الإنتخابات السودانية والمشهد السياسي بعدها

الإمام الصادق المهدي في برنامج مصر في يوم
الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين والمفكر السياسي والإسلامي
الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين والمفكر السياسي والإسلامي

بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

محاضرة في الدوحة

بدعوة من الجزيرة

الانتخابات السودانية والمشهد السياسي بعدها

الإمام الصادق المهدي

28/4/2015م

الانتخابات أداة ديمقراطية لمساءلة الحكام على أدائهم، وللتنافس مع منتقديهم وتمكين الشعب من تحقيق التناوب السلمي على السلطة إن شاء بحرية تامة.

الطغاة في منطقتنا يستخدمون الانتخابات لهزيمة معاني الديمقراطية بأساليب شكلية خالية من مقاصدها.

في عام 1996م بعد أن أجرى النظام انتخابات رئاسية من هذا النوع عرض علينا المشاركة الواسعة معه في الحكم، رفضنا ذلك لأن في مشاركتنا ما يعطي شرعية لهذه الطبخة، ولأن الدستور الذي سوف نشارك في الحكم على أساسه لا يكفل الحريات العامة فنصير نحن جزءاً من آلية القمع. وأجرى النظام انتخابات رئاسية وتشريعية مطبوخة بموجب دستور 1998م في ديسمبر 2000م ومن جديد لم تحقق له شرعية وكانت في ظل انقسام داخلي حاد لديه، فحاول أن يتفاهم معنا ثم عرض علينا في 2001م المشاركة في نظامه ولكننا اتخذنا قرار 18 فبراير 2001م الشهير بعدم المشاركة إلا وفق انتخابات حرة نزيهة أو في حكم قومي انتقالي يحقق الدقرطة.

وكون النظام بموجب اتفاقية السلام ودستور 2005م حكومة سماها بالوحدة الوطنية حاز المؤتمر الوطني فيها على 52% من مقاعد المجلس الوطني ومنح الحركة الشعبية 28%ً وخصص المتبقي للتجمع الوطني الديمقراطي وبقية الأحزاب، الحركة الشعبية قبلت المشاركة في كل مفاصل السلطة تنفيذاً لاتفاقية السلام ولكن الغلبة في كل مفاصل السلطة كانت للمؤتمر الوطني. راهن المشاركون في المجلس التشريعي من قادة التجمع الوطني الديمقراطي، أو في كافة مفاصل السلطة من قادة الحركة الشعبية على الاتفاقية ونصوصها التي تؤكد على تحقيق الوحدة والدقرطة، والسلام، وأملوا على تحقيقها من داخل هياكل الحكم ومؤسساته. ولكننا في حزب الأمة رفضنا أن نعطي النظام أية شرعية بالمشاركة في مؤسساته، ومع ترحيبنا بوقف حمام الدم في الجنوب فإننا في نقدنا للاتفاقية قلنا إن هياكلها مبرمجة لكيلا تحقق أهدافها المعلنة. قلنا إن تقسيم البلاد على أساس ديني، ونسبة الثروة المخصصة للجنوب على أساس بترول الجنوب لا الثروة القومية، هذان العاملان إنما يحضان على الانفصال لا الوحدة الجاذبة، وقلنا إن الإبقاء على عشرين بند غير محسوم في الحدود، وفي بروتوكولات أبيي، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق سوف يؤدي لإشعال الحروب من جديد. وقلنا إن وضع إجراءات التحول الديمقراطي في يد الحزب الحاكم المسيطر على أدوات التنفيذ والتشريع سوف يمكنه من سد الطريق أمام التحول الديمقراطي. هكذا حققت هذه الاتفاقية ما توقعناه: الانفصال، واشتعال الحروب، واستمرار الاستبداد.

أما انتخابات أبريل 2010م فقد كانت مزيفة على سنة انتخابات النظم شرق الأوسطية، وقد نشر حزب الأمة دراسة من (1062) صفحة فصّل فيها التزوير، وخرق القوانين، والتلاعب باسم الانتخابات لهزيمة فعل الانتخابات.

