تاريخ الحزب- التأسيس

المرحلة الأولى: 1945- 1958م

التأسيس 1945م

بدأت الاجتماعات التأسيسية للحزب في ديسمبر 1944، وتمت صياغة لوائح الحزب ودستوره وبرامجه، وانتخب السيد عبد الله خليل سكرتيرا عاما للحزب، فقام برفع دستور الحزب للسكرتير الإداري في 18 فبراير 1945م طالبا التصديق عليه والذي تم باعتباره ناد لعدم وجود قانون بشأن الأحزاب حينها وتم الإعلان رسميا عن الحزب بصدور البيان التأسيسي له في 31 مارس 1945، ونشر البيان في الصحف في 3 أبريل 1945، وجاء فيه أن جماعة من أبناء السودان قد رأوا “أن الوقت قد حان لقيام حزب سياسي يكون نقطة ارتكاز لليقظة الفكرية السودانية التي بدأت تلمس طريقها للإفصاح عن رأيها في مستقبل البلاد وللمطالبة بحقوق السودان الطبيعية التي قطع السودانيون شوطا بعيدا في طريق التأهل لحمل أعبائها”.

وأن الجماعة المؤسسة لحزب اتصلت ببعض كبار الخريجين وقادة الرأي وببعض زعماء العشائر ورؤساء القبائل واتفقوا جميعا على تكوين “حزب الأمة”، وأن حزب الأمة يدين بمبدأ “السودان للسودانيين”، وأن غرضه هو “العمل للحصول على استقلال السودان بكامل لحدوده الجغرافية مع المحافظة على الصلات الودية مع مصر وبريطانيا”.

شارك في الاجتماعات التأسيسية لحزب الأمة كل من إبراهيم أحمد، وعبد الله خليل، ومحمد علي شوقي، ومحمد عثمان ميرغني، ومحمد صالح الشنقيطي، وعبد الكريم محمد، وأحمد يوسف هاشم، وأحمد عثمان القاضي، وعبد الله الفاضل المهدي، ومحمد الخليفة شريف، والصديق عبد  الرحمن المهدي، والسلطان محمد بحر الدين، وإبراهيم موسى مادبو، وسرور محمد رملي، ومحمد محمد الأمين ترك، ومحمد إبراهيم فرح، والزبير حمد الملك، وبابو نمر، وأيوبيه عبد الماجد، والمك حسن عدلان، وعبد  الله بكر.

يعتبر الحزب أول حزب سوداني لأن الجماعات الأربع (الاتحاديين، جماعة الأحرار، جماعة الأشقاء، وجماعة القوميين) التي نشأت في أكتوبر 1944م لم تنشأ كأحزاب ولم تسم نفسها كذلك كما يرد في معظم كتب التاريخ المعاصر وإنما نشأت كجماعات في إطار مؤتمر الخريجين، ولذلك لم تفتح عضويتها لكل السودانيين ولم تخاطب غير الخريجين، كما لم تطلب تصديقا لتكوينها من الجهات الرسمية.

دستور الحزب لعام 1945م

نص دستور حزب الأمة الذي أقر في الاجتماعات التأسيسية على أن مبدأ الحزب هو “السودان للسودانيين”، وأن غرضه هو الحصول على استقلال السودان بكامل حدوده الجغرافية مع المحافظة على الصلات الودية مع مصر وبريطانيا.

إن الطبيعة الموجزة لدستور حزب الأمة يجب ألا تخفي حقيقة هامة ربما تكون غائبة عن الكثيرين، وهي أن الحزب وصولا إلى هدفه الأسمى وهو الاستقلال قد اتخذ المطالب الإثني عشر المنصوص عليها في مذكرة مؤتمر الخريجين في 1942م والتي رفعها للحاكم العام السيد إبراهيم أحمد رئيس لجنة مؤتمر الخريجين التنفيذية حينها وأحد أبرز قادة حزب الأمة، اتخذ الحزب تلك المذكرة برنامجا له وسعى لتنفيذها من خلال مؤسسات التطور الدستوري التي أنشأتها الإدارة البريطانية وشارك فيها وهي: المجلس الاستشاري، و مؤتمر إدارة السودان، والمجلس التنفيذي، والجمعية التشريعية ، ولجنة تعديل الدستور.

تنظيمات الحزب

كانت تنظيمات الحزب قائمة على هيئة تأسيسية، ومجلس تنفيذي (مكتب سياسي) على رأسه السكرتير العام للحزب، وللسكرتير مساعد أو اثنين، ومكاتب الحزب في داره المركزية (دار الأمة)، زائدا اللجان الفرعية في كل أقاليم السودان المختلفة والتي بلغت أعداها آلاف اللجان الفرعية في مدن وقرى وأرياف السودان.

كان سكرتير عام الحزب المنتخب في اجتماعات التأسيسية هو السيد عبد الله خليل وكان مساعده هو الأمير عبد الله نقد الله، وانضم له لاحقا السيد أمين التوم كمساعد ثاني.  كان مساعدا السكرتير يعدان الرحلات السياسية للأقاليم للتوعية ولإنشاء مزيد من لجان الحزب الفرعية.

وقد روى السيد أمين التوم في مذكراته بعنوان (ذكريات ومواقف) كيف كون مع آخرين لجنة الحزب بحلفا، وكيف كان مربوطا بالمركز في شكل برقيات وخطابات تصله من الأمير عبد الله نقد الله منذ العام 1946 حيث اشتركت لجنة حلفا في المعركة لمناهضة اتفاق صدقي بيفن. (أمين التوم، ص 34).

وفي العام 1949م استحدثت على هيكل الحزب مقعد الرئاسة حيث انتخب السيد الصديق المهدي رئيسا للحزب، وظل السيد عبد الله خليل سكرتيرا للحزب.

واستعدادا لخوض أول انتخابات العامة  في 1953م فقد أعيد تنظيم الحزب على أساس غير مركزي وأقيم لكل مديرية ودائرة انتخابية تنظيم سياسي قائم بذاته يدير المعركة الانتخابية بتوجيه من القادة في الخرطوم وأم درمان (أمين، ص 113)، وكان مكتب الانتخابات بدار الأمة هو الذي يدير تلك المعركة.

العلاقة بكيان الأنصار

شكل الأنصار أكبر قطاع جماهيري للحزب، بالإضافة لطرق صوفية وقبائل شكلت رافدا جماهيريا آخر للحزب. وكان للإمام عبد الرحمن المهدي الذي بويع إماما للأنصار في 1359هـ/1940م أي قبل تكوين الحزب، ولكنه قبلها كان قائدا للأنصار بالتصدي، لم شعثهم وأقام تنظيماتهم وجعل الجزيرة أبا نواة لمجتمع أنصاري متكافل ومنتج. وقد مرت علاقة الحزب بكيان الأنصار بمراحل مختلفة، وبدأت في هذه المرحلة دستوريا بالنص على رعاية الإمام للحزب، وكانت الفكرة لدى الكثيرين هي أن الحزب مجرد ذراع للإمام عبد الرحمن في عمل السياسي.

سأل سرور رملي السيد عبد الرحمن المهدي عن موقعه من الحزب وعما إذا كان هو رئيسه فأجاب: “إنني جندي في الصف، ولكن الله سبحانه وتعالى وهبني من الإمكانيات ما لم يتيسر لكثير منكم، وسأهب هذه الإمكانيات وسأهب صحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السودان”. وحري بالذكر أن حزب الأمة لم ينتخب رئيسا له حتى فبراير عام 1949 حيث تم انتخاب الصديق المهدي رئيسا للحزب.

كانت تنظيمات الأنصار تقوم على الوكلاء وهم يمثلون قبائلهم ومناطقهم دوريا، وشيوخ الأنصار وهم يمثلون أحياء العاصمة المثلثة، وشباب الأنصار وهو تنظيم للشباب حاوله الإمام في عام 1942 ولكن السلطات أمرت بحلة في عام 1950 ثم سمح بتكوينه من جديد في 1952، وهيئة الملازمية وهي تنظيم يجمع الأشخاص المحيطين بالإمام مباشرة يساعدونه في أنشطته المختلفة. وقد ذكر السيد أمين مساعد سكرتير حزب الأمة حينها أن تنظيمات الأنصار ساعدت في إقامة لجان الحزب قال: (كانت لجان حزب الأمة التي كانت تعد بالآلاف وقد قامت في كل أحياء المدن والقرى والبادية، وكان إسهام وكلاء السيد الإمام والقيادات الإقليمية عظيما جدا متعاونين مع مركز قيادة الحزب في إنشاء هذه اللجان وربطها بالقيادات السياسية). (أمين ص 288 )

كان الأمين العام لتنظيم الشباب هو الأمير عبد الله نقد الله (مساعد سكرتير الحزب حينها)، وكانت أهدافه دينية وتربوية، وكان له دستوره وللشباب زيهم الخاص. ولكن ولأن الأنصار كانوا يعتبرون أحد أفرع الحزب تحت مقولة الإمام عبد الرحمن المهدي: كل أنصاري حزب أمة وليس كل حزب امة أنصاري، فقد استعين بذلك التنظيم في كل الحشودات الجماهيرية التي قام بها الحزب للتعبير عن آرائه حركيا.

يتضح إذن أن العلاقة بكيان الأنصار كانت تنحصر في النص رعاية الإمام للحزب دستوريا، ولكنها قامت على التنسيق بين عمل الحزب وتنظيمات الأنصار المختلفة بدون أن تكون هنالك لائحة أو أية وثيقة تنظم هذه العلاقة.

في هذه المرحلة استقر نظام الحزب على ثنائية بين كيان الأنصار القائم على ولاء ديني وقبلي للإمام والذي يمنح الحزب-الكيان السياسي الذي يقوم على المفردات والمفاهيم الحديثة- الدعم الشعبي والمادي ويرعاه حسب الدستور.

في بداية هذه  المرحلة كانت الصلاحيات السياسية الحاسمة إمامية إذ كان للإمام حق النقض في قرارات الحزب.. ولكن في هذه الفترة نفسها شهد الحزب أولى خطوات التطور نحو الانعتاق عن الأبوية الإمامية، حيث جاء البيان من الإمام عبد الرحمن المهدي  عام 1950م بتنازله عن حق النقض في قرارات الحزب كخطوة هامة.

