صحيفة النجاة للأمة

الإمام الصادق المهدي
الحبيب الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

صحيفة النجاة للأمة

بقلم: الإمام الصادق المهدي

 فبراير 2016م

ما يدور في منطقتنا من مواجهات طائفية وفكرية وحروب أهلية مغروس في جذور تاريخية وقوى اجتماعية وسلطات سياسية ولا يرجى لأي من أطرافه أن يحقق نصراً مبيناً ويمحو غريمه من الوجود.

النتيجة الحتمية لهذا الاقتتال هي سفك الدماء، وهدر الأموال، وتخريب العمران في أوطان الأطراف المشتبكة في الاقتتال، وفتح المجال واسعاً لتمدد حركات الغلو المارقة وللانصراف عن القضية الفلسطينية، ولإفساح المجال للقوى الدولية لا سيما الولايات المتحدة وروسيا لفرض وصايتها على المنطقة بأسرها.

هذه النتيجة المأسوية حفزتنا على التنادي لتشخيص الحالة بكل أبعادها ولرسم الخطى اللازمة لنجاة الأمة، ونناشد أهلنا حكاماً ومواطنين الإصغاء لهذا النداء تجنباً للحالقة:

  1. الدولة الوطنية في بلداننا عانت من غياب التنمية البشرية لأنها في كثير من الأحيان خضعت لحكم الفرد الظالم ما عبأ ضده غضباً انفجر في ثورات الربيع العربي. ثورات الربيع العربي لم تكمل دورتها المنشودة إلا قليلاً، ولكن نتائجها توهن الدولة الوطنية في كثير من الحالات. والنتيجة أن تآكل قبضة الدولة الوطنية أفسح المجال لبروز حركات ذات انتماءات إثنية وطائفية، تمددت على حساب الولاء الوطني.
  2. منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران برز إقدام المجموعات الشيعية في البلاد السنية معبرين عن تظلم تكون بموجبه شيعية سياسية بقيادة إيران.

هذا الإقدام الشيعي عززته عوامل أهمها: الغزو الأمريكي للعراق أدت تداعياته لتمدد شيعي في العراق. ودور حزب الله في لبنان بتصديه لمقاومة إسرائيل أكسبه وزناً كبيراً في لبنان. وتحولت ثورة الربيع العربي في سوريا إلى استقطاب طائفي وقفت إيران بموجبه مع السلطة الحاكمة.

