رواية: المواقف السبعة الدرامية للإمام الصديق

 بسم الله الرحمن الرحيم

جلسة تنويرية لرواد المسرح بصالون الابداع للثقافة والتنمية   

رواية: المواقف السبعة الدرامية للإمام الصديق

الإمام الصادق المهدي

16/10/2019م- الملازمين

بسم الله الرحمن الرحيم

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

السلام عليكم ورحمة الله،

مقدمة:

كياننا هذا منذ البداية منحاز للفن، مع أنه كانت الفكرة أن الكيانات الدينية تنتقد الفن، ولكن الإمام عبد الرحمن منذ البداية احتضن الفنون كلها من: مسرح، غناء، الفن التشكيل، الشعر.. الخ.

أحد الكتاب، النور حمد، يقول ما معناه إن اليساريين هم الذين يهتمون بهذه الأشياء. هو ليس ملماً بالصورة كلها. عبد الله حمدنا الله في المقابل، وكنا في لقاء، قال إن أكثر الذين اهتموا بالفن والمسرح، والقصيدة، والغناء، والتشكيل، كانوا الاستقلاليين، لأنهم يريدون إثبات أن للسودان شخصية قوية مستقلة عن مصر. الآخرون خطهم الأساسي أن الثقافة واحدة، ونحن نعتمد على الأداء المصري.

لكن الاستقلاليين ليميزوا أنفسهم ويثبتوا أن للسودان هويته، وطبعاً للسودان هوية مميزة في كل شيء، لجهاتنا مختلفة، قراءتنا للقرآن مختلفة فالقراءة الشائعة عندنا رواية الدوري وعندهم حفص، والمذهب الشائع عندنا مالكي وعندهم شافعي، وهكذا. للسودان هويته وشخصيته الثقافية.

الآثاري شارلس بونيه قال لي: عندما أزمعت القيام بحفريات في السودان قالوا لي لا تتعب نفسك فجنوب مصر لا يوجد تاريخ، بل جغرافيا: حجر، ونهر، وبحر فقط. لكني حينما قمت بحفرياتي في كرمة وجدتُ إن تاريخ الإنسان في العالم وتاريخ حضارة وادي النيل بدأت في السودان، ووثق هذا الكلام بصورة أساسية.

كانت هناك نزعة قادتها جهات كثيرة مصرية واتحادية لإدراج السودان على أساس أنه “دنقلا”: محافظة في جنوب مصر، لكن الحركة الاستقلالية كانت تريد إثبات أن للسودان هويته. ولذلك كما قال عبد الله حمدنا الله اهتموا بالشعر وبالغناء، فشعراء الحقيبة أغلبهم استقلاليين، واهتموا بالمسرح، مع أن الفكرة أن رجال الدين بعيدين من هذه الأمور. وحينما صلى الإمام عبد الرحمن على جنازة كرومة الناس استغربوا وزعلوا، أي المنكفئين “العلب”.

هذا الكيان كما قال حمدنا الله شجع هذه الفنون، حتى أولئك الذين كانت خلفيتهم اتحادية كخليل فرح؛ وهو من الشمال الأقصى، المهدية لم تلحقهم، شعره صار في النهاية استقلالياً ودفن بمقابر أحمد شرفي، و”الدافنة” طبعاً صار فيها تصنيف حزبي.

اهتم هذا الكيان بالفنون كلها ليثبت أن للسودان هويته الخاصة، وهو غير مندرج تحت الهوية المصرية، وهذه نقطة مهمة جداً.

