الكنانة بين الثورة والإصلاح

الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين
الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار المنتخب ورئيس الوزراء الشرعي للسودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو نادي مادريد للحكماء الديمقراطيين

بقلم الحبيب الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

 الكنانة بين الثورة والإصلاح

بقلم: الإمام الصادق المهدي

1 يونيو 2012م

 حضرت للقاهرة للمشاركة في المؤتمر الوزاري الإفريقي الخاص بالمياه كأحد ممثلي المجلس العربي للمياه.

 كنت أتابع المشهد الانتخابي المصري باهتمام ثم ذهبت للدوحة لحضور منتدى الدوحة الدولي ووجدت في نفسي دافعا قوياً للعودة للقاهرة لمتابعة المهشد الانتخابي عن قرب ومقابلة بعض رواده. وأزعجني كثيرا أن ترتيبات العملية الانتخابية الرئاسية محفوفة بعيوب كثيرة وأن نتيجتها لم تحقق المرجو منها من تراضٍ على النتيجة الانتخابية بل أفرزت استقطابا حاداً يرمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر!

المشهد الانتخابي المصري يهم كافة جنبات الأمة لأن ما يحدث فيه يشع حتما ما وراء الحدود القطرية على حد تعبير الشاعر اليمني:

 ما نال مصر نعمة أو نقمة إلا *** وجـــدت لنا بذلك نصيبا!

 الثورة المصرية في عام 1952م والنظام الشمولي الذي أقامته استن الطريق الانقلابي للنظام الشمولي الذي تربع في جنبات المنطقة وصار يعرف بالنظام الشرق أوسطي.

 الثورة المصرية خطوة تاريخية أسقطت النظام الشرق أوسطي إلى غير رجعة لأنها كشفت عن عجزه وفساده ومهما حقق من إيجابيات وطنية فإنه مع الزمن تحول إلى ديناصور مستعصٍ على التجدد والإبداع.

 الثورة الشعبية في مصر استردت للشعب ثقته في نفسه بعد أن أدين بالاستكانة، واكتشفت الثورة آلية نضالية مجدية بوسائل مبتكرة، وتحقق بالثورة مناخ حريات عامة منعش.

الثورة المصرية بعد التونسية قضتا على مقولة الاستثنائية العربية، وصار ميدان التحرير عنوانا لانتفاضات الحرية في كل مكان حتى في بلدان الديمقراطية العريقة إذ شاع التظلم من غياب الديمقراطية الاجتماعية.

 كفلت الثورة حرية التنظيم ومكنت من إجراء انتخابات عامة مهما شابها من عيوب فإنها أجريت بدرجة عالية من النزاهة.

ولكن إلى جانب هذه الإنجازات التاريخية فقد ارتكبت الحركة السياسية في مصر طائفة من الأخطاء أفرزت مشهداً سياسياً سرياليا:

• كانت الثورة متوقعة. كنت ضمن بعثة نادي مدريد وزرنا ست دول عربية والتقينا فيها الحكام والمعارضين في الفترة من (2006- 2008م) وفي يناير 2008م أطلقنا نداء البحر الميت بحضور ممثلين لـ19 دولة عربية. جاء فيه: إن حرية التنظيم غائبة في المنطقة وإن المشاركة متدنية في إدارة الشأن الوطني، ما خلق استقطاباً حاداً، والمطلوب حوارات جادة بين الحكام والمعارضين للاتفاق على إصلاح سياسي يكفل الحريات العامة وإلا فالانفجار.

 ولكن الانفجار عندما وقع كان من حيث أسلوبه وتوقيته مفاجئاً للكافة.

الثورة إجراء غير عادي لإسقاط سلطة مرفوضة وإحلال سلطة الثوار محلها ليطبقوا برنامجهم الثوري. ومعلوم تاريخياً أن أي إسقاط لنظام ما لم تعقبه ولاية كادر قيادي يطبق برنامجاً مغايراً فإنه لا يلبث أن يعيد إنتاج الأوضاع التي كانت سائدة.

 العيب الأكبر هو أن الثوار أسقطوا النظام ولكن لم يحققوا بقية أهداف الثورة.

 لعبت القوات المسلحة دوراً وطنياً حماية للثورة وملأت الفراغ بدرجة من النزاهة ولكنها لم تكن مستعدة لتطبيق برنامج ثوري فاعتمدت على الدستور الموجود بتعديلات محدودة وعينت حكومات كالمعتادة في النظام المباد.

