محاضرة الحبيب الإمام الصادق المهدي حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية مقارنة ومقاربة

الإمام الصادق المهدي في محاضرة حقوق الإنسان الإسلامية والإنسانية مقاربة ومقارنة بمركز دال

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المحاضرة التي ألقاها الحبيب الإمام الصادق المهدي

مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي

القاهرة

تحت عنوان:- حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية مقارنة ومقاربة

16\12\2015م

1. في كتابه حي بن يقظان حكى ابن طفيل أن الإنسان يمكن بفطرته أن يهتدي إلى الحق.

الحقيقة هي أن الإنسان قد سبق وجوده الديانة والفلسفة، وهذا يجد من النص القرآني سنداً: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا)[1].

الوجود الإنساني هذا فيه عشر خصال هي: الكرامة، حرية الاختيار، العقل، العاطفة، الضمير، التطلع للمعرفة، إن وحدته الأولى زوج، وإن قامته مستقيمة، وأن يديه حرتان للحركة، وكفيه حريفان، وأنه ينزع للتغلب بالقوة.
هذه الصورة الفطرية للإنسان تفسر ماهية حقوقه.
نزعة التغلب باسم ديانات وفلسفات جعلت كثيرين يهدرون بعض تلك الحقوق الفطرية.

2. الأسرة الدينية الإبراهيمية واحدة ولكن لا يوجد لها كتاب متوارث، بل تراثها الخالد هو عقدية التوحيد لله.
اليهودية تنتمي للإبراهيمية عبر يعقوب أي إسرائيل، وهو حفيد إبراهيم عليه السلام. ولكن اليهودية أحدثت في ملة إبراهيم ثلاثة أمور هي: أن بني إسرائيل مهما عملوا فهم شعب الله المختار. وقالوا بالعنصرية الإثنية المنسوبة لأبناء نوح عليه السلام. وقالوا باستعلاء ذكوري عقاباً لحواء على إخراجها آدم من الجنة.
والمسيحية كما قال السيد المسيح عليه السلام جاءت لإصلاح اليهودية ولكن كما بينها قادتها تجاوزت الميزان في أربعة أمور هي: إلزام البشرية بالخطيئة الأولى. وبأن من لا يؤمن بفداء السيد المسيح للبشرية لا حظ له في النجاة. وثالثاً: إعطاء الكنيسة وهي مؤسسة بشرية حقاً ثيوقراطياً منحه الباباوات للملوك. والتثليث اللهم إلا إذا اعتبرت الثلاثة أقانيم لا ذوات.

3. الحضارة الغربية اعتمدت العهد القديم (التوراة)، والعهد الجديد (الإنجيل)، وصارا هما أصلاً لها. قال دروسون بحق: الأديان هي التي بنيت عليها الحضارات. في العصور الأوربية الوسطى كانت حضارة الغرب تحت وصاية الكنيسة. يومئذ كانت حقوق الإنسان مهدرة بصورة مطلقة. العالم برونو أحرق بالنار بل كانت محاكم التفتيش سيفاً مصلتاً على المخالفين لأوامر الكنيسة ولكن الحضارة الغربية بعد ذلك خاضت ثلاث ثورات كونت بموجبها حضارة العصر الحديث: ثورة التنوير الفكرية التي حررت البحث العلمي من الوصاية. وثورة سياسية حررت الشعوب من وصاية الكنيسة وسلطان الملوك. وثورة صناعية ضاعفت قدرات الإنسان على الإنتاج، والتجارة، والقوات المسلحة.

4. وعبر ثورات، وحروب، برزت قوى فكرية واجتماعية جديدة انتصرت لحقوق الإنسان. كانت مراحل تكوين منظومة حقوق الإنسان في الحضارة الغربية هي:

· الإعلان عن حقوق الإنسان في الدستور الأمريكي 1779م.

· إعلان حقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية 1789م.

· الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد الحرب الأطلسية الثانية 1948م.

· العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966م.

· العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966م.

· معاهدة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) 1979م.

· اتفاقية حقوق الطفل 1989م.

· الإعلان العالمي لحقوق الطفل 1990م.

· مجموعة من الاتفاقيات والعهود لحماية حقوق اللاجئين، والسكان الأصليين، والسجناء، والعمال المهاجرين.

