خطبة الجمعة الداعية لتنحي البشير بمسجد الهجرة بود نوباوي

الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الإمام الصادق المهدي بمسجد الهجرة بودنوباوي

الجمعة 19 جمادى الأول 1440هـ  الموافق 25 يناير 2019م

 

الخطبة الأولى

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد-

على طول تاريخ الإنسانية كان الظلم والفساد والاستبداد هي  وقود الثورات، كما قيل:

إنك إن كلفتني ما لم أطق    ساءك ما سرك مني من خلق

غداً سوف يكون يوم ذكرى تحرير الخرطوم إيذاناً بنجاح ثورة القرن التاسع عشر الكبرى التي استنهضت همة أهل السودان ودوخت الإمبراطورية العظمى، وحتى عندما تفوق عليها السلاح الناري في كرري وصفها الإمبرياليون بمقولة لم نهزمهم ولكن دمرناهم بتفوق السلاح الناري. وقال آخر: لم تكن معركة بل كانت ساحة لإعدام أبطال.

قامت الدعوة المهدية على أركان روحية، وأشواق إصلاح إسلامية، ولكن ساهم في نجاحها انتشار الظلم والفساد والاستبداد، ما لخصته مقولة: عشرة في تربة ولا ريال في طلبة.

إن رفض الظلم والتصدي له واجب ديني كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[1]. وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا, فَلْيُغَيِّرْهُ”[2].

كانت الأمة كلها ترزح تحت ظلم وفرقة وتطلع للخلاص، لذلك جسدت الدعوة كل تطلعات أهل القبلة في زمانها كما قال الكاتب المصري النابه دكتور عبد الودود شلبي.

في عام 1999م احتفلنا في القاهرة بذكرى 26 يناير، وقلت في خطابي: احتفال بها في قلب القاهرة، صدق أو لا تصدق! كان في الحضور المؤرخ المصري الشهير يونان لبيب رزق فقام وقال: أصدق يا فلان، ففي المجتمع المصري يومئذٍ تياران معبران عن الوعي السياسي هما تيار إسلامي بقيادة الإمامين جمال الدين ومحمد عبده، وتيار وطني بقيادة العرابيين، كان التياران مرحبين بالثورة في السودان ويتمنيان أن تبلغ مصر لتحريرها من السلطان الثنائي العثماني والإمبريالي البريطاني.

دولة الثورة المهدية تكالب عليها الغزاة وقوضوها. ولكن بقيت مغروسةً في أرض السودان مستنبتة في أرضه، خالدة في معانٍ باقية، هي: إحياء الملة بصورة متبعة للشعائر مجددة في المعاملات متحررة من الاجتهادات الماضوية، بل ملتزمة بقطيعة معرفية من اجتهادات التراث على أساس “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”. ومن ثمار غرسها مولد الكيان الوطني السوداني النافي لفرقة الإثنيات والجهويات، المنادي بالعدالة الاجتماعية ونافٍ كذلك للتفاوت الطبقي وسحق المستضعفين، وغرست ثورية سودانية أصيلة في مواجهة الظلم والفساد مشبعة بالبسالة والصمود والتضحية في سبيل المباديء بصورة أدهشت العالمين، ما يبرر ويفسر النزعة الثورية السودانية في وجه الظلم والاستبداد.

ما أشبه الليلة بالبارحة. لقد عيب على بني إسرائيل أنهم (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[3]، وقال نبي الرحمة: “أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر”[4].

وقال الحكيم التونسي:

إذا الشّعْبُ  يَوْمَاً  أرَادَ   الْحَيَـاةَ

 فَلا  بُدَّ  أنْ  يَسْتَجِيبَ   القَـدَر

وَلا بُـدَّ  لِلَّيـــــــْلِ أنْ  يَنْجَلِــي

 وَلا  بُدَّ  للقَيْدِ  أَنْ   يَـنْكَسِـر

وَمَنْ يتهيب صُــعُودَ الجِبَـالِ

 يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

أحبابي

تذكروا هذه المعاني، واقتدوا بها، واستغفروا الله فإن الاستغفار خير الدعاء.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الحبيب محمد وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-

