كلمة الإمام الصادق المهدي في مؤتمر الرابطة العالمية للدفاع عن مشروع الجزيرة

الإمام الصادق المهدي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الرابطة العالمية للدفاع عن مشروع الجزيرة
بمناسبة انعقاد مؤتمرها الثاني بجامعة ميريلاند بولاية ميريلاند الأمريكية

المنعقد تحت شعار: (معاً من أجل إعادة تأهيل مشروع الجزيرة)

بقلم: الإمام الصادق المهدي

28/5/2016م

الأخ رئيس المؤتمر

أخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي،

السلام عليكم تحية لكم، مع بعدي وبعدكم عن الوطن جغرافياً ولكن السودان ليس مجرد وطن نسكنه بل هو وطن يسكننا وكما قال أبو ماضي:

فالمرءُ قد ينسى المُسيءَ *** المفتري، والمُحسنا
وَمَرارَةَ الفَقرِ المُــــــذِلِّ *** بَلــــــى وَلَذّاتِ الغِنى
لكنَّهُ مهما ســـــــــــلا *** هيهاتِ يسلو الموطنا

لن أتطرق لإخفاقات النظام في دروب الحياة، فقد أسهبت في بيان نكبات السودان على يد النظام في أكثر من مجال.

ولكن سوف أتناول بيان جريمة النظام على مشروع الجزيرة الذي كان دينمو الاقتصاد الوطني في السودان لأنه:

‌أ. كان مصدراً أساسياً من مصادر الدخل القومي، ومن مكاسب العملة الصعبة لسداد فاتورة الاستيراد.

‌ب. وكان مصدراً مهماً لكثير من المواد الخام اللازمة لكثير من الصناعات: الملابس، والغزل، والنسيج، والزيوت، والأعلاف.

ج. وكان موئلاً لمئات الآلاف من الأيدي العاملة في الزراعة والصناعة من موظفين، وعمال ومزارعين، وعمال زراعيين، وخبراء أبحاث علمية.

‌د. ووفر المشروع مرعى لمئات الآلاف من قطعان الثروة الحيوانية.

‌ه. وكان مصدر الرزق للقطاعات الواسعة من المواطنين، أمن حياتهم وعصمهم من الهجرة للمدن كما حدث لمناطق أخرى حتى ريفوا أجزاء كبيرة من العاصمة.

‌و. وكان للمشروع إسهام أساسي في نهضة منطقة الجزيرة اقتصادياً، واجتماعياً بل المشاركة الكبيرة في تنمية السودان.

‌ز. ولكن باعتراف مهندس النظام الانقلابي أنهم أقدموا على اغتصاب السلطة بلا تحضير لما يفعلون بها فتخبطوا في تناول كافة القضايا الوطنية تخبطاً كان لمشروع الجزيرة نصيبه منه حتى قال الساخرون عن بركات: “الشلعوها الكيزان”.

شلعوها عبر المضرات السبعة وهي:

‌أ. التضحية بمحصول القطن وأسواقه العالمية وميزاته النسبية، لصالح توسيع غير مدروس في زراعة القمح الذي يزرع عالمياً في مناطق باردة ويروى بالأمطار أي ظروف إنتاج مناسبة لقلة تكلفة زراعة القمح ما جعل محصول الفدان الواحد من القطن يساوي عائد محصول 6 أفدنة من القمح في السودان ما يجعل المصلحة في استيراده بثمن القطن.

