مؤتمر النهضة على ضوء التحولات السياسية في العالم العربي

الإمام الصادق المهدي
الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤتمر النهضة على ضوء التحولات السياسية في العالم العربي

المستقبل: آفاقه وتحدياته

 

بقلم: الحبيب الإمام الصادق المهدي

26 مارس 2011م

مقدمة:

نحن أمام مرحلة جديدة تتطلب تحديد آفاقها ومعالمها وما يحقق مثلنا العليا ومصالحنا الحيوية فيها.

التشخيص الصحيح هو الطريقة لوصف الدواء الناجع.

في تاريخنا الحديث أدت حركات الاستقلال وقيام الدول العربية المستقلة مرحلة هامة في التاريخ جوهرها إنهاء الاحتلال الأجنبي وقيام السلطة الوطنية.

ونتيجة لعوامل كثيرة أهمها نكبة فلسطين دخلت بلداننا مرحلة المد القومي بما صحبها من أيديولوجيات. في هذه المرحلة وباسم الأيديولوجيات وعبر الانقلابات سيطر على بلداننا نظم استبدادية غيبت الشعوب وحكمت باسمها واستمدت أجهزة التحكم التي أفرزتها الفاشتسية الحديثة. وحتى في البلدان التي لم تخض تجربة انقلابية فإن نظم الحكم التقليدية أتقنت انفراد الحكم بولاية الأمر.

هذه الظاهرة لفتت نظر كثيرين حتى صاروا يصفونها “بالاستثنائية العربية” أو “العجز الديمقراطي”. وبدا كأن البلدان العربية في ظل نظمها الحاكمة تعاني من احتلال داخلي.

إن الثورات الديمقراطية الشعبية الراهنة هي حركات استقلالٍ ثانٍ من الاحتلال الداخلي. أوحى للشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو يقارن بينها وبين ما يشاهده الفلسطينيون من ممارسات قانونية في ظل الاحتلال الإسرائيلي بينما تخضع الشعوب العربية لحكم الفرد المطلق قوله:

كل الأرض العربية محتلة … إلا الأرض المحتلــــة

حديثي لكم اليوم هو مرافعة لإثبات حقيقة الاحتلال الداخلي وحتمية السعي لتحقيق الاستقلال منه وبيان ماهية التحديات، والمخاطر، والتداعيات، وواجبنا لصنع النجاح وتجنب الإخفاق.

أولا: أود التأصيل لحقوق الإنسان. تحدث الإمام الشاطبي عن أن مقاصد الشريعة في كل أحكامها تقوم على حفظ خمسة مصالح: الدين- النفس- العقل- المال- والنسل. وأضيف حقوق الإنسان ووحدة الأمة.

هنالك خمسة أصول لحقوق الإنسان في الإسلام هي:

الكرامة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ،

والحرية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ،

العدالة: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ،

المساواة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ،

والسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) .

هذه الأصول تدعمها آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة. إنها أصول بدأ بها تكوين أمتنا ولكن عبر التاريخ غيبتها تجاربنا. أما الحضارة الغربية فقد بدأت بإنكارها ولكنها عبر تجاربها اهتدت إليها كما هي منصوص عليها في المواثيق الدولية المختلفة بدءً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م مروراً بالمعاهدات والبروتوكولات الأخرى المضافة في عام 1949م (معاهدات جنيف الأربع)، ومعاهدات الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية (1966م). إن كل تلك المنظومة المتعلقة بحقوق الإنسان كما فصلتها التجربة الدولية تعود إلى الأصول الخمسة المذكورة: كرامة الإنسان- الحرية- العدالة- المساواة- السلام.

وطورت التجربة الإنسانية نظاما سياسياً يقوم على أربعة قوائم هي: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. وهي أسس تجد سنداً قوياً وواضحاً من مبادئ الإسلام السياسية. ولكن هذه المبادئ التي تندرج في مبدأ الشورى غيبت منذ الصدر الأول لتحل محلها شرعية الأمر الواقع على نحو ما قال ابن حجر العسقلاني: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة المتغلب والقتال معه). كان الإذعان للاستبداد، والتخلي عن معطيات العقل البرهاني، والتزام التقليد في الفقه، هي أسباب الانحطاط الذي وصفه مالك بن نبي بمقولة: (حالة القابلية للاستعمار). وبعد تجارب لبرالية فاشلة في بعض البلدان العربية استقر نظام الحكم في غالبية البلدان العربية – مهما اختلفت الشعارات- على نمط للحكم ذي معالم مشتركة هي:

