«برنجي» الدول المتردية!

بسم الله الرحمن الرحيم

«برنجي» الدول المتردية!

11 ديسمبر 2006م

 

قدمت مجلة الشؤون الدولية الأمريكية بالتعاون مع مركز أبحاث السلام، دراسة مشتركة عن الدول المتردية في العالم. تناولت الدراسة 146 دولة واختارت 12 مقياسا للحكم للدولة بالجدوى أو عليها بالتردي، أهمها: نسبة السكان الذين شردهم النزوح الداخلي واللجوء للخارج ـ التوازن التنموي الاقتصادي ـ حالة الخدمات الاجتماعية ـ انضباط جهاز الأمن أو طغيانه ليصبح دولة داخل الدولة ـ ودرجة: التعدي على حقوق الإنسان، انتشار التشظي بين النخب، والتدخل الأجنبي في شأن البلاد. وصنفت عشر دول على رأس قائمة الدول المتردية هي: السودان، الكنغو، ساحل العاج، العراق، زمبابوي، تشاد، الصومال، هايتي، باكستان وأفغانستان.

لم ترد مثل هذه الأحكام على السودان، كما لم يتخذ مجلس الأمن قرارات ضده منذ استقلاله إلا في العهد الحالي. هذه الإدانات ليست مقترنة بعدم الرضا الأمريكي، فأمريكا لم تكن راضية على الديمقراطية الثالثة بالسودان، وهي راضية عن العراق بل وفخورة بأفغانستان.

إن استيلاء الأحزاب الإسلاموية ذات برنامج الأجندة الواحدة ـ أي تطبيق الشريعة ـ على السلطة بالقوة ثم محاولة تطبيق برنامجها على مجتمع متعدد الأديان والمذاهب والثقافات، في وسط إقليمي معاد، ووسط دولي أكثر عداء، سبّب في السودان استقطابا داخليا وإقليميا ودوليا، ويمثل الفصل الأول من الاندفاع نحو التردي.

كان نظام «الإنقاذ» الذي أدرك إخفاق «مشروعه الحضاري» يأمل، بإبرام اتفاقية السلام «الشامل» مع الحركة الشعبية، الإمساك بعصا موسى لوقف العزلة والتردي ولشراء عمر جديد بمباركة دولية.

اتفاقيتا نيفاشا للسلام في يناير 2005، وأبوجا للسلام في دارفور في مايو 2006، اعتمدتا على الرافع الأمريكي وتفاخرت بهما الإدارة الأمريكية. ولكنهما صارتا جزءا من وقود أزمة النظام لا من حلها، لماذا؟

عندما شرعت دول الإيقاد في عام 1994 في التوسط بين حكومة السودان والحركة الشعبية، كانت الخريطة السياسية السودانية مركزة على نظام حكم يقوده المؤتمر الوطني، ومعارضة يقودها التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يقود الجيش الشعبي قوته الضاربة. ولكن بعد عشر سنوات (في 2005) عندما أبرمت الاتفاقية تغيرت الخريطة السياسية:

تراجعت قبضة الشمولية منذ 1997 واعترف النظام بالتعددية، ومنذ نداء الوطن في 1999 انتعش المجتمع السياسي والمجتمع المدني السوداني وصار للرأي الآخر، غير الممثل في ثنائية الإيقاد، بقيادة حزب الأمة، زخم فكري وسياسي كبير.

فكرة السودان الجديد نقلت «عضمة» النزاع من شمالي جنوبي إلى عربي أفريقي، بصورة لم ترض عنها تيارات جنوبية أخرى، فنشطت مركزة على مظالم الجنوب.

منذ اتفاقيات السلام من الداخل في عام 1997 تأسست قوة دفاع جنوب السودان، وصار لها دور عسكري ملموس في جبهات القتال بدعم من المؤتمر الوطني.

الحالة في دارفور ساءت بدرجة أدت منذ عام 2002 لبروز أحزاب سياسية مسلحة.

كذلك بدرجة أقل تطور النزاع في شرق السودان وتكونت جبهة الشرق كحركة سياسية مسلحة.

هذا الواقع الجديد لم يؤخذ في الحسبان، عندما أبرمت اتفاقية سلام نيفاشا في عام 2005 ووصفت بأنها اتفاقية السلام الشامل.

كثيرون في السودان، وأكثر منهم خارجه رحبوا باتفاقية السلام، لأنها أوقفت الاقتتال في أهم جبهاته ووعدت ببناء السلام والتحول إلى الديمقراطية بالبلاد، ولكنها أحدثت آثارا أخرى سالبة أهمها:

أولا: قدمت أنموذجا لحركة سياسية مسلحة حققت مطالبها بقوة السلاح، وعبر آيديولوجية التهميش، شكلت قدوة لحركات أخرى اندفعت في نفس الاتجاه، لا سيما بعد أن تأكد أن نظام «الإنقاذ» لا يحفل بالرأي الآخر، إلا إذا كان مسلحا.