المؤتمرات الحزبية

عقد مؤتمران للجان الفرعية للحزب في كل من 13-14 سبتمبر 1951م، وذلك لمناقشة مسألة عزم الحكومة المصرية إلغاء معاهدة سنة 1936م و1899م من طرف واحد، وعقد مؤتمر آخر استثنائي للجان الفرعية للحزب ونوابه في 12 ديسمبر 1953م لمناقشة نتائج الانتخابات وتحديد الخطوط العامة لسياسة الحزب في  الفترة المقبلة. (فيصل- ص 475، و652).

كانت تنظيمات الحزب القائمة على اللجان في غاية الدقة والانضباط، وكان سكرتير الحزب ومساعده يشرفان على مراجعة اللجان ومتابعة أخبارها ووصلها بالمركز أولا بأول. وكان الانضباط في تنظيم الحزب مستمدا من الهرم الإداري في المهدية من جهة، كما كان شكلا من أشكال الانضباط السائد في الخدمة المدنية آنذاك.

أما مالية الحزب فقد كانت مستندة تماما على دائرة المهدي التي أنشأها الإمام عبد الرحمن المهدي.

 

علاقات الحزب الخارجية في تلك الفترة

ذكرنا أن حزب الأمة تكون بهدف أول وهو تحقيق استقلال السودان، وجاء في بيانه التأسيسي أنه يسعى (للحصول على استقلال السودان بكامل حدوده الجغرافية مع المحافظة على الصلات الودية مع مصر وبريطانيا)، وقد عدد في البيان الجوانب التي ساعدت فيها مصر الشعب السوداني والروابط المشتركة وتقديمها للعلم للسودانيين، وكذلك عرفان الحزب ببناء المحسنين الإنجليز لمؤسسات تعليمية تمثلت في كلية غردون ومدرسة كتشنر الطبية.

واتخذ الحزب في سعيه للاستقلال وسيلة القبول بالمؤسسات التشريعية التي ابتدرتها الحكومة الاستعمارية الثنائية اسما والبريطانية فعلا، وذلك بأثر من ظروف القهر والعسف التي واجه بها البريطانيون الأنصار مما استحال قيامهم بأية حركة إلا في بالجهد المدني.  أما الرؤية السياسية المضادة لرؤية الحزب فقد تمثلت في الحركة الاتحادية بأحزابها المختلفة والتي قامت على فكرة الاتحاد تحت التاج المصري كهدف أساسي، ونظرت لمؤسسات التطور الدستوري البريطانية بريبة وقاطعتها ورمت كل من اشترك فيها بالعمالة لبريطانيا.

كما انضم الحزب لمؤتمر الشعوب لمناهضة الاستعمار الذي كونته جماعات من الأوربيين والأفارقة وغيرهم وكان رئيسه في أوربا مستر فنربروكواي وهو نائب بريطاني عمالي اشتراكي. (أمين التوم، 87).

لاحقا ومع تعقيد العلاقة بين الشريكين الاستعماريين، وتطور التجربة التشريعية السودانية، رسمت خرائط للعلاقات الخارجية متشعبة.

العلاقة بمصر

عارض حزب الأمة بشدة فكرة سيادة مصر على السودان استنادا على حق الفتح التركي، وقد سمم ذلك العلاقة بين الحزب وبين مصر فأطلقت أسهم إعلامها المقتدر والمنتشر في كل المنطقة ضده. في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الاتحادية تعمل على ضم السودان تحت التاج المصري، وقد حضر السيد إسماعيل الأزهري إلقاء بيان 8 أكتوبر 1951م من شرفة الزوار بالبرلمان المصري وقال معقبا عليه : (إن من واجبنا ألا ندخر جهدا ولا طاقة في كفاحنا للمستعمرين الغاصبين للشطر الجنوبي لوادي النيل، ولن نقيم لأرواحنا ولا لدمائنا وزنا في سبيل تحرير بلادنا وتحقيق أهدافها بجلاء الإنجليز من وادي النيل وتحقيق وحدته تحت تاج مليك مصر والسودان فاروق المفدى” (فيصل، 1998، ص 473).

وكان حزب الأمة يقف معارضا لهذا الخطاب بشكل أساسي. لكن ومع تحول الخطاب المصري بعد ثورة يوليو تطورت العلاقة بين الحزب وبين مصر، إلا أن الأيام أظهرت أن موقف الثورة المصرية لم يكن منطلقا من مبدأ احترام حقيقي لموقف السودانيين الرافض للتبعية، بل للعمل على ضم السودان للسلطة المصرية عبر الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي اجتمعت فيه كل الأحزاب الاتحادية ووحدت في مصر عام 1952م، ومولته الحكومة المصرية في الانتخابات بشكل أسفرت عنه نتائج التحقيقات مع أمين صندوق الحزب السيد خلف الله خالد، وكذلك مذكرات الرئيس محمد نجيب. ومن جديد سادت العلاقة بمصر التوتر وكانت في تلك الفترة أحد أسباب الأزمات داخل الحزب، وبين الأحزاب السودانية المختلفة.

العلاقة ببريطانيا

اشترك حزب الأمة في مؤسسات التطور الدستوري البريطانية على علاتها، اشترك بعض القادة الذين أسسوه في المجلس الاستشاري لشمال السودان (1943م) أي قبل إنشاء الحزب، واشتركوا كذلك في الجمعية التشريعية التي أنشأت كتطور عن ذلك المجلس للجمعية التشريعية في 1948. وحرص على علاقة تفاهم مستمرة مع طرفي الحكم الثنائي، ولكن القاهرة كانت تعتبره عدوها لعمله الدؤوب ضد ضم السودان تحت التاج المصري وهو ما عمل لأجله سودانيون آخرون. فتم وصمه بالعمالة لبريطانيا، بل لقد اعتبره بعض البريطانيين حليفا لهم في صراعهم مع المصريين.

وفي اللحظة المناسبة استطاع الحزب أن يمرر الأجندة الوطنية المتمثلة في الاستقلال التام من خلال مؤسسات البريطانيين ذاتها. قال الأستاذ المرحوم جمال محمد أحمد عن الجمعية التشريعية: (قصدت الإدارة البريطانية أن تكون الجمعية متنفسا فقط للأفكار الجديدة من الناس القدامى. لكن السودانيين نفخوا فيها روحا جعل منها مركبة في الطريق للاستقلال، طلبوا في الجمعية ان يمارسوا أولى خطوات الاستقلال المعروفة ذلك الوقت في المستعمرات البريطانية أعني الحكم الذاتي، وكان هذا الاقتراح أول اقتراح يتصل بعلاقات السودان بالخارج ورفضه الحاكم العام وأعوانه. رفضه لكنه عرف أن السودان يريد الاستقلال، لأن الذين تقدموا بالاقتراح كانوا من الجناح الوطني الذي ظنوه لن يفعل شيئا إلا بالتشاور معهم على الأقل. تقدم به حزب الأمة الذي ظنوه معهم. (جمال، في الدبلوماسية، ص 7).

ولذلك وكما رأينا فقد قامت الإدارة البريطانية في عام 1951م بتكوين حزب سياسي مضاد لحزب الأمة “الحزب الجمهوري الاشتراكي”.  فقام الحزب بتحرك أساسي في أقاليم السودان المختلفة وفي الصحف بهدف (هدم ما بناه البريطانيون في السودان على حساب حزب الأمة ودحض كل افتراءات نسبوها إلى زعماء حزب الأمة وإعادة من خرجوا على الحزب وانضموا إلى الحزب الجمهوري الاشتراكي) (أمين، ص 95).

لقد أظهر الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه (في كتاب: الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني 1936-1953م- دار الأمين- القاهرة- 1998م)  كيف قاد حزب الأمة معركته نحو الاستقلال مستغلا التناقض بين طرفي الحكم الثنائي، وأظهر البروفسر حسن احمد إبراهيم (في كتابه: الإمام عبد ا لرحمن المهدي) كيف ناور السيد عبد الرحمن المهدي البريطانيين وانتزع حزبه الاستقلال من بين مخالبهم استنادا على اللعبة الدستورية التي ادخلوها للبلاد كوسيلة لتسويف مطالب السودانيين.

العلاقة مع أمريكا

وإبان التفاوض المصري البريطاني بشان السودان تدخلت الحكومة الأمريكية التي كانت حريصة على العلاقة بمصر، تدخلت للضغط على الحكومة البريطانية لصالح مصر وحسم مسألة سيادتها على السودان باعتبار أن عدم القيام بذلك سيؤدي إلى فقدان مصر بأهميتها الإستراتيجية لصالح (ثمانية ملايين من الزنوج) هم الشعب السوداني بأسره!!. وقد كانت أمريكا تعول على اتفاقية الدفاع التي تضم مصر مع بريطانيا وأمريكا لحماية المصالح الغربية في المنطقة ومجابهة الخطر الشيوعي.

يقول دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه: “كان حزب الأمة يدرك أن تقدير مسألة الوصول إلى مرحلة الحكم الذاتي الكامل لن يحكمها مدى التطور الذي بلغه السودان وإنما درجة التقدم الذي تحرزه بريطانيا في مفاوضاتها مع مصر لتأمين المصالح الإستراتيجية البريطانية في مصر. وقد ثبت ذلك عمليا عندما تقدم حزب الأمة في الجمعية التشريعية في ديسمبر 1950 لمنح السودان الحكم الذاتي. وقد تضاعفت مخاوف حزب الأمة وشكوكه عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع البريطاني- المصري بشأن السودان ومارست ضغطا مكثفا على الحكومة البريطانية لتقديم تنازلات لمصر في السودان”. (فيصل، 1998م، ص 666)

لاحقا ومع دخول الثورة المصرية إثر عدة أسباب متعلقة بالمواجهة مع إسرائيل وطلبها للسلاح، دخولها في مركز الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الغربي الأمريكي والشرقي السوفيتي، تغيرت العلاقة بين أمريكا ومصر، وقد انجذبت الأخيرة للفلك الشرقي وفتحت أبوابها للخطاب اليساري داخليا مع كبت كل الخطابات المخالفة. في هذه الفترة تحول خطاب الأحزاب الاتحادية السودانية شرقا ولفظا لأية علاقة مع أمريكا. في ذلك الوقت لم ير حزب الأمة أن تحد علاقات السودان بالفلك المصري.