  • الربيع العربي في اليمن لم يكمل ثورته، وأقدم على الاستيلاء على السلطة تحالف صالحي حوثي. تحالف وقف ضده تحالف دولي تقوده المملكة العربية السعودية لدحره في حملة عسكرية باسم عاصفة الحزم استمرت أكثر من عام دون تحقيق أهدافها العسكرية. تاريخياً كان ينتظر أن تقف الولايات المتحدة بقوة مع التحالف السعودي ولكن منذ منتصف عام 2015م أبرمت الولايات المتحدة والدول الخمس اتفاقية مع إيران حول الملف النووي. اتفاقية كسرت حدة العداء الإيراني الأمريكي.
  • والحرب  في اليمن، وفي سوريا، وفي ليبيا، أتاحت فرصاً واسعة لتمدد القاعدة والدولة الإسلامية المزعومة ما أفزع دولاً كثيرة لأن هاتين الحركتين تعملان بصورة إرهاب عابر للحدود الدولية.
  • الاتحاد الروسي يضم سبع جمهوريات ذات أغلبية مسلمة ووجوداً إسلامياً في بقاع روسيا المركزية.
  • قوى ثورة الربيع العربي في سوريا نافستها في مواجهة النظام السوري قوى غلو إسلامي كجبهة النصرة وجيش الفتح، قوى وجدت دعماً كبيراً سعودياً، وقطرياً، وتركياً.
  • وفي ليبيا قامت ثورة ربيع عربي واجهها النظام بالقمع وبتوصية من الجامعة العربية تصدى  حلف ناتو للنظام فأسقطه والنتيجة الآن أن في ليبيا حكومتين إحداهما معترف بها دولياً عاصمتها طبرق والأخرى عاصمتها طرابلس. وانقسمت القبائل والقوى السياسية بين الحكومتين. وبعد تداول الأمر اقترحت الأمم المتحدة حكومة وحدة وطنية لم يستتب لنا الأمر بعد.
  • تفكك الدولة الوطنية كما في العراق وسوريا واليمن وليبيا أتاح مجالاً واسعاً لتمدد القاعدة والدولة الإسلامية المزعومة.
  • القاعدة لم تكن موجودة قبل الغزو السوفييتي لأفغانستان. وتلبية لنداء الجهاد ضد هذا الغزو تقاطر كثير من المجاهدين، وفي هذا المناخ تكون تنظم القاعدة. وبعد جلاء السوفييت من أفغانستان اتجهت القاعدة لإجلاء الوجود الأجنبي من بلاد المسلمين واستخدمت أساليب إرهابية ضد الولايات المتحدة فأعلنت أمريكا حرباً عليها. القاعدة بسطت نشاطها على مناطق كثيرة منها العراق، وسوريا واليمن. وهنالك لاحقتها الغارات الأمريكية.
  • قبل احتلال العراق لم يوجد داعش وبالتالي الدولة الإسلامية المزعومة. ولكن فرع القاعدة في أرض الرافدين كون داعش ثم الخلافة المزعومة باعتبار أن للشيعة دولتهم المركزية والخلافة سوف تكون دولة أهل السنة.
  • في مصر انتهى الربيع العربي إلى دولة ذات مرجعية علمانية تصنف الأخوان المسلمين إرهابيين، وهم بعد إنزالهم من السلطة صاروا يحظون بدعم تركي وقطري ويمارسون وجوداً في اليمن، وسوريا، ولبيبا.
  • الشعوب في دول الخليج ليست بعيدة من العوامل التي حركت شعوب الربيع العربي وفيها اتخذت الحكومات إجراءات استرضائية ما ساهم في استمرار الاستقرار فيها ولكنها الآن قلقة من تعاظم الوزن الشيعي ما جعلها تساهم في عاصفة الحزم في اليمن.
  • السودان تماثل أوضاعه أوضاع البلاد التي عصفت بنظمها ثورات الربيع العربي ولكن الاحتجاجات الشعبية فيه اتخذت أشكالاً مختلفة من نتائجها محاصرة النظام بوسائل مختلفة. محاصرة مع الحاجة المالية دفعت النظام  إلى مشاركة فعلية في الحرب الطائفية في اليمن.
  • تونس وهي أنجح بلدان الربيع العربي وجدت نفسها تواجه خطرين: الأول: تمدد نشاط الغلاة ضدها انطلاقاً من جارتها ليبيا. والثاني: الاحتجاجات الاجتماعية ففي البلاد احترام للحريات الأساسية ونسبة عالية من الفقر والعطالة ما فجر مظاهرات كبيرة في محافظة قصرين.
  • ثلاثة بلدان: سلطنة عمان ابتعدت من عاصفة الحزم الخليجية، والجزائر والمغرب أدخلتا إصلاحات تجاوباً مع تطلعات الربيع العربي.
  • تركيا وهي عضو في حلف ناتو قامت بدور مهم في دعم المقاومة ضد النظام السوري، وصارت جزءاً من تحالف سني تقوده السعودية. تحالف ضد القاعدة وداعش وضد الحركات الشيعية. ولكن مع ذلك فأولوية تركيا هي أن ضعف الدولة الوطنية في العراق وسوريا أدى لبروز تطلعات كردية نحو فكرة كردستان التي يتبناها حزب العمال الكردستاني التركي. وفي الحملة ضد الدولة الإسلامية المزعومة وجد الأمريكان في أكراد سوريا والعراق عوناً عسكرياً قوياً.
  • وإسرائيل اعتبرت هذا الاقتتال الطائفي الإثني في دول جوارها معولاً لتفكيكها وهي أمنية راودتها منذ زمن، ما يعني أن المنطقة المحيطة بها مشتبكة في مواجهات تحقق لها أمنيتها بل تعوضها عن هزيمتها في معارضة الصفقة الإيرانية الدولية النووية. وتتيح لها مواصلة بسط سلطانها على كل فلسطين من النهر إلى البحر.
  • ولاحت لإسرائيل كما قال متحدثوها فرصة تحالف مع أهل السنة في المنطقة تحالفاً ضد إيران وحزب الله.
  • نشاط القاعدة، والخلافة المزعومة بل كل الاقتتال في المنطقة شد إليه اهتمام العالم لأن تلك الأنشطة الإرهابية والاقتتال في المنطقة رفع نسبة اللاجئين إلى خارج المنطقة لدرجة غير مسبوقة بحيث بلغ عددهم في عام 2015م وحده مليون شخص. أعداد سببت إزعاجاً في أوربا وأمريكا وبالنسبة لأوربا القلقة على تكوينها الديمغرافي بلغ الانزعاج درجة الخوف على هويتها، وانطلاق حركات شوفينية متطرفة ضد العرب والمسلمين باعتبارهم مصدر الإرهاب والهجرات غير القانونية. هذه المشاعر صارت تدفع في اتجاه تدخل عسكري مباشر في المنطقة.