‌ب. عندما أمكن استغلال بترول السودان المكتشف قبل انقلاب يونيو 1989م بعد أن تحسن سعر البترول، تحقق للسودان عائد مالي من البترول لا يقل عن 6 مليار دولار سنوياً في المتوسط في الفترة 2000م إلى 2011م. وكانت الإدارة الصحيحة أن يستخدم عائد البترول في ترقية، وتطوير، وتنمية البنيات الإنتاجية في الزراعة والصناعة وتربية الحيوان، ولكن النظام وجه العائد نحو صرف إداري غير ضروري بالإكثار من الولايات والمحليات ما ضاعف الصرف عليها 18 ألف مرة، وضاعف الصرف العسكري والأمني أكثر من 7 مرات، وتضخم الصرف السيادي والسياسي، ولم ينل القطاع الزراعي من هذا الفيض إلا 3%، فصارت إدارة عائد البترول في السودان حالة سيئة من الوباء الهولندي، حالة وصفها الشاعر السوداني تاج السر حسن بقوله:

أتانا النفط.. ولكن..
نحن ذهبنا نفتش عنه هناك
وهن البأس.. نضب الكأس
صدأ الفأس..!
القرية أضحت مهجورة
والنخلة تسأل أين الناس؟!

‌ج. تخلت الحكومة عن تمويل العمليات الزراعية كما جرت العادة سابقاً في مشروع الجزيرة. ودفعت بالمزارع نحو محفظة البنوك فارتفعت نسبة فوائد القروض من 7% و9% إلى 36% مما أرهق المزارع وأزهده في الزراعة فهجرها.

‌د. وأفقد المشروع استقلاله المالي عندما تولت المؤسسة العامة للقطن، لاحقاً شركة الأقطان سيئة السمعة، مسؤولية تسويق محصول القطن؛ فحرم المشروع من التصرف في عائد أقطانه من العملات الصعبة التي كان يستخدمها بكفاءة في توفير مدخلات المشروع الزراعية بالكميات المطلوبة وفي الأوقات اللازمة. لذلك تدنى أمرها وصار في ذيل أولويات صرف حزبية وعسكرية وأمنية، فلم تجلب المدخلات بالكميات اللازمة وبالمواصفات الصحيحة وفي الأوقات اللازمة.

‌ه. وشردت الكفاءات العاملة في المشروع لصالح تعيين أزلام النظام ومحاسيبه قليلي الخبرة، فلم يراعوا مصلحة المشروع الموضوعية وبرعوا في التطبيل للنظام.

‌و. وفي إطار أولويات مصلحة النظام الحزبية دجنوا اتحاد المزارعين واتحاد العاملين وأخضعوهما لقيادات موالية للنظام الحاكم عن طريق تزوير الانتخابات والترغيب والترهيب فصار الاتحاد لا يدافع عن مصلحة المزارعين فامضى نظام الحكم سياساته بدعم من اتحادات زائفة.

‌ز. ونال مشروع الجزيرة نصيبه من سياسات الاقتصاد الكلي الفاشلة وانسداد آفاق العلاقات المالية الدولية بسبب الدين الخارجي الكبير والعقوبات الاقتصادية التي جرتها للبلاد سياسات النظام، فتراكم ضده 63 قرار إدانة دولية.

‌ح. ثم أصدر النظام قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م الذي عارضه غالبية أصحاب المصلحة في المشروع وعارضته القوى الوطنية:

· في عام 2005م وبعد صدور قانون مشروع الجزيرة دعا حزب الأمة لورشة عمل قومية أصدرت التوصيات الآتية: رفض قانون 2005م، ووضع برنامج لإعادة تأهيل المشروع، ومحاسبة الذين ساهموا في تدميره، وإجراء دراسة موضوعية متخصصة لوضع خطة لمستقبل المشروع تشارك فيها كافة العناصر صاحبة المصلحة في المشروع.

· النظام لم يأبه بهذه التوصيات، وتفاقمت أزمة ملاك الأراضي في المشروع، لذلك نظمنا ورشة ثانية في نوفمبر 2011م تدارست مشاكل مشروع الجزيرة وأصدرت التوصيات الآتية:

أ‌. إلغاء قانون 2005م وسن قانون آخر بمشاركة أصحاب المصلحة كافة.

ب‌. الإبقاء على مشروع الجزيرة ككيان اتحادي واحد مع معالجة أوجه القصور واستعادة الأموال التي نهبت أو سرقت أو بيعت.

