سلام السودان بين الإيقاد والكوديسا

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام السودان بين الإيقاد والكوديسا

1 مايو 2005م

فى مطلع هذا العام وقعت حكومة السودان والحركة الشعبية اتفاقية سلام شامل فى مشهد سار بذكره الركبان وشرع بعضهم يقترح مستحقي جائزة نوبل للسلام.  وفى ظرف خمسة أشهر حتى يومنا هذا انفتحت فى السودان مغارة “على بابا” وبدلت حالة الوئام المتوقع إلى مواجهات واستقطابات لا تبقي ولا تذر من السحرة أو المتآمرة الذين بدلوا الذهب نحاسا، والدر صدفا، وقوائم جائزة نوبل إلى قوائم المطلوبين للعدالة.. الحقيقة المرة: لا سحرة . ولا متآمرة . بل مقدمات معيبة ولدت عيوبا.

فيما يلي أهم سبع خطى وصلت بنا إلى هذا الحال:

1-  الاتفاقية نصت على أن من أهدافها المشاركة الجامعة INCLUSIVITY ولكن بنودها العملية قامت على قسمة ثنائية للسلطة، والسلاح، والثروة، وكتابة الدستور، وبناء المستقبل بصورة مفصلة تعطي الآخرين إن امتثلوا لسقوفها الثنائية دورا هامشياً. هؤلاء “المهمشون الجدد” رفضوا هذا الدور واتجهت القوى السياسية الشعبية المدنية إلى تكوين موقف شعبي واسع مضاد للحكم الثنائى الجديد”. أما المسلحون المهمشون كالفصائل الجنوبية غير التابعة للحكومة ولا للحركة الشعبية فقد أكدوا رفضهم وقعقعوا سلاحهم.

2-  الاتفاقية سمت نفسها السلام الشامل مغفلة تماما استعار حرب أهلية فى دارفور ووجود حالة حرب وشيكة فى شرق السودان واتجهت فصائل المقاومة المسلحة فى الغرب والشرق إلى تكوين موقف عسكري موحد فى وجه النظام.

3-  التحالف الثنائي بين الحكومة والحركة تحالف هش لسببين أساسيين الأول: أن لطرفيه رؤى أيديولوجية متناقضة. والثاني: أن لطرفيه تحالفات خارجية متعارضة أهمها أن النظام حليف محوري لإثيوبيا والحركة حليف لإرتريا وبين النظام السوداني والارتري ـ حتى إشعار آخر ـ خطة إطاحة متبادلة. ومن غفلات اتفاقية السلام الكثيرة أنها لم تحاول الاتفاق على خطوط عريضة للسياسة الخارجية فصار الطرفان حرين فى اختيار السياسة الخارجية التي تناسبهما.

4-  فجوة الثقة بين الحكومة والحركة كبرى لذلك اتفق الطرفان على دور متابعة ورقابة وتحكيم للأمم المتحدة لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها. وطلبت اتفاقية السلام من الأمم المتحدة القيام بهذا الدور تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. لكن مجلس الأمن لدى استعراض هذا الطلب أصدر القرار رقم 1590 في 24/3/2005 وهو قرار تجاوز ما طلبته الاتفاقية فى ثلاثة أمور هامة. الأول: أنه تجاوز المناطق المحددة في الاتفاقية ليشمل دارفور. الثاني: أنه أضاف للأمم المتحدة مهاما أخرى لم تطلبها الاتفاقية. والثالث: وهو الأهم أن مهمة الأمم المتحدة فى السودان ستكون بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أي باعتبار السودان خطرا على السلام العالمي. الفصل السادس اختياري. والفصل السابع إجباري. والمدهش حقا أن مجلس الوزراء لدى قبوله للقرار 1590 قرر الموافقة عليه “لأنه جاء تلبية لطلبنا” مرة أخرى يتأكد بأية غفلة تدار أمور السودان!.

5-  إن لعدم ثقة الأمم المتحدة في النظام السوداني خلفية: أبرم النظام مع الأمين العام اتفاقا فى 3/7/2004 ولم ينفذه. ودخل فى اتفاقيات وقف إطلاق نار، وحماية مدنيين، وحماية جماعات الإغاثة الإنسانية، وقعها مع حركتي الانتفاضة المسلحة فى دارفور ووقعت تجاوزات. لذلك أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1591 فى 29/3/2005.. قرار يحظر الطيران العسكري السوداني فى سماء دارفور. ويقيم آلية مفوضة لمعاقبة كافة الذين يخرقون وقف إطلاق النار أو يعتدون على المدنيين أو جماعات الإغاثة. وقبل مجلس الوزراء هذه الوصاية الدولية الأمنية والقضائية دون تحفظ.

