القرار الأفريقي وسلامة المواطن السوداني

بسم الله الرحمن الرحيم
القرار الأفريقي وسلامة المواطن السوداني
19 مارس 2006م

أصدر مجلس السلام والأمن الأفريقي فى اجتماعه رقم 46 قراراً خلاصته:
أ- قرر من حيث المبدأ تحويل مهمة البعثة الأفريقية فى السودان ( AMIS ) إلى الأمم المتحدة في إطار الشراكة بينهما لدعم الأمن والاستقرار في أفريقيا.
ب – تمديد مهمة البعثة الأفريقية حتى 30/9/2006.
وذلك للقيام بالآتي:
• المساهمة فى تحسين الأوضاع الأمنية ، وحماية الإغاثات الإنسانية، ومساعدة النازحين واللاجئين للعودة لقراهم، وحماية المدنيين فى دارفور.
• مراقبة الالتزام بتنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة فى 8 أبريل 2004، وبروتوكولات أبوجا المبرمة فى نوفمبر 2004.
• المساعدة فى عملية بناء الثقة.
شاركت الحكومة السودانية فى اتخاذ هذا القرار بعد أن كانت قد أقامت الدنيا ضد التدويل وارتدت بخطابها لفترة مراهقتها التي حسبناها تخطتها تعلماً من فشلها، ومراعاة للشراكة الثنائية الجديدة، ولكن الطبع يغلب التطبع !!.
مر على السودان منذ استقلاله ثلاثة عهود ديمقراطية وثلاثة عهود أوتوقراطية التزم الديمقراطيون بحقوق الإنسان وأهدرها الأوتوقراطيون . ولكن العهد الحالي انفرد دون كافة سابقاته بأمرين:
الأول : تفكك الدولة المركزية والتردي نحو التمزق.
الثاني : الخضوع للحماية الدولية.
سوف أتناول السياسات التي أدت للتردي نحو التمزق في مجال آخر وسوف أركز هنا على السياسات التي أدت طوعاً أو كرهاً إلى التدويل:
حتى يوم انقلاب يونيو 1989م كانت عملية السلام في السودان سودانية خالصة وأوشكت أن تبلغ غايتها بعقد مؤتمر قومي دستوري في 18 سبتمبر 1989 بلا حاجة لتقرير المصير للجنوب وبلا حاجة لوسيط أجنبي، وكانت من بين مبررات إسراع الانقلابيين بفعلتهم الحيلولة دون ذلك الاتفاق الوشيك لأن فيه في نظرهم تخلياً عن الشريعة الإسلامية، مع أن الحقيقة هي أن مشروع الاتفاق نص على تجميد أحكام كانت أصلاً مجمدة لأنها معيبة في نظر الشرع والعدالة ريثما يتفق على أسلمة صحيحة في نظر غالبية المسلمين وتدابير تصون حقوق المواطنة وحريات غير المسلمين.
لغة نظام “الإنقاذ” المارشالية الجهادوية عمقت كل التناقضات الدينية، والثقافية، والسياسية، في البلاد وأحرقت كل جسور التفاوض عبر خطوات معلومة أوقعت البلاد في أحضان التدويل.
كنا حريصين على أمرين في عملية السلام:
الأول: أن يكون الجهد سودانيًا وقومياً يلتزم أوسع درجات المشاركة الوطنية.
الثاني: هو صنو الأول: تجنب الركون لأطراف أجنبية.
الانقلابيون التزموا نهجاً أحادياً إقصائياً فقضوا على الجسور السودانية وعندما التفتوا لعملية السلام لم يجدوا إلا الركون لأطراف أجنبية:
أولاً: بعد أن يئست حكومة ” الإنقاذ ” من خطط الحسم العسكري للحرب الأهلية وبعد أن أخفقت محادثات أبوجا الأولى والثانية لجأت الحكومة لزملائها في دول الإيقاد للتوسط . كان توسط الإيقاد مختلفاً من سابقته في أمرين هما نقل التوسط إلى تحكيم، وإشراك أطراف دولية اشترطوا أن يوقع طرفا النزاع على إعلان مبادئ خلاصته : قيام سودان موحد علماني وديمقراطي أو منح الجنوب حق تقرير المصير. الانقلابيون تمنعوا في التوقيع على هذا الإعلان حيناً من الدهر لأنه يناقض كافة ثقافتهم السياسية ولكنهم وقعوا عليه في 1997.