وإبان قيام الحكومة الائتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي كان حزب الأمة يرى ضرورة  بناء علاقات تعاون وصداقة مع جميع الدول، ورفض حزب الشعب الديمقراطي ذلك المنهج بأثر من الموقف المصري المجابه لتلك الدول حينها (على يدي الناصرية) معلنا أن تلك  العلاقات ستطيح باستقلال البلاد وتفتح الباب أمام عودة النفوذ الأجنبي للتدخل مرة أخرى في شؤون البلاد السياسية.

وعندما عرضت الإدارة الأمريكية مشروع أيزنهاور عام 1957م أثار ذلك المشروع (المعونة الأمريكية غير المشروطة للسودان) خلافات حادة بين الحزبين حيث أيد حزب الأمة ذلك المشروع في حين رفضه حزب الشعب الديمقراطي في الحكومة الائتلافية رفضاً قاطعاً.

بعض المحللين السياسيين السودانيين وتأثرا بالخطاب اليساري الذي ساد أجهزة الإعلام بل والكتابات التاريخية لفترة من الزمان، نظروا لموافقة حزب الأمة على مشروع آيزنهاور باعتباره عمالة لأمريكا وللغرب. والحقيقة هي أن مشروع المعونة الأمريكية لم يكن فيه أي تنازل عن السيادة الوطنية بل كان الحزب يناقش شروط قبول المعونة. وموقف حزب الشعب الديمقراطي ضد المعونة لم يكن يمكن تصوره إلا في ظلال موقف مصر من أمريكا حينها، فحزب الشعب الديمقراطي كان قبل الثورة مؤيدا لشعار الاتحاد تحت التاج المصري، وكان ذلك التاج حينها تابعا ذليلا للغرب، وكان حزب الأمة هو الذي يقف حجر عثرة أمام تحقيق المطالب الأمريكية حينها والتي تلح على بريطانيا لتعطي مصر السيادة على السودان كما ذكرنا.

لذلك يمكن أن نقول باطمئنان أنه في تلك الفترة من عمر السودان شكل الاستقطاب بين دعوتي الاستقلال التام والاتحاد مع مصر بوصلة وجهت العلاقات بين الأحزاب، والعلاقات بين الأحزاب وبين القوى الخارجية المختلفة، وكانت تلك المواقف وليست أية منطلقات أيديولوجية يمينية أو يسارية هي الموجه الأساسي للعلاقات الخارجية للأحزاب.

 

الانتصار في معركة الاستقلال

سعى الحزب منذ قيامه لإسماع الصوت السوداني الاستقلالي في المنابر الدولية ولحكومتي الحكم الثنائي، وبعد توقيع اتفاقية صدقي/ بيفن في 1946م وتصريحات صدقي بأنه أتى بالسيادة على السودان، صعد الحزب من حملته لمعارضة الاتفاق، وبادر بتكوين الجبهة الاستقلالية التي تشكلت في يوم الاثنين 28 أكتوبر 1946م بدار حزب الأمة لتعمل على إنهاء الحكم الثنائي، وتشكلت من حزب الأمة، وحزب القوميين الأحرار، وحزب الأحرار، والحزب الجمهوري، ونفر من المستقلين كان من بينهم السادة محمد احمد محجوب، وبشير محمد سعيد، وصالح عبد القادر، وعبد الرحيم الأمين. وعبرت عن آرائها بالمظاهرات الحاشدة، وتعطلت جلسات المجلس الاستشاري، وخف أهل الأقاليم للعاصمة في جموع لم يسبق لها مثل.. وفي 3 نوفمبر 1946م أصدر الإمام عبد الرحمن المهدي بيانا لتهدئة النفوس الثائرة. (نص البيان هنا)

وقد انضم للجبهة الاستقلالية لاحقا وفي 1954م الجبهة المعادية للاستعمار (التنظيم الذي تطور ليصير الحزب الشيوعي لاحقا)، ثم حزب الاستقلال الجمهوري (الذي كونه ثلاثة وزراء ختمية انشقوا عن حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري)، والحزب الجمهوري الاشتراكي، ووقف مع مطلبها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم.

قاد حزب الأمة معركة داخل الجمعية التشريعية التي اجتمعت ليومي الأربعاء والخميس 13 و14 ديسمبر 1950م لنيل الاستقلال، حيث تقدم في جلسة يوم الأربعاء محمد حاج الأمين ممثلا للاستقلاليين باقتراح يطالب فيه بالحكم الذاتي الفوري للسودان، نص الاقتراح كان/ (نحن أعضاء الجمعية التشريعية للسودان من رأينا أن السودان قد وصل المرحلة التي يمكنه فيها أن يمنح الحكم الذاتي، ونرجو من معاليكم الاتصال بدولتي الحكم الثنائي طالبين منهما إصدار تصريح مشترك بمنح الحكم الذاتي للسودان قبل نهاية الدورة الثالثة للجمعية الأولى، وأن تجري الانتخابات المقبلة على هذا الأساس).

وتدخلت حكومة السودان وسط مناصريها من الأعضاء للتشكيك في نية حزب الأمة بتكوين ملكية يرأسها السيد عبد الرحمن المهدي، وحشدت تكتلا واسعا ضد الاقتراح، وبالرغم من ذلك فقد فاز الاقتراح بصوت واحد (39 صوتا ضد 38) وذلك في جلسة الجمعية ليوم الخميس والتي استمرت لما بعد منتصف الليل.. حينها تأكدت السياسة البريطانية بجلاء إخفاق وسائلها في احتواء الحزب وقيادته، ودخلت معه بعدها في صراع سياسي مكشوف بتكوين حزب سياسي مضاد له اسمه الحزب الجمهوري الاشتراكي في عام 1951م.

وعلى الصعيد المصري، قاد الحزب حملة محمومة لتحقيق الاستقلال في مقابل الحملة التي قادتها مصر الرسمية، والأحزاب السودانية الاتحادية المناصرة لها لتحقيق اتحاد السودان تحت التاج المصري. ولكن قيام ثورة 23 يوليو 1952 بشر بقدوم عهد جديد اتخذت فيه مصر الرسمية مواقف أكثر تفهما لمسألة السودان، ونحت نحو التفاهم مع القوى السياسية السودانية الاستقلالية، ومع الحكومة البريطانية، ما أدى لتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان في 12 فبراير 1953، ثم إجراء انتخابات عامة في نوفمبر وديسمبر 1953، والتي هزم فيها حزب الأمة لعدة أسباب أهما اثنان:

  • التدخل السافر للحكومة المصرية لتمويل الحزب الوطني الاتحادي بأشكال مباشرة وغير مباشرة.
  • القوة النسبية لحزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي في مجلس النواب لم تعكس جملة الأصوات التي حصل عليها الحزبان في دوائر الانتخاب المباشر. فقد صوت حوالي 229.221 ناخب لمرشحي الاتحادي وحصل على 43 مقعدا. وصوت حوالي 190.822 ناخب لمرشحي الأمة ونال 22 مقعدا فقط. ذلك لأن متوسط عدد الناخبين في مناطق الختمية –المساندون للاتحادي- كان أقل من متوسط عدد الناخبين في الدوائر الأخرى. وكانت لجنة الانتخابات قد لفتت النظر في تقريرها الختامي إلى الاختلافات الشاسعة في حجم الدوائر وأوصت بإعادة توزيعها، وهو ما لم يحدث.

النزاع الأول داخل الحزب: قيام الحزب الجمهوري الاشتراكي

لقد ذكرنا كيف أقيم هذا الحزب لإضعاف حزب الأمة، وننقل هنا نصا ما ذكره الباحث الأستاذ الفاتح عبد الله عبد السلام حول هذا النزاع في ورقته بعنوان: النزاعات داخل الأحزاب- حالة حزب الأمة. يقول:

(قدم نواب الحزب في الجمعية التشريعية اقتراحا في أواخر عام 1950 يطالبون فيه بمنح السودان الحكم الذاتي.[1] وكما هو متوقع فقد سبب الاقتراح الذي قدمه حزب الأمة انزعاجا شديدا داخل دوائر سلطات الحكم الثنائي.شعرت القاهرة بأن ذلك الاقتراح لو استطاع الحصول على أصوات كافية داخل الجمعية فانه سيضر بوقف مصر في السودان والقائم على وحدة وادي النيل.وكخطوة أولى طلب رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس من الحاكم العام البريطاني في السودان منع الجمعية التشريعية من مناقشة الاقتراح وفي نفس الوقت أبرق محمد صلاح الدين في لندن لممارسة الضغط على الحكومة البريطانية لإجهاض احتمال أتعلان استقلال السودان من طرف واحد.

كان للحكومة البريطانية أسبابها الخاصة للنظر لاقتراح حزب الأمة كاقتراح خاطئ،ونتيجة لذلك وجه الحاكم العام في الخرطوم بألا تجيز الجمعية التشريعية الاقتراح.

تبنت الإدارة البريطانية هذه السياسة للأسباب الآتية:

  • 1) لبريطانيا مصالح سياسية وإستراتيجية حيوية في مصر وقد شعرت بريطانيا بأن أية خطوة تضر بالمصالح المصرية في السودان ستصيب المصالح البريطانية بالضرر لا سيما التسهيلات العسكرية في منطقة السويس.
  • 2) شعرت الحكومة البريطانية أن السودان لم يكن مستعدا للحكم الذاتي.
  • 3) شعرت الحكومة البريطانية بالإساءة من اقتراح حزب الأمة لأنه قدم باستعجال دون تشاور مسبق مع الإدارة البريطانية.
  • 4) قدرت الإدارة البريطانية محقة أن الجمعية التشريعية بالرغم من أنها صنعتها- لا تمثل كل الشعب السوداني لأن الأمم المتحدة قاطعتها.

