رسائل استنارة

 

  بسم الله الرحمن الرحيم

 

رسائل استنارة

 

الصادق المهدي

أبريل 2019م

 

 

محتويات

مقدمة 4

الداء في مسلمين والدواء في الصحوة 5

رجحان الديمقراطية على الطغيان. 12

توثيق  للتاريخ. 16

 

 

مقدمة

في هذا الكتيب ثلاث رسائل تغذي الاستنارة في مناخ بلادنا الفكري والسياسي الذي عتقه الجهاد المدني والحراك الثوري من الطغيان.

الرسالة الأولى: تتطرق للنظم التي حكمت باسم الإسلام وكانت وبالاً عليه وعلى الناس، فالداء في تجاربهم الباطلة والدواء في الصحوة. الرسالة تترافع عن هذه المقولة.

الرسالة الثانية: تتطرق لإبطال دعايات الطغاة بالحملة جملة على الأحزاب، والحملة على أداء النظام الديمقراطي: حملتان باطلتان روجت لهما أجهزة إعلام كذوبة، فالحقيقة أن التجربة الديمقراطية بالمقارنة لحكم الاستبداد راجحة في أدائها، وقلنا في كتابنا الصادر في 1990م إنها حتماً عائدة، عودة تحتمها إخفاقات التجربة الاستبدادية الفاشلة.

الرسالة الثالثة: تسجل صمود حزب الأمة القومي في وجه الطغيان على طول عهده الظلامي، وتفند كل اتفاقات السلام المزعوم التي أبرمها. لقد نزعت حملتنا الداخلية والعربية والأفريقية والدولية الشرعية عن النظام المباد، وأيد حزبنا بداية ثورة ديسمبر في الأقاليم الحية، وتحويل موقف المهنيين من مطلبي لسياسي، وإعلان كبسولة التحرير في المؤتمر المصغر لحزبنا في 2 مارس 2019م، وكانت بيانات حزب الأمة وخطب ومواكب هيئة شئون الانصار وقوداً ثورياً، توجه نداؤنا يوم 5 أبريل أن الخروج في مواكب 6 أبريل فرض عين على كل وطني. هذه الرسالة تسجل مواقف حزبنا على طول العهد الظلامي، فحزبنا وحده، هو وحزب المؤتمر السوداني، اللذان لم يشاركا النظام الظلامي حتى كنسته الثورة.

 

الصادق المهدي

 

 

الرسالة الأولى

الداء في مسلمين والدواء في الصحوة

هنالك عشرة أخطاء في فهم الرسالة الخاتمة، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، صارت مدخلاً لسوء الفهم، ولسوء الاستغلال، وواجب الملهمين والمجتهدين بيانها وإنقاذ الأمة من آثارها، هي:

  1. الفهم الظاهري وليس التدبري للقرآن.
  2. فهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
  3. الخلط بين الثابت والمتحرك في النصوص.
  4. قدوية وقدسية التاريخ.
  5. فقه الجهاد.
  6. مسألة الخلافة ووحدة الأمة.
  7. التعامل مع المستجدات.
  8. جدلية النقل والعقل.
  9. الدين والقومية والوطنية والعالمية.
  10. المهدية، والعيسوية.
  • فهم القرآن:

كان القرآن وحياً للنبي صلى الله عليه وسلم لا إملاء وقد عبر عن ذلك بقوله: “إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي”[1]. وهو ما تدل عليه الآية: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[2] من باب إبلاغ المعنى كما قال السيوطي في الإتقان.

لا ينبغي أن يفهم القرآن بالظاهر لأن فيه المحكم والمتشابه، لذلك قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[3].

  • فهم السيرة النبوية:

كثير من كتاب السيرة قاسوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على سيرة إسرائيلية جعلتهم غزاة لإمتلاك أرض آخرين كما في التوراة. النبي صلى الله عليه وسلم ليس غازياً بل أهم حلقات انتصاره كانت سلمية. هكذا فتحت المدينة بالقرآن، واستميلت الجزيرة العربية أثناء عامي صلح الحديبية، وفتحت مكة سلمياً بتعبير النبي صلى الله عليه وسلم: “الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ”[4] مقابل مقولة من قالوا اليوم يوم الملحمة. وصدر عفو عن المخالفين بعبارة الطلقاء.

وآخرون جاروا بالسيرة النبوية سيرة عيسى عليه السلام، وسيرة عيسى كلها معجزات. بينما سيرة محمد صلى  الله عليه وسلم كانت بنص الآية (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَۚ)[5].

كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين، ما يعني استخلاف الأمة في حمل رسالة الدين.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان كامل الإنسانية، وخطابه للإنسانية جمعاء، ولكل الزمان أنه الرسول الإنسان للإنسانية كافة. هذا المعنى ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ، وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ[6]. وعلى نفس المعنى قال الإمام علي: “أَيُّهَا النَّاسُ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ”[7]. ينبغي أن تروى وتفهم السيرة النبوية على أساس محمد الإنسان رسول الإنسانية كلها ولكل الزمان.

  • الثابت والمتحرك في النصوص:

النصوص المتعلقة بالتوحيد، والنبوة، ومكارم الأخلاق، والأركان الخمسة، والمعاد ثابتة توجب الاتباع. أما النصوص المتعلقة بولاية الأمر، والمعاملات فهي متحركة وتتطلب فهماً اجتهادياً ومراعاة واقع الزمان والمكان، والتزاوج بين الواجب والواقع. ولاية الأمر ليست إلهية كما ظن الخوارج في فهم قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ)[8]. الإمرة فيما يتعلق بالاختيار والمساءلة والشفافية فإنها بشرية وليست إلهية كما جاء في خطبة أبي بكر رضي الله عنه لدى ولايته: “وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم (ومعلوم أنها ولاية بشرية نتجت عن مداولات يوم السقيفة)، فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني (المساءلة)، الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ (الشفافية)”، وهلم جرا.

عبارة الحاكمية لله، وولاية الفقيه، عبارتان تجعلان ولاية الأمر إلهية بينما هي بشرية، وصارتا مدخلاً للاستغلال السياسي، بمعنى فئة تحتج بالحاكمية وولاية الفقيه للسلطان السياسي. ولاية الفقيه اجتهادية وفي المسائل الشعائرية، أما فيما عداها فالولاية للأمة.  والحاكمية في ولاية الأمر للناس عن طريق الشورى وليست إلهية.

  • قدوية وقدسية التاريخ.

ينبغي فهم تاريخنا فهماً يستخدم الوسائل العلمية من علم نفس وعلم اجتماع وعلم تاريخ وعلم آثار.

هذا الفهم يبين حقائق التاريخ وما فيه من صواب وأخطاء للاقتداء بالصواب وتجنب الأخطاء. فالصحابة رضى الله عنهم بشر اتسموا بالفضائل وجلائل الأعمال، كذلك وقعوا في أخطاء، الواجب أن نتعامل مع كل التاريخ بما يحدد الصواب للقدوة وما يحدد الخطأ لتجنبه. : أما ما حدث بينهم من نزاعات فلا ينبغي أن يترتب عليها ما يقسم المسلمين ويسبب تشاحنهم اليوم، بل ينبغي الاحتكام لقوله تعالى:  (تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

  • فقه الجهاد:

جهد مصدر الإنجاز، فالجهاد هو بذل الواسع لإعلاء كلمة الله. والاجتهاد هو بذل الوسع لمعرفة الواجب والإحاطة بالواقع والتزاوج بينهما. والجهاد في أصله سلمي يبدأ بجهاد النفس لاستقامتها. ويتناول بذل كل الإمكانات السلمية لنصرة الحق كما قال تعالى في أمر القرآن: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[9]. ولا يكون الجهاد قتالياً إلا في حالة مواجهة اضطهاد دعوة الدين والدفاع عن النفس كما قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[10]. وظلم للإسلام أن يقال إنه انتشر بحد السيف فالله قال: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ)[11]. استخدام القوة لنشر الدين باطل. والقاعدة: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ)[12].