الانتخابات التي تستحق هذه التسمية تتطلب استحقاقات كما شهدنا في انتخابات تونس في 2014م وفي انتخابات نيجريا في 2015م.. انتخابات باستحقاقاتها من ضوابط النزاهة، وتوافر الحريات العامة، وكفالة التنافس.

وسنرى مفارقة انتخابات 2015م في السودان للاستحقاقات الانتخابية وفوز مرشح الحزب الحاكم للرئاسة بكل الأصوات وحصاد منافسيه الشكليين للهباء:

اسفنجة جاءت لشرب البحــــــــــــر *** وشمعـــــة ضاءت لشمس الظهر

وفوز “الوطني” في انتخابات القطر *** ثلاثـــــــــة مضحـــــكة لعمري!

وفيما يلي نقص عليكم “المقامة الإنقاذية” الانتخابية الكوميدية، المأساوية:

1. المناخ الذي أجريت فيه الانتخابات غير مناسب:

سياسياً: لأن القوى السياسية التي تمثل الرأي الآخر المنافس أعلنت مقاطعة الانتخابات وذكرت أسباباً موضوعية لذلك، إذن التنافس معدوم. والنظام أجرى تعديلات دستورية في يناير 2015م أعدم بموجبها هامش الحريات الضيق، إذن غاب من استحقاقات الانتخابات شرطان مهمان: التنافس والحرية.

أمنياً: تعاني البلاد من توتر في جبهات احتراب مشتعلة، وجمد إجراء الانتخابات في سبع دوائر لدواع أمنية، ويحتشد في معسكرات النازحين واللاجئين أكثر من مليوني مواطن غير معنيين بالانتخابات.

ودبلوماسياً: كانت الآلية الأفريقية للوساطة الرفيعة حريصة على أن يسبق الحوار الوطني الانتخابات فأغضبها الإقدام على الانتخابات دون استحقاقاتها، وكذلك الأمم المتحدة، والترويكا وهم دول ثلاث: الولايات المتحدة، وبريطانيا، والنرويج أشرفوا على عمليات السلام في السودان، والاتحاد الأوربي هؤلاء جميعاً أعلنوا بوضوح أن المناخ السياسي، والأمني، في السودان غير مناسب لإجراء انتخابات مجدية.

وأرسل الاتحاد الأفريقي لجنة فنية برئاسة السيد إدريس كامارا، هذه اللجنة بعد الطواف في ولايات السودان رفعت تقريراً فحواه: أن المعايير المطلوبة لانتخابات يتوافر فيها تكافؤ الفرص غائبة تماماً بسبب محاصرة الحكومة للأحزاب السياسية، وتقييد نشاطها، ومنع حراكها السياسي. وأن المجتمع يعيش حالة استقطاب سياسي حاد، والإعلام مكتوم ومنظمات المجتمع المدني مكبلة، والحريات العامة غائبة. وأن أجزاء من البلاد تعيش صراعاً مسلحاً، وأن بالبلاد مصاعب اقتصادية واجتماعية جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لذلك الشروط الضرورية لإجراء انتخابات وفق معايير الاتحاد الأفريقي غير متوافرة.

2. مع كل هذه الحقائق لماذا ركب النظام الانقلابي رأسه وقرر إجراء انتخابات تواجه هذا الرفض العريض الوطني والدولي؟

قالوا: لأننا نلتزم بالاستحقاق الدستوري فالدستور يستوجب إجراء الانتخابات كل خمس سنين. كان نفس هذا الدستور قد أوجب إجراء انتخابات في منتصف الفترة الانتقالية أي في عام 2008م عدل لأغراض سياسية لعام 2009م ثم أجريت فعلاً في 2010م. دواعي تلك التأجيلات سياسية، ومن باب أولى أن تؤجل انتخابات 2015م لإفساح المجال للحوار الوطني إذا توافرت الإرادة السياسية، والحقيقة أن نظام الخرطوم لم يتردد في تعديل دستوره لخدمة مقاصد سياسية.

