كلمة بشرى الصادق في يوم الاحتفاء بمولد الإمام

بسم الله الرحمن الرحيم

المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي

سلام على الإمام في الخالدين

لقاء اسفيري احتفاء بمولده الميمون في 25 ديسمبر 2020م

كلمة الأسرة

الحبيب بشرى الصادق المهدي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

أنعي لكم أمي وحبيبتي نور الشام الإمام الصديق التي انتقلت إلى جوار ربها فجر الخميس كأنها على موعد مع حبيبها حبيبي صادق الوعد، التي أحبته وأحبها فانتقلت بنفس الطريقة التي انتقل بها عليه الرضوان، وفي نفس اليوم وكذلك الساعة. كانت الحبيبة الراحلة طيبة المعشر نقية السريرة متواضعة وبشوشة سمحة الأخلاق والخلقة والتعامل، جعل الله ذلك كله في ميزان حسناتها وجعلها فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحشرها مع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وجدها إمام الهدى ونور التقى عليه السلام وحبيبها صادق الوعد عليه السلام. كذلك انتقل بالأربعاء الحبيب الفاضل دياب الرجل الخلوق دمث الأخلاق رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.

السلام على الحاضرين، والمشاهدين، والمحضرين، والشكر أجزله للأحباب والحبيبات في المكتب الخاص لحبيبي صادق الوعد الذين درجوا على إحياء هذه السنة الحميدة بإحياء ذكرى مولد طيب الذكر عليه السلام والرضوان والرحمة والغفران، التي تجسدت فيها معاني جرد الحساب وذكر الإيجابيات للقدوة الحسنة، والسلبيات أو القصور من باب التجويد والمذاكرة كما سماها صاحب الذكرى “وقفة مع الذات لعامٍ مضى وعامٍ آت”.

قال تعالى: (إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ[1]).

الرسل والأنبياء الكرام من لدن آدم عليه السلام وحتى محمد صلوات ربي وتسليماته عليهم أجمعين جاءوا برسالات لقومهم لتبليغها والهداية والتعريف بالإله الواحد. وعلى نهجهم وسكتهم سار المصطفون من البشر والأولياء الصالحين الذين هداهم الله وهدى بهم الخلق.

قال تعالى (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)[2]. فكانوا نبراساً يهتدى به، ومثلوا القدوة الحسنة والسلف الصالح، فجاهدوا واجتهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله وإحقاق الحق وتطبيق العدالة والإحسان للإنسانية جمعاء، فالخلفاء الراشدون ومن بعدهم الأئمة والعلماء النجباء الذين أعزوا الدين حقاً وعدلاً، ومن تمثل بهم واقتدى، وهم كثر، ومنهم الإمام محمد المهدي عليه السلام الذي جاهد واجتهد وجدد شباب الإسلام وحرر الأوطان ففتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ووضع لنا القاعدة الذهبية المحفزة للجميع: “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”. لكنه رأى أن نجاح دعوته الباهر ليس كافياً، فالمجتمع حوله لم يفهم معنى الدعوة وغاياتها، فانتقل في ريعان شبابه راضياً مرضياً.

خليفة المهدي عبد الله بن السيد محمد أقام دولة وطنية قوية متماسكة محافظاً على مرتكزات الدعوة، ولكن التآمر الخارجي والعصبية الداخلية أفسدتا نظام الدولة ثم استشهد مقتولاً في أم دبيكرات.

الإمام عبد الرحمن الصادق بعث الكيان وحقق الاستقلال مع آخرين ومع كل ما حقق كان يشعر بعدم عرفان ثم انتقل محسوراً إلى الرفيق الأعلى، رضي الله عنه.

الإمام الصديق جمع كلمة السودانيين كلهم حول التمسك بالديمقراطية لكن الظلم فجعه (بعد مجزرة المولد) فانتقل في شبابه رضي الله عنه.

الإمام الهادي تصدى للبغي المايوي ورفع راية “لا سلام بلا إسلام”، وتكالب ضده كيد داخلي بدعم خارجي وقتل شهيداً عليه الرضوان.