أعقب ذلك صراع مرير داخل الجمعية التشريعية بين الأعضاء البريطانيين ونواب حزب الأمة.كان الفريق الأول يحاول إثناء الفريق الثاني عن تأييد الاقتراح،ونتيجة لذلك بلغت العلاقة بين الأمة والبريطانيين الحضيض.

في أثناء المناكفة طلب السير ج.روبرسون السكرتير الإداري- مهلة للجمعية كسبا للوقت حتى تهدأ العواطف ،ولكن ذلك الأسلوب لم ينجح فكان لابد من نهج مباشر لإحباط خطط حزب الأمة،فقدم يوسف العجب الزعيم القبلي من منطقة الدندر اقتراحا مضادا لاقتراح حزب الأمة.[2] سبب الاقتراح والاقتراح المضاد شرخا عميقا بين حزب الأمة والإدارة البريطانية.فبالنسبة للبريطانيين لم يعد حزب الأمة حليفا يعتمد عليه.بلغ ذلك التصعيد ذروته حينما حاز اقتراح حزب الأمة على أغلبية ضئيلة بلغت 39 مقابل 38 صوتا.

لما اكتشفت الإدارة البريطانية أن حزب الأمة لم يعد من الممكن شكمه شجعت-بكتمان- إنشاء حزب جديد موال للخط البريطاني ومعاد لميول حزب الأمة.تكون الحزب الجديد-الذي حمل اسم الحزب الجمهوري الاشتراكي- بصورة أساسية من زعماء القبائل في الجمعية التشريعية وعدد من كبار موظفي الخدمة المدنية.ومما شجع على استقطاب الفئتين تخوفهما من هيمنة أبناء المهدية.

اختار الحزب الجمهوري الاشتراكي إبراهيم بدري كأول رئيس له،وكان من أبرز قياداته، القادة القبليون:يوسف العجب،إبراهيم موسى مادبو،أبو سن.كانت أصداء إنشاء الحزب السياسي الجديد وسط الأحزاب الأخرى مدهشة:فإذا رأى حزب الأمة والمجموعات الاتحادية أي موضوع يستحق النظر فهو اعتقادهم الراسخ بأن الحزب الجمهوري الاشتراكي تم إنشاؤه بتحريض من الإدارة البريطانية.

وتتضح حقيقة أن الحزب الجديد كان يهدف لتحطيم المكاسب السياسية للسيد عبد الرحمن المهدي من اسمه،:الاشتراكي:لإحراج المهدي بتصويره كلورد إقطاعي تعمل في مؤسساته الاقتصادية جماهير الأنصار بدون أجر.والجمهوري: لمعارضة الفكرة الشائعة في ذلك الوقت بأن حزب الأمة يسعى لتتويج راعيه ملكا على السودان عقب استقلاله.ومن السخرية أننا نلاحظ أن مؤسسي الحزب الجمهوري الاشتراكي- وهم في غالبيتهم إما زعماء قبائل أو من كبار الموظفين البيروقراطيين-ليست لهم اتجاهات اشتراكية ولا جمهورية.

كان طبيعيا أن يتعرض الحزب الجديد لستار كثيف من الدعاية من قبل حزب الأمة لأن قاعدة الولاء السياسي لأعضائه كانت في الغالب من حزب الأمة الذين تم استقطابهم تحت ترغيب وضغط السلطات البريطانية للالتحاق بالحزب الجديد.وهناك مثال توضيحي لذلك وهو حالة بابو نمر ناظر قبيلة المسيرية بكردفان،فقد كان أنصاريا راسخا وكان متزوجا من حفيدة السيد عبد الرحمن المهدي.كانت نظارته مكونة من ثلاث وحدات: الزرق،الفلايتة والعجايرة.لعب البريطانيون بمهارة على هذا الخلل وذلك بتهديدهم بإعطاء المسيرية الزرق والفلايتة وضعا مستقلا يتم به تفتيت نظارة نمر إذا لم يذعن وينضم لصفوف الحزب الجمهوري الاشتراكي. واجه نمر خيارين صعبين ولكن السيد عبد الرحمن أنقذه من الحرج حينما نصحه بالانضمام للحزب الجمهوري الاشتراكي ليحفظ وحدة نظارته.

كذلك وقع السيد عبد الجبار حسين زاكي الدين ناظر قبيلة البديرية بكردفان تحت نفس الضغوط من قبل حاكم كردفان ومعتمد المحلية.ولكن وضع زاكي الدين لم يكن مهددا كوضع نمر.نجح زاكي الدين في مقاومة الضغوط البريطانية لإلحاقه بالحزب الجمهوري الاشتراكي.[3]

لم يتصل البريطانيون الرسميون مباشرة بالأمين علي عيسى ناظر قبيلة الأجانق بالدلنج في جنوب كردفان كما هو الحال في المثالين السابقين(نمر وزاكي الدين)،بدلا عن ذلك اتصل به النظار: أبو سن ومحمد تمساح وبابو نمر وأوضحوا له أهداف الحزب الجمهوري الاشتراكي وهي بصورة أساسية منع السيد عبد الرحمن المهدي من أن يصبح ملكا على السودان.بعد أن انخرط الناظر عيسى في الحزب الجمهوري الاشتراكي تمت مكافأته بمنحه رتبة “سير” في الإمبراطورية البريطانية.وعلى كل فقد رجع إلى حزب الأمة بعد الانتخابات البرلمانية في عام 1953.[4]

وعكسا للآمال العراض للإدارة البريطانية بأن يخرج الحزب الجمهوري الاشتراكي منتصرا من انتخابات 1953 فقد مني الحزب بهزيمة صاعقة:إذ كسب فقط ثلاثة مقاعد في مجلس النواب ولم يكسب أي مقعد في مجلس الشيوخ.كان ثلاثة الفائزين بلا استثناء زعماء قبائل[5].هذه الحقيقة تعطي دليلا ماديا على أنهم إنما فازوا نتيجة للولاء القبلي أكثر من الولاء للحزب.

بعد هذا الأداء الضعيف تقلص الحزب واختار كثير من أعضائه الرجوع لقواعدهم الأصلية مرة أخرى.

أما بالنسبة لتأثير إنشاء الحزب الجمهوري الاشتراكي على حزب الأمة فإننا نعتقد بأنه تأثير ضعيف.وفي الحقيقة فان اثنين من المقاعد الثلاثة التي كسبها الحزب لم تكن مناطق نفوذ تقليدي لحزب الأمة.[6] الخسارة الكبيرة لحزب الأمة في انتخابات 1953 يمكن عزوها لعوامل مختلفة تماما ولا علاقة لها بظهور الحزب الجمهوري الاشتراكي.وفي حقيقة الأمر يمكننا أن نجرؤ ونقول بأن محاولة البريطانيين “لتأديب” حزب الأمة قد جاءت بنتيجة عكسية تماما حيث قوت صفوف الحزب الذي أحست قيادته بضرورة مقاومة محاولات التفتيت بل والقضاء التام.) (انتهت الفقرة المنقولة من ورقة الدكتور الفاتح عبد الله عبد السلام).

عودة لما بعد الانتخابات :

اعتبر الاتحاديون فوزهم هذا تأكيدا لتأييد الشعب السوداني الاتحاد مع مصر، ورفض الاستقلاليون ذلك، ودخل الجانبان في صراع مرير. وكان بعض الاستقلاليين يرون عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات ولكن بعد مداولة الرأي قررت الحركة الاستقلالية قبول نتيجة الانتخابات والعمل بالوسائل الدستورية والسياسية لنقضها فقرروا تنظيم المعارضة للاتجاه الاتحادي داخل البرلمان وخارجه واستقطاب كل القوى السياسية غير الاتحادية الشعبية والفئوية وتعبئة الرأي العام السوداني للتمسك بالاستقلال في القرى والمدن والبوادي، وفي مدة وجيزة بعد الهزيمة في الانتخابات استعادوا روحهم ا لمعنوية. وصار الرئيس إسماعيل الأزهري يسافر إلى مدن السودان وأقاليمه فيستقبل استقبالات شعبية كبيرة يحمل الناس فيها الأعلام ويهتفون: عاش السودان حرا مستقلا.

حوادث مارس 1954

تقرر افتتاح البرلمان السوداني رسميا في أول مارس 1954م وقررت الحركة الاستقلالية مقابلة المدعويين للافتتاح وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب باستقبالات شعبية كبيرة لإسماعهم صوت الاستقلال فلا تكون المناسبة مجالا لدعاية منفردة للاتجاه الاتحادي. عندما وصل اللواء محمد نجيب قرر المشرفون على خط سير موكبه تعديل خط السير، فقرر المشرفون على الاستقبال بقيادة الأمير عبدالله عبدالرحمن نقد الله أن يتحول الموكب لحيث إقامة اللواء في القصر الجمهوري لاسماعه صوت الاستقلاليين، ولكن سلطات الأمن منعت الموكب بالقوة فوقع صدام مؤسف راح ضحيته العديد من الأرواح من الجانبين. وأقيمت محاكمة لقادة الموكب برأتهم من تدبير الأحداث وأدانت بعضهم بالشغب ومخالفة الأوامر.

لقد أدت تلك الحوادث للعديد من الاتهامات لحزب الأمة بممارسة العنف والهمجية، بينما وقف قادة الحزب يؤكدون براءة الحزب وأفراده من التخطيط للعنف أو التربص للموكب وعدت الحوادث دليلا على البطولة والفدائية في مواجهة الذخيرة النارية بالصدور العارية.. ولعل شهادة اللواء محمد نجيب التي دونها في مذكراته تساند أقوال حزب الأمة إذ كتب أنه يعتقد أن الاستقلاليين كانوا على حق وأنهم لم يطلبون سوى مروره بمكان الاستقبال الشعبي والذي كان سيكون كافيا لإرضائهم، واتهم الانجليز بتدبير الحوادث لإحداث انهيار دستوري فتعود السلطات للحاكم العام.. ومهما كان من نوايا المشرفين على الموكب، فإن حوادث مارس على مرارتها وعنفها لم تحرف الصراع من خطه السياسي والدستوري.