سبب آخر هو أن النظام اندفع في العملية الانتخابية لأنه راهن على حصوله على تأييد شعبي كاسح يواجه به أي حوار وطني، ويواجه به الأسرة الدولية، يريد أن يواجه ناقديه بغطاء شعبي لا يجارى. ومنذ اندلاع عاصفة الحزم بدل النظام تحالفاته فلا أخوان، ولا إيران، وسوف يحصل النظام كما ظن على غطاء عربي يواجه به الأسرة الدولية والمعارضة الوطنية.

سنرى فيما نفصل لاحقاً أن النظام خسر الرهانين. صارت رهاناته رهانات أشعب، أو مزاعم الفرزدق:

زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا *** ابشر بطول سَلامةٍ يا مِرْبَع

3. فيما يلي استعرض الحقائق الانتخابية:

‌أ) أولى مهام الانتخابات التسجيل، اعتمدت مفوضية الانتخابات على سجل انتخابات عام 2010م وهو سجل كان يشمل المواطنين الجنوبيين قبل الانفصال، واستحق مواطنون التسجيل في فترة الخمس سنوات الماضية، هذه الحقائق لم تجر مراجعة السجل الجديد بموجبها، إذن التسجيل وهو أول خطوات الانتخابات معيب.

‌ب) الترشيح وهو الخطوة الثانية للانتخابات معيب لخلوه تماماً من المنافسين فلا يمكن لعاقل أن يعتبر أن من ترشحوا للرئاسة بخلاف مرشح المؤتمر الوطني أو للمناصب الأخرى يمثلون أية درجة من المنافسة، إنه مشهد أشبه ما يكون بدون كيشوت الذي دفعه الخبل لمبارزة طواحين الهواء. فالترشيح معيب تماماً.

‌ج) المرحلة الثالثة للانتخابات هي مرحلة التصويت، وإذا صرفنا النظر عن صحة قائمة المسجلين واعتمدناها بعيوبها نذكر نسب التصويت كما ذكرتها مصادر: مفوضية الانتخابات قالت كانت نسبة المصوتين للمسجلين 46,4% وراحت تهذي بمقارنة هذه النسبة بمثيلاتها في الديمقراطيات العريقة، نعم “البعرة” والدرة تتشابهان في الاستدارة والفرق فيما عدا ذلك واضح، وجهاز الأمن قدر النسبة 25%، وهنالك تقديرات أخرى 15% فما دون. المهم أنه لا توجد جهة ذات صدقية عامة تقبل بياناتها ولكن هنالك أربعة حقائق تدل على ضعف الإقبال على التصويت هي:

• المفوضية مدت فترة التصويت يومين لكي ترفع نسبة التصويت، السبب إذن أن النسبة كانت متدنية.

• أمين عام مفوضية الانتخابات السيد جلال محمد أحمد أصدر توجيهاً لكل مراكز التصويت بالامتناع عن النوم في مراكز الاقتراع وبمنع تصوير ضعف الإقبال على التصويت في المراكز. هؤلاء ناموا لعدم وجود مصوتين وكيف لهم أن يمنعوا التصوير وهم نيام؟

• هنالك مراكز تصويت اعتصم أهلها رافضين التصويت في شكل تحد كما حدث في الجريف شرق.

• ومعسكرات النازحين شهدت تظاهرت لمنع إدارة التصويت من الاقتراب منهم. هذه كظاهرة النوم، وكضعف الإقبال على التصويت وكتفشي ظاهرة تصويت الأطفال وصور المراكز الخالية إلا من أطفال مصطفين ينتظرون دورهم فضحتها بصورة واسعة وسائل التواصل الاجتماعي – فيس بوك، وواتساب، وتويتر، والوسائل التي جلد بها شباب السودان ظهر نظام الجلادين.

• وتبارى مواطنون ليسوا من كوادر المعارضة في وصف العبثية الانتخابية – مثلا: هويدا سر الختم في “الجريدة” سمتها كذبة أبريل، والاتحادي الأصل وهو من الذين اجتهدوا أن يصنعوا من الفسيخ شربات قال عنها: لم تكن انتخابات مرضية، وانسحب بعض مرشحي الرئاسة: السيد عمر عوض الكريم واصفاً الانتخابات بأنها مهزلة.