ثم أحدثكم عن صاحب الذكرى طيب الله ثراه وأرضاه. لقد أفلح في تكوين كيان سياسي:

  • هو الوحيد بين الأحزاب الاستقلالية الذي ظل متماسكاً.
  • الكيان السياسي الوحيد الذي لم يتلوث مع الديكتاتوريات.
  • الكيان السياسي المميز بقيادة مميزة وحكيمة راشدة وواعية ووطنية ومثقفة.
  • قيادة متعددة المواهب بصورة فريدة: سياسياً، فكرياً، ثقافياً، ودولياً.
  • ترك تراثاً ضخماً في مجالات متعددة وأيضاً كيانين معتمدين على نفسيهما: حزب الأمة القومي، وهيئة شؤون الأنصار.
  • رسخ لمفاهيم صحوية ورسالية متجددة.

المنحى السياسي

رسخ مفاهيم الديمقراطية نظرياً وعملياً، وأوضح أنها راجحة وبشر بعودتها: كتاب “الديمقراطية راجحة وعائدة”، 1990م.

أوجد كياناً حيوياً متجدداً ومواكباً للتطورات ومستوعباً للمتغيرات، ممتداً من الأصل، ومتناغماً مع العصر “التقدمية المؤصلة”.

هذا الكيان العريق الواعد هو المسؤول عن بقاء الراية الوطنية مرفوعة، فالكل متشرب من نبعه وفكره وروحه الباقية فينا ما بقينا.

المنحى الديني

لقد سار حبيبي على نفس نهج الإمام الأكبر محمد المهدي عليه السلام في الإبقاء على باب الاجتهاد مفتوحاً، فحرر المهدية من بعض الأقاويل، وبين من دفاترها ومن مجالس الإمام المهدي أنها دعوة وظيفية “وظيفة إحياء الدين”، فكتب “يسألونك عن المهدية”.

وسطر اجتهادات ضخمة بنظرة متجددة فخط الكتب والمحاضرات والمقالات.

تولى شؤون أنصار الله منذ استشهاد الإمام الهادي في مارس 1970م فعلياً، ولكنه رفض تسميته إماماً لأنه كان حريصاً على تنفيذ وصية الإمام الصديق: انتخاب الإمام بشورى الأنصار، علاوة على حرصه على فصل الكيانين الديني والسياسي، فقد ترأس حزب الأمة عقب ثورة أكتوبر 1964م.

لكن بعد تولي نظام الإنقاذ المباد عقب انقلابهم المشؤوم في 1989م قاموا بالتآمر على الكيان باستخدام مخالب قط من بعض أسرة المهدي عام 2002م لتسمية أحدهم رئيساً للحزب والآخر إماماً للأنصار! فغضب أنصار الله وعقدوا العزم على قيام المؤتمر الأول لهيئة شؤون الأنصار (ديسمبر 2002م) الذي سموا فيه صادق الوعد إماماً لأنصار الله رغم اعتراضه الواضح.

فقبل ذلك قام بـ:

  1. طبق وصية الإمام الصديق: انتخاب الإمام.
  2. عدل في نص البيعة (الشورى، حقوق الإنسان)
  3. وضع الدليل الأساسي لهيئة شؤون الأنصار وإجازته في مجلس الحل والعقد.
  4. وضع صحيفة الإمامة لتبيان أسسها الدينية.

انتهج عليه السلام منهج التأصيل التقدمي بحيث يحدد الواجب اجتهاداً مراعياً مقاصد الشريعة لحفظ الإيمان، العقل، النفس، النسل، المال، العدل، الحرية، المصلحة، التكافل، الأمن، مراعياً الإحاطة بالواقع، على نحو ما قال ابن القيم إن على الفقيه معرفة الواجب اجتهاداً والواقع إحاطة والمزاوجة بينهما.

تعامل مع الأديان الإبراهيمية جميعاً على أساس (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[3]، فأطلق نداء الإيمانيين.

وتعامل مع الاختلافات الملية بقاعدة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  وجادلهم بالتي هي أحسن[4]).