صحيح اليسار اهتم بالمسائل الفنية لأن لليسار عداء “غبينة” مع الأخوان والآخرين الذين لديهم شكوك من الفنون وبعضهم يكفرها. ولكن كما أكد حمدنا الله، عندما نبحث كل الحركة الفكرية والحركة الفنية نجد هذه الصفة، وليس هذا فحسب، بل الإمام عبد الرحمن مع أنه رجل دين وفي ذلك الوقت رجال الدين يحذرون جداً من مسائل الفن والفنون، لكن كانت علاقاته وثيقة جداً بالفنانين، وقد أشار لذلك عبيد عبد الرحمن في مرثية طويلة تحدثت عن الإمام عبد الرحمن وعلاقته بهم:

آويتنا ودنيتنا وناديتنا بي أسمانا

ولميت شقة الفرقة الزمان قاسمانا

أيادي نعمتك في كل شيء مقاسمانا

ومحمد أحمد سرور حوكم في سلاح غير مرخص فاتصل بالإمام عبد الرحمن الذي أخرجه من السجن، وقال في ذلك قصيدة مهمة جداً:

سليل المهدي دون شك ربنا مصفيك

هو لم يكن أنصارياً ولكن الحادثة هزته. وهكذا.

الشاعر جقود قال قصيدة حسب هواه:

عيونك يا بخيتة زي مدافع المانيا

هزت حصون بلجيك في أٌقل من ثانية

روسيا تقهقرت وتراجعت بريطانيا

النمسا انزوت وفرنسا أضحت فانية

كان ذلك في أيام الحرب العالمية، فأدخلوه السجن طبعاً لأن هذه دعاية للألمان، المهم وهو في السجن أرسل للإمام عبد الرحمن استغاثة، فاتصل الإمام عبد الرحمن بالسلطات وقال لهم اطلقوا سراحه فهذا شعر لا تآمر، لكن المفتش رفض أن يفرج عنه ما لم يقل قصيدة ضد الألمان، فقال القصيدة التالية:

تسلم يا الفريع الجيتنا من رومانيا

شوف ياخي شوف عاين شلوخها تمانية

كل شلخ يدمر دول زي ألمانيا

المفتش قال سنطلق سراحه لكن هذه ليست كتلك.

المهم كان للإمام عبد الرحمن صلة قوية جداً بالفن بكل ضروبه.

سبعة مواقف درامية

المواقف الدرامية في حياة الإمام الصديق: سبعة مواقف، وهذا ليس تاريخاً أو سيرة، لكن هناك سبعة مواقف أعتبرها درامية، وأفصلها في التالي:

المشهد الأول: اسمه (الصديق):

كما تعلمون في المهدية وقع خلاف ما بين تكوينات المهدية ذاتها بين أهل الغرب وأهل البحر، هذا الخلاف للأسف انشقت فيه كل البيوت، والسبب ليس محض تآمر، بل لأن المهدية جاءت بمفاهيم متقدمة على المجتمع في ذلك الوقت.

وأولى من المسائل الثورية مسألة الخلافة. ففي التركيبة الاجتماعية السودانية القائد الديني أو القائد القبلي يخلّف أخاه أو ولده،  وقد كان للمهدي أخوان وأبناء لكنه لم يخلّفهم، وخلف أشخاصاً ليست لهم به صلة رحمية، وهو نفس ما كتبه للسيد محمد عثمان الميرغني (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا)[1]، “ومن أبطأَ بِهِ عملُهُ لم يُسرِعْ بِهِ نسبُهُ”[2].

هذه افكار ثورية، والناس لم تكن مستعدة لها، وأصلاً في التركيبة السودانية للأسف هناك الحديث عن “ناس الغرب وناس البحر”، وكان هناك إحساس بأن في التمرد هذا المعنى. هذا الانقسام حصل في بيت المهدي أيضاً، وحينها فإن أمنا فاطمة بت حسين وهي زوجة المهدي، وقد جاءته كحوارة لا كزوجة في البداية، وقفت موقفاً أساسياً بدعم خليفة المهدي. بينما للأسف كان كثيرون في ذلك الزمن يستنكرون أن يخلف المهدي واحد من أهل الغرب، قال الحردلو:

ما ترقع لي جبتك تبقى أنصاري

ما شفنا الإمام وخليفته بقاري

حصل الخلاف، وكانت بت حسين داعمة للخليفة، ليس لأنها من الغرب فهي حجازية (من حجازة بجنوب مصر) ومن منطقة أم جر، ولكن لأيديولوجية الدعوة. وكان لها ولد اسمه الصديق وبنتان. وعندما حصل الانقسام حصلت “الكسرة”، ذهب عدد كبير من آل المهدي مع الخليفة شريف إلى منطقة الشكابة،  وآخرون مشوا مع خليفة المهدي غرباً، ثم لاحقاً آب راجعاً ليواجه ونجت في أم دبيكرات. وقد حكى الإمام عبد الرحمن في مذكراته: أنا ذهبت قلت للصديق أخي تعال معنا قال لي لا أنا ذاهب مع خليفة المهدي، طبعاً مشى مع خليفة المهدي واستشهد هناك.