· وفي عام 1949م أبرمت أربع اتفاقيات و3 بروتوكولات في مدينة جنيف لحماية مجموعتين من البشر هما: المجموعة الأولى: الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية من مدنيين، وعمال صحة، وعمال إغاثة، ومطافئ. الثانية: الأشخاص الذين توقفوا عن القتال من جرحى، وأسرى، ومرضى، والجنود الناجين من سفن غرقت. هذه الاتفاقيات أسفرت عن القانون الدولي الإنساني الذي يحكم شئون الحرب.
· كذلك درسوا قضايا أخرى وأبرموا بشأنها اتفاقيات تخص الموروث الإنساني المشترك كالبحار، والفضاء الخارجي، وسلامة البيئة الذي بحث في عدة مؤتمرات كان آخرها مؤتمر باريس واتفاقية 12/12/2015م. وهي ما تسمى بحقوق الجيل الثالث، وتشمل الحق في البيئة، وهناك كذلك حقوق الجيل الرابع التي تشمل الحق في التنمية والحق في السلام.
الحقيقة أنه لم يعد هنالك شأن من شؤون الإنسان لم يدرس وتبرم بشأنه اتفاقيات ومعاهدات.
منظومة حقوق الإنسان هذه التي أبرمت بمبادرات دولية تقدمت بها الدول الغربية صارت تحت مظلة الأمم المتحدة منظومة حقوق إنسان دولية والالتزام بها. مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يرصد موقف حقوق الإنسان في الدول ويراقبها بلا مساءلة. وهنالك مساءلة قضائية إقليمية كما في المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان. وفيما بعد كونت المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الإبادة الجماعية، والحرب ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.

5. هذه التطورات خطوات عظيمة للاعتراف بأهمية حقوق الإنسان واتخاذها مقياساً لقياس التزام الدول بمراعاتها ولكن يعيب منظومة حقوق الإنسان هذه أمران. الأمر الأول: دول كبرى تكيل بمكيالين بحيث تغض الطرف عن تجاوزات حلفائها وتتدخل تدخلاً سافراً ضد غيرهم. بل يمارس بعض الدول إنفصاماً بين سياساتها المعلنة التزاماً بحقوق الإنسان وسلوكها العملي.
الأمر الثاني: تحفظ بعض الدول الخاضعة للحكم الأوتوقراطي لا سيما في العالم الإسلامي على كثير من بنود معاهدات حقوق الإنسان بحجة أنها مفاهيم غربية وبالتالي فهي تمثل غزواً فكرياً وثقافياً لبلداننا. لذلك هم يرفضونها ويحتجون بالخصوصية الدينية والخصوصية الثقافية.

في دراسة نشرتها في نوفمبر 1998م أوضحت بالتفصيل أنه لا يوجد تناقض بين مبادئ وأحكام الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948م، ولكن الدول الأوتوقراطية تعترض على عشرة بنود في الإعلان تتعارض مع النظم الدكتاتورية. مثلاً البند (9) من الميثاق يقول: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفياً. بنود أخرى تنص على حرية التعبير، والتنظيم، والتنقل وغيرها من الحريات العامة. يمكن الرجوع لتلك الدراسة لبيان عدم وجود التناقض المزعوم. وفي كتابي عن حقوق المرأة الطبعة الثالثة الصادرة في عام 2010م تطرقت للتحفظات المثارة ضد معاهدة إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ووجدت أن دولاً إسلامية تتحفظ على ستة بنود مثلاً المادة “2” التي تنص على أن الدستور لا يميز بين البشر والمادة “7” التي تنص على إلزام الدستور إزالة التمييزات وهكذا المواد المتحفظ عليها الأخرى: الأرقام 9، و15، و16، و29. وأوضحت أن هذه البنود لا تتناقض مع مبادئ وأحكام الإسلام.

الفريق الآخر غير الحكام الطغاة الذين يعترضون على معاهدات منظومة حقوق الإنسان العالمية هم فقهاء يتبعون فهماً للقرآن خالياً من التدبر، وفهماً للسنة النوبية غير معنية بصحة متنها بالقياس لنصوص القرآن، وبالقياس لمقاصد الشريعة، واتباعاً لاجتهادات فقهية متبعة للفقه الصوري الذي لا يراعي كما يجب العقل، والمصلحة، والواقع، ومقاصد الشريعة. هؤلاء يأتون بالحجج ضد كثير من المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
المدهش أن هؤلاء الحكام وهؤلاء الفقهاء مع تحفظاتهم على كثير من مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان باعتبارها غزواً فكرياً وثقافياً وغربياً لا يستحون من الاعتماد على وسائل الحياة المنعمة الغربية، ولا على ما يشترون من أسلحة، ولا على اعتمادهم أمنياً على غيرهم.. لماذا تسمح الخصوصية الثقافية والدينية بهذه الممارسات وتكون عائقاً لاستصحاب منظومة حقوق الإنسان؟
والأهم من هذه الحجة لا أجد في منظومة حقوق الإنسان الحديثة حقاً لم يرد فيه نص من نصوص الوحي الإسلامي. الاستثناء الوحيد هو تلك النصوص الحديثة التي تتناقض مع الفطرة كحقوق المثليين في المجاهرة والزواج.