الأصل في الجهاد أنه مدني لاستقامة النفس، وسلمي لاستخدام الإمكانات البشرية من تعبئة ومال وفكر للدعوة الدينية، أما القتال فدفاعي، وتربوي استعداداً للدفاع، وليس لما يدعي بعضهم من قتال لنشر الدعوة ويسمونه جهاد طلب.

  • مسألة الخلافة ووحدة الأمة:

لا يوجد نص في القرآن ولا في المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلافة، لذلك اختلف الصحابة اختلافاً واسعاً حول الخلافة. وبالنسبة للخليفة الأول، أي أبو بكر رضي الله عنه، فقد كانت الخلافة فلتة كما وصفها عمر رضى الله عنه، ومع ذلك اختلف في أمرها من كانوا يرون أن علي رضي الله عنه أولى بها، ومن كانوا يرون أن سعد بن عبادة أولى بها. إذن الأمر ليس توقيفياً بل اجتهادي. ولأن الأمر خلافي فإن خلفاء العهد الأول ماتوا غيلة، اغتيلوا. ثم صارت ولاية الأمر في العهود التالية الأموية، والعباسية،  والعثمانية ملكاً عضوضاً بمعنى إن خالفته عضك. واعتمد على قاعدة التغلب لا الشورى. تلك التجارب لا يصلح الاقتداء بها أبداً.

الشورى أي المشاركة، والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون،هي المبادئ الصالحة لاتباعها في ولاية الأمر. والتجارب الإنسانية النيرة أثمرت آليات كما في الديمقراطية لممارسة المشاركة والمساءلة والشفافية ولسيادة القانون ينبغي استصحابها في هذا المجال.

وحدة الأمة الإسلامية لم تدم أكثر من 10% من عمر الأمة، بعدها وقعت انقسامات قومية ووطنية. والولاءات القومية والوطنية تشكل الآن جزء لا يتجزأ من واقع شعوب الأمة. الممكن الآن هو تحقيق وحدة تعاهدية بين قوميات وأقطار الأمة توفيقاً بين الواجب الاجتهادي والواقع.

  • التعامل مع المستجدات:

بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم صارت الأمة هي المستخلفة على أمر الرسالة، وفي كتاب الله دلائل على هذه الوظيفة قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)[13]. وقال: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ)[14] وقال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ)[15]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”[16].

تأهيل هؤلاء ليس كهنوتياً ولا وراثياً، بل إلهامي وعقلاني لكي يتعاملوا مع المستجدات من باب تغير الفتوى بأحوال الزمان والمكان والحال. هذا الاجتهاد ليس مقيداً بالمنطق الصوري، أي القياس والإجماع. ففي أمر القياس لا يمكن التطابق وفي أمر الإجماع فهو مستحيل، ولكن مداخل الاجتهاد المجدي هي الاستصلاح، والاستصحاب، ومراعاة مقاصد الشريعة. فمن مراعاة المقاصد- مثلاً- العدل ههنا قال ابن القيم: كل ما تحقق به العدل من الشريعة وإن لم يرد به نص. ومن مقاصد الشريعة عدم التناقض مع حقائق علمية – مثلاً- قال الرازي بوجوب تأويل النص القرآني إذا عارض حكماً قطعياً من العلم – مثلاً- (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)[17]. تأويل ذلك يكون بحسب رؤية العين.

إن في الكون سنن تقوم على حق: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ)[18]. السنن الكونية الطبيعية والاجتماعية هي من آيات الله في الكون وتمثل كتاب الله المنظور.

إذا وقفت العلمانية عند هذا الحد فهي مشروعة. ولكن بعض نسخ العلمانية الرائجة كفلسفة لا تقف عند هذا الحد بل تتجاوزه، فتقول ببطلان ما لا تدركه الحواس أي الغيب وهذا هو عيبها، ففي الواقع أمور لا تدركها الحواس ويتناولها علم الباراسيكولوجي. هنالك غيب لا تدركه الحواس بل الوحي والوحي الأصغر: الإلهام.

الأيديولوجية العلمانية محقة في الاحتجاج بحقائق علوم الشهادة باطلة في حكمها على الغيب.

الشيوعية محقة في أهمية العامل المادي في الحياة، وتأثير هذا العامل في الولاء الطبقي، ولكنها باطلة في اعتبار كل شيء عائداً للعامل المادي. ومحقة في تأثير الولاء الطبقي في حركة المجتمع، مبطلة في اعتباره العامل الأوحد.

البعثية العربية محقة في أهمية الانتماء القومي، ولكنه ليس العامل الأوحد في الانتماء. فثمة الانتماء الديني والانتماء الوطني فهي حلقات تتكامل، ولا يجوز للبعض أن يدعي الكل.

وللأفريقانية كانتماء لقارة تجمع بين سكانها عوامل معلومة، ولكن ربطها بانتماء إثني باطل فهي قارة تتساكن فيها إثنيات كثيرة.

  • جدلية النقل والعقل:

النقل متعلق بقطعيات الوحي وهو مجالها، ومصدره الوحي. وللعقل مجاله فيما يدركه العقل.

التناقض ينشأ عندما يتجاوز النقل مجاله في حقائق الوحي، ويحاول فرض وصاية على مدارك العقل. أو عندما يتجاوز العقل مجاله ويتحكم في أمور غيبية.

جدلية النقل والعقل تتطلب معادلة على نحو ما قدمه أهم فلاسفة الغرب، عما نويل كانط، في كتاب “نقد العقل النظري” وهو متعلق بقطعيات عالم الشهادة. وكتاب “نقد العقل العملي” وهو متعلق بالواقع الذي لا تدركه الحواس.

عندما حاولت السلطة الدينية في الغرب فرض وصاية على المعارف العقلية نشأت العلمانية كثورة ضد هذه الوصاية. وعندما حاولت العلمانية فرض أمرها نشأت الأصولية الدينية كثورة ضد العلمانية، المطلوب إذن وقف كل في حده.

هنلك سبعة حواضن للتطرف على الصعيد الفكري يمكن أن تلتهب وتحدث العنف هي:

  • العقيدة الإسلامية الماضوية التي تأسر الحاضر والمستقبل للماضي، وتلحق المعاملات المتحركة بالشعائر المتحركة.
  • العقيدة الإسلاموية التي تنزع ولاية الأمر من ولاية الأمة، وعبر الحاكمية أو ولاية الفقيه تجعلها إلهية.
  • العلمانية التي تتجاوز مجالها وتنكر الغيب.
  • العروبة التي تجافي الولاءت الدينية والوطنية واستحقاقات القوميات الأخرى.
  • الشيوعية التي تحصر قيمة الأشياء في المادة وتحصر الولاء في الطبقة الاجتماعية.
  • الأفريقانية التي تؤسس ولاءها على الإثنية.
  • الوطنية الشوفينية التي تنكر مشروعية الولاءات الأخرى.

كل هذه المعتقدات والفكرويات تحتوي على حقائق، ولكنها من الحقيقة الواحدة تنفي حقائق أخرى، كالمسيخ الدجال: إنها تنظر بعين واحدة. علينا أن نقر لها بما فيها من حقيقة وأن نتجاوز نظرتها الأحادية.