• ولكن أهم الآراء الناقدة للعملية الانتخابية العبثية جاءت على لسان كتاب ومفكرين كانوا محسوبين على الحزب الحاكم أمثال: د. عبد الوهاب الأفندي، والأستاذ الطيب زين العابدين، والأستاذ خالد التجاني الذي قال عن الانتخابات: أنها رسالة قوية ناعمة وجهها الشعب السوداني للنظام وإنذار مبكر له بأنه لم يعد بيدك ما تقدمه فارحل.

الحقيقة أن نظام الحكم في السودان الذي يقوده المؤتمر الوطني شهد مغادرة عشر كتل لصفوفه وتكوين منظمات أو منابر ضده، وشهد كذلك مغادرة أغلبية المفكرين الذين كانوا أقوى دعاته في الماضي فصاروا الآن من أقوى شانئيه. قال لي أحدهم في ساعة صفاء مع النفس لو أن الذين تآمروا ضدكم في يونيو 1989م من مدنيين وعسكريين صوتوا في استفتاء اليوم لصوتوا بأغلبية ساحقة ضد ما فعلوا يومئذٍ ولصوتوا كذلك ضد النظام الحاكم الآن. كثير من هؤلاء قد شدتهم مثالية لإقامة يوتيوبيا (المدينة الفاضلة في السودان) ولكنهم يشاهدون اليوم عكس ما قصدوا المدينة الفاسدة (دسيوبيا).

4. بعض الناس ييسرون لليسرى وبعضهم للعسرى، لقد كانت أمام النظام فرصة فإعلان باريس قارب بين وجهات النظر الوطنية بالتخلي عن إطاحة النظام بالقوة وعن تقرير المصير والتطلع لنظام جديد عن طريق القوة الناعمة، وعلى نفس الدرب سار نداء السودان، واجتمعت حولها الكلمة السودانية في الاتفاقات التي أبرمها السيد ثامو أمبيكي مع كافة القوى السودانية بمن فيها جماعة (7+7). وفي اجتماعه رقم 456 تبنى مجلس الأمن والسلم الأفريقي فكرة دعوة كافة الجماعات السودانية للقاء تمهيدي في أديس أبابا، على أن يحضره الجميع دون شروط مسبقة لكي يضعوا خريطة طريق تشمل لقاء بين العناصر المقتتلة للاتفاق على وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وتسهيل مهمة الإغاثات الإنسانية بما يؤدي عملياً لوقف القتال ومراقبة تنفيذه.

وتشمل الخريطة تحديد الإجراءات المطلوبة لبناء الثقة لتلتزم بها كافة الأطراف، ويتفق على إعلان مبادئ على رأسه مبدأ السلام العادل الشامل ومبدأ التحول الديمقراطي. فإذا اتفق على هذه الأسس يلتزم الجميع بحضور لقاء جامع في الخرطوم لإبرام اتفاقية السلام العادل الشامل وخريطة طريق لبناء الوطن الديمقراطي والحكم الانتقالي الذي يسند إليه ذلك.

والفكرة المقترحة أن هذا الاتفاق الوطني سيمكننا من إيجاد صيغة يتبناها مجلس الأمن، كنت قد بحثتها مع السيد هاري داسيوس مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشئون السلام في نيويورك في نوفمبر 2011م للتوفيق بين المساءلة والاستقرار بالنسبة لملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للقيادة السودانية؛ كذلك الانطلاق من هذا التوافق الوطني لمخاطبة مشتركة للأسرة الدولية لإعفاء الدين الخارجي السوداني ومبلغه (48) مليار دولار ضمن برنامج إعفاء ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، ولرفع العقوبات الاقتصادية على البلاد ولاستئناف الدعم الأوربي التنموي للسودان المجمد منذ أكثر من 15 سنة.