وهذه دراما مهمة جداً، إذ أن خليفة المهدي عندما شعر أنه لن تكون هناك “نصرة” فرش. فللفرسان في السودان، إذا يئسوا من النصر، تقليد يسمونه “يفرش”:  يفرش فروته وينتظر الرصاص لئلا يؤسر. خليفة المهدي والصديق والخليفة علي ود حلو وكل الذين كانوا معه كلهم “فرشوا” واستشهدوا معاً. الصديق هو شقيق أم سلمة، والدة أمي رحمة.

فعندما ولد للإمام ولدٌ أسمته عمته أم سلمة الصديق على الصديق “شهيد العركة” في أم دبيكرات، من هنا جاء الاسم. والاسم مهم جداً لأنه يعكس هذا المعنى: الصديق الذي ذهب مع خليفة المهدي واستشهد في أم دبيكرات.

هذه الفكرة جعلت الاسم تخليداً لذكرى الصديق، وهو ولد المهدي الذي استشهد مع الخليفة في أم دبيكرات. هذا هو التاريخ الدرامي للاسم.

المشهد الثاني: دراما الشراكة:

درس الإمام الصديق الهندسة في كلية غردون، ولما تخرج جعله أبوه مديراً لأعماله، وكانت الشراكة التي قامت مدهشة جداً. فمن الناحية المادية كان للإمام عبد الرحمن أفكار وقدرات وعبقريات، وصار الصديق كمنظم لها، حتى أصبح  الوصف كأنما الإمام عبد الرحمن يمثل شلالاً والإمام الصديق يمثل Dam خزاناً، ينظم اندفاع الماء.

هكذا صارت العلاقة، ولكن أهم ملمح درامي فيها أن الصديق أبعد كل جيله من أصدقائه وأصبح أصدقاؤه هم أصدقاء أبيه، حقيقة أفنى نفسه في أبيه بصورة أرى أن تدرس كحالة كلاسكية لعلاقة أب وابنه، لأنه كما هو معروف دائماً يكون بين الأب والابن توتر. أما هنا فلا، كانت حالة من الاندماج التام. والابن تخلص من أصدقائه ومن حياته الخاصة واندغم في حياة أبيه. هذه مسألة مهمة جداً وممكن أن تصير موضوع رواية أو مسرحية للعلاقة بين الأب والابن لما فيها من اندماج كامل.

لكن الإمام عبد الرحمن كان عنده حدس أن ولده هذا لن يعيش، وهذا هو المشهد الدرامي فيها. في مرة ذهبتُ لأسلم على الإمام عبد الرحمن في سراياه بالخرطوم، وكما هو معروف كانت مكاتب دائرة المهدي قصاد سرايا المهدي. طلب مني الإمام عبد الرحمن أن أنادي أبي ففعلت وحضر. قال لي الإمام عبد الرحمن: “دوّر المروحة دي”، ففعلت، فرفع يده وقال: “الفاتحة يا الصديق إن شاء الله تعيش لغاية ما يخدموك أولاد أولادك.. لكن” وصار يبكى. وكان الإمام في ذلك الوقت يعاني من علة في القلب، وصار كل همنا كيف نسكت بكاءه.  هذا المشهد في حد ذاته مدهش جداً. هذه دراما الشراكة.