ثانياً: دول الإيقاد عجزت عن تمويل المبادرة فلجأت للدول الغنية ” أمريكا وكندا والاتحاد الأوروبي واليابان” فوافقوا على مساعدتهم وسموا أنفسهم أصدقاء الايقاد . ثم رأوا أن يساهموا بالمال والرأي معاً فسموا أنفسهم شركاء الإيقاد ومنذئذ دولت مبادرة الإيقاد.
ثالثا: فى عام 2002 قرر الأمريكيون توجيه عملية السلام في السودان وعين الرئيس الأمريكي الجديد عضو مجلس الشيوخ السابق جون دانفورث مندوباً خاصاً له . وبدأ المندوب عمله باقتراح أربعة إجراءات لطرفي النزاع المسلح في السودان فقبلها وكان لها نتائج إيجابية لا سيما في تحقيق سلام في جبال النوبة بمشاركة أجنبية عسكرية وسياسية وإنسانية.
رابعاً: مفاوضات السلام بين حكومة السودان والحركة الشعبية كانت بوساطة الإيقاد خاصة كينيا، وبرافع أجنبي خاصة أمريكا. كان دور الأجنبي توسطاً وتحكيماً عند اللزوم ومتوسعاً فى استخدام العصا والجزرة. العامل غير السوداني فيما أبرم كبير والتفاوض على طوله وكثافته لم يزد طرفيه ثقة بينهما لذلك قررا أن يسندا أمر مراقبة ومتابعة الاتفاق للأمم المتحدة فاستجاب مجلس الأمن بموجب القرار 1590. القرار الذي كونت بموجبه بعثة الأمم المتحدة فى السودان ( UNMIS) وهي بعثة بإعدادها وأسنانها وعضلاتها تدعمها قوات مسلحة من عشرة ألف جندي وسبعمائة شرطي وإدارة معتبرة، وتفويضها يجيز لها استخدام السلاح ويسمح لها بالإشراف على كل بؤر النزاع فى السودان.
خامساً: بروتوكول منطقة أبيي وهي بقعة في جنوب غرب البلاد هو أحد بروتوكلات اتفاقية السلام المبرمة في يناير 2005. هذا البروتوكول مستمد كله من رؤية السيد جون دانفورث المبعوث الأمريكي. وألحق بالبروتوكول ملحق جرى بموجبه تعيين لجنة تحكيم دولية برئاسة دبلوماسى أمريكي. وصفت هذه اللجنة بأنها محايدة، وتكوينها لا يدل على ذلك، واعتبر قرارها نهائياً في أمر بالغ الحساسية !! .
سادساً: وقعت تجاوزات لوقف إطلاق النار وتعديات على المدنيين بخلاف التجاوزات السابقة لذلك اتخذ مجلس الأمن القرار 1591، لمراقبة حركة السلاح في دارفور ورصد ومساءلة الجناة سواء كانوا من طرف الحكومة السودانية أو الحركات المسلحة. وبموجب القرار أقيمت آلية محاسبة خاصة.
سابعاً: لجنة التحقيق في جرائم دارفور: رحبت الحكومة السودانية بالتحقيق الدولي في أحداث دارفور. وبعد زيارة لولايات دارفور قدمت هذه اللجنة تقريرها لمجلس الأمن الذي أصدر القرار 1593 وأحال المتهمين السودانيين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على حد تعبير تقرير اللجنة إلى المحكمة الجزائية الدولية.