  •  الحزب أو العصبية الحاكمة المتحكرة لولاية الأمر.
  • الأيديولوجية أو الولاء العشائري المهيمن.
  •  الإعلام المجافي للحقائق الموالي للسلطان.
  •  الأمن المتحكم في الرقاب بلا وازع.
  •  الاقتصاد المحابي للمحاسيب والفساد الإداري والمالي.
  •  توظيف العلاقات الخارجية لمصلحة الحكام لا الوطن.

استمرت هذه الملة الاستبدادية متحكمة في غالبية البلدان العربية بينما شهد العالم موجات تحول ديمقراطي:

الموجة الأولى: هي التي تمددت في أمريكا وأوربا الغربية في الفترة قبل الحرب الأطلسية الأولى (1914- 1918م).

الموجة الثانية: هي التي انطلقت في ألمانيا، واليابان، وإيطاليا بعد الحرب الأطلسية الثانية (1939- 1945).

الموجة الثالثة: هي التي عمت جنوب أوربا: إسبانيا والبرتغال واليونان وبعض بلدان آسيا وأفريقيا.

الموجة الرابعة: هي التي عمت دول شرق أوربا بعد سقوط حائط برلين (1989م) وشملت دول المعسكر الشرقي سابقا.

كان كثير من الكتاب يقولون إن الإسلام هو المانع من الديمقراطية. ولكن اتضح أن غالبية الشعوب الإسلامية تحكمها نظم ديمقراطية – مثلا- تركيا- وماليزيا- وأندونيسيا وغيرها. وقيل إن التخلف الاقتصادي هو المانع من التحول الديمقراطي. ولكن اتضح أن أغلبية الشعوب الأفريقية تحكم ديمقراطياً – مثلا- نيجريا- السنغال- جنوب أفريقيا بل الهند وهي من أكثر البلدان تخلفا وتبايناً في القوميات والثقافات. لذلك قال قائلون إن العروبة هي علة الاستبداد.

ثانيا: ولكن هل يجوز أن نتحدث عن وجود عربي بعد أن تهاوت مشروعات القومية العربية القديمة أي قبل الحرب الأطلسية الأولى. والجديدة أي بعد الحرب الأطلسية الثانية.

نعم أخفقت تلك المشروعات السياسية باسم القومية العربية. ولكن لا شك من وجود رابطة ثقافية، لغوية، اجتماعية صهرت العرب وغير العرب في شخصية حضارية واحدة. إن العروبة بهذا الفهم مكررة في أحد عشر موضعاً من القرآن. وبينها ما بينها من الوصل بالإسلام حتى أن قسطنطين زريق قال: الإسلام هو دين العرب القومي. وقال مكرم عبيد: أنا مسيحي دينا ومسلم حضارة. وقال فارس الخوري: أنا مسيحي دينا ومسلم حضارة. ومع وجود شعور قومي عربي تدعمه مراجع إسلامية فإن مشروعات الوحدة السياسية العربية أخفقت لسببين هامين:

الأول: وجود مصالح قطرية يرعاها ويحرسها الحكام.

الثاني: الموقع الاستراتيجي العربي الذي قال عنه ايزنهاور إنه: (أنفس قطعة عقار في العالم). ووجود إسرائيل ربيبة الإرادة الدولية ولزوم حمايتها من بأس أصحاب الحق يعزز الرهان على تفرقة العرب.

ظاهرة العجز الديمقراطي في البلدان العربية تناولها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي كتبه بعض الخبراء العرب عن التنمية البشرية وصدر عام 2002م جاء فيه: إن البلاد العربية قد حققت نمواً اقتصادياً وتعليمياً ولكنها متخلفة عن بقية بلاد العالم في مجال التنمية البشرية التي تحقق الحكم الراشد ومبادئه المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.

إن للحكام سواء التقليديون أو الثوريون منطقهم في الدفاع عن الأوتوقراطية. ولكن لوقت طويل حتى النخب المثقفة لم تكن مهتمة بالديمقراطية بقدر اهتمامها بأولويات أخرى مثل التنمية- العدالة الاجتماعية- القومية- التأصيل الإسلامي…الخ. ولذلك كان سهلاً عليهم قبول الاستبداد في سبيل تحقيق تلك الأهداف.