  • الدين والوطنية والقومية والعالمية:

الوطنية بالفهم الصحيح تقوم على ولاءات مشتركة، وفي النظام الدولي الحديث فهي لبنة تؤسس للمعاهدة بين الدول من أجل السلام والتعاون في كافة المجالات. ولكنها ينبغي أن تفسح المجال لولاءات قومية ودينية ودولية أوسع.

كذلك القومية ينبغي أن تتكامل مع الوطنية، ومع الولاء للأمة الإسلامية، وأن تتعايش مع القوميات الأخرى.

والأفريقانية ينبغي أن تتجنب الاستقطاب الإثني.

الولاءات الأوسع تتجسد في تكامل تعاهدي في المجال القومي والإسلامي والأفريقي. تكوينات تعاهدية تتم في مظلة تعاهد دولي واسع يتجاوز التعاهد الدولي الحالي لأنه ناقص العدالة.

  • المهدية والعيسوية:

هنالك عشر مدارس حول المهدية أهمها مدرسة سنية تقول إن المهدي ذا صفات معينة وسوف يظهر في آخر الزمان، ومدرسة شيعية اثنى عشرية.

التطلع لمهدي يآتي آخر الزمان يؤجل الإصلاح الديني لأجل غير مسمى، والأهم من ذلك فإن ظهوره آخر الزمان غير مجد بالمفاهيم الإسلامية لقوله تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)[19] وقال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)[20].

أما المهدي الشيعي وهو الإمام محمد الحسن العسكري الذي غاب منذ 14 قرناً، وسوف يأتي هو نفسه مهدياً فاعتقاد يجافي طبيعة الأشياء، ويجافي حقيقة القرآن في قوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)[21]. ولكن وظيفة الهداية مكررة في نصوص الوحي إذ قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)[22]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[23].

ومع أن النبوة ختمت، فإن باب الإلهام موجود باستمرار. إن مهدية الإمام محمد أحمد المهدي في السودان حررت عقيدة المهدية من الشخصنة، ومن توقيت آخر الزمان، وربطتها بوظيفة إحياء الكتاب والسنة، وقد احتج لها بقوله تعلى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)[24].

والعيسوية كذلك هي وظيفة إقبال الأمم على اعتقاد ديني يشبع الجانب الروحي والأخلاقي، ويعترف للإنسانية بكرامة لإنسانيتها. هذه العوامل متوافرة في الرسالة المحمدية. محمد صلى الله عليه وسلم إنسان كامل الإنسانية بلا جانب غرائبي، ورسالته بالفهم الصحيح تخاطب الإنسانية كلها والزمان كله. هذه وظيفة العيسوية التي سوف نبين حيثياتها في كتاب محمد صلى الله عليه وسلم: الإنسان رسول الإنسانية. العيسوية إذن وظيفة اتحاد روحي بين البشر بمرجعية من رسالة خاتم المرسلين عليه السلام.

 

 

 

الرسالة الثانية

رجحان الديمقراطية على الطغيان

غلبة الثلاثة (1986- 1989م) للثلاثين (1989- 2019م)

 

  1. ما عدا قتلى حرب الجنوب التي أشعلها النظام الدكتاتوري السابق (1969- 1985م) فإن النظام الديمقراطي لم يقتل مواطناً. النظام الانقلابي الذي أعقبه أسرف في سفك دماء السودانيين بدأ بقتل 28 ضابطاً دون محاكمة عادلة وقتل ثلاثة مواطنين فيما ملكوا من عملة صعبة. وتواصل سفك الدماء في بورتسودان والعيلفون والخرطوم لا سيما سبتمبر 2013م، ولكن كانت المجزرة الكبرى في دارفور التي جلبت للنظام 62 قرار مجلس أمن تحت الفصل السابع، كذلك مجازر جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق إنه العهد الدموي بامتياز في تاريخ السودان الحديث.

إن عدد القتلى في دارفور وحدها في سبع سنوات من 2003 وحتى 2010 بلغ 500 ألف كما قدر  بعض الباحثين، وفي الجنوب بلغ عدد القتلى نحو المليون نفس جلهم كان أثناء هذا النظام بسبب غارات القصف العشوائي المستمرة، وانضم للقتلى كذلك ضحايا جبال النوبة والنيل الأزرق منذ 2011م بقصف الأنتينوف العشوائي والغارات الهمجية من المليشيات المختلفة ويقدرون بعشرات الآلاف. إضافة لضحايا العنف الطلابي والعسف السلطوي منذ إعدام الضباط الـ28 عشية عيد الفطر 1990م، ومجدي وزميليه، وقتلى معسكر العيلفون من الطلاب، وسد كجبار، وطلاب جامعة الجزيرة وقتلى التعذيب داخل السجون الذين يبلغون المئات، وشهداء ثورة سبتمبر الذين بلغوا نحو 260 شهيداً في بضع أيام، وشهداء  ثورتنا الظافرة المنطلقة في ديسمبر والذين فاقوا المائة حتى الآن. أما المعتقلات فلم تخل أبداً من مئات سجناء الرأي والضمير طيلة عمر النظام الذي امتد 30 سنة. وكذلك الاغتصاب كسلاح في الحرب الذي وقع آلاف النساء والفتيات والصبيان ضحية له منذ تفجر حرب دارفور في 2003م وحتى الآن. ومن ضحايا العنف المفرط أثناء قمع التظاهرات وقوع مئات من حالات الدهس بالتاتشرات والإصابات البليغة بعلب البمبان مما أدى أحياناً لتهشيم الجمجمة، وإتلاف العيون، والكسور الخطيرة.