وقال: هناك تنوع فكري خارج مطالب الملل نحن نعترف لأصحابه بحقهم على أساس (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[5] وعلى أساس الحرية (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[6]، على أن يعترفوا هم بحقوق المؤمنين ويلتزم الجميع بمنظومة حقوق الإنسان العالمية.

تعامل مع اختلافات الجسم الإسلامي المذهبية (سنة/ شيعة) على أنهم تجمعهم ثوابت دينية مستمدة من النصوص القطعية وروداً ودلالة هي: التوحيد، النبوة، القرآن، المعاد، والأركان الخمسة. أما الاختلافات فلا سبيل لمحوها لا بالقوة ولا بالإقناع، لنتعامل معها على أساس (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[7]، وقدم لتحقيق التعايش بينهم نداء المهتدين، وهكذا كان ديدنه.

ذكرت ما سلف مثالاً وليس حصراً لبيان بعض اجتهاداته وتجديده الفكري والديني. فقد كان عليه الرضوان انفراداً لا يلحق. وكل هذا العلم الدافق موجود في مؤلفاته التي تخطت المائة وهنا أود أن أشيد بالدور الضخم الذي تقوم به حبيبتي رباح في تجميع وجمع المكتوبات والمخطوطات فجزاها الله عنه وعنا جميعاً خير الجزاء.

وبالنسبة لي لو تحدثت من الناحية الشخصية فإني بعد جلوسي لامتحان الشهادة السودانية 1997م وخروجي لمصر كنت أرافقه شهوراً وبعدها فارقته لأذهب لمعسكرات التدريب في أسمرا، وبعد عام دخلت الكلية الحربية المصرية وبعد تخرجي منها في 2002م وعودتنا إلى السودان مع حبيبي مدد لازمته وكنت من ضمن تيم الحراسة الخاص. أسعدتني وشرفتني ورفعتني هذه الملازمة فكنت أحسه أخي، وصاحبي، وخليلي، ومستودع أسراري، أكاشفه وأشاوره في كل صغيرة وكبيرة فأتناسى أنه أبي وإمامي وقائدي وقدوتي فأمازحه وأقول له ما يخطر ببالي فأجد منه ما يطيب خاطري ويربط على فؤادي.

وإذا عنَّ له أن يناصحك يفعل ذلك بأرق السبل، مثلاً، أراد أن يحضني على الاطلاع فأهداني في عيد ميلادي عام 2015م أجزاء من كتاب “الفقه على المذاهب الأربعة”، وكتب لي الإهداء التالي: “ابني الحبيب بشرى، اسم يطابق فعله، أبارك لك يوم ذكرى ميلادك فقد جسدت خصال السمتة، النسخة السودانية لمكارم الأخلاق، وصرت لأبيك مع فارق السن زميل بلاء: دعوى الصداقة في الرخاء كثيرة/ بل في الشدائد تعرف الأخوان. حباك ربك بتقوى وذكاء اجتماعي حميد، ويلزمك سد فجوة معرفية لا تسد حسب تجاربي إلا عصامياً. هذا الكتاب مهم لمعرفة أن اختلافاتهم اجتهادية وبشرية وكما قال الإمام عليه السلام علينا أن نجتهد كما اجتهدوا، والدك الصادق”.

وكان يحضنا جميعاً على الرياضة بأنواعها، ويحثني على تنظيم تمارين لأخواتي باستمرار.

وكانت للحبيب خصلة نادرة، فكل من يقترب منه أو يحادثه يحس نفسه الأقرب إليه بين كل المقربين فهو يحيطك باهتمام وإنصات مذهل لما تقول وإن كان ما تقوله له سخفاً!!