سئل داعية إسلامية هل يجوز أن ندبر انقلاباً عسكرياً من أجل تطبيق الشريعة؟ قال: نعم إذا كان أبيضاً كما حدث في السودان. وقبله قال جورج طرابيشي: نحن ننتمي لجيل وقع ضحية خدعة ماكرة فحواها أن الديمقراطية بحاجة لتقويم أو تصحيح. ولكن بعد التجارب الاشتراكية الفاشلة وانفجار الجسم النظري للماركسية أدركنا أن الديمقراطية هي إفراز بنيوي متقدم وهو الأكثر عقلانية وصيانة لكرامة الإنسان.

منذ بداية الألفية الجديدة اتجهت النخب في البلاد العربية الإسلامية، والقومية، والاشتراكية لمراجعة موقفها من الديمقراطية وتكونت شبكات وعقدت مؤتمرات كان أهمها المؤتمر الذي عقد في مكتبة الأسكندرية في عام 2004م وطالب في الوثيقة التي أعلنها بعنوان (إعلان الاستقلال الثاني) بضرورة التحول الديمقراطي. بل صار كثير من دعاة الإسلام يقولون الحرية قبل تطبيق الشريعة.

وقامت بعثة من نادي مدريد بجولة دراسية في ست دول عربية نظموا أثناءها اجتماعات بين ممثلي الحكام ومعارضيهم وأصدروا في عام 2008م “نداء البحر الميت” الذي أشار لنقص الحريات في البلدان المعنية وهي مصر، والمغرب، واليمن، والبحرين، والأردن، وتونس. وأشار للفجوة الواسعة بين الحكومات ومعارضيها. وأوصى بإجراء حوارات جادة بهدف الإصلاح السياسي الذي يكفل الحريات ويحول دون استقطابات لا تحمد عقباها.

ثالثا: على طول الأعوام العشرة الماضية درج كثير من الكتاب، والمفكرين، والأدباء، والفنانين، والشعراء في العالم العربي يعزفون على وتر واحد شاكين من غياب الحريات وتحكم الاستبداد والفساد. ويقابلون مؤتمرات القمة العربية بالسخرية. وفي مقام آخر سجلت نماذج للروايات. والمسرحيات، والأفلام، والأشعار التي قيلت في المشهد العربي وما تضمنت من إدانة وهجاء أذكر هنا نموذجا واحدا وبيتا واحدا من قصيدة أحمد مطر:

أنا السببْ .

في كل ما جرى لكم

يا أيها العربْ .

أُطِلُّ ، كالثعبان ، من جحري عليكم فإذا

ما غاب رأسي لحظةً ، ظلَّ الذَنَبْ .

فلتشعلوا النيران حولي واملأوها بالحطبْ .

إذا أردتم أن أولِّيَ الفرارَ والهربْ .

وحينها ستعرفون ، ربما ،

مَن الذي ـ في كل ما جرى لكم ـ

كان السببْ .! ؟

هل عرفتم من أنا ؟؟

أنا رئيس دولة من دول العرب!

الفضائيات لا سيما منبر الجزيرة فتحت بابا للحديث الصريح عن كل ما كان مسكوت عنه وصارت المنطقة مشحونة بغضب على الكرامة الضائعة، والحرية المصادرة، والفساد الشائع، والظلم الاجتماعي الماثل، والعطالة المذلة. لذلك صار استقتال محمد البوعزيزي في 14 يناير 2011م في سيدي أبو زيد بتونس قداحة أشعلت الثورة الشعبية في تونس. ثورة طليعتها الشباب ثم التف حولهم الشعب فأطاحوا بنظام فقد شرعيته حينا من الدهر.

الثورة التونسية ألهمت الثورات الأخرى بما قدمت من قدوة ناجحة ساهمت قناة الجزيرة في نشرها بتغطية عالية لالتزام وعالية المهنية الفنية. ومع تشابه الظروف الاجتماعية، ووحدة الثقافة واللغة، عبرت القدوة الحدود إلى أقطار العرب الأخرى لا سيما مصر. كان الاحتقان في تونس بسبب القبضة الحديدية فيها خفيا. أما في مصر فقد فصلت في كتيبي عن الثورة الناعمة ما خيم على الشارع المصري من دلائل الاحتقان، والتظلم، والغليان على طول الفترة من 2004م حتى ثورة يناير 2011م.