  1. لم يعهد النظام الديمقراطي فساداً فالصحافة حرة والقضاء مستقل والشفافية كاملة، بينما النظام الانقلابي أضاف أصناف من القيود على حريات التنقل والتجمع والتنظيم والتعبير، لذلك كان سجل النظام طيلة عمره في ذيل مؤشرات الحريات سواء كانت الحريات الدينية، أو حرية التعبير. فقد احتكر الإعلام ونكل بالإعلاميين المعارضين واستخدم وسائل الترغيب والترهيب لكسر مقاومة الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية خاصة الصحف، مثلا سلاح الإعلانات حيث تمنع عن غير الصحف الموالية للنظام، واستدعاءات الصحفيين، وتعذيبهم، واعتقالهم، وتهديدهم، وسحب رخصهم الصحفية أو منعهم عن الكتابة وغير ذلك من وسائل التدجين.
  2. حافظ النظام الديمقراطي على الحريات العامة، وعلى استقلال القضاء، وعلى حياد الخدمة المدنية، وعلى قومية القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، وهي المبادئ التي خرقها النظام الانقلابي بصورة فادحة. وحافظ النظام الديمقراطي على استقلال وديمقراطية النقابات ومنظمات المجتمع المدني وعدم اختراق الإدارة الأهلية. وهذه كلها تحكم فيها النظام الانقلابي.
  3. النظام الديمقراطي مارس التنافس الحزبي بعيداً عن مؤسسات الدولة، ولكن النظام الانقلابي حول مؤسسات الدولة لدولة الحزب الحاكم. وإلى جانب هذا الاختراق الجائر كون النظام الانقلابي مؤسسات دولة موازية للدولة الوطنية.
  4. الدين الخارجي للسودان تراكم في عهد الانقلاب الثاني (المايوي) وبلغ 10 مليار دولار كافأت به بعض الدول النظام المايوي لانحيازه للغرب. في العهد الديمقراطي لم يزد الدين العام إلا وفقاً لتراكم فوائد الديون سنوياً حيث بلغ في نهاية العهد الديمقراطي 14 مليار دولار، ولكن الإنقاذ توسعت في أخذ القروض الأجنبية والتي مولت في غالبيتها الفساد وصبت في جيوب المسؤولين وآخذي العمولات بالباطل فوصل الدين الخارجي إلى  حوالي 60 مليار دولار الآن، وذلك بالرغم من تدفق أموال النفط طيلة العقد الثاني من عمر الإنقاذ.  وبالإضافة لذلك الدين الخارجي هناك دين داخلي ضخم. تجاوز سقف الاستدانة من النظام المصرفي بلا سداد، وتم التصرف حتى في الاحتياطي النقدي المصرفي مما حرم مودعي المصارف من أموالهم، فاهتزت الثقة في النظام المصرفي وسحبت تقريباً كل الأموال خارجه. تم الاقتراض عن طريق شهادات شهامة وبددت المبالغ، وليس هناك رصيد لسداد مبلغ الشهادات ولا أرباحها. وقامت الإنقاذ بمحاولة سد عجزها عن طريق طباعة النقود بدون أي إنتاج مقابل، مما جعل التضخم يبلغ نسباً خيالية وعلى مدى سنوات منذ انفصال الجنوب في 2011م.
  5. الانتاج الزراعي والصناعي بالمقارنة أفضل في العهد الديمقراطي. كان العهد الديمقراطي يوازن بين دعم الانتاج ودعم الاستهلاك (الخدمات والسلع) للحفاظ على توازن الاقتصاد والعدالة بين مواطني البلاد. البنك الزراعي كان يقدم مدخلات الانتاج عالية الجودة في الوقت المطلوب تقريباً بالتكلفة (بلا إضافة أرباح على المنتج دعماً للانتاج). وفي مواسم نثرت بذور الفول المحسنة مجاناً بالطائرة في الأراضي الزراعية في كردفان ودارفور، كان الإنتاج أيضاً يشجع بدعم الأسعار، فعندما انهارت أسعار الذرة لضخامة الانتاج في موسم 1988م، اشترت الحكومة الذرة نقداً من المنتج مباشرة بضعف التكلفة وخزنته بطريقة جيدة، وبلغ حجم دعم المحاصيل في عام 1987م وحده 1.4 مليون جنيهاً سودانياً.. لهذا كان الانتاج الزراعي والصناعي أفضل في العهد الديمقراطي (اثبتت ذلك دراسة الأستاذ محمد عثمان عبده كبج). في عهد الانقاذ، كانت السياسات لصالح السماسرة والوسطاء، وتم بالكامل إهمال الانتاج ودمرت المشاريع الانتاجية (مثل مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع المروية)، وتم تهميش مناطق الانتاج ما أدى لحمل السلاح والحروب في كردفان والنيل الأزرق ودارفور. (د. بامكار خلص في بحثه لأن الصرف التنموي في الفترة 96 -2001م تم توزيعه على: الخرطوم 75%، الأوسط والشمالي والشرقي 7% لكل، كردفان ودارفور 2% لكل). ونتيجة لذلك تدهور الإنتاج وتم الاعتماد على الاستيراد فارتفع استيراد الغذاء من 72 مليون دولار $ عام 1990 إلى 205 مليار دولار $ أواخر العهد المشئوم. هاجر المنتجون من الأرياف للمدن ولولاية الخرطوم فتضخمت وتريفت وأصبحت تأوي أكثر من ثلث السكان (عام 1989م كان بها 7% من السكان).
  6. الديمقراطية كفلت دولة رعاية اجتماعية في دعم السلع الضرورية ومجانية التعليم والصحة. واتفقت حكومة الديمقراطية مع اليابان على شراكة إنتاجية، تدرس بموجبها اليابان مقومات السودان الإنتاجية وتقدم التمويل والمعارف والخبرات الفنية، ويكون الإنتاج شراكة بين الدولتين. هذا الاتفاق المثمر كان سيؤدي لتقدم البلاد ويحسن الأحوال المعيشية لكل مواطنيها ولكن الانقلاب قطع الطريق على تلك الخطة. وقوض النظام الانقلابي دولة الرعاية الاجتماعية وبالتالي رفع نسبة الفقر في البلاد إلى أكثر من 80%. ذكرت وزارة الصحة أن الانفاق على العلاج يدخل سنوياً 7-8% من السكان في دائرة الفقر.  وما زاد الأمر فداحة ارتفاع تكاليف المعيشة في العهد الانقلابي إلى أرقام فلكية فبالقياس لسعر الدولار الذي كان 12 جنيهاً صار في العهد الانقلابي يساوي 70 ألف جنيه.  أثبتت الاستراتيجية القومية لمكافحة الفقر الحكومية) التي نشرت في يناير 2012م التدهور المريع في التعليم وانهيار بنياته، ومعاناة الأسر في الصرف على التعليم؛ كما أثبتت تدهور الخدمات الصحية ومعاناة الأسر في الصرف على الصحة (السودان الأسوأ بالمقارنة مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء).
  7. وفي مقارنة بين العهدين الثلاثة أعوام ديمقراطية وأول 16 عام في العهد الانقلابي: رصف في العهد الديمقراطي طريق كوستي الأبيض الدبيبات، والطريق الدائري للجبال الشرقية، وطريق سنجة الدمازين، وطريق خشم القربة، وطريق الدلنج كادقلي. وأعاد تأهيل طريق بورتسودان، والنيل الابيض، والدبيبات الدلنج. وشيدت كباري سنجة، السنجكاية، الجنينة. وشيدت مطارات بورتسودان، الفاشر، نيالا، الجنينة، دنقلاب، الدمازين، كادقلي. وشيدت الصوامع: الخرطوم بحري، الجزيرة، الدبيبات، الصوامع المتحركة (التي حولها الانقلابيون لمكاتب لبسط الأمن). وفي دارفور: تعمير مشروع غرب السافانا، وغزالة جاوزت، وتوصيل مياه الفاشر، وصوامع الغلال. وتوسع في الآبار والدوانكي (78)، جبل مرة للتنمية الريفية، ومشروع مياه نيالا، وحوض البقارة.
  8. الفساد: في الديمقراطية كان المراجع العام يحصى كل الحركة المالية في الدولة، ومؤسسات الضبط والرقابة (المشتروات الحكومية، المخازن والمهمات، التشييد والاشغال، النقل المكنيكي) تضبط وتراقب. أما الانقاذ فجعلت المال العام قرصنة لها ولمحاسبيها، وجعلت السودان مصنفاً ضمن أفسد البلدان في العالم. حصل السودان نتيجة بترول الجنوب وعوامل أخرى على ما لا يقل عن 150 مليار دولار بددها الفساد وسوء الإدارة. وقد فتحت الإنقاذ أبواب الفساد بالتمكين وتهميش دور المراجع العام، وحل مؤسسات الضبط والرقابة وتجاوز أجهزة الدولة ومؤسساتها. وأثناء عقد البترول حصلت البلاد على موارد كبيرة (البترول، الاستثمار الأجنبي المباشر، القروض) إلا أنه أسيء استخدامها.
  9. في العلاقات الخارجية احتفظت الديمقراطية بالحياد الإيجابي وكسبت احتراماً دولياً عاماً فتح المجال لدعم تنموي غربي باستثناء الولايات المتحدة، لأنها كانت تريد استمرار المنافع التي حصلت عليها من النظام المايوي المباد. وانفتح الطريق لتكامل تنموي مع اليابان ولنقل تكنولوجيا دفاعية من الصين ومن الاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا كما تلقت البلاد دعماً من أشقائها: ليبيا والسعودية، ومصر، والعراق والأردن. أما في ظل النظام البائد فإن السودان لعب في البداية دور حاضنة للتطرف في الإقليم وفي العالم فكان موئلاً لكل الجماعات الإرهابية ومقراً لمعسكراتها التدريبية، وأعطى قادتها جوازات السفر الدبلوماسية حتى صار الجواز السوداني سبة في العالم، وتتالت القرارات الدولية المضادة للحكومة السودانية منذ محاولة اغتيار الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في 1995م، وتزايدت بعد تفجر الحرب في دارفور في 2003م بسبب الوسائل الوحشية التي استخدمها النظام لحسم المقاومة المسلحة، فاتهم قادته بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية وهي تهم طالت حتى الرئيس المخلوع ومعظم زبانيته المقربين، وصيرته منبوذاً دولياً يتحاشى قادة الدول ملاقاته أو مصافحته وحتى الذين يزورون السودان يمتنعون عن مقابلته، وتكررت حوادث فراره من الملاحقة الجنائية والقبض كمجرم في جنوب أفريقيا ونيجريا وغيرها من البلدان التي زارها لحضور محفل عام وغادرها هارباً على عجل. وصار النظام مصنفاً ضمن الدول الراعية للإرهاب لدى الولايات المتحدة، ومنبوذاً دولياً بسبب اتهامه بالإبادة في دارفور ففقد احترامه، وتحول من لغة العداء للمجتمع الدولي إلى تابع ذليل، فسلم كل ملفات حلفائه في الحركات الإرهابية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقدم نفسه كشرطي للاتحاد الأوربي في المنطقة لمنع الهجرة غير الشرعية مع أنه والأنظمة الشبيهة به هم الأسباب في تلك الهجرة بتضييقهم على شعوبهم وأكلهم لمقدراتها. وصار النظام يتبضع بين المحاور الإقليمية ويسكت على الاعتداء على سيادة أراضيه في حلايب التي احتلتها مصر والفشقة التي احتلتها اثيوبيا مستغلة ضعف النظام واستجدائه للمناصرة، كما استمرأ النظام التفريط في السيادة على أراضيه، وقد كشفت دراسة لخبير دولى أن (23%) من الأراضى الزراعية فى السودان تم بيعها لمستثمرين أجانب، من بينها (1.4) مليون فدان بيعت لشركة أمريكية بـ(25) ألف دولار. وكشفت الدراسة عن بيع (23%) من الأراضى الزراعية فى السودان، وأن الأراضى السودانية المنتزعة أو مستولى عليها من قبل دول مجاورة تشكل (9.99%) من جملة الأراضى المستولى عليها على نطاق العالم .وأوضحت الدراسة أن السودان رابع أكثر الدول فى العالم التى تم الاستيلاء على أراضيها الزراعية بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية وأضافت أن الأراضى المستولى عليها فى السودان غالباً ما تكون على ضفتى النيل الأزرق. وأدى انتزاع الأراضى إلى تجريد صغار المزارعين من أراضيهم وإلى اعتمادهم المتزايد على الإغاثات والمساعدات الغذائية الدولية. وبعض هذه الأراضى المستولى عليها سافنا أو غابات مما فاقم من التصحر.
  10. جرت انتخابات عامة ومحلية في العهد الديمقراطي كانت كلها نزيهة بالمقاييس الدولية بينما كل الانتخابات في العهد الانقلابي كانت مزورة ومخططة لاستمرار حكم الفرد. وقد أصدرحزب الأمة في 2010م كتابا ضخماً بعنوان (انتخابات أبريل 2010 في الميزان) عبارة عن دراسة وافية للانتخابات التي جرت ذلك العام وثقت للتزوير المفضوح فيها، كما احتوت على مسح للانتخابات في السودان في العهود الديمقراطية والديكتاتورية تبين الفرق بين الانتخابات كوسيلة لتولية منتخبي الشعب السلطة أثناء العهود الديمقراطية، و”الانطباخات” التي تقوم بها العهود الديكتاتورية لتزوير إرادة الشعب.
  11. اسوأ ما ضاع على البلاد اتفاق السلام المزمع في مؤتمر قومي دستوري متفق عليه في 18/9/1989م ليس فيه مطلب تقرير المصير وليست فيه وصاية أجنبية. هذا المشروع قوضه الانقلاب الذي اختار حسم الأمر عسكرياً فخاب مسعاه وأخيراً أبرم اتفاقية هزيمة بشرط تقرير المصير وبتدخل أجنبي واضح في يناير 2005م. ونتيجة لسياسات النظام الإسلاموية الحزبية دفع الجنوبيون دفعاً نحو الانفصال. يجب مقارنة اتفاقية السلام المزمعة في 18/9/1989م واتفاقية سلام نيفاشا المعيبة في يناير 2005م.
  12. ما عدا حرب الجنوب التي كان إنهاؤها وارداً في مؤتمر 18/9/1989م المزمع، لم تكن في البلاد حروب أهلية أخرى. ولكن العهد الانقلابي بسياساته الأحادية الرعناء أشعل حروباً كثيرة في دارفور وفي شرق السودان وفي جنوب كردفان وفي جنوب النيل الأزرق.