المشهد الحالي في المنطقة:

اقتتال طائفي وإثني حاد تدمر أطرافه بعضها بعضاً دون إمكانية تحقيق نصر لطرف بحيث يلغي الطرف الآخر.

اقتتال يزيد من هشاشة الدولة الوطنية ويفتح باباً واسعاً للقاعدة وداعش أو الدولة الإسلامية المزعومة. التحالف مع أطراف الاقتتال والتصدي العسكري للقاعدة وداعش رفع درجة اشتراك أمريكا وروسيا ارتفاعاً كبيراً. القيادة الروسية تجاور المنطقة جغرافيا وتتوقع تمدد الغلاة إليها والقيادة الروسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تظلمت من أن ناتو تمدد حتى أقرب حدودها. وأمريكا حجم دورها نسبياً ثلاثة عوامل: الأول: الدرس المستفاد من تجربة التدخل المباشر في أفغانستان والعراق. والثاني: أن نفط المنطقة لم يعد بذات الأهمية السابقة لاكتفاء البلاد نفطياً. والثالث: إدراك أمريكا أن المنطقة معتلة عللاً أسبابها مستوطنة في المنطقة ولا تعالجها الحملات العسكرية الخارجية. 15 عاماً من الحرب على طالبان وطالبان ما زالت تستقر على أراضي أفغانستان. ونفس المدة من الحرب على القاعدة وهي تتمدد و15 شهراً من حملة 60 دولة على دولة الخلافة وهي إن تقلصت في الشام والعراق تمددت في أماكن أخرى.

  1. إن هذا المشهد المأسوي لم ينشأ صدفة بل أفرز واقعاً ركنت إليه المنطقة زمناً طويلاً وكانت ثورات الربيع العربي هبة ضده لم تبلغ غايتها بل أحاطت بمظاهرها عوامل ثورة مضادة كادت أن تمحوا أثرها.

الواقع الذي أفرز هذه المآسي يعود إلى سبعة عوامل هي:

العامل الأول: تضافرت عوامل عدة لكي يغيب العقل البرهاني وتجعل الماضي وصياً على الحاضر والمستقبل.

العامل الثاني: فقه التزام المنطق الصوري وغياب المنطق المقاصدي، وجعل النقل الخالى من التدبر وصياً على الحياة.

العامل الثالث: نظم حكم تطلعت للخلافة أو لعودة الإمام الغائب ولكنها في الواقع غيبت المشاركة، والمساءلة، والشفافية وفرضت على الشعوب احتلالاً داخلياً.

العامل الرابع: نظم اقتصاد ثرواتها مغربة وتوزيعها غير عادل مبطنة بنسبة عالية من الفقر والعطالة.

العامل الخامس: خلافات طائفية حادة موروثة جيلاً بعد جيل وموبوءة بالتكفير المتبادل.

العامل السادس: علاقات خارجية مهدرة للكرامة ومثيرة للاتهام بالتبعية.