6. تاريخ حقوق الإنسان عندنا سار في اتجاه معاكس لتاريخ حقوق الإنسان في الحضارة الغربية. ففي الحضارة الغربية من حالة انعدام لحقوق الإنسان في العصور الوسطى إلى التطور المذكور سابقاً.
أما بالنسبة لنا ففي نصوص الوحي الإسلامي منذ 14 قرناً بيان واضح لحقوق الإنسان ولكن بسبب الركود الفكري، وتغييب العقل البرهاني، وتحكم الفقه الصوري، وطغيان الاستبداد والسياسي القائم على التغلب لا الشورى ولا الحرية ولا العدالة فإن حقوق الإنسان صودرت فصرنا كمن بدأ ببداية حسنة وتدهور إلى حالة سيئة.

ولكي نثبت التوافق الجوهري بين منظومة حقوق الإنسان العالمية وأسس حقوق الإنسان في الإسلام نبدأ بتشخيص حقوق الإنسان:

أقول: حقوق الإنسان الحديث التي أهتدت إليها التجربة الإنسانية متفرعة من ستة أصول خمسة أصول في الظروف العادية وأصل في الظروف الاستثنائية ظروف الحرب.
مبادئ حقوق الإنسان الخمسة هي الكرامة، والعدالة، والحرية، والمساواة، والسلام.
كل نصوص حقوق الإنسان العالمية متفرعة من هذه الأصول.
هذه المبادئ منصوص عليها بوضوح في قطعيات الوحي الإسلامي.
· بالنسبة للكرامة الإنسانية فإن النص واضح في النص على كرامة الإنسان من حيث هو إنسان قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[2].
· وبالنسبة للعدالة قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)[3].
· وبالنسبة للحرية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[4].
· وبالنسبة للمساواة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[5].
· وفيما يتعلق بالسلام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً)[6].
وبالنسبة للظروف الاستثنائية وحقوق الإنسان أثناء الحروب قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم موجهاً الصحابة: “انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، لا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلا طِفْلا ، وَلا صَغِيرًا ، وَلا امْرَأَةً ، وَلا تَغُلُّوا ، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”[7]. وقال: “اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا”[8].
وفيما يتعلق بسلامة البيئة الطبيعية فهي كلها مستحقة الحماية إلا في حدود الانتفاع. قال تعالى معلناً حرمة الطبيعة: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[9]. والحيوانات ليست مخلوقات مستباحة بل هم أمم أمثالكم.
الرفق بالحيوان واجب ديني: “مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[10] ومقولة: ” في كل ذي كبد رطب أجر”.
والنباتات كذلك محمية قال النبي صلى الله عليه وسلم:” مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ”[11]. وهلم جراً. في الحرص على سلامة البيئة الطبيعة .