ومع كل هذه الدلائل واشتدادها بعد فداحة اغتيال خالد سعيد في الإسكندرية في يونيو 2010م فإن النظام أسكره الرضا عن الذات والاطمئنان على ما أقنع به نفسه وحلفاءه ألا بديل له إلا دمار الوطن. ولكن عند الآخرين كانت الصورة مختلفة تماماً حتى أن وفداً من حزبي أمريكا (الجمهوري والديمقراطي) زار مصر في أبريل 2010م كتب تقريراً جاء فيه: (أن ما يقال عن الاستقرار في مصر وهم) والحالة في مصر أوحت لأحد الكتاب “محمد سلماوي” بروايته: أجنحة الفراشة، تصور فيها خيالا أحداث ثورة يناير كما وقعت قبل وقوعها بشهرين.

ومع ذلك كان الأسلوب مفاجئا في الإطار العربي وإن كان مسبوقا في أوربا الشرقية. شباب استخدموا الهواتف النقالة، والبريد الإلكتروني، والمنتديات الاجتماعية في الإنترنت كالفيس بوك، والتويتر، ومنابر النقاش وكونوا نواة تضامن شدت إليها الجموع الشعبية إلى ميدان التحرير. وكان ما كان. من مأمنه يؤتى الحذر.

كان القائمون مطمئنين على أنهم سدوا كل قنوات المعارضة المعهودة الحزبية والنقابية وعندما واجههم الأسلوب الجديد استخفوا به وسخروا به حتى قال قائلهم ليتسلوا في الميدان وسنرسل لهم البون بون. وقال مسئول آخر عندما سئل عن كيفية فض اعتصامهم: (سنطلب من الأسر أن تلم عيالها).

نعم كانت التجربة التونسية رائدة ولكن التجربة المصرية مشعة. التاريخ العربي الحديث يثبت ما قاله أحد الكتاب أن مصر بيت الداء والدواء العربي.

قال الجواهري الشاعر العراقي: كان جمال عبد الناصر عظيم المجد وعظيم الخطأ. لقد أسس للانقلاب العسكري وسيلة للحكم ولبناء الوطن وكان مهندس ملة الاستبداد التي تتلمذ عليها كثيرون: حافظ الأسد، صدام حسين، جعفر نميري، معمر القذافي، علي عبد الله صالح. ومهما كانت إنجازات جمال عبد الناصر الوطنية والقومية فإن داء ملة الاستبداد من آثاره واليوم فإن دواء الثورة الديمقراطية المصرية وما يمكن أن يؤدي إليه من تحول ديمقراطي سوف يلاحق داء الاستبداد في كل أركان العالم العربي.

رابعا: الثورتان الشعبيتان في تونس وفي مصر تتشابهان في كثير من الملامح: قيادة الشباب، الأسلوب المبتكر، واللا عنف، والتجاوب الوطني في تصرفات القوات المسلحة.

الثورة في الحالين نجحت في إسقاط النظام الاستبدادي ولكنها في الحالتين تفتقد قيادة مركزية موجهة وبرنامج محدد للبناء الديمقراطي.

قال كرين برنتن في كتابه (تشريح الثورة): الثورة عادة تقوم بها صفوة جيدة التنظيم. وبعد الاستيلاء على السلطة تتوجه للشعب وتطبق برنامجها عليه باعتبارها أدرى بمصالحه. أي أن الثوار درجوا على إقامة وصاية ثورية. ولكن في الحالتين بعد سقوط النظام آلت السلطة لإدارة من عناصر غير ثورية لذلك ما دامت هي كذلك فسوف يكون دورها أشبه ما يكون بحكم المباراة. لذلك نشأت وتنشأ عدة مفارقات أهمها:

  •  التعامل الراديكالي مع سدنة النظام المباد والتعامل القانوني معهم.
  •  التطلع الثوري للتغيير والنهج الدستوري للتحرك.
  •  الفارق العمري بين صناع الثورة وبين الحكام بعد الثورة.

