كلمة الإمام الصادق المهدي في رد الجميل للشاعر محجوب شريف

الإمام الصادق المهدي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

رد الجميل من الشعب لشاعر الشعب محجوب شريف

أمسية 3 أبريل 2014م أمام بيت شاعر الشعب

كلمة الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم

أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

مشهد مثل هذا في غير السودان مستحيل، لأن أهل السودان باختلاف عقائدهم، وأحزابهم واتجاهاتهم جاءوا يقولون وداعاً لشخص كان حبيباً لهم جميعاً، وكان يعبر بشعره عن ضمائرهم جميعاً. وأود أن أطوف بكم على المعاني التي اعتقد أن الحبيب الراحل كان يجسدها. ففي حقيقة الأمر إن أمثال محجوب من ذوي العطاء لا يفنيهم الموت، لأن من المعروف أصلاً وفعلاً أنه:

قد ماتَ قـومٌ ومَا مَاتَتْ مـكـارِمُهم وعَاشَ قومٌ وهُم فِي النَّاسِ أمْواتُ.

ومن هذا المنطلق أسطر وأقول المعاني التي أعتقد أن الراحل كان يجسدها:

أولها: كان الراحل عنقود عطاء: كان إنسانياً يخدم الناس بقلبه وفعله وجمعيته (منظمة رد الجميل) التي وهبها للعمل الإنساني، كان إذاً رائد نشاط إنساني.

ثانياً: ثم كان محجوب شريف مصلحاً اجتماعياً عمل على تخفيض وتسهيل وتيسير وتيسيير الزواج بالصورة التي يحتاجها مجتمعنا الآن، الذي صار فيه الزواج عبئاً ثقيلاً مستحيلاً، وبهذا السبب هذا صار شبابنا الآن فقط 25% هم الذين يتزوجون وكثيرين منه يطلقون للإعسار. كان مصلحاً اجتماعياً.

ثالثاً: كان كذلك رحمه الله من الذين يتعاملون مع الناس جميعاً، مفتوح صدرهم للقريب والبعيد، صلاته الاجتماعية واسعة للغاية، ولذلك كان أحباؤه كثيرون، وعلى طول الخط في العمل العام، في الشعر، في الأدب وفي السياسة.

رابعاً: كذلك كان شاعرنا نصيراً للمستضعفين اجتماعياً، وثقافياً، ومن أكثر المستضعفين في مجتمعنا المرأة. ولذلك عندما ولدت له الابنة الثانية وقال له بعض الناس “بت تاني؟!”، اندهش من هذا الاستغراب لأنه استغراب جاهلي: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [1]. هذا هو نفس المعنى الذي كان في الجاهلية ضد المرأة، والحقيقة قيل للشاعر أحمد شوقي في مناسبة مماثلة مثل ما قيل له، فقال قصيدة طويلة منها المعنى:

إنَّ الشَمسَ في عَليائِها أُنثى وَكُلُّ الطَيِّباتِ بَناتُ

خامساً: كذلك كان شاعرنا ترجمان الوجدان السوداني، ترجم الوجدان السوداني في كبوات السودان وفي صحوات السودان. الشعر الذي قاله في أكتوبر وفي أبريل صار مضرب الأمثال:

أصبح الصبح

ولا السجن والسجان باقي

وكذلك ما قاله في أبريل:

يا شعباً لهبك ثوريتك

تلقى مرادك والفي نيتك

وفي كبوات الوطن التي واجهها في بلادنا تصدى للطغاة بكلام قوي سلقهم بألسنة حداد، وهم الذين أقاموا في البلاد النظام الذي وصفه أمل دنقل بقوله:

تحدث عن الطقس إن شئت فانت آمن

أو حبوب منع الحمل إن شئت فأنت آمن

هذه هو القانون في مزرعة الدواجن

ولذلك نراه قد تحدث وتحدى قانون مزرعة الدواجن هذا بشعر سار به الركبان، فسجن مرات وعذب مرات، ولكن استطاع بذلك أن يحيي وأن يؤكد:

أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ

واستطاع بهذا الفم أن يعبر عن وجدان الشعب أثناء ظروف الكبوات.

سادساً: وكان إلى ذلك مع إنجازاته النضالية فكهاً، حلو المعشر، متواضعاً يعبر عن المعنى:

إذا امتلأت نفس اللئم من الغنى تمايل كبرا ثم قال أنا أنا

ولكن الكريم النفس كالغصن كلما تحمل اثماراً تمايل وانثنى

سابعاً: وكان علماً في التواصل الاجتماعي. أكثر العلاقات قوة في مجتمعنا التواصل الاجتماعي. كان يواصل الناس ويدفع ثمن المودة والمحبة معهم بلا منٍ ولا أذى. وفي يوم من الأيام في إحدى العلل المرضية التي واجهته وبعد الشفاء دعوته هو وأسرته لتكريمه، وفي هذا التكريم جاء هو والأسرة، وقال، وكان يعلم ما لقيناه من عنتٍ وكم شقينا نحن بمايو، وقد كان مدحها في غفلة من الزمان بشعر رائع:

أنت يا مايو الخلاص

يا جداراً من رصاص

ولكن النظام صدأ وبان معدنه الرديء فأذاق الشعب ومن ناصروه سوء العذاب. ولذلك قام المرحوم وبكل نبل التائبين، وبكل كرامة وشهامة قال لنا، أنا اعتذر لكم وأعتذر للشعب السوداني عما قلت في هؤلاء الوحوش، والغريب أنه هكذا بنبله عبّر، وهو نبل لم يسعف كثيرين من الذين ساهموا في الخطيئة الانقلابية، واشقوا البلاد بانقلاباتهم وسجونهم، وحتى بعد أن أدركوا سوء عملهم يمشون بين الناس كأنهم لم يفعلوا شيئا، ولم يسعفهم نبل الاعتذار مراهنين على غفلة النسيان، الصلف منعهم من الاعتذار وربما عادوا لمثل ما فعلوا لو سنحت الظروف يدخلون جحر واحد مرات، والحقيقة أن كل الذين صنعوا الانقلابات

وأقاموا معها الطغيان وبطشوا بالناس صاروا هم ضحاياها:

وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازًا لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضرغام فيما تصيدا

كان المرحوم بهذا النبل يتعامل مع الجميع ولذلك يكتسب حبهم ويكتسب ودهم، أقول هذا وأنا في معرض التأبين له لأن هذه الشخصية بهذا النبل قد خلقت بينها وبيننا، وبينها وبين كثيرين ممن لم تجمعهم معه الفكرة، المودة والمحبة.

ثامناً: الحقيقة أن هذا الراحل مع كل الظروف المحبطة، والمرض الذي يعاني منه، وكنت في آخر لقاء له في بيته هنا أشعر كيف ينازع لكي يتنفس، مع هذا كله استطاع قبل وفاته أن يرسل لنا جمعياً تلغرافاً من تلغرافات الأمل، قال فيه:

ملء جفوني بَنوم مُتأكِّد

بل متجدِّد .. بتنهض تاني

والحقيقة أن أسوأ ساعة الليلة وأكثرها حلكة هي التي تكون قبل الفجر، فالفجر آت ونظام الفجر آتٍ.

تاسعاً: وآخر ما أقول في شاهد الراحل أقول: إن محجوب شريف كان على سنة صديقه الراحل محمد إبراهيم نقد، من الذين طوعوا الأيديولوجية للمناخ السوداني، فجعلوا لها جذوراً في المجتمع السوداني تتعدى حدود الأيديولوجية، غلبوا بإنسانيات السودان مفاهيم الصراع الطبقي واتخذوا من إنسانيات السودان وسائل للتعامل بينهم وبين الآخرين لبناء غداً يشترك الجميع في بنائه. وهذه خصلة تدل على أقلمة، وهذه الأقلمة ليست غريبة على السودان. كوش استطاعت أن تجذب إليها حضارة الفراعنة وحضارة الإغريق وتنبت حضارة سودانية فريدة صار السودان بها ليس مجرد مستقبل ولكن صاحب عطاء، وكذلك المهدية، فالمهدية استطاعت أن تغيير في مفهوم المهدية: الشخصنة عند الشيعة، وآخر الزمان عند أهل السنة، فالمهدي جعل المهدية وظيفة إحياء الدين، كذلك حقق المهدي تحريراً أساسياً للفكر الإسلامي على أساس أن الإحياء مستقبلي وليس ماضوياً، على أساس أن “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”, هذا المفهوم الذي يجعل المهدية صاحبة عطاء في الفكر الإسلامي لا مجرد استقبال، وهذا يعني أن ما فعلاه مما ذكرت من أقلمة الفكر الوافد على المناخ السوداني، هي مسألة تتطابق تماماً مع عبقرية الشعب السوداني الذي يفعل هذا.

لا عيب أبدا في استقبال فكر وافد، ولكن العيب في التبعية العمياء، ونحن في السودان نستطيع أن نستقبل ما نستقبل، ولكن نستطيع أيضا أن نطوره مما يلائم ظروف السودان الفكرية والاجتماعية، وهذا ما يمكن أن ننسبه إليه أيضاً.

عاشراً: هذه حسنات نعددها له بحق، ونحن قوم نحمد في شريعتنا مكارم الأخلاق من أي شخص يأيتها، فمكارم الأخلاق حميدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ” [2]، ويقول علماء المسلمين أيضاً العدل هو شريعة الإسلام في أي مكان كان العدل فذلك شرع الله وحكمه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في هذا المعنى: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاق” [3]، وبهذا المنطلق نعتقد أنه يمثل تمثيلاً وتجسيداً قوياً عبارة “إن الدين المعاملة”، تجد بعض الناس كثيري الصلاة والصيام ولكن الواحد منهم مستعد أن يغش، ويأكل حقوق الناس، ويكذب ويفعل ما يفعل، ويدعي أن الصلاة تنجيه، قالت السيدة عائشة (رض): “إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” [4] فالمفهوم هنا أن لمكارم الأخلاق محمدة عند الناس وعند الله، وهذا يدل على أننا نستطيع أن نستمطر له الرحمة بموجب أنه كان صادقاً وكان عادلاً ومتواضعاً ومناضلاً يتصدى للطغاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” [5].

وفي ختام حديثي هذا أعزي زوجه أميرة، وبنتيه مريم ومي، وأسرته الصغيرة وحزبه، والوطن الكبير الذي افتقده، وأدعو لهم جميعاً بحسن العزاء، ونحن نعتقد أن ما خطه من سيرة، وما تركه من شعر، وما ترك من معان وصمود ستكون إن شاء الله زاد لهذا الشعب في نضاله حتى يقيم نظاماً فيه السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل والعدالة الاجتماعية الناجعة.

والسلام عليكم،،

 

ملحوظة: كتب الحبيب الإمام الصادق المهدي رؤوس المواضيع وألقى كلمته بالتأبين شفاهة، وقمنا في المكتب الخاص له بإعداد الكلمة أعلاه مستفيدين من النص المكتوب وتسجيل الكلمة بالفيديو.