وتراكمت عيوب إجرائية:

– أُجريت انتخابات تشريعية ورئاسية قبل اتخاذ دستور يحدد صلاحيات أجهزة الدولة.

– وأُجريت الانتخابات التشريعية بصورة تنذر بالحكم ببطلانها.

– وكان التعامل مع قانون العزل السياسي مختلا بصورة تهدد قانونية الانتخابات الرئاسية.

 – وزاد الأمر غرابة أن نتيجة الانتخابات الرئاسية حصرت التنافس بين شخصين يجدان رفضا من بعض القطاعات المصرية لأسباب مختلفة. هذه القطاعات هي التي روجت لعبارات الإحباط: إن الثورة ضاعت. نحن بين نارين. نحن بين من نكره ومن نكره جداً!

وقبل أن أدلي برأيي في هذا الموقف أود تأكيد أنني مؤيد لأهداف الثورة لكنس النظام الشرق أوسطي وإحلال فجر جديد واضح المعالم يقوده صناع ذلك الفجر الجديد واقترحت لذلك الفجر الجديد برنامجا ثوريا محددا ضمنته كتابي معالم الفجر الجديد.

ولكن فات وقت التنظير فنحن أمام موقف يتطلب مخرجا يراعي الأهداف المنشودة ويراعي الواقع الماثل. أقول:

• بصرف النظر عن الأشخاص فإن نتائج الانتخابات الرئاسية تقول:

• صوتت لدكتور محمد مرسي في الغالب قوى إسلامية هي جزء أصيل من المجتمع المصري. ولا ينبغي أن نغفل أن التطلع الإسلامي يمثل اليوم قوة ثقافية واجتماعية هائلة في كل العالم. إن الذين صوتوا له رقم سياسي كبير.

• وصوت للفريق أحمد شفيق غالباً قوى اجتماعية محددة هم: التكوينات الاجتماعية التي كانت تؤيد النظام السابق، والتكوينات المسيحية التي تتطلع لدولة مدنية، وقطاع نسوي يخشى على ما تحقق لهن من مكتسبات، وقطاعات يهمها أن تكون علاقات مصر بالمجتمع الدولي الغربي سالكة، وأيدته عناصر مشغولة بالحالة الأمنية. هؤلاء يمثلون رقما سياسيا كبيرا.

• وصوت للدكتور حامدين صباحي ود. عبد المنعم أبو الفتوح قوى مشكلة ولكنهم يمثلون قوى جديدة وهم كذلك رقم سياسي كبير.

 • وهناك رقم سياسي كبير جدا بلغ 50% من جملة المستحقين التصويت وهم عناصر ثورية مصدومة من العملية كلها، وعناصر اللامبالاة المعروفة.

 إزاء هذا الموقف هنالك خياران: خيار ثوري يرى أن الثورة أجهضت وينبغي اعتبار ما جرى بعدها تنكرا لأهدافها ما يوجب عدم الاعتراف به والانصراف لتكوين تنظيم ثوري يراهن على حتمية فشل النظام إما لأنه سوف يتجه لإقامة دولة شمولية دينية أو دولة شمولية عسكرية، نظامان سوف يصنعان حالة ثورية ضدهما وعلينا الإعداد لثورة ثانية تحقق ما فات الثورة الأولى. هذا الخيار تشده المثالية ولكن مع التركيبة المجتمعية الراهنة في مصر والعوامل الدولية المحيطة بمصر سوف يقود حتماً لمواجهات حادة ترجع أصداء ما جرى في اليمن وليبيا وسوريا. لكي ينجح هذا الخيار الثوري فإنه يحتاج لمقدمات حاضنة تمهد له.

الخيار الثاني هو الخيار الإصلاحي وينطلق من الحقائق الآتية:

• أنه لا يجرؤ أحد بعد الآن على المساس بالحريات العامة.

• أن الإسلام قوة اجتماعية وثقافية لا يستطيع أحد إنكار دورها والحاجة لإشباع تطلعاتها.

• أن المساواة في حقوق المواطنة شرط للوحدة الوطنية ولا يجوز المساس بها.

• أن مساواة المرأة الإنسانية والإيمانية والسياسية حق لا تراجع عنه.

• إن الديمقراطية تعني الاحتكام لصناديق الانتخاب وكذلك تعني أن يحكم المنتخبون بالوسائل الديمقراطية وأن يراعوا التوازن في أسلوب الحكم.