انقلاب يونيو 1989م تأسس على خدعة. ومهما كانت نوايا صناعه فقد نبذ الله الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقال المسيح عليه السلام عن كافة الأعمال: بثمارها تعرفونها. هاؤم اقرأوا كتاب هذه الثمار: إنها فصل الجنوب، وإشعال الحروب الأهلية في جبهات جديدة في البلاد، وتطبيق تمكين حزبي عازل للآخرين ومقوض لمؤسسات الدولة الحديثة المدنية والنظامية، وتقويض دولة الرعاية الاجتماعية، وسببت إخفاقاً اقتصادياً جوع الناس، وأجبرت عشر السكان على العيش في معسكرات نزوح معتمدين على الإغاثات، وتسببت في لجوء ربع السكان لخارج الوطن، ولوثت الشعار الإسلامي بتطبيق عكس مقاصده في الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والسلام، وفي إلحاق الأذى البالغ بسمعة الوطن ملاحقاً بالعدالة الجنائية الدولية. لذلك لم يستكن الشعب السوداني أبداً لسلطانه معبراً عن ذلك في هبات متتالية أذكر منها سبع في الأعوام 1990م، و1996م، و1998م، و2006م، و2012م، و2013، ويناير 2018م، بالإضافة لمن حملوا السلاح مقاومة للظلم.

ثورة ديسمبر 2018م جزء من رفض النظام، ولكنها امتازت بعشر صفات غير مسبوقة، هي:

أولاً: أنها انطلقت من خارج العاصمة ثم عمت القطر كله بما في ذلك العاصمة، هبت في عطبرة، وفي القضارف، والدمازين، والعبيدية، وبربر، والجزيرة أبا، وكوستي، وربك، ومدني، وقرى الجزيرة، وكسلا، وبورتسودان، والفاشر، وبابنوسة، ونيالا، وابو جبيهة، وأم روابة، والدويم، وحلفا، والأبيض، ونيالا، والمناقل، والجنينة، وسنار، ورفاعة، والضعين وغيرها من المناطق؛ بالإضافة لعاصمة السودان الرسمية الخرطوم، وعاصمة السودان الوطنية أم درمان، وثالثتهما بحري.

ثانياً: الجيل الذي نشأ في عهد هذا النظام بدا كأنه شُغل بالسفاسف من مخدرات وبفقدان الأمل في الوطن، والتعلق بطلب اللجوء للخارج. لقد أفزعتني هذه المظاهر ما دفعني لمخاطبة الجيل بكتاب “أيها الجيل”. ولكن هذا الجيل من أبنائنا وبناتنا أظهر الآن حماسة وبسالة منقطعة النظير. لقد تحملوا مساويء النظام في التعليم والعطالة، وحافظوا على قوة الإرادة وبسالة الوطنية كما شب موسى عليه السلام في بلاط فرعون.

ثالثاً: برز في نهج الثوار رفضاً تاماً للعنصرية والفتنة الإثنية التي عمقها النظام.

رابعاً: أظهر التحرك الشعبي طاقات رائعة في الفنون التشكيلية والغنائية والشعر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة عالية.

خامساً: الهبة الشعبية هذه المرة أظهرت مثابرة استمرت حتى الآن أكثر من شهر رغم العنف الفعلي واللفظي، وما زالت العزيمة صاعدة.

سادساً: أرباب وربات البيوت أظهروا عطفاً بالغاً على أبنائنا وبناتنا المطاردين في الأحياء.

سابعاً: الأجهزة الإعلامية العربية والدولية كشفت الحقائق بصورة موضوعية ومستمرة. كما فعل كثير من الكتاب السودانيين وغيرهم. لقد جمعنا قائمة بأسماء هؤلاء الأحرار لتكريمهم إذ لم يخشوا في الحق لومة لائم.

ثامناً: الالتزام المثير للإعجاب بالأخلاق السودانية الحميدة، وتمسكهم بالسلمية في الغالب في وجه البطش الدموي ما عرى النظام وأظهر نبل الثوار ووعيهم المتقدم.