أخيراً إن كتاب الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة يقدم بيانات واضحة لرجحان الديمقراطية على الدكتاتورية في التجارب السودانية، كما يمثل قراءة للمستقبل أنها حتماً عائدة.

 

 

 

 

 

 

 

الرسالة الثالثة

توثيق  للتاريخ

انفرد حزب الأمة القومي في مواجهة النظام المباد في الفترة 1989- 2019م- بمواقف هي:

  1. معارضة النظام منذ البداية حتى النهاية ودور قياداته في نشر مؤلفات ومقالات عرته وقاومت سياساته. قيادات حزب الأمة القومي هي الأكثر تصدياً فكرياً وثقافياً لتعرية “المشروع الحضاري”، لا سيما رئيس الحزب الذي نشر عشرات المؤلفات والمقالات ابتداءً بالكتابين: الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة، وتحديات التسعينيات في 1990م، وغيرها من الأدبيات مثلاً: الوفاق والفراق بين الأمة والجبهة، ثقافة العنف في السودان، حقوق الإنسان في السودان، الإنسان بنيان الله، ميزان المصير الوطني في السودان، الخ. كما أصدر الحزب وكوادره العديد من الأدبيات التي فضحت النظام، مثلاً كتاب الحل السياسي الشامل، وكتاب انتخابات أبريل 2010 في الميزان، وكتاب: شعب السودان يدين العدوان، وغيرها.
  2. عدم المشاركة فيه مهما كانت وكثرت الإغراءات وتكررت خمس مرات. حيث عرض النظام على الحزب المناصفة في السلطة في 1991م، وفي آخر عام 1993م، وفي 1994م، وفي 2001م، وفي 2008م. وفي كل مرة كان الحزب يشترط أن يكون الاتفاق جامعاً بينما النظام حريص على مشاركة ثنائية. وفي عام 2001م استطاع النظام أن يخترق الحزب عبر الفريق المفاوض حيث شاركه الحكم وخرج عن الحزب الأم وتآمر عليه في 2002م، بينما واصل الحزب في معارضة النظام وفضح فساده وتجاوزاته.
  3. تعرية مزاعم النظام الإسلامية بمنطق إسلامي، ودور هيئة شئون الأنصار المستمر في هذا الصدد، حيث كان منبرا الأنصار الأساسيان في بيت المهدي (مجمع قبة ومسجد المهدي) يقودان مقاومة فتاوى النظام ودعاويه الإسلامية. فكانت خطب الأنصار دائماً ما تنتهي باعتقال الإمام الخطيب ومصادرة نص الخطبة، وصار الأنصار يتقنون إخفاء الإمام ونص الخطبة مباشرة بعد الصلاة من أعين أفراد الأمن. والمطلع على تقارير المقرر الخاص لحقوق الإنسان في السودان في التسعينات من القرن الماضي يدرك الكم الهائل من قيادات الأنصار الذين اعتقلوا في تلك السنوات بسبب صدعهم بالحق وتعريتهم لتجربة النظام الإسلامية. وبلغ التنكيل بالأنصار ذروته فيما سموه ب(عيد الضيم) في صلاة عيد الأضحى لعام 1413هـ الموافق 1 يونيو 1993م، حيث قام النظام قبل العيد بأيام بإرسال قوات مدججة بالسلاح احتلت مجمع مسجد وقبة الإمام المهدي وادعت كذباً أنها عثرت على أسلحة فيه. كان المجمع هو مركز نشاط الأنصار يقيمون فيه معسكرات التأهيل للكوادر، ومعارضهم الثقافية  وأنشطتهم الدعوية والاجتماعية، وغيرها، ولكن النظام صادره قسراً، وأعاده بعدها بسنوات للسيد أحمد المهدي وليس لهيئة شؤون الأنصار التي انتزعه منها. فندت هيئة شؤون الأنصار ادعاءات النظام الدينية، وأثبتت أن تجربته أهرقت مباديء الإسلام في الحكم المتمثلة في العدل، والحرية، والمساواة، والرعاية الاجتماعية، والوفاء بالعهد. وانتقد الأنصار وقادة حزب الأمة منظومة القوانين التي سنها النظام ضمن تجربته الإسلامية: القانون الجنائي لسنة 1991م، وقانون المصارف، وقانون الزكاة، وقانون الأحوال الشخصية للمسلمين، وأثبتوا كيف أنها تنطلق من فقه جامد غير محيط بالواقع وتحدياته ومستجداته، ولا بالواجب الديني نفسه، حيث عاكست التجربة مقاصد الشريعة، وأقامت نظاماً ظالماً فاسداً شاع فيه الغلول من مال المسلمين، وانحطت فيه الأخلاق العامة والخاصة إلى درك سحيق. كان الأنصار وحزب الأمة هم المبادرين بفضح تلك التجربة وتعريتها على أسس إسلامية.
  4. معارضة اتفاقيات السلام التي أبرمها النظام لفشلها في مخاطبة أسباب النزاع خاصة اتفاقية السلام الشامل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان والتي أيدتها الأحزاب الأخرى والمجتمع الدولي، وبموجبها انخرطت غالبية الأحزاب في مؤسسات النظام التنفيذية أو التشريعية أو كليهما. وقام الحزب بإصدار نقد أساسي للاتفاقية ودستورها بعنوان “اتفاقية السلام يناير 2005م ومشروع الدستور أبريل 2005 في الميزان” بتاريخ مايو 2005م. وأوضح الحزب أن تلك الاتفاقية التي أعلنت سعيها لتحقيق السلام والديمقراطية والوحدة الطوعية للبلاد مليئة بالنصوص الخاطئة، والنقاط الرمادية، والقضايا الخلافية التي لم تحسم وسوف تتفجر لاحقاً، كما أنها نصت على محاصصة أعطت المؤتمر الوطني 52% من هياكل السلطة التنفيذية والتشريعية وهذا سوف يكون أحد أهم منافذ فشلها لأنه حزب سلطوي لا يؤمن بمباديء السلام والدقرطة والوحدة ولم يوقع على الاتفاقية إلا لشراء الزمن وليكسب الشرعية الدولية المرافقة لاتفاقية السلام. وأكد الحزب أن الاتفاقية بالتالي لن تحقق السلام ولا التحول الديمقراطي ولا الوحدة، وقد كان، حيث انفصل الجنوب في 2011م، وانفجرت الحرب من جديد في المنطقتين (جبال النوبة والنيل الأزرق)، ولم يحدث التحول الديمقراطي المنشود بل طبخ النظام الانتخابات. وقد فضح الحزب تلك الطبخات في كتاب: انتخابات أبريل 2010م في الميزان، الذي ظل محظوراً عن دخول البلاد منذ صدوره قبل تسع سنوات.