وفي مصر عبرت هذه المفارقات عن نفسها بأقوى صورة في الموقف من التعديلات الدستورية بين أصوات من قالوا: نعم ومن قالوا: لا.

هذه التجربة جديدة على البلاد العربية باستثناء السودان إذ أسقطت الانتفاضة الشعبية مرتين نظاما أوتوقراطيا في 1964م وفي 1985م. ولكن التجارب السودانية مشوبة بعوامل معقدة أهمها محاولات اختطاف عناصر راديكالية وحالة الحرب الأهلية المستمرة. ولكن هنالك ثورات في شرق أوروبا مشابهة تماما مع ثورتي تونس ومصر. وفيها نجح الثوار الشبان في إسقاط الطاغية وأخفقوا فيما بعد في تحقيق مقاصدهم الديمقراطية. مثلا:

  •  الثورة الشبابية في جورجيا نجحت في مرحلتها الأولى ولكنها أخفقت في تحقيق مقاصدها وعاد الحرس القديم بعد آلية انتخابية.
  •  والقوى الشبابية التي أحدثت التغيير في جورجيا كمارا (كفى) انضمت فيما بعد للحزب الحاكم.
  •  وحركة بورا (حان الوقت) في أكرانيا خاضت انتخابات عامة ولم تحقق نجاحا.

كانت تلك الثورات ومآلاتها قبل عقد من الزمان.

بالإضافة للمفارقات المذكورة أعلاه فإن النظام الجديد الذي أقامته ثورة يناير سيواجه خمسة تحديات هي:

  • الردة التي يمكن أن يقودها سدنة النظام المباد فلديهم مراكز قوة لن تتمكن الأساليب العادية من محوها.
  •  الفوضى المطلبية التي سوف يحدثها انفجار مطلبي نقابي طال كبته وآن أوان انطلاقه.
  •  الاختطاف الذي يمكن أن يجري على أيدي قوى سياسية منظمة تتخذ نهجاً إقصائيا. وتستغل الحريات للانفراد بالولاية.
  •  خيبة الأمل التي تحدث عندما يخفق الحكام الذين أتت بهم الثورة في تحقيق آمال الثوار.
  •  اقتحام الحرب الباردة المخيمة على المنطقة العربية الإسرائيلية- الإيرانية الأمريكية- السنية الشيعية؛ وهي مواجهات سوف تقتحم المسرح الوطني وتحاول جره نحو الاستقطاب.

وسوف أبين فيما بعد ما ينبغي عمله لكيلا تؤدي هذه التحديات لنكسة المشروع الديمقراطي.

ومهما كانت العقبات فإن التطلع الديمقراطي العربي ليس بدعاً بل يمثل الموجة الخامسة للديمقراطية في العالم، ومثل حركات التحرير من الاحتلال الأجنبي مصيرها أن تعم المنطقة. لا سيما وقد اكتشف الثوار سلاحا جديدا للتغيير السياسي هو:

  •  التحرك البشري المليوني درع بشري يهزم أجهزة القمع.
  •  التعتيم هو أهم أسلحة الطغيان لذلك صار الكشف عن الحقائق عبر التكنولوجيا الحديثة والفضائيات رادع فعال.
  •  تطور القانون الدولي الإنساني لا سيما (واجب الحماية) أي حماية المدنيين من بطش السلطة رقيب ورادع.

خامسا: أجندة الوطن: مجرد حدوث الثورات الديمقراطية العربية أشاع بهجة بلا حدود في المنطقة كلها، وقزم آلات القمع، وكسر حاجز الخوف واسترد للشعوب لا سيما الشباب إحساسا بأننا “نعم نستطيع”.

وثقة بالنفس أزالت ما خيم على المنطقة من شعور بالعجز واليأس واللاجدوى والحيرة.

ثم ماذا؟

في العصر الحديث لا تتوافر لنظام حكم القبول أي الشرعية إلا إذا حقق ستة انجازات: التأصيل الذي يحدد الهوية- الحكم الراشد- توفير أسباب المعيشة- تحقيق الأمن والنظام- حماية الوطن من العدوان- والقبول الدولي.