العامل السابع: إحساس شعور شائع بأن ولاة الأمر قد تخلوا عن القضية الفلسطينية. منذ عام 2005م يقتل من الفلسطينيين 650 شخص سنوياً ويحبس 4 آلاف سنوياً وأقامت إسرائيل الجدار العنصري العازل وتحاصر كلا من غزة وأريحا وتواصل بطشها بانتفاضة الحرم وبالنسبة لعرب إسرائيل الحكومة ماضية في تكريس يهودية الدولة وجعلهم في حصار ابارتايد.

كل الدلائل تشير إلى أن الواقع الماثل حالياً فقد صلاحيته وجدواه ولا يسعف المنطقة إلا نظام جديد يتصدى للعوامل السبعة المسببة للمآسي التي تعاني منها المنطقة، والتي إذا لم تواجه بالجدية والإحاطة المطلوبة سوف تفكك المنطقة وتخرجها من التاريخ.

معالجة العوامل السبعة:

  1. العامل الأول: مسألة المعرفة: العقل. والتجربة، والوحي. والإلهام. هي وسائل المعرفة. الإنسانية. القرآن كثير الإشارة للعقل ومشتقاته كالبرهان: قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[1] وقوله: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[2] والتجربة: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[3]. العقل والتجربة في مجالهما وسائل لمعرفة الحقيقة الموجودة في الطبيعة وفي النفس الإنسانية وفي المجتمع فهذا معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ)[4].

    تغييب العقل البرهاني والتجربة هو خطأ الانكفاء الفكري الذي عطل العلوم العقلية والتجربيبة ما يوجب صحوة فكرة تسد هذا النقص الكبير.

    ولكن للعقل والتجربة الإنسانية حدود ما يشكل الغيب الذي مفاتحه الوحي والإلهام. علة الفكر العلماني أنه ينكر معارف الغيب. علمياً ثابت أن حواس الإنسان وعقله لا يحيطان بكل ما في الوجود ولا بالأساس غير النفعي للأخلاق ولا بمقاييس الجماليات. هذه المجالات هي مجالات الوحي والإلهام. كان رعاة الأصولية العلمانية يقولون أن العلمانية هي شرط للديمقراطية ولكن وجدوا أن اعتي الدكتاتوريات تمت باسم العلمانية في ألمانيا وايطاليا وأمريكا الجنوبية وحتى في الإطار العربي فإن العلمانية أقامت نظمها عن طريق الانقلابات العسكرية والقهر للشعوب. لذلك عدل علمانيون مرجعيون مثل بيتر بيرقر وشارلس تيلور من مقولتهم ليقولوا أن شرط الديمقراطية هو التعددية وقالوا في إطار التعددية لا يمكن أن نحرم المنادين بمرجعية دينية من حقهم في التنافس السياسي ما داموا يقبلون حرية العقيدة لغيرهم والمساواة في المواطنة.

    وأهم من ذلك فمنذ الربع الأخير من القرن العشرين ولأسباب نفسية وسوسيولوجية انتعشت الأصوليات الدينية في كل مكان.

    وحتى في الدول غير ذات الأغلبيات الدينية غير الكتابية شهدت تمدداً في الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية كما حدث في اليابان لصالح حزب كوميتو ذو الصبغة البوذية منذ مطلع التسعينيات. وما حدث في الهندي لحزب بهاراتيا جاناتا ذو المرجعية الهندوسية الذي حصل على 31% من الأصوات في انتخابات 2014م

    القول بأن قدرات الإنسان هي العقلية والتجريبية فحسب إفقار للإنسانية. والقول بأن معارف الإنسان نقلية فحسب إفقار آخر للإنسانية.

    حاكمية الله في قوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)[5] متعلقة بالحاكمية الكونية (الكوزمولوجية) ونقلها للمجال السياسي والإمرة خطأ جسيم، ففي هذا المجال الحاكمية للبشر على نحو ما قال أبو بكر رضي الله عنه: “وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني”. وما قاله عمر رضي الله عنه: ” وُلّينا عليكم لنسد جوعتكم ونوفر لكم حرفتكم فإن عجزنا عن ذلك اعتزلناكم” وهو تفسير قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[6] وحتى في غير الإمرة لا يحق لأحد من الناس أن يتحدث باسم الله بل يقول ما يقوله باجتهاده هو لأن ادعاء أن لأحد الحق في التحدث باسم الله كهنوت يرفضه الإسلام.