المشهد الثالث: في نيويوك:

مشهد آخر متعلق بالاستقلال. فكما تعلمون في ذلك الوقت كان هناك صراع على مستقبل السودان. النقراشي رئيس وزراء مصر قاد وفداً  لاجتماع الأمم المتحدة في نيويورك ليقولوا إن السودان ملكنا. السيد الصديق في المقابل قاد وفداً من حزب الأمة، ليقول: أنتم في الأمم المتحدة قررتم تقرير المصير للشعوب، نريد تقرير المصير للسودان، وهذا كان سنة 1947م، وللأسف النجراشي كان حينها قد عاهد عدداً من الزعماء السودانيين الاتحاديين في ذلك الوقت ليقولوا: نعم السودان جزء من مصر، هذا حصل فيه كما قلت هذا المنظر: صراع أمام الأمم المتحدة في نيويورك. هذا مشهد مهم جداً من الدراما في حياته.

المشهد الرابع: انقلاب عبود:

السيد عبد الله خليل رحمه الله جاءته أخبار أن هناك مؤامرات ضد السودان، وهو على أي حال كان منزعجاً جداً من أن الأحزاب مضطربة ولا تريد أن تكتب الدستور، وفكر يسلم السلطة للعسكريين ليكتبوا الدستور وبعدها يعودوا لثكناتهم، هذه كانت فكرته. والإمام الصديق كانت فكرته مختلفة جداً.

عندما عرض عبد الله خليل هذا الكلام على مجلس إدارة حزب الأمة، رفض المجلس هذا الرأي وكان القرار أن هذا كلام مرفوض. حقيقة وثقها السيد أمين التوم رحمه الله في مذكراته.

كانت للإمام الصديق رؤية أخرى وهي حل الأزمة بقيام حكومة قومية برئاسة أزهري هي التي تضع الدستور، وتحول دون انقلاب عسكري. لكن السيد عبد الله خليل  رأى أن حل الأزمة بالانقلاب وأقنع السيدين: السيد عبد الرحمن والسيد علي الميرغني. ولو لم يكن الإمام الصديق غائباً لما تم له ذلك. كان الصديق مديراً لدائرة المهدي وذهب لبيع قطن في الخارج، فسمع بالانقلاب الذي كان بالنسبة له أمراً مفاجئاً.

الجانب الدرامي في ذلك أنه أول قرار يتخذه أبوه ولا يشركه فيه، ففي العادة كانا يتفقان على كل أمر. فوجئ الصديق بالانقلاب، وحجز على أول طائرة عاد فيها، ولم يقابله أحد في المطار لأن حضوره لم يكن متوقعاً. والدراما التي سأحكيها قيض لي أن أشهدها كلها:

حينما وصل للمطار ولم يقابله أحد اتصل بالبيت هاتفياً، وبالصدفة رفعت سماعة التلفون:

  • الصادق؟
  • ..نعم..
  • تعال وصلني البيت.

سقت عربتي وذهبت له. أول ما لاقاني:

  • ده شنو يا الصادق العملوه ده؟

كأنني مشارك فيما حصل!  قلت له أنا أيضاً أرى هذه جريمة كبرى وكنت ضدها، فسألني:

  • سيدي وين؟
  • في السرايا..
  • وديني ليه.

هذا أول مشهد يختلف مع أبيه اختلافاً أمام الناس، ولم تكن في علاقته مع أبيه كما قلت أية مخاشنة.

سقته وكنت معه حينما وصلنا السرايا. كان الإمام في إحدى الغرف ومعه ناس، وبدون أن يقول الإمام الصديق “سلام عليكم” انفجر متسائلاً:

  • ده شنو يا سيدي العملتوه دة؟
  • … يا صديق الأحزاب والخلافات.
  • يا سيدي المسائل في يدنا نديها لغيرنا..؟

حصل هذا المنظر الدرامي أمام الناس. فأمسكه الإمام عبد الرحمن من يده ودخل به.

قال الإمام الصديق إن هذا الانقلاب يجب أن ينتهي الآن. وطبعاً كان ذلك غير ممكن لأن الانقلاب كان قد حدث وانتهى الأمر. الشاهد هذا هو المشهد الرابع من دراما في حياة الإمام الصديق.