هذه المنافع للوطن ولقيادة النظام أهدرها النظام باستهتار شديد بموقفه غير المبرر من مقاطعة اللقاء التمهيدي في أديس أبابا في أواخر شهر مارس 2015م وفضل عليها الانشغال بانتخابات كشفت عزوف الشعب عنه وإدانة الأسرة الدولية له. (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[1]

5. بعد هذه التطورات ماذا يفعل النظام وماذا تفعل قوى المستقبل الوطني، هذا الاسم الذي أفضله بدل عبارة المعارضة لأن في عبارة معارضة نوع من الاعتراف بأن هناك من له شرعية الحكم.

سيحدد النظام بعد كارثة الانتخابات ما سيفعل، ولكننا في وقوى المستقبل الوطني نعتقد أن الشعب السوداني قد سجل صوت ثقة ضد النظام وانحاز لبناء مستقبل جديد، مستقبل حملت بشائره حملة (ارحل) وحملات الكتائب الاسفيرية التي وجد روادها في الانتخابات وسيلة آمنة لتكرار تطلعات سبتمبر 2013م التي قمعها النظام بوسائله الدموية ولكن لم يقمع إرادة التغيير التي غذتها. الإدانة الشعبية لنظام الإنقاذ التي عبرت عنها انتخابات 2015م رفعت روح كافة قوى المستقبل الوطني المعنوية إلى عنان السماء، وحتى كثير من الشباب الذين أحاط بهم البؤس من المصير الوطني وعبروا عن ذلك بطلب اللجوء للخارج راودت كثيراً منهم فكرة الرهان على مستقبل أفضل للوطن.

خطنا القادم هو بدعم شعبي ودولي لتطوير حملة (ارحل) إلى: اعتصم واضْرِب في اتجاه الإضراب العام المنشود.

إن الطغيان بطبيعته يعتمد في استمرار قبضته على ثلاثة تاءات: التمكين، والتخويف، والتضليل.

منذ فترة بدأ التمكين في السودان يهتز لأن العصبة المسيطرة بدأت تتآكل ويلوم بعضهم بعضاً على الإخفاقات وعلى الفساد، أما التخويف فإنه مستمر ولكنه يضعف عندما يزول التضليل ويكتشف الناس حقيقة ضعف النظام.

مشهد الانتخابات سوف يدفع قوى المستقبل الوطني حتماً إلى مزيد من الإقدام للقضاء على النظام الفكرة التي عبر عنها بعض الشباب رمزياً بتشييع “جنازة” للشجرة رمز الحاكم في الانتخابات.

6. أمام هذا الإقدام أمام النظام خياران: الخيار الأقرب لطبع الانفراد والاستبداد المؤصل فيه وهو القمع، ولكنه قمع مصحوب بثلاث مستجدات:

• نظام أكثر تفككاً من ذي قبل.

• قوى مستقبل وطني أرفع معنويات من ذي قبل.

• أسرة دولية تميل أكثر لتحاشي التسويات الثنائية إلى دعم الحلول الكلية وتميل أكثر لإعلان مواقفها بجرأة أكثر من ذي قبل.

هل هذا يعني أن المساجلة بين النظام وقوى المستقبل الوطني ستكون في الميادين والشوارع فقط أم أن حواراً ما سوف يبعث من جديد؟

7. لا شك أن غياب النظام من لقاء أديس أبابا في أواخر مارس 2015م وتفضيله للعبثية الانتخابية قد قتلت برنامج الحوار بصيغته القديمة، ولكن دعتني الخارجية الألمانية وهم أكثر الأوروبيين اتصالاً بكل الأطراف السودانية لا سيما الحكومة السودانية لجلسة استماع عن مستقبل الحوار في السودان، وبعد تداول الرأي قدمت لهم فكرة خلاصتها:

• اعتبار الحوار بصيغته القديمة قد مات وتحميل النظام السوداني مسؤولية ذلك.

• لا يمكن تصديق أي شيء آتٍ من النظام ما لم يسبق ذلك اتخاذه لإجراءات من جانب واحد لبناء الثقة، مثل، إطلاق سراح المعتقلين، وكفالة الحريات العامة، ووقف إطلاق النار، وكفالة حرية الاغاثات الإنسانية.