  5. حينما انفصل الجنوب وبدأت الضائقة الاقتصادية وقرارات رفع الدعم عن المحروقات والسلع التموينية، اندلعت هبة شعبية في سبتمبر 2013م، وكان تقدير الحزب أن التعبئة التراكمية لم تبلغ قمتها، وبالرغم من أنه حفظاً على دماء الشعب من أن تسفك بلا أفق لم يطالب الناس بالخروج، إلا أن قياداته وكوادره كانوا مشاركين في الثورة، كما عبر الحزب بقوة عن حق المتظاهرين في المطالبة بحقوقهم، ووقف إلى جانب مساءلة الجناة القتلة، وحث النظام على الإقلاع عن العنف وإدارة حوار حول مسائل الحكم والدستور والسلام لا تقصي أحداً ولا يسيطر عليها أحد. وطبقاً لذلك شارك الحزب في الاجتماعات الأولى لحوار الوثبة يناير 2014م الذي اعتبره استجابه لنداءاته المتكررة بإنهاء الأحادية في إدارة البلاد وقضاياها القومية، ومن داخل أروقة الحوار طالب حزب الأمة القومي بفك احتكار المؤتمر الوطني لرئاسة المداولات، وانتقد أداء النظام ومليشياته في مناطق النزاع، بشكل جلب عليه غضب الرئيس المعزول، ففتح جهاز الأمن السوداني ضد رئيس حزب الأمة القومي بلاغاً بالرقم 2402/2014 بتاريخ 12/5/2014م، بموجب المواد 62/66/69/159 من القانون الجنائي لسنة 1991م. وبعدها في 17/5/2014 ألحقت بالبلاغ المادتان 50/63 من القانون الجنائي: المادة (50) تقويض النظام الدستوري، وهي جريمة تصل عقوبتها للإعدام. والمادة (63) الدعوة لمعارضة السلطة العامة بالعنف أو القوة الجنائية، وتم اعتقاله لشهر بدون تقديمه للمحاكمة. كما تعالت الأصوات داخل المجلس الوطني بمحاكمته بالخيانة العظمى، وتبارت الصحف في الإساءة إليه واستباق الأحكام القضائية ضده بالتجريم.
  6. قام الحزب بالتواصل مع الجبهة الثورية المسلحة وإصدار إعلان باريس في أغسطس 2014م، وهو الإعلان الذي يعتبر فتحاً وطنياً ضخماً، حيث وافقت فيه القوى المسلحة كلها على تجاوز ما ورد في إعلان كمبالا (الفجر الجديد) من نص على تقرير المصير للمناطق المهمشة، واتخاذ العنف وسيلة لإسقاط النظام. وفقاً لإعلان باريس تم النص على وحدة البلاد ضمن أسس عدالة وسلام في نظام جديد يتجاوز مظالم الماضي، كما اعتمدت وسيلتان لإقامة النظام الجديد وهما الحوار باستحقاقاته التي تجعله جامعاً لا يقصي أحداً ولا يسيطر عليه أحد، والانتفاضة الشعبية السلمية. وتبع ذلك تكوين نداء السودان في 3 ديسمبر 2014م من كل من حزب الأمة والجبهة الثورية ومبادرة المجتمع المدني وقوى الإجماع الوطني، وشكل نداء السودان تحالفاً جامعاً بين قوى المركز والهامش، أقلق مضجع النظام الذي كم راهن على تفرق كلمة السودانيين، وكان نداء السودان رأس الرمح في بناء الإجماع الوطني الذي تعضد عشية الثورة، فالنداء الآن هو المكون الوحيد في قوى الحرية والتغيير الذي يضم حملة السلاح، مما يطمئن من عدم تكرار تجربة استمرار الحرب بعد الثورة الشعبية.
  7. أغضب دور الحزب في نداء السودان النظام المتسلط، ففتح بلاغات ضد رئيس الحزب مرتين، في البداية في ديسمبر 2014م حيث تم فتح بلاغات في تهم تصل عقوبتها للإعدام ضد كل الموقعين على نداء السودان ورئيس حزب الأمة منهم (وحاكم بالفعل كل من دكتور أمين مكي مدني وفاروق أبو عيسى طبقاً لتلك البلاغات بينما علق الشكوى ضد رئيس الحزب والموقعين الآخرين لوجودهم خارج السودان). وكرر النظام ذلك بعد انتخاب رئيس حزب الأمة كرئيس لنداء السودان في 17 مارس 2018م، حيث فتح جهاز أمن النظام المباد بلاغاً ضده بتاريخ 3 أبريل 2018م بالرقم 2018/175 تحت المواد (21، 25، 26، 50، 51، 53، 63 و66) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، وتتعلق بـ”الاشتراك الجنائي – تقويض النظام الدستوري – التحريض ضد الدولة – إشاعة الفتن – التجسس – نشر الأخبار الكاذبة”، بجانب المادة 6/5 من قانون مكافحة الإرهاب، وهي تهم تصل عقوبة بعضها للإعدام. وكرر النظام الوعيد بتحريك أمر القبض لرئيس الحزب عشية الإعلان عن عودة نائبة الرئيس في 15 نوفمبر 2019م وبالرغم من ذلك عادت نائبة الرئيس غير آبهة بالتهديد، وعاد رئيس الحزب لمواصلة المطالبة بحقوق الشعب السوداني من الداخل في 19 ديسمبر 2018م.
  8. رافقت عودة رئيس الحزب في 19 ديسمبر 2018م مولد ثورة ديسمبر المباركة التي ابتدأت بالدمازين في 13 ديسمبر وتحولت إلى عطبرة ثم الخرطوم. تحدث رئيس الحزب في حشد ضخم ببيت الأمة وذكر أن الاحتجاجات التي اندلعت للتو تلقائية معبرة عن المعاناة ومرشحة للزيادة، راجياً أن يكون التعبير فيها بدون عنف ولا تخريب، وطالب بتقديم مذكرة للخلاص الوطني بصورة جماعية لا يتخلف عنها أحد تحمل مطالب لخصت ما تم الإجماع عليه بعدها في إعلان الحرية والتغيير. وفي مؤتمر صحفي عقده الحزب في 22 ديسمبر تحدث رئيس الحزب مؤيداً الحراك السلمي ومندداً بتصدي النظام له بالعنف مما أدى لسقوط عشرات الشهداء، وناشد القوى النظامية ألا تبطش بأهلها من جياع ومظلومين، وكرر المطالبة بتسيير موكب جامع يقدم مذكرة لإقامة نظام جديد. ولكن انطلقت حملة مغرضة لتشويه حديثه في المؤتمر الصحفي، حيث رد على من اتهم الحزب بتأخر تأييده للثورة وقال إننا لا نقبل المزايدة علينا ونحن الأكثر أصالة في الثورة، وقد قاومنا هذا النظام وظلننا نقاومه منذ قيامه، ولا يمكن أن يزايد علينا الذين انضموا مؤخراً للمقاومة، فأولئك خروجهم مثل “علوق الشدة وبوخة المرقة”، بينما نحن كنا وما زلنا مداومين على خط المقاومة. هذا الحديث تم حرفه وبتره من سياقه وانطلقت أقلام بعضها مأجور وبعضها غافل وبعضها يستند لأحقاد تشوه حديثه كما لو كان أساء للثورة المباركة ووصفها ببوخة المرقة، وهو في الحقيقة يصف أولئك القادمين الجدد لصفوف المقاومة، ويعتبر أن حزب الأمة أكثر أصالة في الثورة ومعارضة النظام منهم.