المشهد الخامس: الوحدة خلف قيادته:

تكونت خلف قيادة الإمام الصديق وحدة لكل القوى السياسية من أقصى اليمين: أخوان مسلمين، وغيره، إلى اقصى اليسار: شيوعيين، وغيره، كل القوى السياسية أجمعت على قيادته في تلك الفترة حتى منافسيه كالأزهري وغيره جميعهم وقفوا معه. وصار يمثل صوت الشعب بالنسبة للموقف من عبود والانقلاب. وهذا موضوع أيضاً مهم جداً،   ضروري يركز عليه.. هذا هو المشهد الخامس.

المهشد السادس: مذبحة المولد:

كان للأنصار خيمة في ساحة المولد، وفي ذلك الوقت صارت هذه الخيمة محلاً لسماع المدائح والأناشيد، والهجوم على الحكومة. جاءت قوة من البوليس بأمر من السلطة وقامت باعتداء شبيه بما عملوه لاحقاً في الجامعة واستشهد جرائه أحمد القرشي طه، مثله بالضبط، هجموا على الأنصار واستشهد يومها من الأنصار اثنا عشر شاباً. ومع أن صحة الإمام الصديق كانت جيدة، إلا أنه شعر بضيم شديد جداً من هذا المشهد: عزل لا يحملون سلاحاً يقتلون بهذا الشكل. ومؤكد أن هذه مسألة فيها تعدٍ على حقوق الإنسان، وبالنسبة له كان المشهد درامياً جداَ وأحس بغبينة شديدة جداً، وهذا ما جعله يتوفى بالذبحة الصدرية. لم يكن يذوق النوم، فما حدث عمل له شعور بضيم شديد وظلم شديد.

المشهد السابع: الوصية

في يوم 29 سبتمبر 1961م صلى الإمام الصديق الجمعة بودنوباوي وجاء إلى هنا (الملازمين)، وبات في غرفته بالطابق العلوي، أرسل لي في الصباح وكنت أسكن في “البيت التاني” جوار منزله، فحضرت.

  • الصادق أمشي وجيب لي منصور علي حسيب.

كان دكتور منصور علي حسيب دفعته في كلية غردون، هو في الهندسة ومنصور في الطب. ذهبت لدكتور منصور وأحضرته معي.

  • يا منصور أنا شعرت بي زمة في صدري،

عندما فحص عليه دكتور منصور رأى أنها ذبحة صدرية، كان ذلك يوم السبت.

الحالة تدهورت، واستعان منصور بأطباء آخرين متخصصين في القلب، فصار هناك حوالي 11 طبيباً جاءوا ليساعدوا في علاجه، كان ذلك يوم الأحد.

وفي عصر يوم الاثنين كانت الحالة متدهورة، وهو محتضر تقريباً. وهناك أنابيب وضعوها له لكي يتنفس، كانت الحالة متأخرة جداً. قال لي:

– امش نادي فكي عبد الله اسحق يقرأ الراتب.

جاء الفكي عبد الله اسحاق وقرأ الراتب. واضح أن الإمام الصديق أدرك أن هذا مشهد احتضار، لأنه لو كان هناك أي أمل في صحته كان سيعزل الناس. لكن الباب كان مفتوحاً والغرفة ممتلئة حتى آخرها: 11 طبيباً، وناس كثيرون موجودين، كل الناس كانوا موجودين. مشهد غريب جداً كأنه مسرح، لا يبدو كالحقيقة.

كان الفكي عبد الله اسحق يقرأ الراتب حينما قال لي:

  • امش يا الصادق جيب ورقة وقلم اكتب كلامي دة.

ذهبت واحضرت الورقة والقلم. وفي حضورذهني شديد جداً، عادة الإنسان في مثل هذه الحالة لا يكون وعيه متصلاً، أملى علي:

  • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم مَن ماتَ على وصية”، وقال “ليسَ منّا مَن ماتَ ووصيتهُ ليست تحتَ وسادتهِ”، لكن الأيام لم تمهلني فاكتب..