ت‌. الإبقاء على ملكية الأرض لأصحابها بأجرة جديدة يتفق عليها.

ث‌. إفادة المستثمرين بحقيقة ملكية الأرض لقطع الطريق أمام أية اتفاقيات تبرم من وراء ظهر الملاك.

هذه المطالب أهملها النظام.

الموقف الآن هو أن مشروع الجزيرة صار كالمشروعات المروية الأخرى، ووسائل النقل القومية: السكة حديد، والطيران، والنقل البحري؛ من ضحايا هذا النظام الذي لا يرى ولا يسمع. والمدهش أن لجان الحوار المجتمعي الذي دعا إليه النظام في إحدى محاولاته للهروب من استحقاقات الحوار الوطني رددت نقداً لسياسات النظام وبدورها أدانت قانون 2005م وطالبت بإلغائه.

إن ما حدث لمشروع الجزيرة جزء لا يتجزأ مما أصاب البلاد من خسران عام لا يمكن أصلاحه إلا في إطار نظام جديد يضع حداً للحروب ويحقق السلام العادل الشامل، ويضع حداً للدكتاتورية، ويقيم حكم المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، ويضع حداً للتدهور الاقتصادي، ويقيم اقتصاد التنمية والعدالة الاجتماعية. هذا التحول المنشود ممكن عبر حوار وطني باستحقاقاته بعد أن سقطت كل شعارات النظام.. شعارات: الإنقاذ، والوحدة الجاذبة، والتوجه الحضاري؛ وحققت عكس مقاصدها تماماً.. حوار وطني على نمط الحوارات المصيرية في تشيلي وفي بولندا وفي جنوب أفريقيا والتي حققت مطالب الشعب بالقوة الناعمة. أو مع تمتمرس النظام في خندق الاستبداد والفساد تتحقق مطالب الشعب عبر انتفاضة شعبية على سنة أكتوبر 1964م، وسنة أبريل 1985م.

وإلى حين بزوغ هذا الفجر الذي نراه قريباً فإن ما يمكن الشروع فيه فوراً بالنسبة لمشروع الجزيرة هو:

أ‌. الاعتراف بتردي أحوال المشروع وتشخيص ما أصابه عن طريق لجنة قومية على نمط لجنة البروف عبد الله عبد السلام (يوليو 2009) التي قامت بعمل جيد ولكن وأدت توصياتها مراكز قوى من سدنة النظام.

ب‌. هنالك منظمة دولية حيادية تدعى المنظمة العالمية لقضايا النزاع أي (Conflict Dynamics International) يستعان بها لإقامة ورشة لمستقبل مشروع الجزيرة تبحث كل القضايا: الإدارة، والملكية، وعلاقات الإنتاج، والتمويل، ومصالح المزارعين، والعمال المزارعين في الكنابي، وإدارة الري، والتصنيع الزراعي، وتربية الحيوان والمسالخ وصناعات الألبان، وتسويق المنتجات والرعاية الاجتماعية للسكان. وتضع خطة جديدة لإحياء مشروع الجزيرة. خطة تصلح للتطبيق في كل المشروعات الزراعية المروية فهي الآن في احتضار مماثل. توصيات هذه الورشة نتبناها ضمن برنامج السياسات البديلة التي شرع فيها (نداء السودان).

إحياء القطاع الزراعي المروي ينبغي أن يكون بنداً مهماً في مؤتمر اقتصادي قومي نقيمه فوراً ونحن خارج السلطة، ونجعل توصياته في المجال التنموي الاقتصادي جزءاً من برنامج القوى الشعبية لبناء الوطن.

نظام “الإنقاذ” حقق عكس شعاراته. حقق “الإجهاز”، ما يفرض على بناة الوطن هندسة شاملة لبناء الوطن.

ختاماً: أرجو أن يبحث مؤتمركم هذه المقترحات وغيرها ليصدر التوصيات المنشودة.

والسلام عليكم مع أطيب التمنيات لمؤتمركم بالتوفيق.