وقد أعطانا حبيبي جميعاً كأسرة محبة بلا حدود ولا قيود، وعلمنا أن الماعندو محبة ما عندو الحبة! وكان يتدفق حباً في كل العلاقات ويستشهد دائماً بالآية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[8])، فكل واحد وواحدة من أشقائي التسعة عنده نفس شعوري هذا ونفس إحساس القرب والخصوصية، فكان عدله وتوازنه وابتسامته لا تفارقه في التعامل معنا كل على حدة. فكان يحرص على العدل بيننا ولا يفرق بين الكبير والصغير إلا على أساس الاحترام المتبادل ولا بين البنت ولا الولد، وطبق هذا المعنى فعلياً في تربيتنا ورسخه في معتقدنا جميعاً فعلمنا أن:

قيمة الإنسان ما يتقنه          أكثر الإنسان فيه أو أقل

وأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وكان دائماً ما يردد لنا بيت الشعر:

إذا أنت لم تحم القديم بحادث           من المجد لم ينفعك ما كان من قبلُ

وهذا الإحساس يؤكده كل من تعامل معه من الأحباب في الحزب أو الهيئة أو في مكتبه الخاص، بل كل من اقترب منه، فتجد من يعاديه ويشتمه عن بعد يمدحه ويوقره ويعشقه عن قرب وكما قال المتنبي:

تلذ له المروءة وهي تؤذي             ومن يعشق يلذ له الغرام

تعلقها هوى قيس لليلـــــى              وواصلها فليس به سقام

وتملكه المسائل في نـــــداه             وأمــا في الجدال فلا يرام

إذا ما العالمون عروك قالوا            أفدنـــــا أيها الحبر الإمام

لقد حسنت بك الأوقات حتى            كأنك في فم الزمن ابتسام

وإني في هذه الرفقة والملازمة رأيت عجباً عجاباً، رأيت حبيباً حلو المعشر يخجلك بتواضعه الجم ولطفه وبسمته المعبرة الصادقة. يملأ جيوبه بالحلوى والتمر ليوزعها على الصغار فتجدهم يسعدون بحضوره وطلته البهية، ويوقفنا في إشارات المرور ليساعد المحتاج والسائلين. يأوي من لا مأوى له ويكفل اليتامى، والكلام كثير. جعل الرحمن ذلك كله في ميزان حسناته وأكرمه بالنظر إلى وجهه الكريم ورفقة رسوله الحبيب، آمين.

حبيبي صادق الوعد روح ومعانٍ ورايات ستبقى ما بقي خيرٌ في هذه الفانية. صحيح رحل عنا جسده الطاهر وطلته البهية وبسمته التي ترد الروح، ولكن ما خطه فينا باقٍ بإذن الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن تميزه عليه الرضوان كان:

هينٌ تستخفه بسمة الطفل               قوي يصارع الأجيالا

ويصفه البيتان:

قسا فالأسد تفزع مـن يديـــه            ورق فنــحن نفــزع أن يذوبا

أشد من الرياح الهوج بطشا            وأسرع في الندى منها هبوبا

وأنا أود أن أزف إليكم جميعاً نبأ أننا ولله الحمد كأسرة خاصة للحبيب أو كأبنائه العشرة تعاهدنا على السير في نهجه ما استطعنا، والتراحم والتوادد بيننا واتفاق القول، والتشمير على تنفيذ الوصية التي تركها مع بقية أعضاء المجلس الذي كونه إن شاء الله. فقد خط وصيته منذ 2/4/2018م وستنشر بإذن الله تعالى.

قال نبي الرحمة: “أشدكم بلاءً الأنبياءُ ثمَّ الأولياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثل“، ونحن نشهد يا حبيبي أنك أشدنا بلاء، واجهت الصعاب والمحن بالصبر والجلد والمعتقلات والمصادرات ومحاولة الاغتيال والشتائم والبلاغات الكيدية. وما زادتك إلا إيماناً بما تفعله فنلت المكانة المستحقة عند العباد وعند رب العباد:

لولا المشقة ساد الناس كلهم           الجود يفقر والإقدام قتال

ورجوعاً بالذاكرة وتحديداً قبل أسبوعين من مرضه اتصل بي في السابعة صباحاً وقال لي تعال لي، جئت، اقعد، محمد زكي خدمني بإخلاص وتفانٍ ومحبة قلت له: نعم يابا، قال لي: دايرك تخاويه وتتعهد لي بذلك.