الطريق نحو الاستقلال:

استمرت الحركة الاستقلالية في خطتها التعبوية واتسعت قواعدها اتساعا هائلا، ففي أكتوبر 1954م انضمت الجبهة المعادية للاستعمار للجبهة الاستقلالية، كذلك انضمت إليها الجماعة الإسلامية وانضم إليها اتحاد عمال السودان واتحاد مزارعي الجزيرة. ثم أرسل اتحاد الطلبة السودانيين بالمملكة المتحدة برقية لحكومة الرئيس الأزهري يطالب باستقلال السودان. وفي يناير 1955م قرر اتحاد طلبة كلية الخرطوم الجامعية تأييد الاستقلال.

هكذا أطل عام 1955 ليجد الحركة الاستقلالية قد صارت التيار الأقوى في الشارع السوداني. وقد ساهم ذلك ضمن عوامل أخرى منها انشقاق الحركة الاتحادية حول تفسير الاتحاد، وتعاظم تدخل الساسة المصريون خاصة الرائد صلاح سالم في تسيير أمور السودان، إلى إعلان الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري رأيا حول مصير السودان وهو قيام جمهورية مستقلة ذات سيادة ثم وضع تفصيلات تتعلق بالرباط مع مصر لإرضاء الأقلية التي ما زالت تتمسك بالاتحاد.. بهذا الموقف اتحدت الحركة السياسية حول مطلب الاستقلال، وعضد من ذلك الاجماع وقوع حوادث التمرد في الجنوب في أغسطس 1955م، والتي أدت إلى مزيد من التأكيد أن السودان عليه أن يتحد شمالا وجنوبا ويحل إشكالات التنافر القومي قبل الحديث عن اتحاد مع دولة أخرى…

هكذا أعلن الاستقلال باجماع الآراء في البرلمان في 23 ديسمبر 1955. وتم إعلان استقلال السودان بتاريخ 1 يناير 1956م.

هكذا حقق حزب الأمة بالتضافر مع جهود الوطنيين المخلصين شعاره الأول لفترة التحرير : السودان للسودانيين. وابتدأ بذلك عهدا جديدا.. ولكل مقام كان للحزب مقال.

حكومة الاستقلال: 1956- 1958:

جرت انتخابات 1956م والقوى الكبيرة فيها هما حزبي الوطني الاتحادي والأمة، ونال فيها الأول أغلبية مريحة لتشكيل حكومته. ولكن سرعانما تتالت الانقسامات داخل الحزب الوطني الاتحادي بعد دخول الأزهري في مواجهة مع السيد علي الميرغني زعيم الختمية. وبذلك ابتدأ عهد المناحرات والتحالفات السياسية المتلاحقة بين الأطراف المختلفة في الساحة السياسية السودانية.

في هذه الفترة جرى حادث جودة (18 فبراير 1956م) حيث رفض مئات من مزارعي النيل الأبيض تسليم القطن للحكومة لتاخر صرف استحقاقاتهم وخرجوا في  موكب واصطدموا بالشرطة التي قبضت على 281 مزارع زج بهم كسجناء في عنبر جودة، ومات 189 منهم بالاختناق. هذا الحدث هز الحكومة وصعد من معارضتها داخل حزب الأمة والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين، وأضاف للأزمة التي كانت تواجهها.

وفي نهاية يونيو 1956 سقطت حكومة الأزهري وتم تشكيل حكومة ائتلاف من حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي الموالي للختمية، برئاسة السيد عبد الله خليل، وقدمت عدة إنجازات حيث أكملت ضم السودان كدولة مستقلة للمنابر الدولية من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة. وأكملت سك العملة وكتبت قانون الانتخابات البرلمانية ووضعت قانون الجمعية التأسيسية التي ستكتب دستور البلاد الدائم، واتخذت قرارات هامة وعملية لإسكان العرب الرحل، وقامت على إعادة السلام في الجنوب بعد حوادث التمرد في 1955. ثم أجرت الانتخابات العامة في 1958م.

النزاع الثاني داخل حزب الأمة: حزب التحرير الوطني 1957م:

هذه الفقرات حول النزاع الثاني مأخوذة عن ورقة الدكتور الفاتح عبد الله عبد السلام:

(هذا النزاع كان أصغر حجما من الأول.وكسابقه فقد تمت هندسته بواسطة قوة أجنبية هذه المرة كانت مصر. حدث هذا النزاع بعد أشهر قليلة من لقاء السيدين التاريخي:السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني في1956.نتج عن تخفيف التوتر بين الأنصار والختمية إزاحة الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري من الحكومة وتكوين ائتلاف جديد بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي.

وتعزى الطبيعة المحدودة لهذا النزاع لحقيقة أن المحرضين عليه هم عدد من أسرة الخليفة عبد الله يساندهم جزء صغير من أقربائهم من قبيلة التعايشة.).. (فمع بروز المهدية الجديدة المبتدئة في العشرينيات (من القرن العشرين) برز السيد عبد الرحمن ساطعا قويا بلا منافس وبجموع الأنصار موحدة ومسلمة بقيادته. أبعد أبناء الخليفة النافذون في السابق إلى الخلف. وكان الكبار منهم (مثل عمر) قد تلقوا تعليمهم بمصر وتأثروا عميقا بالأفكار السياسية المصرية بما فيها تلك المتعلقة بوحدة وادي النيل.نجح عمر في استمالة بعض إخوانه وأقربائه من المعسكر الاستقلالي الذي يقوده السيد عبد الرحمن المهدي.لم يضيع البريطانيون هذه الفرصة فقد شجعوا اتجاه تفتيت الحركة المهدية بتشجيعهم انقسامها لعدة معسكرات.شعر أبناء الخليفة بمرارة شديدة ذلك أن السيد عبد الرحمن بدأ يحيط نفسه بمعاونين ومستشارين ليسوا من خلفيات أنصارية.ولد هذا الأمر أزمة ثقة بين بيوت القيادات الأنصارية.فقد شعر أبناء الخليفة بأن “العناصر الدخيلة” أزاحتهم من مواقعهم ” الطبيعية” في قيادة حركة المهدية الجديدة.[7] اعتقد أبناء الخليفة بأن دورهم في فترة المهدية الجديدة يجب أن يتناسب مع دور الخليفة أثناء المهدية.لما تم تكوين حزب الأمة في منتصف الأربعينيات قاطعه بعض أبناء الخليفة ورفضوا الانضمام إلى صفوفه.وفي انتخابات 1953 سمى حزب الأمة بعض أعضائه القياديين لخوض الانتخابات في مناطق كردفان ودارفور الريفية.).. (شعر الفصيل المتمرد من أسرة الخليفة بواجبه في تحرير مواطنيهم في غرب السودان من ربقة تسلط المهدية ولذلك جاء اسم حزبهم الجديد:”حزب التحرير الوطني”.ولإظهار علاقة الحاضر بالماضي استخدموا الراية الزرقاء:راية الخليفة شعارا لهم.وأشار بعضهم لحزبهم الجديد باسم “حزب الأمة الحق”بمعنى الأصلي أو الحقيقي، ربما في إشارة لأن حزب التحرير هو الممثل الحقيقي للأنصار.

استقال محمد داؤود الخليفة وعبد الله الأمير إسماعيل من وظائفهما الحكومية ووجها جهودهما لسكرتارية الحزب الجديد).. (ولما أصبح معلوما أن محمد الخليفة عبد الله سيخوض الانتخابات في دائرة كوستي الجنوبية تحت مظلة حزب التحرير الوطني،أمر السيد عبد الرحمن ابنه الهادي بمنافسة محمد في نفس الدائرة.نجح الهادي في إحراز نصر زلزالي على ابن عمته.كما عانى كل مرشحي حزب التحرير الوطني من نفس الهزائم الساحقة في انتخابات57/1958 فاقدين حتى أقاصي أقاليم الغرب وسط أهليهم.صوت أعضاء قبيلة التعايشة بأغلبية ساحقة لمرشحي السيد عبد الرحمن لارتباطهم معه بالبيعة.بالإضافة للبيعة أصدر السيد عبد الرحمن إعلانا في عام 1958 فضح فيه العناصر التي خرجت من حزب الأمة ووصمهم بالخيانة لفشلهم في الوفاء ببيعتهم.[8]

بعد لقاء السيدين وائتلاف حزب الشعب الديمقراطي وحزب الأمة وجد الحزب الوطني الاتحادي في حزب التحرير الوطني وفي الجبهة المعادية للاستعمار حلفاء ممتازين.

علق أحد التنفيذيين في حزب التحرير الوطني قائلا: في أثناء الانتخابات العامة نسقنا مع حسين الشريف الهندي-من الوطني الاتحادي- وأحمد سليمان من الجبهة المعادية للاستعمار.[9]

كان لكثير من قيادات حزب الأمة اعتقاد راسخ بأن حزب التحرير الوطني تكون بتحريض من مصر لتفتيت وحدة حزب الأمة وأن مصر دعمت الحزب ماديا ومعنويا.[10]كسبت هذه التهمة رواجا لأن زعيم الحزب:عمر الخليفة تلقى تعليمه في مصر وكان مخلصا في دعمه لمبادئ وحدة وادي النيل.)

(لم يعمر حزب التحرير طويلا فقد وضعت انتخابات 57/1958 حدا لأهدافه ومقاصده.

وبعد وفاة السيد عبد الرحمن في1959 خلفه ابنه الأكبر الصديق إماما.وفي مواجهة الطغمة العسكرية القاسية رفع الإمام الجديد راية المصالحة فاستجاب ابن الخليفة للنداء ورجع والتحق بحزب الأمة.) (انتهت الفقرات المنقولة من ورقة الدكتور الفاتح عبد الله عبد السلام).