6-    فى سبتمبر  2004 اتهمت الولايات المتحدة النظام السوداني بارتكاب جريمة إبادة جماعية فى دارفور. بحث مجلس الأمن الاتهام وقرر تكوين لجنة دولية للتحقيق فى الأمر. النظام السوداني قبل تكوين اللجنة التى أمضت ثلاثة أشهر في دارفور ونشرت تقريرها فى  25/1/2005. التقرير نفى الإبادة الجماعية نفيا غير قاطع ولكنه اتهم الحكومة السودانية وحلفاءها والمقاومة المسلحة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وأوصى بتقديم 51 شخصا للمحاكمة أمام المحكمة الجزائية الدولية. استعرض مجلس الأمن توصيات هذه اللجنة وقبلها وأصدر قراره رقم 1593 بتاريخ 31/3/2005 هذا القرار رفضه النظام السوداني لأنه “يمس بالسيادة الوطنية”. المحكمة الجزائية الدولية من أدوات العدالة الدولية التي نشأت الحاجة إليها لمحاسبة الذين يشنون الحرب العدوانية والذين يرتكبون جرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. وتكوينها يسد ثغرة هامة في جهاز العدالة الدولية. وكنا كثيرا ما نطالب بمثلها ولدى تكوينها فى عام 2002 طالبنا بالتوقيع والتصديق عليها. وهى مستقلة حقا وقانونها عادل وتكمل ولا تلغي القضاء الوطني إذا كان حقا مستقلا وعادلا. ليس فى الإحالة للمحكمة الجزائية الدولية أي مساس بالسيادة الوطنية. والسيادة الوطنية نفسها ليست للحكومات بل للشعوب ولا حرمة لمن يسفك دماء الأبرياء إذا وقع منه ذلك حقا. ولا يستطيع أن يبرئه من ذلك أو يدينه به إلا قضاء مستقل.. صفة أهدرها نظام الإنقاذ فى السودان وشهد بذلك جمهور القضاة السودانيين فضلا عن القوى السياسية المقصاة لا سيما فى فترة “الشرعية الثورية”.

نعم نحن أهل السودان نشعر بأن حرص النظام على الانفراد بأمر الدين والوطن أدى إلى استقطابات حادة وبعد أن بلغ السيل الزبى قرر مشاركة الجيش الشعبى فى تمكين ثنائي. وقرر أن يحاول استرضاء قوى المقاومة المسلحة الأخرى بعطايا ثنائية مستبضعا حل مشاكل السودان الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، فى كل عواصم العالم فى نيروبي، وأبوجا، وأوسلو، والقاهرة، وانجمينا، وطرابلس مبيحا للجميع التخطيط للشأن السوداني. والنهج الراتب فى كل هذه المحاولات هو تجنب الحل السياسى الشامل عبر مؤتمر قومي دستوري كان مزمعا فى 18/9/1989 فقوضه الانقلاب واستمر وفيا لذلك الهدف حتى يومنا هذا

يسائل عن فراش كل ركب        وعند جهينة الخبر اليقين.!

نعم أثناء الفترة الماضية عقد مؤتمر المانحين فى أوسلو والتزم المانحون مشكورين بمبلغ 4.5 مليار دولار للجنوب خاصة وللسودان عامة وهى مبالغ مشروطة بتحقيق السلام الشامل. كما أن الحوار الجنوبي الجنوبي الذى رعاه كثير من الخيرين السمر أدى لإعلان اتفاق بين كثير من قوى الجنوب السياسية. لكنه لم يشمل كثيرا من الفصائل الجنوبية المسلحة.

مبادرة الإيقاد التي قطعت بالسودان الشوط حتى إبرام اتفاقية السلام حققت نجاحا ضروريا ولكن ليس كافيا.

الدرس المستفاد من اتفاقيات السلام فى أفريقيا الناجحة منها والفاشلة هو أن من أهم أسباب الفشل: أن أصحاب السلطة يهدرون اتفاقيات السلام لحرصهم على أخذ ما  أعطوه باليمين باليد اليسرى. أو أن القوى المتبنية للتحرير تنتقل عبر التفاوض من التحرير إلى التمكين الحزبى فتهمش الآخرين وتضر باستدامة السلام.

إن ما يجري فى السودان اليوم من مواجهات واستقطابات وعوائق فى سبيل السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الحقيقي نتيجة حتمية للمقدمات المعيبة والعاقل من اتعظ بغيره. أو تعلم من أخطائه.

لقد عدت توا من جنوب أفريقيا والتقيت فيها سياسيين ومسئوليين، ومنظمات مجتمع مدني عاملة فى كل المجالات، وهيئات دينية إسلامية ومسيحية، وجماعات إسلامية، وشركات استثمارية وغيرها وسرني كثيرا ما رأيت وسمعت، واستعرضت مع بعض الجهات ما كنت معجبا به نظريا فى تجربة جنوب أفريقيا الرائدة فى التحول من الاقتتال للسلام ومن وصاية البيض للديمقراطية. تجربة جنوب أفريقيا تحمل ثلاثة دروس مفيدة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:

الأول: الذهنية الديمقراطية التي تحلى بها مانديلا وزملاؤه وديكلارك وأعوانه أوجبت الحرص على ديمقراطية خطي الانتقال والمشاركة الجامعة. لذلك عقدوا مؤتمر الديمقراطية فى جنوب أفريقيا فى 1993 (كوديسا). هذا المؤتمر كان جامعا بحق شمل 26 حزباً وفصيلا من أقصى عتاة البيض إلى أقصى غلاة السود. وكانت النتيجة: اتفاق سياسي محكم ودستور يمتلكه الجميع ويلتزمون به لذلك أكدت جدواه تجربة الأعوام العشرة الماضية.

الثاني: أن مظالم الماضي لا يمكن تجاوزها، ولا ينبغي الخضوع لأسرها. لذلك أقاموا آلية عبقرية توفق بين الهدفين هى هيئة الحقيقة والمصالحة.

الثالث: أن أصحاب التجربة هم قوى جنوب أفريقيا الوطنية نفسها بلا دور للخارج إلا الأمنيات الطيبة.

لذلك أنبتت التجربة شجرة طيبة.. “أصم أم يسمع غطريف “الوطن”. إنما يستجيب الذين يسمعون!.