاعتصام مما كان يدبر ضده من عنف دموي.
  • إطلاق سراح كافة المعتقلين.
  • شد انتباه الأسرة الدولية، ما جعل الدول المهمة فيها تتعاطف مع حركة الشعب السوداني للتحرير.
  • جذب انتباه الإعلام العالمي، ما جعل أحداث السودان مركز اهتمام عالمي.

علمت يقيناً أن قيادة النظام الحاكم كانت بصدد فض الاعتصام بالقوة مهما كان الثمن. قال هذا أحد قادة النظام قبل يوم الجمعة هذه. ومع هذا فإن خطاب القيادة العسكرية جاء متأخراً وكان مرتبكاً، وغير محيط بمطالب الشعب السوداني التي أججت الثورة. هذا البيان مرفوض وهنا أبين لماذا؟ وما البديل له:

  • خلا عن الاعتراف بمساويء التمكين وما حقق من نهج إقصائي شرد الكثيرين وضرورة القضاء عليه.
  • وعن تحليل للأزمة الاقتصادية والإلمام بأسبابها والاستعداد لإزالتها.
  • وعن بيان أسباب الاحتراب والشروط المطلوبة للسلام.
  • وعن الاعتراف بالتعديات على حقوق الإنسان والتصميم لتحقيق عدالة انتقالية وفق صيغة يتفق عليها.
  • الاعتراف بما مورس في البلاد من فساد منهجي وإقامة آلية عدالية لإزالته، واستعادة الأموال المنهوبة.
  • الاعتراف بالمساويء التي ارتكبت باسم تطبيق الإسلام والعمل على إزالتها.
  • الاعتراف بما لحق الخدمة المدنية والقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى من اختراق مفسد والتصدي لإزالته.
  • وخلا عن الاعتراف بما أصاب التعليم والصحة والزراعة والصناعة من انهيار وضرورة التصدي له.
  • ولم يرد الالتزام المنشود بالدعوة لمؤتمر قومي دستوري لوضع دستور البلاد.
  • لم يرد الاعتراف بما لحق الحريات العامة من تجاوزات والالتزام المبرمج لحمايتها. بل على العكس أضاف البيان قيوداً إضافية بفرض حظر التجول وفرض حالة الطواريء المفروضة أصلاً، واحتوى تهديداً مبطناً للمعتصمين.
  • لم يرد الاعتراف بدفع البلاد إلى محاور خارجية بصورة غير مبدئية ما أفقد البلاد ثقة الأطراف الإقليمية والدولية.
  • هنالك 62 قرار مجلس أمن دولي موجه ضد حكومة السودان غالبيتها تحت الفصل السابع، ما يتطلب الاعتراف بوجودها والمطلوب للتعامل الصحيح معها.
  • إن في السودان حركة سياسية متطورة تمثلها قوى الحرية والتغيير بمختلف فصائلها الحزبية والمهنية والمدنية والشبابية التي قادت هذه الثورة، لم يرد اعتراف بذلك واهتمام بمشاركتها في المصير الوطني.

مع كل هذه المآخذ مطلوب من الشعب السوداني إعطاء صك أبيض لمجلس أعضاؤه كانوا مشاركين في النظام المباد.

صار الأمر هو مجرد نقل ولاية عسكرية لمجلس عسكري لمدة عامين دون مشاركة ودون مساءلة، وهذا غير ممكن. الاتحاد الأفريقي أحجم عن هذه العسكرة وتطلب الانتقال لوضع مدني، وكذا الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

لهذه الأسباب فإن الرفض الشعبي الذي تشجعه إنجازاته سوف يستمر بأقوى صورى ممكنة، ويضع النظام الخاضع للمجلس العسكري أمام خيارين: خيار البطش الأمني ومعلوم أن هذا لن يعالج مشاكل البلاد بل يستنسخ نفس الأزمة في ظل القيادة السابقة، والخيار الثاني هو الاعتراف بالقوى السياسية الحقيقية والاستعداد للمراجعة المطلوبة. كل وطني سوف يعلن: نواصل نضالنا إلى حين قيام القادة الجدد بتلك المراجعة.

يا قادة الحركة العسكرية الأخيرة: إن كنتم حقاً قد أقدمتم على ما فعلتم لتجنب قرار البشير بفض الاعتصام بالقوة، فليس أمامكم إلا رفع حالة الطواريء والدعوة لمؤتمر يضم قوى الحرية والتغيير وقوى الاعتصام وكافة القوى التي أعلنت رفضها لنظام البشير، لإقامة نظام مدني ديمقراطي يحقق السلام العادل الشامل في فترة انتقالية يتفق عليها.

إن الشعب السوداني على عتبة تحول تاريخي عظيم يحقق للبلاد أهداف شعبها المنشودة يصير قدوة لبلدان كثيرة شعوبها أسيرة لحكم الطغاة. وجاء في الأثر: من استن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

اللهم ارحم شهداء الثورة، واشف جرحاها واحفظ شبابها وشيبها نساء ورجالاً.

اللهم يا جليلاً ليس في الكون قهر لغيره ويا كريما ليس في الكون يد لسواه ولا إله إلا إياه، انصر شعبنا وبلغه مقصده في نظام جديد يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل ويعبر به نحو آفاق العدالة والتنمية المستدامة.

قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

 

 

[1] رواه أبو داؤد والترمذي

[2] سورة الإسراء الآية 70

[3] سورة الكهف الآية رقم  (29)

[4] سورة النحل الآية رقم (90)

[5] سورة الحجرات الآية (13)

[6] أخرجه مسلم

[7] سورة التوبة الآية رقم (71)

[8] أخرجه أبو داود

[9] سورة الممتحنة الآية رقم (8)

[10] سورة البقرة الآية رقم (208)

[11] أخرجه أبو داود