• اجتماع مجلس الأمن والسلم الأفريقي لمراجعة صلاحيات آلية التوسط الرفيعة بدعمها بشركاء وزيادة صلاحياتها وتفويضها لإدارة عملية سلام سوداني تتخلى عن المسارات الثنائية كما في القرار 2046، وكما في الدوحة، وكما في 7+7، وتأسيس عملية سلام وتحول ديمقراطي كلية وجامعة وتحت قرار مجلس أمن جديد تحت الفصل السابع، هذا القرار يشمل معالجة عادلة سياسية لمسألة المحكمة الجنائية الدولية، كما يشمل منافع اقتصادية للسودان إذا جرى الالتزام بالسلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي أي إعفاء الدين الخارجي، ورفع العقوبات الاقتصادية وكافة أوجه العقوبات على السودان إذا التزم أهله ببناء السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي.

إذا تبنى الألمان أو غيرهم هذه الخطى، وقبلها مجلس الأمن والسلم الأفريقي، وقررها مجلس الأمن، فإن الحوار السوداني سيكون عندئذٍ حواراً شاملاً ومنضبطاً وحاصلاً على دعم وطني، وأفريقي، ودولي.

• بعد المقابلة في برلين وفي منتصف أبريل 2015م خاطبنا أمين عام الجامعة العربية. بأن النظام السوداني كعادته العيش على استغلال المتناقضات استغل مشاعر عربية في حملات الجنجويد داخل السودان، وها هو يحاول استغلال حملة عاصفة الحزم لكي يحظى بدعم عربي لحملته القمعية داخل السودان. خاطبنا الأمين العام للجامعة العربية وعبره كافة الدول العربية لكيلا تتخذ البلدان العربية موقفاً من الشأن السوداني يتناقض مع موقف الشعب السوداني وتطلعات أهله ولا يتناقض كذلك مع موقف الاتحاد الأفريقي، ومع الأسرة الدولية.

استلم أمين عام الجامعة العربية الخطاب الموجه له والتقاني وأكد أن موقف الجامعة العربية هو لدعم السلام العادل الشامل واستقرار الحكم في السودان لا للانحياز لجهة ضد أخرى، ورحب بفكرة التنسيق مع الاتحاد الأفريقي.

8. يقول سدنة النظام السوداني إنهم يرفضون حوارات تجري خارج السودان، ويرفضون تدويل القضايا السودانية، “رمتني بدائها وانسلت”. حوارات النظام الانقلابي السوداني واتفاقياته كلها جرت وأبرمت في خارج السودان: الحوارات والاتفاقيات مع الحركة الشعبية دارت في ماشاكوس، ونيفاشا، وناكورو، ونيروبي، وأديس أبابا، وجنيفا، وغيرها من البلدان.

والحوارات والاتفاقيات بشأن دارفور دارت في أبوجا، وانجمينا، والدوحة، وعروشا، وسرت وطرابلس، وغيرها. والحوار بشأن المنطقتين يجرى في أديس أبابا، وتحت قرار دولي (2046)، من يستعرض أماكن حوارات واتفاقيات النظام السوداني يجدها أشبه بمعجم بلدان، وإمعاناً في تدويل الشأن السوداني فإن مجلس الأمن قبل عام 1989م لم يصدر بشأن السودان إلا قرار وحد رقم (112) بخصوص ضم السودان المستقل للأمم المتحدة عام 1956. في عهد النظام الحالي أصدر مجلس الأمن 62 قراراً في الشأن السوداني أغلبها تحت البند السابع.

وفي السودان الآن قوات اليوناميد وقوات أثيوبية وهي قوات دولية.

قبل النظام الانقلابي الحالي كان التفاوض من أجل السلام يدور بين أطراف سودانية فقط بلا دور لأية جهة أجنبية، تدويل الشأن السوداني ظاهرة مقترنة بالنظام الحالي حذوك النعل بالنعل.

ما نقترح من ضوابط ضروري لتحصين عملية بناء السلام واستقرار الحكم الديمقراطي من التقلبات. والمحاورون هم قوى سياسية سودانية. تبدأ خارج السودان ثم تنتهي داخل السودان إذا سارت المقدمات بالصورة المطلوبة.