تاسعاً: كان للسودانيين في الخارج، السودانيون بلا حدود، دور مهم في التجاوب مع نهضة وطنهم. كما أن الرأي العام العالمي، ما عدا المؤلفة جيوبهم، قدر مشروعية حركة التحرير الوطني.

عاشراً: أبدت الدول ذات القيم الديمقراطية بالإجماع تأييدها لحرية التعبير السلمية، وإدانتها لقتل وحبس الذين مارسوا حقهم المشروع في التعبير السلمي.

أحبابي وأخواني

نحن نؤيد هذا التحرك الشعبي، داعين لتجنب أية مظاهر للعنف المادي واللفظي. وندين قتل الأحرار والعنف المفرط الذي مورس ضدهم، بتشجيع من فتاوى حكام باطلة وظالمة تبرر العنف والقتل واستخدام الرصاص الحي ضد مواطنين عزل. وكما قال الشاعر العراقي: القاتل من أفتى بالقتل وليس المستفتي.

بلغ عدد الشهداء حتى الآن خمسين شهيداً، والجرحى أضعاف ذلك. وبلغ عدد المحبوسين مئات من المواطنين والمواطنات. رحم الله الشهداء الذين سوف نصلي عليهم صلاة الغائب بعد الفريضة، ونسأل الله للجرحى عاجل الشفاء، ونطالب ونعمل على إطلاق سراح المعتقلين فإنهم مارسوا حقوقاً إنسانية ودستورية. ونطالب بلجنة تحقيق ذات مصداقية لا لجنة الخصم والحكم، لجنة تشرف عليها اللجنة الفنية التابعة للأمم المتحدة لتجري تحقيقاً في كل هذه الممارسات الباطشة لمعرفة الحقائق ومساءلة الجناة.

ويسأل الناس. نعم هذا التحرك حقق أهدافاً مطلوبة. وماذا بعد؟

أفيدكم بالآتي:

أولاً: لقد وقعنا مع تجمع المهنيين وآخرين ميثاق الحرية والتغيير، ووضعنا تفصيلاً للمطلوب نص ميثاق الخلاص والحرية والمواطنة، وجرت مشاورات واسعة للاتفاق على نصه، ويجري الآن عرضه على مجموعات بلغت عشرين مجموعة سياسية ومدنية ومطلبية.

ثانياً: هذه المجموعات بعد دراسة الميثاق سوف توقع عليه أمام مؤتمر صحافي دولي.

ثالثاً: بعد التوقيع على هذا الميثاق سوف ينتدب مائة شخص يمثلون المجتمع السوداني بكل مكوناته لتقديم هذا المطلب عبر المجلس الوطني.

رابعاً: يعقب ذلك تسيير مواكب يشارك فيها إضافة للشباب الثائر رموز المجتمع وقادة تكويناته السياسية والمدنية  لتقديم المطالب الشعبية في العاصمة والولايات وفي سفارات السودان في الخارج. إنها مواكب حاشدة وصامتة ترفع شعارات ميثاق الخلاص والحرية والمواطنة.

خامساً: ثم يحتشد الشعب في مائة موقع داخل السودان وخارجه في اعتصامات ترفع شعارات ميثاق الخلاص ولا تتحرك.

سادساً: أهم مطالب ميثاق الخلاص: أن يرحل النظام، وأن تحل محله حكومة انتقالية قومية واجبها تحقيق السلام العادل الشامل وكفالة حقوق الإنسان والحريات، وتطبيق برنامج اقتصادي إسعافي لرفع المعاناة عن الشعب وتطبيق برامج الإصلاح البديلة، وعقد المؤتمر القومي الدستوري لكتابة دستور البلاد.

سابعاً: سوف يعلن ميثاق الخلاص هذا عندما نكمل التوقيعات، وهذا سوف يتم بأسرع ما يمكن إن شاء الله.