انتخابات عام 1958

خاضت أحزاب الوطني الاتحادي –متحالفا مع قوى اليسار في الغالب- وحزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي انتخابات عام 1958م فنالت : 62 مقعدا للأمة، 40 مقعدا للحزب الوطني الاتحادي، و26 مقعدا لحزب الشعب الديمقراطي.و37 نائبا للأحزاب الجنوبية.

حكومة السيد عبد الله خليل الثانية

تكونت إثر تلك الانتخابات حكومة ائتلاف الأمة- الشعب مرة أخرى برئاسة السيد عبد الله خليل، والتي واجهت العديد من المشاكل تسبب في بعضها عدم الانسجام بين طرفي الائتلاف وعدم المقدرة على تسيير دفة الحكم في ظل ائتلاف هش وعاجز. وكذلك الأزمة الاقتصادية التي أعقبت حالة من الرفاهية.

توتر الائتلاف

اتهم حزب الشعب حزب الأمة بأنه لم يسانده كما يجب في دوائر نفوذه مما قوى موقف منافسه الوطني الاتحادي. كما اختلف الطرفان حول عدة مواقف:

أولا إزاء مسألة حلايب حيث تحركت في مطلع 1958م قوات مصرية لاحتلالها ووقف رئيس الوزراء موقفا قويا وأرسل على الفور فرقة مدرعة من قوة دفاع السودان لاسترداد أي شبر سوداني، وقام المصريون تحت الحكم الناصري حينها ببث شائعات حول نية حزب الأمة تسليم حلايب لقاء المعونة الأمريكية، وكل هذا كان عار عن الصحة ولكن حزب الشعب الديمقراطي كان أقرب إلى تأييد الموقف المصري.

ثانيا: تراجع وزراء الشعب بعد موافقتهم على المعونة:

نفس الشيء كان إزاء الموقف من اتفاقية العون الاقتصادي للإنشاء والتعمير بين جمهورية السودان والحكومة الأمريكية. ففي مارس 1957م عرضت حكومة الولايات المتحدة على جمهورية السودان اقتراحا بتقديم مساعدات في المجالات الاقتصادية والتعليمية وفي مجالات التدريب، ومن حيث المبدأ وافق مجلس الوراء بالإجماع على الدخول في المفاوضات، وبعد نهايتها وإكمال صياغة مشروع الاتفاقية عرض على مجلس الوزراء وقبل أيضا بالإجماع، ولكن حينما تقدم السيد إبراهيم أحمد وزير المالية والاقتصاد بمشروع قانون اتفاقية العون الاقتصادي للإنشاء والتعمير بين السودان وأمريكا للقراءة الثانية في البرلمان، اعترض عليه الشيخ علي عبد الرحمن ومعه بعض وزراء حزب الشعب الذين سبق وأجازوا المشروع داخل المجلس ، وفي النهاية برغم معارضة نواب التحادي الديمقراطي فقد أجيز المشروع عبر الجمعية التأسيسية. (أمين، 160)

والسبب الثالث للتوتر بين قطبي الائتلاف كان موقف بعض وزراء حزب الشعب الديمقراطي وعلى رأسهم الشيخ علي عبد الرحمن من تعطيل كتابة الدستور الدائم وأعمال لجنته التي بدأت في 22 سبتمبر 1956م.

الأزمة الاقتصادية

كان السودان عشية الاستقلال يملك رصيدا ماليا بلغ 77 مليون جنيه إسترليني، وكانت أسعار القطن والصمغ والحبوب الزيتية معقولة في أسواق العالم والمنتوج منها كذلك. إن من أهم مشاكل الاقتصاد حينها أنه كان يعتمد أساسا على زراعة القطن وتصديره، مما يجعله عالة على الاقتصاد الأجنبي ويجعله متأثرا بذبذبة الإنتاج بصورة مريعة.

في عام 1958م كان وضع السودان بالنسبة لإنتاج القطن، وكذلك بالنسبة لأسعاره العالمية في أدنى أحواله. فلو راجعنا جداول إنتاج القطن لوجدنا أن الإنتاج في السنة 57-1958م بلغ 1061 ألف قنطار وهو يعد أقل الأرقام طيلة السنوات (55-1963م)، حيث كان في العام السابق له 2861 قنطارا وكان في التي تليه 2663قنطارا. أما أسعار القطن العالمية في تلك السنة (1958م) فقد بلغ أيضا أسوأ منسوباته حيث وصل 34,59 سنتا أمريكيا للرطل بينما كان 48,51 في العام السابق، و41,63 في العام التالي.. وقد شكل هذا السعر أسوأ سعر للقطن في الفترة ما بين (56-1961).. وقد أشار لذلك عدد من الباحثين الذين يؤكدون خطورة الاعتماد الكلي على القطن وقالوا: إن إنتاج القطن في عام 1957-1958 يبين بوضوح أن اعتماد الاقتصاد السوداني على القطن يؤدي إلى مشاكل اقتصادية كثيرة (ترجمة هنري رياض، ص 13-16).

ومع هذا النزول المريع في ريع القطن لذلك العام، كان الرصيد في خزانة الدولة على وشك النفاد (جمال ص 15).  وقد كان صرف الحكومتين منذ الاستقلال أقرب للبذخ، وكمثال نورد ما ذكره الأستاذ جمال محمد احمد من أوجه الصرف لدى السفراء حيث قال (أكثر السفراء لما سافروا لمحطاتهم كانوا يحمون في حقائبهم مبالغ كبيرة. سافر لبغداد مثلا دبلوماسيان اثنان، ومعهما كاتب- محاسب، وفي الحقيبة خمسة آلاف جنيه إسترليني، اشترت منها سجاجيد من إيران وشوك وصحون ومعالق ومعدات أكل تكفي ثمانين مدعوا، وبقيت مع هذا بقية ساعدت في إنشاء مكتب لها في بيروت) وقد سافر السيد عبد الله خليل ذلك العام للعراق، باعتباره بلد صديق لأن حاكمه نوري السعيد كان يعضد استقلال السودان عن مصر، وطلب منه مساعدة السودان بقرض أو عون ولكنه لم يبلغ مبتغاه. (جمال ص 19).

تمثلت الأزمة الاقتصادية حينها في قلة المباع من محصول القطن، قلة رصيد البلاد من العملات الأجنبية، والاستيراد وانعدام بعض السلع الضرورية. (حاج موسى ص 191).

تفاقم الأزمات الوطنية

بدأت عدة أزمات وطنية أشرنا لها آنفا بالبروز بعد الانتخابات في عام 1958م، حيث ساد التوتر علاقة الحزبين المؤتلفين، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، وساد جو من الترقب وتتابعت التقارير السرية عن تحركات مشبوهة للملحق العسكري في السفارة المصرية تحضيرا لانقلاب ناصري، وفي ظل هذا التوتر وانعدام الثقة والاختلاف إزاء معظم السياسات الداخلية والخارجية ظهر التململ الشعبي باديا في المظاهرات وفي التذمر من الجميع بما في ذلك الحزبين الحاكمين.

داخل حزب الأمة تبنى رئيس الحزب حينها- الصديق المهدي رأيا مفاده أن الائتلاف الذي يناسب الحزب هو التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري، وقد عارض ذلك الاتجاه السكرتير العام عبد الله خليل- والذي كان حينها رئيسا للوزراء.

وفي اجتماع بمنزل رئيس الحزب في أوائل سبتمبر 1958م دعا له السيد عبد الله خليل بحضور قادة حزبه وكبار قيادات الجيش، تمت مناقشة الأزمة الوطنية ، ووصف الصديق المهدي رئيس الحزب الوضع بأنه غير مستقر واقترح أن يكون وزير الدفاع من الجيش لأن ذلك من شأنه أن يساعد على الاستقرار. بحث هذا الاجتماع ولقاءات غيره إمكانية الخروج من أزمة البلاد، وعرضت فكرة الانقلاب وتسليم السلطة للجيش ولكن تم استبعادها في تلك اللقاءات.

وأثناء مناقشة أزمة البلاد وموقف الحزب عرض السكرتير العام على أجهزة الحزب القيادية اقتراح تسليم السلطة لقيادة القوات المسلحة لتنقذ البلاد مما هي فيه من قلاقل، ولحماية سيادة البلاد ومنع أي اتجاه اتحادي محتمل مع مصر. وحينما عرض السيد خليل الفكرة داخل مجلس إدارة الحزب المكون من 15 شخصا، رفض هذا المقترح بالأغلبية الساحقة حيث رفضه 13 من أعضاء مجلس الإدارة من بينهم رئيس الحزب، ولم يؤيده إلا سكرتير الحزب وعضو آخر.  وظل الاستقطاب داخل الطرفين حول الخروج من الأزمة السياسية مستمرا.

الدعوة للحكومة القومية

لما لم تنجح المفاوضات الثنائية بين الأحزاب الثلاثة الكبيرة فكر بعض قادة الحزبين المؤتلفين في تشكيل حكومة قومية من جميع الأحزاب الممثلة في البرلمان للخروج من الأزمة السياسية التي استحكمت. وحسب إفادة السيد عبد الله عبد الرحمن نقد الله للجنة التحقيق القضائية التي كونت بعد ثورة أكتوبر للتحقيق في المسئولية عن الانقلاب: “تمت الاتصالات من جانب حزب الأمة بغرض التفاهم على حكومة قومية وقد تطورت الأزمة إلى أن قدمنا نحن وزراء حزب الأمة استقالات فردية لرئيس الوزراء، وذكرنا فيها أننا نستقبل لنمكنه من تكوين حكومة قومية تسير البلد”. (حاج موسى، ص 190).