وكنت أكتب. فأملاني وصيته للدائرة وللعائلة وللأسرة، وفي وصيته برزت قضيتان مهمتان وثوريتان. وكل ذلك وغيره مسجل في الوصية:

الأولى: يا فلان إمامة الأنصار باختيار الأنصار، أعين خمسة منكم ليديروا الأمر إدارة مؤقتة إلى أن تستشيروا الأنصار. هذه ثورية، لأنه عادة في الطرق الصوفية والكيانات الدينية، والكيانات القبلية، حينما يموت الزعيم يخلفه إما أخوه أو ابنه. المهم  أن تصير إمامة الأنصار باختيار الأنصار. هذه خطوة ثورية في الإطار التقليدي.

الثانية: نحن ما عندنا مطلب خاص، مطلبنا هو مطلب البلد كلها، أن قيادة الناس وحقوقهم بالديمقراطية. وصية تحرصوا على تحقيقها مهما كلفكم الأمر.

عندما انتهى من الوصية كان الفكي عبد الله قد فرغ من قراءة الراتب، ومؤكد أنه كان متألماً لكنه صابر على الألم. وبعد أن أملى الوصية قام بتصرف مدهش جداً. رفع يديه وقال لي:

  • الفاتحة على روح أبيك.

“شال” معي الفاتحة على روحه.. ثم:

– ودلوقتي خلوني أرتاح!

ثم نزع الأنابيب، فقد أحس بأن هذه هي النهاية. كلامه لم يكن فيه أي تردد ولا لعثمة، بل كان كلاماً واضحاً، أملاه عليّ متتابعاً بدون توقف وأنا أكتب. ثم الفاتحة على روح أبيك!

هذا مشهد لا أظن، ولا مر بي في التواريخ مشهد مثله.  احتضار بهذا الشكل وأفكار حاضرة وأفكار ثورية غير تقليدية.

أحد الحضور الأجانب، البروفسور مورغان، من كلية كتشنر الطبية، قال لنا: إذا كانت هناك جنة فهذا الرجل ذاهب لها فوراً، لأنه في هذه الحالة، وقد كان يقدر لأية درجة كان الإمام الصديق متألماً، فالإنسان إما يكون مخدراً لدرجة لا يستطيع الكلام، أو متألماً لا يقدر يتكلم من الألم، لا يمكن يقدر أن يتكلم بهذه الطلاقة.

بعد الوفاة عينا نحن الخمسة: السيد عبد الله رئيساً، والسيد  الهادي، والسيد يحي، والسيد أحمد وشخصي. لجنة إدارية لا إمامة، واجتمعنا بعد وفاته. السيد عبد الله كان تقليدياً. قال: لا نستطيع أن نرجئ الخلافة ولا الإمامة، ضروري أن نحسمها، وفعلاً هذا كان التقليد. قلتُ لهم هذا مخالف للوصية، لكن البقية أيدوا كلام السيد عبد الله. فقلت لهم أقبل رأي الأغلبية لكن بشرطين: هذه الوصية لا نكتمها، بل أعلنها على الناس، لكي يعرف الناس حقهم الذي أخذناه منهم. والشرط الثاني ألا يتغير خط الإمام الصديق في معارضة النظام، فالبعض كان ينادي بعمل نوع من التسوية. ووافقوا. ولذلك بينما كان الإمام الصديق يدفن جاءوا لي بمايكرفون وعبره قرأت الوصية، هذا المشهد ذاته درامي جداً، في مشهد الدفن قرأت الوصية بكل المعاني التي فيها، وهلل لها الأنصار وكبروا.

على أي حال هذه هي المشاهد السبعة في حياته وفيها محتوى درامي صالح جداً لكل أنواع الروايات والمسرحيات وغيرها. وهي شواهد على الإقدام بالفهم الإنساني وعلى الولاية بالفهم الروحي.

ولا شك أن المسرح وسيلة مهمة جداً ليس للترفيه فقط، ولكن للتوعية والتبصرة، إلخ.

وقد فهمت أن لديكم رغبة في التعامل مع هذه الأحداث الدرامية، ولكم أن تختاروها كلها أو تختاروا بعضها، فالموضوع في يدكم وقد طلب مني أن أروي لكم المشاهد المهمة.