  9. واستبشر الحزب لتناغم تجمع المهنيين في 25 ديسمبر مع مطالب القوى السياسية بالانتقال من الصبغة المطلبية إلى السياسية والمناداة بتنحي النظام وإقامة نظام جديد. واقترح الحزب ضمن نداء السودان إعلان الحرية والتغيير في 1 يناير 2019م، وهو أساس التحالف الذي قاد الثورة ومواكبها، وقدم باسمها المذكرات، وواصل الضغط التراكمي الذي استجاب له الشعب بكافة فصائله في النهاية. وكان الحزب يصدر مع كل موكب تقريباً بياناً يحث عضويته على المشاركة طيلة أشهر الثورة الأربعة، وظل قادته يشاركون في مواكبها ومشاهدها، واعتقل عدد منهم في موكب الرحيل الذي أزمع تقديم مذكرة لرئيس الجمهورية في مارس 2019م. كما اعتقل عدد كبير من قادة الحزب وكوادره في العاصمة والولايات، فقدم من عضويته الشهداء أسوة بغيره من فصائل الشعب المناضل، والجرحى، وكانت مناطق ثقله الشعبي متقدة بالثورة بدءاً بالدمازين، ومروراً بالجزيرة أبا، والقضارف، والعبيدية، والعقدة المغاربة، وسنار، وكردفان وغيرها.
  10. وفي 5 يناير 2019م تحدث رئيس الحزب في كلمة عن استقلال السودان فحيا الثورة وشبابها الباسل الذي قدم أروع التضحيات تحية مليئة بالعاطفة إذ قال: (غيبتني سجون ومنافٍ، وحينما جئت في عودة ماضية، ليست الحالية، قيل لي إن الشباب ضاع، فهم إما يريدون أن يخرجوا من البلد أو أخذتهم المخدرات، وإن النظام بتجهيله وبكذبه وبوسائله المختلفة دمر هذا الجيل، وهذا ما جعلني أؤلف كتاباً أسميته “أيها الجيل”. كتاب أيها الجيل هو محاولة لاستنهاض جيل ظُنّ أنه ضاع. ولكن هذه المرة جئت ووجدت أن ما قيل في وصف هذا الشباب خطأ، هذا الشباب فيه الصفات الثلاث للشبابية: الحماسة، والمثالية، والتفاؤل. شبابنا الذي اندفع في شوارعنا في مناطق مختلفة أكدوا معانٍ مختلفة عما كان الناس يظنون. أكدوا معاني الحماسة، والتفاؤل، والمثالية بشجاعة وبإقدام رائع، لقد رأيتُ واقتنعت أن هؤلاء الذين حاولت تدجينهم وسائل الإعلام ووسائل التعليم التي سلطت عليهم، فإن ما حدث هو العكس، فصاروا كأنهم موسى الذي نشأ في دار فروعون، الحمد لله على ذلك. هذا الشباب بلا شك أثبت شبابيته وثوريته). وفي نفس الكلمة قال: (لا شك أن هذا النظام وبعد ثلاثين عاماً من العمل والمعارضة له والكشف عن عيوبه هو الآن قد كتبت عليه النهاية في الحقيقة، مهما يقولون ويبالغون فإن النهاية قد كتبت معنوياً ولم تبق إلا الإجراءات المطلوبة لندفن هذه الجنازة).
  11. بعد مجزرة موكب الخميس 17 يناير في بري نعى رئيس الحزب شهداء الثورة وقال: (إن الذين أمروا هؤلاء الوحوش والذين نفذوا هذه الأوامر آثمون لا بد من عقابهم مهما طال الزمن. هؤلاء استمرأوا سفك دماء الأبرياء، وما يقال عن تحقيق بلا مصداقية، لأنه تحقيق الخصم والحكم، ولا صدقية لتحقيق إلا على يد اللجنة الفنية التابعة للأمم المتحدة لتجري تحقيقاً في كل هذه الممارسات الباطشة لمعرفة الحقائق ومساءلة الجناة.) وفي 20 يناير خاطب رئيس الحزب المجتمع الدولي مطالباً الأمم المتحدة بتكوين لجنة فنية للتحقيق في البطش الدموي بالمتظاهرين، فأرسل خطابات لوزراء خارجية البلدان الممثلة في مجلس حقوق الإنسان ينادي بالتدخل لمساندة الشعب الثائر ووقف بطش النظام به.
  12. وفي يوم الجمعة 25 يناير 2019م صلى رئيس الحزب الجمعة بمسجد الهجرة بودنوباوي وقدم تصوراً عن خطوات الثورة التراكمية هو أشبه بما حدث فعلاً بدءً بالمواكب وتقديم مذكرة للقصر وانتهاء بالاعتصام، قال نصاً: (ثم يحتشد الشعب في مائة موقع داخل السودان وخارجه في اعتصامات ترفع شعارات ميثاق الخلاص ولا تتحرك) وحث الجميع على المشاركة قائلاً: (لا عذر لمن يُمسك عن مواكب خلاص وطنه المحتضر).
  13. وبعد إعلان النظام للطواريء في 22 فبراير رفض حزب الأمة الإعلان وأعلن عن مقاومته، وقدم الحزب كبسولة التحرير لإسقاط رئيس النظام ونظامه في حشد شعبي بتاريخ 2 مارس 2019م.
  14. رئيس حزب الأمة القومي وهو رئيس الوزراء المنتخب ظل رافعاً راية الشرعية الديمقراطية في الداخل وأمام الأسرة الدولية. هذه المكانة ساهمت في إتاحة الفرصة لمخاطبة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن والسلم الأفريقي، والبرلمان الأوربي، والبرلمان البريطاني، والكنغرس الأمريكي، والمحكمة الجنائية الدولية، والجامعة العربية. وهلم جرا.
  15. المشاركة في هبات وانتفاضات المعارضة للنظام السبعة. وفي 5 أبريل 2019م وفي خطبة الجمعة إعلان أن الخروج للشارع فرض عين على كل وطني ما أعطى مزيداً من الشرعية والزخم لموكب 6 أبريل. حيث صلى بالجموع رئيس الحزب وفصل العوامل التي أدت لهبات الشعب ست مرات ضد النظام ثم قال: (ولكن هذه المرة السابعة كانت الأوسع والتي خاضها شباب السودان والقوى السياسية والمهنية والأساتذة بصورة جعلت كل المجتمع متحركاً. وفي ذكرى 6 أبريل غداً يرجى أن تتسع المشاركة في التعبير عن مطالب الشعب. ومن هذا المنبر أدعو الجميع لتلبية النداء الوطني، وأرجوهم أن يلتزموا بالسلمية، وألا يستجيبوا لأية استفزازات، فالحلم الصامد أقوى من السلاح. احتشدوا وارفعوا راياتكم وشعاراتكم سلمياً، اضربوا مثلاً.) وطالب رئيس النظام أن يتقدم بالاستقالة، كما ناشد القوات المسلحة ألا تبطش بمواطنين عزل يطالبون بحقوق يكفلها الدستور.
  16. في الأربعاء 10 أبريل اتصل بي الأستاذ محمد وداعة (الكاتب والقيادي البعثي) وقال لي إن مدير الأمن والاستخبارات صلاح قوش يريد الاجتماع بنا كممثلي المعارضة وجاء معه أحمد هارون للقائي والسيدين محمد وداعة ويحيى الحسين. سألا عن مطلب المعارضة فقلنا لهما تنحي رئيس النظام ونظامه. قال أحمد هارون هذا مستحيل، فقالوا له هذا هو مطلبنا. كان البشير قد اجتمع بالمؤتمر الوطني وأعلن قراره بفض الاعتصام بالقوة مهما كانت الخسائر في يوم الثلاثاء 9 أبريل، هذا ما أعلنه أحمد هارون في الاجتماع المذكور. قلت لأحمد هارون نرفض قراركم. وتضامناً مع المعتصمين أنا ذاهب لأصلي معهم الجمعة، قال أحمد هارون هذا لا يغير قرارنا، قال محمد وداعة إذن أقتلوهم وأقتلوه معهم وتحملوا النتيجة. اختلف معه صلاح قوش أمام الاجتماع وقال: لن يفض الاعتصام بالقوة.