  1. العامل الثاني: الفقه التقليدي ومفهوم تطبيق الشريعة: بالفهم التقليدي قال قوم إن أئمة الاجتهاد قد استنبطوا الأحكام من النصوص عبر القياس والإجماع، وما على الخلف إلا اتباعهم. أئمة الاجتهاد أنفسهم قدموا اجتهاداتهم مراعين ظروف الزمان والمكان وقد غيروها عندما تغيرت تلك الظروف كما فعل الإمام الشافعي. ظروف العصر الحديث لم تخطر على بالهم. ظروف العصر الحديث كالدولة الوطنية، والنظام الدولي الحديث، والعولمة. أحكام الحدود في الإسلام جزء من منظومة ثلاثية: التربية الإيمانية، والكفالة الوقائية، ثم الردع. إن تطبيق الأحكام الجنائية دون التربية الإيمانية والإجراءات الوقائية ودون مراعاة الواقع الجديد يجعل شعار تطبيق الشريعة منافياً للعدالة وبالتالي لمقاصد الشريعة ومشوهاً للشريعة الإسلامية.

فكيف تقطع يد السارق مع نسبة الفقر العالية وتفشي العطالة وهي شبهات تحول دون ذلك؟ وأحكام الزكاة التقليدية قاصرة فقد استحدثت أنواع جديدة من المال، وصار الأغنياء في كثير من الأحوال يضعون أموالهم في بلاد أجنبية.

    العدالة الاجتماعية من مقاصد الزكاة، ودولة الرعاية الاجتماعية المستحدثة أكفأ وسيلة لتطوير أحكام الزكاة.

    وسعر الفائدة نسبة مضبوطة بمؤسسات ويدفعها المستثمر لمساهمين هم أفقر منه ولا تعتمد على مساومة فردية ونسيئة كما هو  الحال في الربا.

    واقتصاد عالم اليوم متداخل وسعر الفائدة لا يتعلق بالإقراض وحده بل بحجم النقود والنقود نفسها لم تعد ذات قيمة ثابتة.

    هذا معناه أن المطلوب في كل هذه الأحوال إصدار دليل يدرك مقاصد الواجب. ويحيط بالواقع الجديد. ويستفيد من التطور القانوني الوضعي ذي الأهداف المماثلة ليصير أساساً مقاصدياً لتطبيق الشريعة أما ما  يحدث الآن مع هذا الشعار فإنه يهزم مقاصد الشريعة. الحلول العلمانية كالقومية العربية سيطرت على المسرح السياسي في بعض بلداننا المهمة وسجل التاريخ إخفاقاتها. هذا ضمن عوامل أخرى أفسح المجال لشعار السلام هو الحل. هذا الشعار اخفق تماماً في بعض البلدان كالسودان وواجه عقبات هائلة كما في مصر وفي بعض البلدان كتركيا، والمغرب، وتونس خضع لمراجعات حقق بموجبها بعض النجاح. المطلوب بإلحاح الآن أن يأتمر كل الذين يؤمنون بدور الإسلام في الحياة العامة لدراسة الأمر على ضوء مطالب الواجب، وحقائق الواقع، ومعطيات التجارب لتحديد دور الإسلام في الحياة العامة في المجتمع الحديث.

  1. العامل الثالث: نظام الحكم:

    العدل هو أهم مقاصد الشريعة في الإسلام. تجربة الخلفاء الراشدين كانت عادلة ولكنها خلت من مؤسسية الاستخلاف لذلك كثر فيها اغتيال الخليفة، ومن ظروفها وقعت الفتنة الكبرى. بل بسبب غياب التقنين والمأسسة فإن تاريخ الخلافة في كل عهودها كان مضمخاً بسفك الدماء. العصر الحديث ابتكر وسائل مؤسسة لتنظيم الاختلاف والفصل بين السلطات لتحقيق العدالة.