9. رأس الدولة المنتخب دون منافسة والذي سخرت لانتخابه الصوري كل أجهزة وإمكانيات الحكومة اكتشف في أول عقبة واجهها بعد “الانتخاب” أن الملاحقة الجنائية الدولية تلاحقه، هذا الأمر معناه ما لم تعالج مسألة المحكمة الجنائية إما بالامتثال لأمرها أو عن طريق سياسي عبر مجلس الأمن فإنه سيواجه عقوبات وكذلك السودان حتى قبل أية محاكمة. لقد عزم أن يسافر إلى أندونيسا لحضور مؤتمر دول باندونق في جاركارتا، ولكنه حسب تصريح مسؤول أندونيسي اضطر أن يلغي سفره لأن طائرته إذا مرت على أية دولة فيها استقلال القضاء يمكن أن تؤمر بالهبوط ويواجه الاعتقال وحتى في أندونيسيا نفسها إذا لم تتدخل الحكومة هناك يمكن لنشطاء حقوق الإنسان أن يطلبوا من المحكمة الأمر باعتقاله. حدث هذا الظرف له في كينيا وفي نيجيريا، والوفود الدولية التي تزور السودان من بلاد فيها استقلال القضاء ترفض مقابلته، كذلك ما دام هو على رأس الدولة السودانية لا يُقبل السودان كشريك للتفاوض من أجل إعفاء الدين الخارجي ضمن برنامج إعفاء ديون البلدان الفقيرة المديونة (HIPC) ولا للتفاوض من أجل رفع العقوبات الاقتصادية وهي تكلف السودان 745 مليون دولار سنوياً، ويفقد السودان استحقاق الدعم التنموي الأوربي وهو يبلغ 350 مليون دولار سنوياً. هكذا تنتهي مهزلة الانتخابات باستمرار عقوبات على رأس الدولة السودانية وعلى السودان حتى قبل إجراء أية محاكمة.

هذه الضغوط تضع النظام أمام خيارين: زيادة القمع حماية لموقف النظام المتآكل أو الاستجابة لطلب قوى المستقبل الوطني بعقد مؤتمر قومي دستوري أو مائدة مستديرة على نمط مؤتمر الكوديسا في جنوب أفريقيا عام 1992م، هذا إذا هداه الله والحكمة للاستجابة لنداء التاريخ، أما القمع فسوف يؤدي مع الظروف المذكورة حتماً للانتفاضة المنشودة، وفي كل حالة فإن وحدة الإرادة الشعبية ستؤدي حتماً لتحقيق مطالب الشعب المشروعة وكما قال الشاعر السوداني الهادي آدم:

إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّهُ *** يُصَرِّمُ أحْدَاثُ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ.

10. كثيرون إذا شاهدوا مآل دول الربيع العربي نعوا الربيع العربي حتى صاروا يدافعون عن النظم القهرية التي سبقت الربيع، إن رفض أية نظم تمارس فيها ثلاث حالات سوف يتكرر ويعود “الربيع” في شكل ما، تلك الحالات هي الاستبداد كما وصفه أمل دنقل:

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كل قيصر يموت

قيصر جديد

وحال الفقر والظلم الاجتماعي كما وصفها مظفر النواب:

مولاي لا تلم الجوع الكافر

في هذا الزمن الكافر

ما دام الصف الآخر

يسجد من ثقل الأوزار.

وحالة التبعية للخارج كما وصفها الشاعر مصطفى الجزار:

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

فعـيـونُ عبلــةَ أصبحَتْ مُستعمَــرَه

لا تـرجُ بسمـةَ ثغرِها يومـاً، فقــدْ

سقـطَت مـن العِقدِ الثمـينِ الجوهـرة

إذا استمرت هذه الحالات في أية بلاد فإن تطلعاً وعملاً نحو الإصلاح أو الانتفاضة سوف يستمر وبحسب منطق التاريخ وعناية الرحمن فإن الربيع سوف يعود كما في وصف البياتي:

إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ *** فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ

1 سورة الليل الآيات (8، 9، 10)