بعد ذلك اجتمع البشير مع لجنة الأمن المكونة من القيادات الأربع: رئيس هيئة الأركان، وحميدتي، ومدير الأمن، ومدير الشرطة وأبلغهم قراره بفض الاعتصام بالقوة مهما كان الثمن، وقال إذا لم ينفذوا هذا القرار فإنه سوف يستخدم كتائبه ويفضه بالقوة. وتركهم لبحث تنفيذ قراره. ولكنهم قرروا عدم تنفيذ قراره بل الإجماع على عزل البشير وقد كان في فجر الخميس 11/4/2019م. كان لموقفنا ولا شك دور في ذلك.

هذه مواقف سوف يسجلها التاريخ المنصف بأحرف من نور.

حزب الأمة القومي لا ينكر نضال الآخرين ضد النظام المباد خاصة شباب الوطن في المواكب الجسورة التي تراكمت حتى موكب السادس من أبريل ومن ثم الاعتصام التاريخي أمام القيادة العامة، ودور عسكريين في حماية المعتصمين، ولكن بعض العناصر جهلاً أو حسداً تعامت عن دور حزب الأمة القومي في العاصمة والأقاليم وأكثرية وجود أعضائه في سجون النظام المباد على مدى الثلاثين عاماً من عمره.

 

 

 

 

 

[1]  رواه الألباني

[2] سورة الشعراء الآيتان (193، 194)

سورة محمد الآية (24)[3]

[4] رواه البخاري

[5] سورة الإسراء الآية (59)

[6]  رواه أحمد

[7] رواه البخاري

[8] سورة يوسف الآية (40)

[9] سورة الفرقان الآية (52)

[10] سورة الحج الآية (39)

[11] سورة البقرة الآية (256)

[12] سورة النحل الآية (125)

[13] سورة الأنعام الآية (89)

[14] سورة آل عمران الآية (104)

[15] سورة لقمان الآية (15)

[16] رواه البيهقي

[17] سورة الكهف الآية (86)

[18] سورة الحجر الآية (85)

[19] سورة غافر الآية (85)

[20] سورة الانعام الآية (158)

[21] سورة الزمر الاية (30)

[22] سورة الانعام الاية (89)

[23] سورة المائدة الاية (54)

[24] سورة لقمان الاية (15)