    هذه الوسائل أولى بالاستنباط لتحقيق مقاصد الحكم. قال أبو بكر رضي الله عنه: “وليت عليكم ولست بخيركم (مبدأ المشاركة) فإن أحسنت فأعينوني (المساءلة) الصدق أمانة والكذب خيانة (الشفافية) الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه (سيادة حكم القانون). نظام الحكم الديمقراطي الحديث هو وسيلة مؤسسية لتحقيق العدل. أما مقولة اتباع الإمام المعصوم فهو غير موجود، وولاية الفقيه واردة في المسائل الشعائرية أما المسائل السياسية والاقتصادية والدولية فالولاية للأمة كما صار يقول المصلحون في الفكر الشيعي.

  1. العامل الرابع: المسألة الاقتصادية: إن إزالة الحاجة المعيشية من مقاصد الإسلام لذلك فاستمرارها تكذيب بالدين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[7] وقال إمام المتقين علي (رض): ما جاع فقير إلا بما متع به غني.

    مقاصد الشريعة في العدالة الاجتماعية تتطلب أن تكون الدولة ملتزمة بالرعاية الاجتماعية نحو ما يشاهد اليوم في بعض دول أوربا الشمالية. إذا لم يحدث هذا فإن السلام الاجتماعي يضطرب. النظم الديمقراطية السياسية تعاني من سوء توزيع الثروة قالت أوكسفام في مؤتمر دافوس الأخير أن 1% من أثرياء العالم يملكون نصف ثروة العالم. لذلك اندلعت انتفاضات شبابية لاحتلال السيتي في لندن وول ستريت في واشنطن وارتفع شعار أهمية الديمقراطية الاجتماعية. هذا التجاور بين ثراء مسوف لأقلية وفقر مدقع لأغلبية وباء سائد في بلداننا ولا يمكن معه تحقيق السلام الاجتماعي. اقتصاد السوق الحر هو الأنسب للإنتاج ولكن ينبغي للرأسمالية من وجه إنساني واجتماعي ينقذها من تجاور الاستهلاكية المترفة للقلة والحرمان المذل للكثرة

    وفيما يتعلق بالعلاقة بين البلدان الفقيرة والغنية فإن التجربة الحديث قدمت أمثالاً جيدة.  بعد  الحرب الأطلسية الثانية أنقذت الولايات المتحدة أوربا الغربية اقتصادياً عن طريق مشروع مارشال حتى نهضت. وتعاملت ألمانيا الغربية الغنية مع ألمانيا الشرقية الفقيرة بصورة أنهضتها تنموياً. وكذلك فعل الاتحاد الأوربي بجنوب وشرق أوربا.

    إن دولة الرعاية الاجتماعية داخل البلدان، والنجدة التنموية فيما بينها هي الوسائل الأفضل في النظام الجديد المنشود.

  1. العامل الخامس: العلاقة بين أهل السنة والشيعة: الاختلاف بين البشر سنة اجتماعية. الاختلافات المذهبية بين المذاهب الثمانية المعتمدة لدى أهل السنة والمذهب الجعفري والزيدي معلومة. وسمى الإمام أحمد بن حنبل هذه الخلافات سعة للمسلمين.

ولكن هنالك اختلافان هما الآن مصدر التوتر الحاد. الأول: اختلاف حول أحداث التاريخ. وهي أحداث تتعلق بأمة خلت ولا سبيل لحسمها بالإقناع ولا بالقوة. والثاني: اختلاف حول ولاية الأمر. هذان الخلافان لا سبيل لحسمهما والحكمة تتطلب إرجاء أمرهما كما قال تعالى: (إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[8]. ولكن عملياً الظروف المختلف عليها حول الخلافة والإمامة اختفت، وشعوب الأمة الإسلامية تتطلع لنظم جديدة تقوم على المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.