أيها الأحباب

في مارس 2011م بعد انفصال الجنوب وقبل اندلاع الحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومع بلوغ الحرب الأهلية في دارفور عامها التاسع التقيت رئيس الجمهورية وقلت له إن الأزمات قد أحاطت بالبلاد، وأقترح أن نتفق على برنامج قومي حددت بنوده العشرة، واقترحت له أن يدعو ثمانية من قيادات البلاد ويعلن أمامهم استقالته ليعقب ذلك الاتفاق على رئيس وفاقي، وبعد ذلك سلمته الاقتراح مكتوباً. أما الآن فإن التأزم الذي يحيط بالبلاد غير مسبوق، والفرصة التاريخية متاحة له أن يجنب البلاد كافة المخاطر المتوقعة ويحقن الدماء، وأن يتنحى بشكل متفاوض عليه ما سوف يستجيب للمطالب الشعبية ويحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل والاستجابة الدولية.

دعماً لهذا المطلب فإن القوى الشعبية سوف تظهر تأييدها الحاشد بصورة سلمية خالية من أية استفزازات وعنف، ولا عذر لمن يُمسك عن مواكب خلاص وطنه المحتضر.

إنني من هذا المنبر أخاطب العناصر العاقلة في النظام، وهم محاطون بإخفاقات النظام، بل ومحاصرون من أبنائهم وبناتهم داخل أسرهم أن يعملوا على التبرؤ من سفك دماء الأبرياء، والاستعداد للتفاهم مع الآخرين لتحقيق المصلحة الوطنية.

وفي نفس السياق أخاطب كافة قوى بلادنا العسكرية والنظامية ألا تستغل في سفك دماء الأبرياء فإن شرفهم المهني وحقوق المواطنة يمنعان ذلك.

وأخاطب الأشقاء في العالم العربي والإسلامي والأفريقي أن يتبينوا حقيقة المشهد السياسي السوداني لمعرفة من الظالم ومن المظلوم، وربما أقدموا على نصح الحكام فإن صديقك من صدقك لا من صدّقك.

لقد خاطبت وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن يهتموا بأحداث السودان، وأن يعلنوا تأييدهم لحرية المواطنين في التعبير السلمي عن مطالبهم وأن ينحازوا للسلام في السودان، ولمطالبنا بالتحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الثوار.

أيها الأحباب

أقول قولي هذا وأعلم أن النظام الحاكم استهدفني أكثر من مرة: يوم الانقلاب، ثم بعد ذلك لاحقني باتهامات كيدية لاعتقالي ومحاكمتي بالإعدام ثلاث مرات. لاحقوني واستهدفوني وهم يعلمون أنني مشدود للوطن والسلام والديمقراطية وبريء من النزعة الانتقامية مما جعل كثيرين من زملائي يعيبون عليّ ذلك. وحتى إذا أفلح النظام في اغتيالي قانونياً فسوف يجدون أنفسهم في مأزق أفدح وطنياً ودولياً كما قال الإمام علي علي السلام في مشهد مماثل:

تلكم قريش تمناني لتقتلني

فلا وربك ما بروا وما ظفروا

وإن قتلوني فرهن ذمتي لهمو

بذات وثقين لا يعفو لها أثر

ختاماً، أرجو أن يستجيب الكافة لهذا المخطط السلمي.

من عيوب ثورات الربيع العربي أنها ركزت على القضاء على الحكام وأغفلت بيان البديل المنشود. نهجنا يعمل على رحيل النظام وبناء البديل القومي الديمقراطي.

 

قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض)[5]، وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[6].

وقال الحكيم السوداني:

لا تضق بالحياة فالسحــب لا         يحجبن شمساً ولا يخفضن ومضا

إن للحق قــــــــوة ذات حدٍ           إن شباة الردى أدق وأمضى

اللهم اهدنا واهد أبناءنا وبناتنا، وارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، قوموا لصلاة الفريضة تقبلها الله، آمين.

 

هوامش

[1]  سورة الحج الآية رقم (78)

[2]  رواه مسلم

[3] سورة المائدة الآية رقم (79)

[4] رواه الترمذي

[5]  سورة البقرة الآية رقم (251)

[6]  سورة التوبة الآية رقم (119)