لو أن الظروف كانت مناسبة لكان الواجب على الثوار قبل إسقاط النظام أن يجروا تشاورا وطنيا واسعا لوضع خريطة المستقبل، ولكن غياب الحرية والملاحقة الأمنية ما كانت لتتيح تلك الفرصة. ولو كان للثوار رؤية محددة لاستطاعوا بعد الإطاحة بالنظم دعوة القوى السياسية لتداول الأمر وتبادل الرؤية للاتفاق على المشروع الوطني المنشود. ولكن غياب مثل هذا التحضير يجعل الخيار الوحيد المتاح الآن هو الاتفاق على منبر وطني تدعى له القوى السياسية لبحث أجندة الوطن.

الأجندة تتكون من قسمين:

القسم الأول: يتعلق بالإجراءات العملية الواجب اتخاذها وهي:

  •  تكوين آلية حازمة وعادلة لتصفية النظام الأوتوقراطي لا سيما روافده الإدارية، والأمنية، والإعلامية.
  •  تكوين آلية حقانية للمساءلة حول تجاوزات العهد المباد واسترداد المسروقات للشعب.
  •  تكوين آلية وطنية لمكافحة الفساد والوقاية منه على نحو ما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة.
  •  تكوين آلية للتحري حول حقائق الماضي وإنصاف الضحايا.
  •  الاتفاق على وضع القوات المسلحة فيما بعد الفترة الانتقالية لينص عليه في الدستور ويحقق قيامها بواجبها الدفاعي وضبط أدائها كمؤسسة تابعة للجهاز التنفيذي المدني.

هذه المسائل إذا جرى حولها اتفاق وطني فسوف يساعد المجلس العسكري الانتقالي لإنجازها.

ولكن هنالك قضايا فكرية وسياسية فإذا لم يجر حولها تراض وطني فسوف تجعل الممارسة الديمقراطية ساحة استقطابات حادة تعصف بالاستقرار.

إن الحرية سوف تفسح المجال واسعا لمزايدات واستقطابات والديمقراطية الوليدة تحتاج لمناخ توافقي حولها على الأقل لفترة عشرة أعوام. هذا النهج لا يعني منع الاختلاف وتعدد الآراء والبرامج فالتعددية الفكرية والسياسية نتيجة حتمية للحرية، ولكن إبرام ميثاق وطني لفترة من الزمان ملزم للكافة من شأنه أن يحول دون الاستقطابات الحادة في قضايا حساسة ومن شأنه المحافظة على روح ميدان التحرير وقفل باب الترويع بالفزاعات.

القسم الثاني: هنالك ستة ملفات ينبغي إجراء حوار وطني جاد بشأنها والاتفاق على أساس مشترك بشأنها.

‌أ. الملف الإسلامي: بعض الناس وقياسا على تجارب غربية يهمشون الملف الديني كأنه لا يؤثر في الشأن العام، هذا خطأ كبير وإذا ترك دون توافق حوله فهو عرضة لاستقطاب حاد يطيح بالاستقرار في البلاد.

إذا كانت الولايات المتحدة تمثل القوة العسكرية الكبرى في العالم واللغة الانجليزية اللغة الأولى، فأن الإسلام يمثل في عالم اليوم القوة الثقافية الكبرى، وهو لذلك وفي مناخ الحريات الشائع عالميا يتمدد بقوته الناعمة، النعومة ليست نقيض القوة بل هي نقيض الخشونة ورب نعومة في منتهى القوة فكتاب الله يشير للقران ويقول للنبي (ص) (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) والسيدة عائشة (رض) قالت: “وَفُتِحَتِ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ”. واليوم مع قلة حيلة المسلمين بمقياس القوة الخشنة في العالم فإن الإسلام يتمدد بالقوة الناعمة. لدى سؤالي للكثير من الذين يسلمون من الغربيين يقولون لي:

– نبحث عن دين خالص التوحيد فلا نجده إلا في الإسلام.

– نبحث عن نص مقدس قطعي الورود بلا خلاف حوله فنجده في القرآن.

– ونبحث عن نبي مقطوع بوجوده في التاريخ زمانا ومكانا فنجده في محمد (ص).

– ونبحث عن ديانة توفق بين الروحي والاجتماعي، وتوفق بين حقائق الوحي وحقائق العقل فنجدها في الإسلام.