ولمحو آثار اختلافات الماضي ينبغي الاتفاق المحكم على الآتي:

  • الاعتراف المتبادل على أننا أهل عقيدة واحدة تقوم على التوحيد، والنبوة، ومكارم الأخلاق، والمعاد، والأركان الخمسة، وما سوي ذلك اختلافات مذهبية ندركها ولا نرتب عليها خصومة أو تكفير.
  • أهل السنة يلتزمون بمكانة آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هو دأبهم في تحيات الصلاة ويمحون آثار لغة الروافض.
    والشيعة يلتزمون بمكانة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبوبكر وعمر وعثمان والسيدة عائشة رضي الله عنهم ويمحون آثار لغة النواصب.
  • يحترم الشيعة المجموعات السنية في أوساط أغلبيتهم بكامل حقوقهم الإيمانية والإنسانية والمواطنة.
  • ويحترم أهل السنة المجموعات الشيعية في أوساط أغلبيتهم بكامل حقوقهم الإيمانية والإنسانية والمواطنة.
  • الاعتراف المتبادل بمذاهب أهل السنة ومذهبى الشيعة باعتبارها اجتهادات بشرية بلا تعصب وبلا تكفير وبلا قفل لباب الاجتهاد، فلا قدسية إلا لقطعيات الوحي وروداً ودلالة.
  1. العامل السادس: العلاقات بالآخر: المدخل الصحيح للعلاقة بالآخر الديني، والثقافي، والدولي هو تأصيل عقيدة الجهاد. الجهاد مبدأ عظيم وهو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله ويبدأ بجهاد النفس، ويتناول كل الوسائل المدنية أو ما يسمى القوى الناعمة ولا يصير قتالاً إلا في حالتي الدفاع عن النفس وعن حرية العقيدة. كما قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[9]. وقوله: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[10]، وحتى في ظروف القتال الدفاعي المشروع فإنه يلتزم بضوابط محددة تستثني المدنيين وتكفل حقوقاً للأسرى وللجرحى.

علة القتال في الإسلام ليست اختلاف الملة ولا المذهب بل العدوان.

العلاقة بالآخر الملي: الإسلام أكثر الملل استعداداً للتعايش مع التعدد الديني من باب (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[11]. والأكثر استعداداً للتآخي مع أهل الكتاب. قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[12] والإسلام يلزم المسلمين بمبدأ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[13] والتعامل على أساس: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[14].

العلاقة بالآخر الثقافي والقومي: التنوع الثقافي والاثني وبالتالي القومي من سنن الحياة. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)[15].

العلاقة بالآخر الدولي: تاريخياً قامت على أساس دار سلام ودار حرب، ولكن أساس العلاقات الدولية الحديث التعاهد على السلام والتعاون الدولي وهذا ينطلق من مشروعية إسلامية كما قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)[16]. ولكن ما لا يجوز أبداً هو إقامة العلاقة مع الآخر الدولي على أساس التبعية. ينبغي أن تراجع العلاقات مع الآخر الدولي بما يحقق أقصى درجات التعاون في مجال التنمية، وبسط العدل، ودعم حقوق الإنسان، وفض النزاعات سلمياً، وتسكين التكنولوجيا الحديثة في بلداننا. يكون التعامل مع العالم متعدد القطبية على أساس خدمة تلك الأجندة.

صار للمسلمين وجود كبير في كثير من البلدان كمجموعات تعيش مع أغلبيات أخرى. ينبغي إبرام معاهدات معها على أساس الاحترام الثقافي المتبادل وحرية العقيدة وكفالة الحقوق المدنية للكافة.

الدولة الوطنية هي وحدة العلاقات الدولية. إنها تنظيم صالح للإدارة والتنمية وتقديم الخدمات الاجتماعية، وجدير بنا اعتماد الوطنية أساساً لتحقق ذلك مع تجنب العصبية فإن الحنين للوطن والحرص على عدم الطرد منه من وجوه الولاء الحميدة.

إن الانتماء القومي كذلك له دوافعه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ما يوجب في إطار منطقتنا الاعتراف بالانتماء القومي العربي على ألا يكون ذلك على حساب قوميات أخرى تتعايش مع الأمة العربية وفي ظل الأمة الإسلامية توجد قوميات كثيرة ذات انتماءات قومية.

الواقع المعاصر يوجب وجود أربع حلقات انتماء: الوطنية، والقومية، والإسلامية، والدولية.