• أن الديمقراطية السياسية وحدها لا تكفي فلا بد من تحقيق الديمقراطية الاجتماعية.

• أن التنمية التزام لا مفر منه لتحقيق الكفاية والعدل ومحاربة الفقر والعطالة.

• أن استقلال القضاء التزام مقدس.

• أن حيدة القوات المسلحة والشرطة جزء لا يتجزأ من بناء الوطن الحديث.

• ينبغي مساءلة أفراد النظام الشمولي واسترداد الأموال منهم مع اتباع الأساليب العادلة.

• ينبغي مراجعة سياسة البلاد الخارجية لتقوم على الندية والمصالح المتبادلة بلا عداء وبلا تبعية.

• أن ميزان الالتزام بالسلام هو العدل.

 • أن الحملة الانتخابية ينبغي أن تخلو من السباب ومن التكفير.

 المطلوب وبصورة عاجلة أن تتنادى القوى السياسية لإلزام كافة القوى السياسية بهذه الالتزامات وأن تجعلها مبادئ للدستور الدائم الذي تضعه جمعية تأسيسية ممثلة لكافة ألوان الطيف وأن تكون القوى السياسية منبرا جامعا لمتابعة الالتزام بهذه المبادئ الحاكمة لبناء الوطن.

 العالم العربي كله في مرحلة انتقالية وفي حالة غليان. إذا حققت مصر استقرارا سياسيا يلبي تطلعات الشعوب العربية بخريطة طريق لنظام بديل للنظام الشرق أوسطي فإنها تسترد دورها القيادي المعهود.

 إن طيف التطلعات الإسلامية عريض للغاية وهو يغرف من حقيقة عالمية تؤكد أن الإسلام يمثل الآن عالميا قوة ثقافية واجتماعية هائلة ويتنافس على مستقبلها غلاة يتخذون العنف اللفظي والمادي وسيلة وصحاة يتخذون اللطف اللفظي والمدني وسيلة. وتستطيع التجربة المصرية أن تساهم في حسم هذا التنافس لصالح: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[1]

 لقد كانت العلاقات العربية بإفريقيا جنوب الصحراء مهمشة مع أن هذه المنطقة تشهد أكبر صراع حضاري ما يوجب إعطاء العلاقات العربية الإفريقية أهمية كبيرة لا سيما في حوض النيل. لقد أدت سياسات غير واقعية إلى استقطاب غير حميد في حوض النيل. إن التوفيق بين الحقوق المكتسبة في حوض النيل ومطالب دول المنابع ممكن بل ضروري ولكن يبدأ الأمر بالاعتراف بالحاجة لنظام قانوني جديد والاشتراك في تكوين مفوضية حوض النيل كمنبر متفق عليه للحوار بين دول الحوض.

 نحن في السودان نعاني من استقطاب حاد ما لم نزله بإجراء استباقي يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل فإنه ينذر بتفتيت الوطن وإخضاعه للوصاية الدولية. بعض أوساط النظام السوداني يراهنون على أنه إذا فاز الإخوان المسلمون فهم أبناء عمومتهم وأولى بمناصرتهم. وإذا فاز الفريق شفيق فإنه تأكيد لجدوى وحتمية الوصاية العسكرية.

 هذه الأوهام تشعر النظام في السودان رغم الإخفاقات بالرضا عن الذات والتمترس في الوضع الذي جر للسودان كل هذه الإخفاقات.

 إنها أوهام ينبغي تبديدها فالإخوان في مصر سيلحون إلحاحا مكرراً أنهم سوف يكفلون حقوق الإنسان. والحريات العامة، والمساواة في المواطنة ويطرحون النهج الإسلامي كما ينبغي ضامنا للحرية والعدالة، والمساواة، والسلام. الدرس المستفاد لجماعتنا في السودان ينبغي أن يكون أن الإخوان في مصر سوف يتجنبون تجربتكم وأنهم يدعونكم للاقتداء بنهج يسبح مع موجة التاريخ.

أما الوصاية العسكرية فإنها ديناوصور انقرض وسوف ينقرض. والفريق أحمد شفيق مهما كان حظه في الاقناع يناجي مقولات الفجر الجديد. والانحرافات من أية جهة سوف تواجهها المقصلة الشعبية.

________________________________

 [1] سورة النحل الآية 125.