وأفاد السيد محمد صالح الشنقيطي رئيس مجلس النواب حينها أمام لجنة التحقيق أن لجنة وساطة برئاسته قد شكلت للعمل على إيجاد حكومة قومية تخرج البلاد من الأزمة، أعضاء اللجنة كانوا بالإضافة للشنقيطي: عبد الحافظ عبد المنعم، بشير محمد سعيد، أحمد خير، ود. التجاني الماحي. أفاد الشنقيطي بأن هذه اللجنة وجدت صعوبة في الاتصال بزعيم طائفة الختمية وراعي حزب الشعب مما أدى إلى فشل مسعاها لتشكيل حكومة قومية، ولكنها رغم ذلك واصلت محاولاتها إيمانا منها بأن الحل الوحيد للخروج من الأزمة السياسية يكمن في قيام حكومة قومية. (حاج موسى، هامش ص 191)

تبنى هذه الدعوة رئيس حزب الأمة الذي كان قد سافر في رحلة علاجية إلى سويسرا في أوائل نوفمبر، فخاطب راعي الحزب السيد عبد الرحمن المهدي في 5/11/1958م  بخطاب يرجو فيه أن يتصل بنواب حزب الأمة لتوكيد الثقة في الحكومة ويؤجل انعقاد البرلمان ريثما يتم تكوين حكومة قومية بنسب نواب كل حزب في البرلمان. (نص الخطاب الكامل هنا).

ولكن رئيس الوزراء قدر أن المخاوف التي يراها ماثلة لا تحتمل التأخير، إذ أنه في تلك الفترة سافر زعماء من الحزبين الاتحادي الديمقراطي والشعب الديمقراطي في القاهرة. حيث سافر السيد علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي ووزير التجارة آنذاك دون أن يخطر رئيس الوزراء بذلك، كما سافر إلى بغداد السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي لتهنئة الشعب العراقي بثورة تموز(يوليو) 1958م، ومن بغداد عرج على القاهرة حيث واصل اتصالاته مع السيد علي عبد  الرحمن، وانتشرت إشاعة لقائهما واتفاقهما مع القادة المصريين على إعلان اتحاد مصر والسودان وقد نشر هذا الخبر في صحيفة فرنسية..

تسليم السلطة لعبود 17 نوفمبر 1958م

خبر عزم إعلان الاتحاد مع مصر زاد مخاوف رئيس الوزراء وسكرتير حزب الأمة وجعله يتجاوز قرارات حزبه المؤسسية،  فاتصل سرا باللواء إبراهيم عبود في قيادة القوات المسلحة  في الأسبوع الأول من نوفمبر 1958م وأبلغه بان الحالة السياسية تنذر بأخطار جسيمة، وعرض عليه الأمر ثم سلم له السلطة في 17 نوفمبر 1958م، وذلك على وعد تكوين حكومة قومية لحكم البلاد، ثم إعادة الحكم للمدنيين بعد إعادة الاستقرار للبلاد. وقد كتب السيد أمين التوم في مذكراته –وقد كان وزيرا في حكومة خليل عن حزب الأمة- انه لا هو ولا غيره من وزراء الحزب كان على علم بذلك التحرك.

وقد أفلح السيد عبد الله خليل في نقل مخاوفه من الإطاحة بالاستقلال للسيد عبد الرحمن المهدي راعي الحزب فأصدر صبيحة الانقلاب بيان تأييد للانقلاب بالاتفاق مع رئيس الوزراء، و الحقيقة أن الإمام عبد الرحمن في عام 1958م كان مريضا وإلى حد كبير بعيد من متابعة التطورات السياسية، وكان حريصا جدا على إجازة الدستور ومدركا أن مناورات الأحزاب سوف تعرقل إجازة الدستور فقبل حجة رئيس الوزراء (السيد عبد الله خليل) بأن القوات المسلحة يمكن أن تسعف الوطن وتضع الدستور ثم تعود لثكناتها. وساعد على ذلك غياب رئيس الحزب (السيد الصديق المهدي) في الخارج مستشفيا. فأصدر البيان وقطع رئيس الحزب رحلته وعاد معلنا رفض الانقلاب واعتبره تعديا على حزب الأمة وعلى الديمقراطية.

بل لم يكن رئيس حزب الأمة وحده في معارضة الخطوة. إنها خطوة  عارضها 13 من أعضاء المجلس التنفيذي للحزب الخمسة عشر في اجتماع رسمي حينما عرض السيد عبد الله خليل الفكرة عليهم بداية، وحتى السيد عبد الرحمن علي طه الذي أذاع بيان التأييد من الإمام عبد الرحمن المهدي فعل ذلك فقط احتراما لرغبة الإمام وابتعد بعدها عن العمل السياسي.

وفي ظرف وجيز تأكدت صحة قراءة أغلبية قادة الحزب للموقف وأعلن الإمام عبد الرحمن خيبة ظنه في الحركة قبل أن يتوفاه الله في مارس 1959م.

وبعد فترة قصيرة أيضا أدرك السيد عبد الله خليل خيانة قيادة القوات المسلحة للاتفاق بينهما فقد كان التسليم مبنيا على خطة باتفاق معين مع قيادة القوات المسلحة يستلموا فيها الحكم ويكونوا حكومة قومية ويكتبوا دستور البلاد الدائم ويعلنوا الانتخابات بعد ستة أشهر، بل لقد عبر البك بأنه أحس بالخيانة منذ اللحظة الأولى، يقول السيد أمين التوم: (هكذا كانت أحلام عبد الله بك خليل كما كشف الستار عنها فيما بعد.. وكان يواصل حديثه بعد فوات الأوان أيضا في حسرة وحزن. ويقول إن ضباط الجيش خدعوه ووضحت الخديعة منذ اليوم السابق للانقلاب. كان متفقا مع قيادة الجيش أن يزور هو القيادة في الساعة الخامسة من مساء 16 نوفمبر عام 1958م ليلتقي فيها بقادة القوات المسلحة في أسلحة الخرطوم ويتحدث إليهم عن أهداف الانقلاب وحدوده باعتباره رئيس الوزراء ووزير الدفاع. ولما ذهب في الموعد المحدد لم يجد غير الفريق إبراهيم عبود واللواء حسن بشير اللذين أبلغاه أن قادة الوحدات كانوا في قياداتهم، وقد أعلنت حالة التأهب الكاملة وليس من الميسور استدعاؤهم لمقابلته، فعاد إلى منزله وهو يعلم أن تلك كانت بداية الخدعة).

ثم انهارت بقية بنود الاتفاق الواحدة تلو الأخرى: بدءا بقومية الحكومة، فكتابة الدستور، فإعلان الانتخابات، وكان السيد عبد الله خليل من أكثر الناس إحباطا وسرعان ما أدرك عدم سداد الخطة، وعارض حكومة الانقلاب، وأعلن معارضته وصار نزيلا في السجون مع غيره من قيادات المعارضة لحكم عبود.

أما السيد الصديق المهدي فكا ذكرنا قطع رحلة الاستشفاء وعاد مسرعا للبلاد ومنزعجا مما جرى من تسليم للسلطة للعسكر وتأييد والده المعلن للانقلاب، وكان ذلك الحدث هو أول مرة في تاريخ العلاقة بين رئيس الحزب وبين والده التي يعارض فيها مواقفه أو تصرفاته فقد كان مثالا للابن البار، ولكنه هذه المرة عارض الموقف منذ البداية وجهر بمعارضته لنظام عبود، وقاد المعارضة الحزبية لنظام عبود حتى وفاته الفاجعة في أكتوبر 1962م.

حزب الأمة والانقلاب

إن كثيرا من الناس ينسبون لحزب الأمة خطأ تدبير انقلاب 17/11/1958م. وقد ثبت تاريخيا أن هذا الانقلاب تبناه تيار أقلية داخل حزب الأمة وعارضه بقوة ووقف ضده تيار الأغلبية في حزب الأمة بقرار مؤسسي موثق. كان الانقلاب ضد الإرادة الغالبة في حزب الأمة فهو انقلاب على حزب الأمة مثلما كان انقلابا على الأحزاب الأخرى وعلى الدستور.

الخلاف داخل الحزب حول تسليم السلطة للجيش

قلنا إن الخلاف قد احتدم داخل حزب الأمة بين تيار يقوده رئيس الحزب (السيد الصديق المهدي) وسكرتير عام الحزب (السيد عبد الله خليل).

رؤية التيار الأول

كان تيار الأغلبية داخل الحزب بقيادة رئيسه يرى فض الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي، وتكوين حكومة قومية من جميع الأحزاب داخل الجمعية، أو عقد ائتلاف بديل مع الحزب الوطني الاتحادي، وانتخاب الزعيم إسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء ضمن معادلة للإسراع بإجازة الدستور. الذي استقر في ذهن هذا التيار أن حزب الشعب الديمقراطي كان مراوغا وغير جاد في التزامه بدليل غياب بعض وزرائه المتكرر عن لجنة الدستور. وكان واضحا من توازن القوى داخل حزب الأمة وداخل هيئته البرلمانية أن الحزب متجه نحو هذا الخيار.

رؤية التيار الثاني

تيار الأقلية داخل الحزب بقيادة سكرتيره العام البك عبد الله خليل كانت مرتكزة على عدة نقاط  منها المخاوف من اتجاه للاتحاد مع مصر اندراجا تحت السلطة المصرية، ويرتبط بهذه المخاوف مخاوف من سقوط الحكومة لدى افتتاح البرلمان في 17 نوفمبر 1958م وقيام حكومة تعلن الاتحاد.

رؤية قيادة القوات المسلحة

أما العوامل التي دفعت العسكريين للتجاوب مع فكرة استلام السلطة وتنفيذها فقد ذكرها الدكتور محمد حاج موسى وفندها في كتاب (التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان) وأجملها في التالي:

  • فساد الحياة السياسية.
  • الخطر الخارجي: الضغوط الأجنبية والاتحاد مع مصر.
  • القضاء على محاولات صغار الضباط للقيام بانقلاب عسكري.
  • تسليم رئيس الوزراء السلطة للعسكريين.

ولكن العسكريين حينما فكروا في التجاوب مع فكرة رئيس الوزراء قاموا بذلك بشكل نقض كل المتفق عليه بين الطرفين.