7. العوامل الأربعة الآتي بيانها هي التي أفقرت حضارتنا وأضعفتها فكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وجعلتها قابلة للاحتلال:
العامل الأول: هو الاعتماد في الفقه على المنطق الصوري الذي يقوم على القياس والإجماع ما أوصل الأمر لمقولة جوهرة التوحيد:
ومالك وسائر الأئمة وأبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم كذا قضى القوم بقول يفهم
العامل الثاني: هو الجمود الفكري الذي ربط الفكر بالنقليات على حد قولهم:
العلمُ ما قد كانَ فيه حدثنا وَمَا سِوى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
توجه أودى بقيمة العقل البرهاني على حد قوله: من تمنطق تزندق. وقالوا عن الفلسفة:
لا خير ما في الفل أوله وآخره سفه!
الثبات مشروع في الثوابت وهي: التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة.
أما عالم الشهادة فهو يقوم على حقائق هي سنن النفس، والمجتمع، والطبيعة كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ)[12]. ما يوجب علينا دراسة ومعرفة علم النفس وعلم المجتمع، وعلم الإنسان، وعلم الآثار، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلوم الطبيعة، وعلم الفضاء، بل كل ما في عالم الشهادة ندرسه ونكتشف قوانينه، وهي سنن الله.
الإنسان مستخلف في كل ما تطوله قدراته. إن الله يدير الكون كزمولوجيا، أما فيما تدركه معارف الإنسان فالإنسان مستخلف، ومكلف، ومساءل.
المنكفئون ظنوا أن الله يدير المجتمع كما يدير الكون. هذا إذا حصل يجرد الإنسان من حرية الاختيار، ومن التكليف، وبالتالي من الحساب.
هذا الفهم المنكفئ يجعل علوم عالم الشهادة كعلوم ثوابت العقائد والشعائر، ثابتة، ما يمنع حركة المجتمع، ويمنع استيعاب المستجدات.
بعض المفكرين سلموا بأن هذا هو الفهم الصحيح للدين، لذلك قرروا أن هذا الدين يمنع التطور، ويقف ضد سنن الحياة، لذلك جاءوا بنظريات للتحرير من ذلك الجمود أهمها:
· نظرية أن نقوم بانقطاع معرفي من التراث.
· نظرية أن الأديان كلها من صنع ذهنية الإنسان الميثولوجية.
· نظرية أن قيمة النصوص نسبية.
وهكذا.. نظريات متعددة ولكن جوهر معناها التخلي عن الغيب، واعتبار الدين نفسه منشط ناسوتي، والإنسان هو المسؤول عن كل شؤونه ومصيره.
قال ابن مسعود: “إن للشيطان للإنسان نزغتان لا يبالي بأيهما ظفر: الإفراط والتفريط”.
المنكفئون وقعوا في نزغة الإفراط. والمستلبون وقعوا في نزغة التفريط.
حبس الدين في ثقافة الماضي باطل.
قال ابن عابدين الفقيه الحنفي: “كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس. ما يخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر”. وقال ابن عقيل الفقيه الحنبلي: “السياسة ما كان فعلاً يكون الناس معه أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي”. وقال الشاطبي بعقلانية مطالب الإسلام. وقال الغزالي بحجية الواقع. وقال الطوفي بحجية المصلحة.
ومثلما نصنف المنكفئين مُفْرِطِين نصنف المستلبين مُفَرِّطِين:
المجتمعات التي نصت على طرد الدين من الحياة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عادت للدين، بحيث شهدت الأصولية الدينية في كل الأديان صحوة في الثلث الأخير من القرن العشرين وحتى يومنا هذا. وحتى في المجتمعات التي تخلت في الغالب عن الإيمان بالله، كما في دول شمال أوربا – مثلاً- النرويج، فإن الفراغ الروحي ملأته اعتقادات عن أرواح وأشباح تعلق بقدراتها كثيرون كما روت صحيفة نيويورك تايمز العالمية في عدد يوم 26/10/2015م.
هنالك أسباب تجعل للدين وظيفة لا غنى عنها في نفس الإنسان وفي حياته هي:
· الإنسان بفطرته يبحث عن غاية للحياة.
· الإيمان يضاعف قدرات الإنسان أضعافاً مضاعفة.
· القانون الأخلاقي يتطلب أساس روحي.
· الإنسان مجبول على حب الاستطلاع المعرفي، وهنالك أربعة أمور غيبية تتجاوز قدرات الإنسان العقلية وليس لها من جواب إلا في الدين هي:
– كيفية الوجود من العدم.
– نشأة الحياة من الجماد.
– نشأة الإنسان في الحياة.
– ما هية مصير الكون.
وطرد الدين من الحياة يأتي بنتائج عكسية كما حدث في تجربة الاتحاد السوفيتي، وفي تجربة تركيا الكمالية (نسبة لمصطفى كمال). وطرد الدين من الحياة مع كثرة المؤمنين به لا يكون إلا عن طريق سلطة دكتاتورية. لذلك قال أحد كبار العلمانيين وهو تشارلس تيلور وهو داعية للبرالية: إذا طردنا أصحاب المرجعية الدينية من العمل العام فنحن نخون مبادئنا التي تحترم الحرية والتعددية. المهم أن يقبلوا هم التعددية واستبعاد العنف.
باسم العلمانية ارتكبت فظائع وتعديات على حقوق الإنسان كما فعل هتلر. وستالين وغيرهما من الطغاة. وباسم الدين ارتكبت فظائع وتعديات على حقوق الإنسان كما فعل السفاح العباسي في التاريخ القديم وكما فعل نظام الإنقاذ السوداني في التاريخ الحديث وكما تفعل الآن حركة القاعدة وخلافة البغدادي.
العلمانيون الذين يبطشون بالناس يبررون أعمالهم بأنهم أداة للإرادة العامة الأدرى بمصالح الناس. أما الإسلامويون الذين يبطشون بالناس فإنهم يدعون أنهم الفرقة الناجية، ويكفرون الآخرين ويهدرون دماءهم مستشهدين بأحاديث آحاد ضعيفة مثل: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي”[13] هذا الحديث يناقض القرآن إذ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[14]. ويناقض الواقع إذ الساعة لم تأت.