إذن بموافقة الحكومة السودانية والمؤتمر الوطني حزبها، وبالرغم منها، صار الشأن السودانى معطوناً في بركة التدويل، والضجة التي أثارتها الحكومة رفضاً لتحويل مهمة القوات الأفريقية لقوات دولية ضجة زائفة لأن القوات الأفريقية نفسها في جوهرها دولية وصلاحياتها مستمدة من قرار دولي، والأمم المتحدة موجودة في السودان على أوسع نطاق وبأوسع الصلاحيات.. أنا الغريق فما خوفي من البلل ؟
أما الحديث عن غزو وعن دور أمريكي ودور لحلف ناتو فهذه “بهارات” أضافها طباخون غير ماهرين ليست واردة أصلاً اللهم إلا في تصريحات غلاة الأمريكان!!.
أهم من هذه المماحكة الفارغة الاهتمام بما سوف يجري فى دارفور أثناء الأشهر الستة القادمة. فميزانية البعثة الأفريقية على ضعفها عاجزة، ولا تدري من أين تأتي ميزانية الأشهر الإضافية المقدرة 218 مليون دولار.
الحالة الإنسانية والأمنية في دارفور مرشحة لمزيد من التدهور في الفترة القادمة كما كان حالها فى العام المنصرم، والمطلوب استبدال المسئولين الإداريين في ولايات دارفور بالأكثر قبولاً وموضوعية لبناء الثقة، والمطلوب تأهيل البعثة الأفريقية بشرياً، ولوجستياً، ومالياً، لحماية أمن وسلامة أهل دارفور في المرحلة القادمة.
إن قرار المجلس الأفريقي يبقى مبتوراً ما لم يلحق به قرار الاتحاد الأفريقي بدفع استحقاقاته.
إن أوساطا عربية كثيرة شربت وهم الغزو الأجنبي الوشيك للسودان وتجاوبوا مع صيحات “الذئب.. الذئب” الوهمية، وأنفقوا من البضاعة العنترية المضروبة التي ما قتلت يوماً ذبابة! .
وسوف تأتي القمة العربية التي نربأ بها أن تقرر قراراتها بموجب ما تسمعه من الطرف الحكومى وحده، فهناك أطراف أخرى ينبغى الاستماع إليها.. الحكومة السودانية بحاجة لمن ينصحها لا لمن يدعم أخطاءها، وينبغي أن تساهم القمة العربية في تفعيل دور البعثة الأفريقية لا مجرد تأييد تمديد فترتها.
إن الواجب الأهم فوق كل هذا هو أمن وسلامة الإنسان السودانى، واحتواء النزاع الحالي حتى لا يلهب معه غرب وقرن أفريقيا. هذه المهام هي من صميم اختصاصات مجلس الأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة. لذلك على مجلس الأمن أن يراقب ويتابع الموقف بدقة ويتخذ القرارات المناسبة لأن قرار المجلس الأفريقى يثبت ولا ينفي المسئولية الدولية.
القرار الأفريقي في البداية أفرح النظام السوداني لأنه لم يأت مطابقا للرأي الأمريكي. فرحة ما دامت لأنه في القراءة المتأنية جاء وفيا للشرعية الدولية وليس بديلا عنها. جاء فيه: إقرار مبدأ تحويل مهام البعثة الدولية المحددة- إلزام الطرف السوداني بالقرار 1591 وهو قرار مساءلة لما يجري من انتهاكات- وبالقرار 1593 وهو قرار محاسبة على ما جرى من جرائم- وإلزامه بالكف عن السباب والتظاهر ضد غزو وهمي- والتطلع لمجلس الأمن لمتابعة الحالة الأمنية والإنسانية في دارفور قياما بواجبه بنص ميثاق الأمم المتحدة.
تعامل الحكومة السودانية مع هذا الملف أظهر درجة عالية من التفريط في المسئولية والتخبط والغوغائية.. المطلوب من كافة الأطراف المعنية الامتثال لأمرين هامين هما أمن وسلامة إنسان دارفور والالتزام بالشرعية الدولية. الحق أبلج والباطل لجلج.