 

أسئلة وتعقيب

الأستاذ عبد الرحمن الشلبي: السيد الإمام، من الذي أعطى العساكر الإذن باستعمال الرصاص والقتل في أحداث المولد؟

الإمام: وزير الداخلية، وهو مثل وزير الداخلية الذي أذن بالهجوم على الجامعة لاحقاً، فقد  قرر بأن هذه المسألة غير محتملة،  وأن يفرقهم بالقوة.

عبد الرحمن الشبلي: هل حصلت من الأنصار أية مقاومة في تلك اللحظة؟

الإمام: نعم، كان شهداء الأنصار اثنى عشر، وقتل الأنصار ثمانية منهم مع أن الأنصار كانوا غير مسلحين. وكان الأحرى بهم لو كان بينهم شخص رشيد أن يحاصروهم ويأخذوا المايكرفونات، أو يفصلوا الإضاءة، فهناك وسائل مدنية. لكنهم هجموا عليهم مثلما حدث لاحقاً في الجامعة واستشهد القرشي ورفاقه، وكالذي حصل مؤخراً في فض الاعتصام. لا داعي للحرب. قررت أن تفض الناس أمام القيادة ممكن أن تحاصرهم وتقطع إمدادات الماء والكهرباء وتحكم الحصار بمنع الدخول وتتيح  الخروج.

الشبلي: هناك موقف آخر، وهو العريضة التي قدمت لجماعة عبود بإمضاءات أيضاً هذا موقف يحسب للإمام الصديق.

الإمام: نعم هذا هو ما جمع الصف كله. قدموا مذكرة وقع فيها كل الناس.

هناك ذهنية أمنية لا تفهم في ديسمبر 2005م، كان أولادنا، أولاد دارفور، يذهبون لمصر ليقابلوا مكاتب مفوضية اللاجئين بالأمم المتحدة، ليعمل لهم ترتيب ليذهبوا في برنامج إعادة التوطين في أروبا وأمريكا وغيرها، الأمم المتحدة قررت أن تغلق المكتب، فشعروا بضيم واحتلوا الساحة أمام مسجد مصطفى محمود، وبقوا فيها قرابة الثلاثة شهور، وقد زرتهم وسمعت منهم، وفي مناسبة قابلت أحمد أبو الغيط وكان حينها وزير الخارجية المصرية، وبينما كنت أودعه سألني عن رأيي في تلك المسألة، وكان هناك كلام عن ضرورة فضهم بالقوة. قلت له فضهم بالقوة سوف يخلق مشكلة في العلاقة بين الشعب السوداني والمصريين لن تنتهي. سألني: طيب ماذا نعمل؟ سألته: هل اتخذتم قرار فض الاعتصام؟ أجابني: نعم. قلت له: حصار، قطع إمداد الماء والكهرباء، والسماح بالخروج وعدم السماح بالدخول. لا ترفع بندقية ولا غيرها. وأؤكد لك أن هذا سوف يؤدي لفض الاعتصام في ثلاثة إلى أربعة أيام بدون أي عنف. بعدها بعث بسفيرة في الخارجية المصرية لوزير الداخلية العدلي لتنقل حديثي وأنه استصوبه ناصحاً إياه بتنفيذه بدلاً عن اتخاذ اجراءات أخرى. ولكن هذا العبيط رأى ذلك تدخلاً في شأنه فقرر النهالافض بالقوة ومات على إثرها 200 شخصاً، بدون أي داعي. هناك ذهنية متخلفة لدى المسؤولين عن الأمن دائماً أن يحسموا المسائل بالقوة. الآن داعش دمروا دولتها لكن داعش فكرة لن تنتهي، الآن صارت لها فروع. والقاعدة كذلك. كانت موجودة في أفغانستان وفي جزء من باكستان سنة 2001م، شنوا عليها حربا عالمية، والنتيجة للقاعدة الآن مائة فرع في العالم. بوش الأحمق قال: انتهت المهمة mission accomplished، بينما ما عملوه في أفغانستان كانت نتيجته عكسية، وما عملوه في العراق جاء بنتائج عكسية، وما عملوه في ليبيا، إلخ. المسائل العسكرية إذا لم تكن ضمن خطة سياسية تأتي بنتائج عكسية.