8. حقوق الإنسان كما ذكرنا تستند إلى آيات محكمات، وإلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم القولية والعملية. ومن شأن الاعتراف بهذه الحقيقة أن تمنح حقوق الإنسان العالمية عمقاً أخلاقياً وروحياً يدعمها.
ويرجى أن تبين كل الأديان تقبلها لحقوق الإنسان، وسيكون لهذا الأمر نتيجتان عظيمتان. الأولى: التقارب بين الأديان عبر احترام حقوق الإنسان. والثانية: تجذير حقوق الإنسان أخلاقياً وروحياً.
هذا الإجراء بالنسبة لنا كمسلمين سهل ومنطقي للأسباب الآتية:
· ديننا يمتاز بالاعتراف للإنسان كإنسان بصرف النظر عن ملته بالكرامة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[15].
· وديننا يعترف بالتعددية الدينية للبشر: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[16].
· وديننا يعترف بالتنوع الثقافي والتعايش السلمي بين الناس: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)[17].
· وديننا يضع أساساً لثقافة دينية مشتركة للأديان الإبراهيمية الثلاثة وهي ما تدين بها أغلبية البشر: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[18].
نحن أولى الناس بطي صفحة الحرب الباردة بين الأديان، وتأصيل وحدة العقيدة بين الأديان الإبراهيمية. لقد نص القرآن على: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)[19].
ومهما غالط المغالطون فإنه قد جاء في خطاب إلهي لإبراهيم عليه السلام في سفر التكوين (17/20): “أما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً جداً وأجعله أمة عظيمة”.
وإسماعيل هو جد محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء في إنجيل يوحنا (15/ 14-17) أما المعزى الذي سيبعثه الله باسمي فهو الذي سيذكركم بكل الذي أقوله لكم”. هذا الوصف لا ينطبق على الروح القدس كما يزعم بعض الناس الموجود في اعتقادهم قبل ميلاد عيسى (ع) بل ينطبق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حتى إذا اختلفوا حول هذا التفسير لنجعل من ملة إبراهيم أي التوحيد، ومكارم الأخلاق، وحقوق الإنسان أساساً للتعاون الديني: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[20].
هذا التطور المستنير هو الذي يليق بإرادة الله الرحمن الرحيم. وفيما يتعلق بالخلافات نلتزم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[21]، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[22].

9. إن أهم تناقض بين الدين ومنظومة حقوق الإنسان هو اعتقاد يقول به أشخاص في الأديان الإبراهيمية الثلاثة إذ ينذرون بيوم مفاصلة بين أهل ملتهم والآخرين تحسم فيه الأمور بالقوة. مفاصلة يسميها كتابيون هرمجدون. ويسميها مسلمون يوم الملحمة. هذا اليوم يتناقض مع التطلع لإخاء إنساني يقوم على التسامح بين العقائد، والتعامل بينها بالحسنى، وكفالة حقوق الإنسان، وبناء عالمية يزكها الإخاء الإنساني.
ثقافة هرمجدون، ويوم الملحمة تحول دون هذا الفجر الإنساني، وتجعل العداء والتربص بالآخر واجباً على الناس. علينا أن نستعين بحقائق الوحي والوعي الإنساني لهزيمة ذلك الفكر العدمي الذي ينذر بقيامة من صنع البشر.
القيامة حدث غيبي من صنع الله عندما تأتي تأتي بغتة.
في الختام: حقوق الإنسان من صورة الإنسان الفطرية، عززتها حقائق الوحي وفصلتها التجربة الإنسانية النيرة، فهلا التمسنا لها من الدين عمقاً روحياً وانتظرنا على الالتزام بها جزءاً أخروياً.
(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[23].

_______________________________________________________________

[1] سورة الأعراف الآية (172)

[2] سورة الإسراء الآية (70)

[3] سورة النحل الآية (90)

[4] سورة الكهف الآية (29)

[5] سورة الحجرات الآية (13)

[6] سورة البقرة الآية (208)

[7] رواه أبو داود

[8] رواه الطبراني

[9] سورة الإسراء الآية (44)

المستدرك على الصحيحين[10]

[11] رواه أبو داود

[12] سورة الحجر الآية (85)

[13] الإمام أحمد

[14] سورة البقرة الآية (256)

[15] سورة الإسراء الآية (70)

[16] سورة الكافرون الآية (6)

[17] سورة الروم الآية (22)

[18] سورة آل عمران الآية (84)

[19] سورة الأعراف الآية (157)

[20] سورة الكهف الآية (110)

[21] سورة النحل الآية (125)

[22] سورة آل عمران الآية (55)

[23] سورة الذاريات الآيات (20، 21، 22)