هذا مع تجنب العصبيات في كل حلقة ما يسمح بحلقة عربية تتجاوز الجامعة العربية التي أثبتت التجربة فشلها، وحلقة إسلامية تتجاوز الصيغة الحالية لضعفها لإقامة جامعة دول إسلامية.

لا تناقض بين الوطنية، والقومية، والإسلامية، والدولية، بل تكامل توجبه هندسة التعامل في العصر الحديث وتتوافر فيها فرص التوافق بين الواجب الذي تقتضيه تعاليم وأحكام الإسلام والواقع المعاصر.

  1. العامل السابع: مسألة فلسطين: مسألة الدولتين قد تجاروها الزمن وأطاحت بها السياسات الإسرائيلية الحمقاء، لذلك علينا دعم الوجود الفلسطيني في أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر والعمل على عودة اللاجئين لديارهم على أن تكون دولة واحدة تتوافر فيها حقوق المواطنة كاملة وسوف تكون دولة ذات قومية مركبة وحقوق مواطنة متساوية تحكم ديمقراطياً.

ختاماً: إن هذه الرؤية هي ورقة العمل المطلوبة لنظام جديد ليخلف النظام الذي أفرز المآسي التي نعاني منها، ومن ناحية منطقية هذه الرؤية هي التي تبطل أيديولوجية القاعدة وداعش وغيرها من الغلاة، لأن ما يدعون له مطابق لمفاهيم الخلافة وتطبيق الشريعة الانكفائي والجهاد العدواني كما يقول بها كثيرون، فهم يجدون من هذا التطابق في الرؤية مشروعية، كما أنهم يجدون من اعتماد الحملة العسكرية ضدهم على قوى غير إسلامية مبرراً لمقولتهم إنهم يتعرضون لغزو صليبي. وحتى إذا غُلبوا عسكرياً، فإن ما يجدونه من دعم الرؤية التقليدية، واستعانة مقاتليهم بالأجنبي سوف يجعلهم كطالبان مستعصين على الإبادة.

ختاماً: نحن ندعو للخطة العملية الآتي بيانها:

أولاً: الوقف الفوري للحروب المشتعلة في المنطقة.

ثانياً: اجتماع جامع لكافة حاويات الفكر، والرأي، والعلم لمناقشة واعتماد صحيفة نجاة للأمة كما اقترحنا ويقوم هذا المؤتمر بالخطوات الآتية:

  •  تكوين مجلس حكماء للقيام بالاتصالات المطلوبة لإبرام المصالحات اللازمة.
  • المطالبة بتكوين آلية للاغاثات الإنسانية لمنكوبي الحروب.
  • المطالبة بتكوين صندوق إعادة تعمير لما دمرته الحروب.
  • المطالبة بإبرام اتفاقية أمنية بين العرب وتركيا، وإيران.
  • مناشدة الجزائر، وسلطنة عمان، وماليزيا، والكويت، واندونيسيا، ونيجريا، الأردن، وباكستان، والأردن بالقيام على المستوى الرسمي بمبادرة مصالحات.

منتدى الوسطية العالمي سوف يكون مجموعة عمل للحصول على توقيعات أكبر عدد من علماء، ومفكري، وفقهاء، ورجال دولة، ونساء، وشباب، دعماً لهذا النداء.

والله ولي التوفيق.


[1] سورة البقرة الآية (242)
[2] سورة البقرة الآية (111)
[3] سورة الذاريات الآيتان (20،21)
[4] سورة الحجر الآية (85)
[5] سورة يوسف الآية (40)
[6]  سورة الشورى الآية (38)
[7] سورة الماعون الآيات رقم (1) إلى (3)
[8] سورة المائدة الآية (48)
[9] سورة الحج الآية (39)
[10] سورة التوبة الآية (13)
[11] سورة الكافرون الآية (3)
[12] سورة آل عمران الآية (84)
[13] سورة البقرة الآية (256)
[14] سورة النحل الآية (125)
[15] سورة الروم الآية رقم (22)
[16] سورة الممتحنة الآية (8)