هذه المعاني هي التي جعلت الإسلام يتمدد أكثر من غيره، ولأول مرة على حد تعبير وزير خارجية الفاتيكان تفوق أعداد المسلمين أعداد ديانته، وهذا السبب هو الذي أزعج رئيس الفاتيكان بندكتوس السادس عشر فهاجم الإسلام هجوما عنيفا في محاضرته في جامعة ريغنسبورج في ألمانيا في سبتمبر من عام 2006م لعله يصد هذا التمدد، ما دعاني أن أكتب له رسالة مفتوحة بعنوان مباهلة رئيس الفاتيكان.

والإسلام كذلك يحوز الآن على رأس المال الاجتماعي الأكبر في الشارع السياسي في البلدان العربية لأن دعاته كانوا الأكثر صمودا في وجه الطغاة والأكثر حرصا على عدم الامتثال للاستلاب الحضاري، هذه الميزة تفرض عليهم في أمر التطبيق الإسلامي في ظروف هذا العصر أن يراعوا ظروف المساواة في المواطنة وإلا مزقوا وحدة الوطن، وأن يراعوا لوازم العدالة والحرية وإلا جافوا مبادئ الإسلام السياسية، وإن يراعوا فوق ذلك كله عدم اتخاذ الإكراه والانقلابات العسكرية وسيلة للأسلمة فالتجربة أكدت أن من فعلوا ذلك مزقوا مجتمعاتهم ولوثوا ديباجة الإسلام. كذلك لا يجوز تطبيق أحكام إسلامية دون مراعاة واقع العصر الحالي. فقد قال ابن القيم إن على الفقيه معرفة الواجب اجتهادا ومعرفة الواقع إلماما والمزاوجة بينهما. لذلك فإن نهج طالبان وأمثالها مثل بوكو حرام في نيجيريا ذميم، معرفة الواجب والواقع والتزاوج بينهما هو نهج النبي (ص) فكان التوجيه في مكة: “أن كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة”. وفي المدينة: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)

نهج إسلامي مفرداته:

  •  التزام بالمساواة في المواطنة للمسلم، وغير المسلم، وللسني، والشيعي، والصوفي، وللذكر والأنثى.
  •  نهج إسلامي تصاغ أحكامه بمنطق مقاصدي يراعي العقل، والمصلحة ومقاصد الشريعة وتقننها هيئة منتخبة، ولا تطبق على غير المسلمين فالإسلام يقر التعددية القانونية، وفيما يتعلق بالعقوبات الشرعية فإنها آخر حلقات الأحكام تطبيقا بعد إقامة نظام الكفاية والعدل فتحرسه العقوبات.

‌ب. الملف القومي العربي: ينطلق من حقيقة وحدة الوجدان بين الشعوب العربية ووحدة الثقافة واللغة، والجوار المشترك، والمصالح الاقتصادية المتكاملة. ومثلما ينبغي مراعاة الحقوق المذهبية المختلفة في إطار الإسلام تراعي حقوق المواطنة المتساوية للجماعات الوطنية غير العربية.

‌ج. الملف اللبرالي يوجب احترام المساواة في المواطنة، واحترام حرمة الأديان الشخصية، وتقنين حقوق الإنسان، وإقامة هيئة مستقلة للمراقبة والمتابعة.

‌د. الملف التنموي: مهما تحقق من إصلاح سياسي ديمقراطي فثمة حاجة للديمقراطية الاجتماعية التي تحقق الكفاية والعدل، وهذا يوجب:

  •  احترام حقوق الملكية، وأن تراعي حرية السوق مطالب الرعاية الاجتماعية، ومطالب سلامة البيئة الطبيعية.
  •  الالتزام بعقد اجتماعي يوفق بين مصلحة الاقتصاد الوطني والمطالب النقابية.
  •  التعامل الانتقائي مع العولمة دعما لإيجابياتها وحماية من سلبياتها.

‌ه. ملف العلاقات الدولية: من نتائج الثورات العربية القضاء على صيغة التبعية التي كانت قائمة مع الطغاة. والمطلوب الآن مراجعة هذه العلاقات لتقوم على الندية وإنهاء احتلالهم لأراض عربية، وتصحيح تشويهات التبادل التجاري وإقامة شركات تنموية تحقق المصالح المشتركة، والعمل على مراجعة نظام الأمم المتحدة لتحقيق العدالة في تكوينه.