على كل حال، كان من الممكن فض المولد بلا داعي لأية هجمة كتلك، وأيضاً هجمة أحمد قرشي طه. هؤلاء أولاد قرروا أن يعقدوا ندوة في داخلية البركس بجامعة الخرطوم عن مشكلة الجنوب يتكلموا فيها ضد الحكومة. نعم. ماذا في ذلك؟ هم طلبة فاتركهم يقولون ما يريدون. وحتى لو أردت منعهم عن قوله يمكنك أن تقطع الميكرفونات، أو أي إجراءات مدنية، لكن هجموا عليهم بالسلاح، واستشهد قرشي وزميله، وراح النظام. هذه الذهنية الأمنية متخلفة وتاتي بنتائج عكسية.

بالنسبة لحكاية الأنصار كانت ضيماً شديداً، وقد كنا هناك في هذا المشهد، مشهد الهجوم  الذي حدث واستشهاد الأنصار. لكن الغريب بينما كنا في هذا المشهد، وقد كان مشهداً عظيماً جداً، جاءني شخص لا أعرفه سلمني قصيدة رثاء للاثني عشر الذين استشهدوا، قصيدة اسمها اثنا عشر، هذه القصيدة اعتقدت أن أحد شعرائنا ألفها لكن اتضح أنه لم يؤلفها أحد منهم. والقصيدة جميلة جداً وقوية جداً، وتوقعت أن مؤلفها الشاعر فضل النور وسلمتها له ليقرأها، قال لي أنا لم أؤلفها. والحقيقة أني لم أتبين حتى الشخص الذي سلمني القصيدة ولا أعرف من هو. وقد لحنت القصيدة الحمد لله.

 

قامت إحدى عضوات الكورال بتلاوة القصيدة:

إثنا عشر من خير ما لحظته عين المعجب

إثنـــــــــا عشر عقد تألق يوم ميلاد النبي

إثنا عشر قبسٌ توهّج في الظلام الغيهب

وجثا على قبر الإمام لدى الضريح الطيب

**

إثنا عشر باعوا النفوس هنــاك للشرف الرفيع

أنفوا الشكيم على الهوان وما استجابوا للخنوع

أخذوا علـــــــى غدر فألقوا فيه كالطود المنيع

ماتوا ليجني الشعب في أعقابهم زهر الربيع

**

هم فتية يــــــــــــا صاحب الميلاد لم يتأثموا

حفلوا بذكــــــــراك الشريفة والضحايا جُثّم

وعلى الرصــــاص المنتشي شاديهمُ يترنم

وبرغم طـــلاب الأذى صلوا عليك وسلموا

**

يا ما أحيـــلاهم وقد نزفوا على الأكفان دم

يا ما أحــــيلاهم على الأعناق لفوا بالعلم

يا ما أحيلاهم لدى التكبير يرمي بالحمم

يحكــــــــون أنا قادرون وأننا لن ننهزم

**

هلا رأت عيـــــــناك ما أمّلته يوم المصاب

هلا رأيت البقعة الفيحـــاء جاشت كالعباب

مزدانة قد لفها التاريـــــــخ في أبهى ثياب

نشوى تزغرد للضحايا الخالدين من الشباب

**

أو ما رأيت مواكب الأنصار ترعد في الأصيل

قد أحفظتهم مهجة باتـــــــــت بلا ذنب تسيل

متأججين حماسة كشحت على الدرب الطويل

لله ما يلقونه في الحــــــــــــق والمجد الأثيل

 

وعقب الإمام: وهذه أيضاً فيها نبوءة: ماتوا ليجني الشعب في أعقابهم زهر الربيع، وهذا ما حدث فعلاً في ثورة أكتوبر.

 

 

ملحوظة: القيت الكلمة شفاهة وقام المكتب الخاص للإمام ا لصادق المهدي بتفريغها من الملف الصوتي.

[1] سورة هود الآية (42)

[2] سنن أبي داود