ثانيا: قدوة نيفاشا شجعت الاندفاع في المطالب المدعومة بالعمل العسكري، ولكنها في الوقت نفسه وضعت سقوفا حائلة دون الاستجابة لها. هكذا تمدد سيناريو التشظي.

ثالثا: شريكا الاتفاقية وعبر عشرين شهرا من اتفاقهما واشتراكهما بحكومة واحدة قدما أنموذجا لسيناريو أزمة السلطة عبر ثلاثة محاور:

كنت قد أوضحت في أبريل عام 2005 بكتاب عن الاتفاقية أربعة مآخذ عليها، وأثبتت التجربة صحتها، لا سيما في مجال بروتوكول الترتيبات الأمنية، وبروتوكول مسألة أبيي.

اندلعت حرب باردة بين طرفي الاتفاق، أساسها أن المؤتمر الوطني يحرص على جعل «حكومة الوحدة الوطنية» امتدادا لنظامه القديم. وتحرص الحركة الشعبية على أن تجعلها وجها «للسودان الجديد».

رابعا: كل الذين وقعوا اتفاقيات مع نظام «الإنقاذ» اتهموه بأنه يخلف وعده. فجوة الثقة أوجبت الإتيان بطرف دولي ثالث لمراقبة ومتابعة وتقييم تنفيذ الاتفاقية، بصورة دولت الشأن السوداني تدويلا غير مسبوق في قرار مجلس الأمن رقم 1590.

كان مسرح الأحداث في دارفور حافلا بالإثنية المسيسة المسلحة وما صحبها من عوامل التشظي. وكانت المآسي الإنسانية المرتكبة في دارفور من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضمن عوامل أخرى، مدخلا واسعا للتدويل الذي جسدته على الصعيد الإنساني كثرة منظمات الإغاثة الإنسانية، وعلى الصعيد السياسي والأمني قرارات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، وأهمها القرارات رقم: 1591- 1593- 1679- 1706 وهلم جرا.

صممت اتفاقية أبوجا ليوقع عليها 3 من أطراف النزاع مع حكومة السودان، ولكن وقع عليها واحد. الوسطاء الدوليون ـ بغباء شديد ـ باركوا هذه الصفقة كاتفاقية سلام. والحقيقة أنها أدت لانقسام داخل المؤتمر الوطني وداخل الفصيل الدارفوري الذي وقع عليها (جناح مِنّـِي) ولتحالف الذين رفضوا التوقيع ـ جبهة الخلاص ـ وإلى رفض القوى السياسية السودانية ـ التحالف الوطني ـ فصارت سببا لزيادة الأزمة بصورة أسوأ من ذي قبل لأنها زادت الخطر على المدنيين، وعلى الإغاثات الإنسانية، وتمدد الاقتتال بالوكالة عبر الحدود التشادية ومع أفريقيا الوسطى.

أما اتفاقية الشرق المبرمة في أكتوبر 2006، التي يحمد لها وقف إطلاق النار، فإن فوقيتها وثنائيتها واعتمادها على الوسيط الأرتري، جرت معها اختلافا بين الذين وقعوا عليها أنفسهم، واختلافا بينهم وبين من غيبوا عنها من أهل الشرق. أما البعد الأرتري ففي إطار العداء الإثيوبي الارتري وتطورات الموقف في الصومال ينذر بتعقيد إقليمي آخر.

إن فلسفة اتفاقيات السلام الحالية تقوم على أساس تسويات ومحاصصات وصفقات بين السلطة الانقلابية والقوى المسلحة، من دون أدنى اعتبار لمفهوم الشرعية، ولا المشاركة القومية، ولا حتى لضمان ضم القوى الجهوية المعنية للاتفاق. فلسفة ستفرخ المطالب السياسية المدعومة بالسلاح وستجعل من حصلوا على «مكاسب» حريصين على استمرار حضورهم العسكري لحراستها.. مما أدى إلى نقل المواجهات العسكرية إلى داخل المدن، والمخاشنات الإعلامية إلى داخل دواوين الحكومة.

وما لم تتغير الفلسفة إلى تأسيس الاتفاقيات على الشرعية، عبر ملتقى جامع فإن الوضع في السودان مرشح لمزيد من التردي في بيئة إقليمية مرشحة بدورها لاضطرابات بلا حدود