يبدو واضحا من أقوال قادة انقلاب 17 نوفمبر 1958م المقيدة أمام لجنة التحقيق القضائية التي كونت بعد ثورة أكتوبر 1964م، أن الاتفاق الذي تم بينهم وبين السيد عبد الله خليل قبل قيام الانقلاب كان يقضي بأن يشكل مجلس قيادة من خمسة أعضاء يمثلون حزب الأمة- والوطني الاتحادي- وحزب الشعب لديمقراطي- والجنوبيين برئاسة القائد العام للقوات المسلحة إبراهيم عبود، وان تشكل وزارة قومية برئاسة عبود أيضا يشترك فيها العسكريون بوزارتي الدفاع والداخلية. وقد اجتمع القادة العسكريون في 10 نوفمبر سنة 1958م وناقشوا هذه الفكرة واتفقوا عليها.

ولكن فجأة تغيرت هذه الخطة واتفق رأي القادة العسكريين على عدم جدوى الحكومة القومية وأنها لا تخدم الغرض الذي من أجل تدخل الجيش وهو إيجاد الاستقرار، ولذلك استقر رأيهم على أن يتكون الحكومة عسكرية أساسا بمجلس أعلى ومجلس وزراء يشترك فيه بعض المدنيين.  (حاج موسى ص 211-212)

وكما ذكرنا فقد اتفق رئيس الوزراء مع الفريق إبراهيم عبود على أن يتم التسليم والتسلم بحضور كل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتعلن أسس تكوين حكومة قومية، وحكم البلاد لفترة يتحقق فيها الاستقرار ويجاز الدستور، ثم إعادة السلطة للمدنيين عبر انتخابات عامة حرة بعد ستة أشهر ثم يعودوا إلى ثكناتهم، وهو ما لم يحدث.

ولم تقف المسألة عند حد نقض الاتفاق الذي عقده قادة الجيش مع السيد عبد الله خليل، بل إن قادة القوات المسلحة صارت متجهة لتوجيه العداء لحزب الأمة خاصة بعد حركة 2 و4 مارس 1959م التي سعت بالأساس لتحجيم دور اللواء أحمد عبد الوهاب الأقرب إلى حزب الأمة داخل المجلس، وإضافة الضابطين الذين قاما بالحركة للمجلس العلى للقوات المسلحة (وقد سميت بالحركة التصحيحية) وهما الأمير الاي عبد الرحيم محمد خير شنان والأمير الاي المقبول الأمين الحاج وكلاهما كانا يكنان العداء الصريح لحزب الأمة. ثم وفي 9 مارس 1959م تمت إقالة اللواء أحمد عبد الوهاب من عضوية المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإعفائه من الوزارة.  هذه الحركة كانت معادية لحزب الأمة، وقد عبر أصحابها عن أهداف حركتهم  بوقف أطماع نائب القائد العام (اللواء أحمد عبد الوهاب) ووقف (النفوذ الأجنبي) الذي كان يشجعه النائب بالتعاون مع عبد الله خليل (بزعمهم)، وتدعيم سلطات الفريق إبراهيم عبود، وحل المشاكل المعلقة بين السودان وشقيقته الجمهورية العربية المتحدة. (حاج موسى، 1970، ص 219-220).

أما النفوذ الأجنبي المشار له فهو مسألة العلاقة بأمريكا، وقبول حكومة السيد عبد الله خليل لاتفاقية التعاون الاقتصادي مع أمريكا، ومع أنها أجيزت بالإجماع داخل مجلس الوزراء إلا أنه وحين تقديمها في البرلمان وقف بعض الوزراء من حزب الشعب مع موقف الاتحادي الديمقراطي المعادي لها. بينما قدمت تلك الاتفاقية عددا من المشاريع التنموية غير المشروطة للبلاد. وما يشاع في بعض الكتابات عن أن الحزب قام بالانقلاب لتمريرها للرفض الشعبي لها مجرد أوهام. لأن الاتفاقية كانت قد أجيزت من داخل البرلمان وما فعله الانقلاب هو إجازتها حتى بدون الشروط اتلي وضعتها الحكومة الديمقراطية، وكان عراب ذلك هو السيد أحمد خير الذي عمل مع جماعة نوفمبر منذ قيام الانقلاب كوزير للخارجية، وكان أبعد الناس عن حزب الأمة.

أما المشاكل المعلقة مع مصر فكانت الاتفاق على قيام السد العالي وفق اتفاقية 1959م، والتي انتقصت فيها الحقوق السودانية وأضير فيها جزء عزيز من شعب النوبة في شمال السودان. وكانت حكومة السيد عبد الله خليل تفاوض مصر لتقديم تعويضات مناسبة للمتضررين، وكادت تصل لاتفاق حولها، بينما قامت حكومة عبود تحت الاتجاه الجديد، بقبول صيغة تغيرت فيها تقديرات التعويضات من 30 مليونا إلى 15 مليون جنيه فقط!!.

ومهما يكن، ومع أن الانقلاب كان انقلابا على حزب الأمة نفسه وناقضا لقراراته المؤسسية، إلا أن مسئولية تيار أقلية داخل حزب الأمة عن الانقلاب لا يمكن نكرانها، ولكن الحزب بريء من اتخاذ قرار الانقلاب فالأفراد لا يغنون عن المؤسسة مهما بلغت أهميتهم داخلها. والدروس المستفادة لحزب حديث الممارسة في الحكم بقيت:

  • ضرورة نزول القيادات على الإرادة الديمقراطية.
  • المؤسسة العسكرية فاشلة في إدارة البلاد، وهي أكثر فشلا في الحفاظ على عهودها.
  • الضيق بالنظام الديمقراطي بسبب عجزه أو انقسام صفوفه أو فقدانه للاستقرار السياسي وغيرها من المآخذ على الديمقراطيات الحديثة العهد، والسعي لنظم أوتقراطية بديلة لن يؤدي إلى نظم متفوقة في أدائها الاقتصادي أو السياسي أو العسكري، علاوة على انتهاك حقوق الإنسان وحجر الحريات الأساسية وإيقاف عجلة التطور الدستوري.. صحيح: إن الديمقراطية نظام سيئ سوى أنه أفضل من كل الأنظمة الأخرى!

كان نظام عبود فاتحة النظم العسكرية في البلاد، وإن كان لتيار أقلية داخل حزب الأمة  المسئولية في ولادته، فقد كفر عن ذلك بأنه كان له القدح المعلى في قيادة معارضته وإسقاطه.

وإن كان لا بد من كلمة ختامية عن هذه الفترة من تاريخ الحزب- وهي الفترة التي أعقبت الاستقلال، فهي انعدام الرؤية لمشاكل البلاد وطرق حلها فقد كان غاية الاستقلاليين هي تحقيق الاستقلال. كما أن انعدام التجربة الحقيقية في الحكم، أدى لسرعة انهيار النظام الديمقراطي وتقويضه لنفسه، لأنه أيضا لم تكن للأحزاب حينها تجربة في حكم عسكري سوداني من قبل.

 

 

مراجع:

  1. فيصل عبد الرحمن علي طه: الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني 1936-1953م- دار الأمين- القاهرة- 1998م.
  2. الصادق المهدي: رسالة الاستقلال- 1982م
  3. أمين التوم: ذكريات ومواقف- الطبعة الأولى- الدار السودانية للكتب-الخرطوم-  2004م.
  4. الصادق المهدي: السودان وحقوق الإنسان.- دار الأمين-القاهرة- 1998م.
  5. الصادق المهدي عبد الرحمن الصادق إمام الدين
  6. محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969- المطبوعات العربية- 1987م.
  7. جعفر كرار -ومحمد الطاهر عبد الرازق- ومحمد سعيد علي ومحمد الحسن الفاضل شداد وأحمد علي مصطفى ومحمد السيد رمضان مشاريع استغلال الثروة الحيوانية في السودان ترجمة هنري رياض، دار الثقافة- بيروت- 1969م.
  8. تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان- ترجمة الفاتح التجاني ومحمد علي جادين- دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الثانية 1994.
  9. عبد الرحمن علي طه: السودان للسودانيين: طمع ونزاع ووثبة فجهاد- تحقيق فدوى عبد الرحمن علي طه- دار جامعة الخرطوم للنشر- 1992م.
  10. الصادق المهدي: عبد الرحمن الصادق إمام الدين- الندوة المئوية للاحتفال المئوي بمولد السيد عبد الرحمن المهدي- 1996م
  11. د. الفاتح عبد الله عبد السلام النزاعات داخل الأحزاب:حالة حزب الأمة، ترجمة د. عبد الرحمن الغالي.

قراءات أخرى:

  1. حسن أحمد إبراهيم: الإمام عبد الرحمن المهدي- 1995م
  2. الإمام عبد الرحمن المهدي: مداولات الندوة العملية للاحتفال بالعيد المئوي- تحرير يوسف فضل حسن- محمد إبراهيم أبو سليم- الطيب ميرغني شكاك.
  3. زكي البحيري: الحركة الديمقراطية في السودان 1943- 1985- دار نهضة الشرق- جامعة القاهرة – بدون تاريخ.

هوامش

[1] للحصول عل النص الكامل للمذكرة أنظر لمداولات الجمعية التشريعية الجلسة الثانية 13 ديسمبر 1950 ص 593.

[2]  السابق ص 608

[3] روى القصتين للكاتب السيد زاكي الدين في مقابلة معه بالأبيض في 29 مايو 1976

[4] مقابلة مع الناظر علي الأمين عيسى بالدلنج 20 مايو 1976

[5]  هم :مادبو:محافظة كردفان،أبو سن ويوسف العجب محافظة النيل الأزرق.

[6] هما دائرتا الناظر أبي سن والعجب

[7] الدخلاء:هو المصطلح الذي استعمل ليصف تلك العناصر أمثال:محمد صالح الشنقيطي،إبراهيم أحمد،عبد الله خليل.هذه المعلومة أخذت أثناء مقابلة مع السيد محمد داؤود الخليفة في أمدرمان 21 مارس 1977.

[8] تم إعادة طبع هذا الإعلان في صحيفة الأمة اليومية في 2يونيو1967.

[9]  مقابلة مع السيد محمد داؤود الخليفة مصدر سابق.

[10] السيد أمين التوم نائب الأمين العام لحزب الأمة في مقابلة مع الكاتب في أمدرمان 20يوليو1978.