ويوم الأحد 25/10 طلب مني أشياء يفعلها عادة يوم 3 من كل شهر، عبارة عن مساعدات شهرية لبعض رقيقي الحال. كان مستبعداً لفكرة السفر وكنت كذلك مع رأيه تماماً، ولكن عندما بقينا يومين في مستشفى علياء وتحديداً فجر الاثنين تضايق نفس حبيبي فاقتنعت أنه لا بد من السفر، فذهبنا في معيته رفقة حبيبتيَّ مريم التي رتبت الأمر كله، وحنين التي كانت تتابع حالته الصحية منذ البداية متابعة لصيقة، فكانتا خير معين لتسهيل المطلوب ولربطنا بالحبان المشفقين في السودان وفي كل مكان، بينما توليتُ أمر مرافقته رغم كل التعليمات الصارمة.

في الإمارات كانت الحالة متقلبة من انتكاس إلى تحسن حيناً. وكان عليه رضوان الله ما أن يشعر بتحسن ولو طفيف يهرع للكتابة والمطالعة ومتابعة الأخبار والمستجدات وخصوصاً الانتخابات الأمريكية التي أهمته كثيراً.

وفي يوم الخميس 5/11 قال لي: اديني الدفتر والقلم، فكتب مقالة بعنوان: تأملات في فقه السعادة والمشقة والمراضة والممات، وختمها بنعيٍ لنفسه حيث قال: “وأفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم عليه مشيعوه قائلين: لقد شيعنا حقانياً إلى الحق، (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ)[9]“.

كان مقالاً مؤلماً للغاية، قلت له حبيبي الناس منزعجون ومشفقون عليك جداً وكلام كهذا سيفعل فيهم الأفاعيل رجاء حبيبي لا ننشر الصفحة الأخيرة، ونشطب كلمة “الممات” من العنوان، فأومأ برأسه موافقاً، وفعلاً شطبت الكلمة وأرسلت المقال لحبيبتي رباح دون الصفحة رقم (8) الأخيرة، ونشر.

بعدها بيومين، السبت 7/11، كتب مقال “هنيئاً للشعب الأمريكي وللإنسانية جمعاء”، وكتب خطاباً للشيخ طحنون شكرهم على حسن الاستقبال والعلاج في بلدهم الإمارات وأنه عازم على العودة للسودان يوم الخميس. ويوم الاثنين 9/11 كان متحسناً وطلب مني شاياً شربناه سوياً ومسح على رأسي بيده الطاهرة وقال لي: أنا بحبك يا بشرى، اعفي لي! وهكذا كان متجلداً ومحتسباً وصابراً على ألم المرض وضيق النفس والحمى والمعاناة إلى أن صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، رحمة الرحمن تغشاه بكرة وعشية.

وأنا هنا أشكر أخوتي وأخواتي الذين فوضوني للكلام نيابة عنهم، وأنا باسمهم جميعاً أشكر كل من شارك وحضر وحضّر في تنظيم الاحتفال بمولده، فهو باقٍ دائماً فينا، وحادينا، وتاجاً قد صنعناه بأيدينا، من الجرح الذي يمشي على الجرح الذي فينا، فإن ضاقت بنا أرض فأنت الأرض تأوينا.

سلام على صادق الوعد في الأولين، وسلام عليه في الآخرين، وسلامٌ عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

كأن بني السودان يـــــوم وفاتــــــه             نجوم سماء خر من بينها البدر

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة             غــداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

عليك سلام الله وقفـــــاً فإننــــــــي               رأيت الكريم الحر ليس له عمر

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1]  سورة القمر الآيتان (54-55)

[2] سورة الأنعام الآية (89)

[3] سورة آل عمران الآية (84)

[4]  سورة النحل الآية (125)

[5]  سورة البقرة، الآية (256)

[6]  سورة الكهف الآية (29)

[7]  سورة المائدة الآية رقم (48)

[8]  سورة البقرة الآية رقم (165).

[9] سورة العلق الآية (8)