‌و. ملف السلام: إسرائيل لم تنشأ نتيجة تعاقد عربي/ إسرائيلي بل نتيجة لقرار الأمم المتحدة – بموجب القرار -181- الأمم المتحدة هي المسئولة عن إقرار السلام ومتابعة تنفيذ مقتضياته، ولا سلام بلا عدالة، وهي مسئولية الأمم المتحدة، وما لم يتحقق السلام العادل فإن لأصحاب الأرض المحتلة الحق كل الحق في مقاومة الاحتلال.

هذه الملفات أجندة لمشروع نهضوي ينبغي الحوار الجامع حوله والاتفاق عليه قبل نهاية الفترة الانتقالية وقبل الخوض في أية انتخابات لأن الدخول في منافسات انتخابية قبل التطمين المتبادل يوسع الشقة بين الأطراف المتنافسة ويفسح المجال واسعا لأصحاب الأجندات الخبيثة الداخلية والخارجية. إن القعود عن تحقيق هذه الأجندة سوف يجعل الممارسة الديمقراطية مدخلا للفرقة ولخيبة الأمل.

سادسا: ينبغي أن نعلن أن التحول الديمقراطي هو هدف حركة التحرر العربي وأن البلدان التي لم تشتعل فيها الثورة بعد ينبغي أن تدرك حتمية التطلع للديمقراطية وتقوم بإجراءات إصلاحية استباقية بحيث تتحول الجمهوريات لديمقراطيات، والملكيات للممالك دستورية توالي فيها البيوت الحاكمة ملكها وتجري انتخابات لمجالس تشريعية تتولى التشريع.

إن ظروف تونس ومصر متشابهة في غلبة المجتمع الحضري عليهما، ووضع القوات المسلحة المنضبط فيهما، لذلك كان دور القوات المسلحة منضبطا فيهما، ولم يقمعا شعبيهما.

ولكن في سوريا القوات المسلحة مؤدلجة كالحزب الحاكم وكلاهما مشرب بولاء مذهبي علوي، بينما العناصر الأخرى المكونة للسكان أغلبيتها مهمشة في مؤسسات الدولة المفصلية، فإذ شاءت قيادة الدولة رفض التجاوب مع المطالب الشعبية وقمعها فسوف يتطور الأمر لحرب أهلية.

وفي اليمن توجد عصبيات قبلية مسلحة فإذا شاءت القيادة في استمرار رفض المطالب الشعبية فسوف يتسع الاستقطاب الشعبي وكذلك داخل القوات المسلحة. لتدرك القيادة اليمنية الحقائق وتسلم الأمر لأهله شعب اليمن.

وفي ليبيا القوات المسلحة مؤدلجة والصعبيات القبلية راسخة ومع رفض القيادة الحاد التجاوب مع المطالب الشعبية تحولت المواجهة إلى حرب أهلية، وبموجب القرار 1973 جرى وضع ليبيا تحت وصاية دولية. المطلوب هنا الاتفاق على معادلة لوقف إطلاق النار وإنهاء قيادة العقيد القذافي، والمحافظة على وحدة ليبيا تحت قيادة انتقالية تحقق التحول الديمقراطي فيها. هذا الإجراء يمكن أن يجري تحت إشراف الأمم المتحدة وربما جرى بتوسط أية دولة شقيقة لحقن دماء الليبيين.

الحل في كل هذه الحالات هو الإذعان لأفول النظام العربي القديم والاستعداد لإصلاح جذري يقوم على:

  •  مشروع تحول ديمقراطي يقيم الحكم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
  •  إصلاح العلاقات المذهبية على أساس المساواة في المواطنة، والتعايش رغم الاختلافات المذهبية.
  •  في كافة الأحوال الاتفاق على برنامج تحول ديمقراطي يطبق على الجمهوريات وبرنامج مماثل لتحويل الملكيات إلى ملكيات دستورية بحيث تستمر العروش وتفوض السلطة التشريعية لمجلس منتخب انتخاب حرا وتفوض السلطة التنفيذية لمجلس وزراء منتخب.

ما لم يجر هذا الإصلاح لإقامة نظم الحكم الراشد فإن موجات الاحتجاج الشعبي وأساليب التواصل والتنسيق الحديثة سوف تعمل على استخدام السلاح الجديد بما فيه من دروع بشرية، وإعلام كاشف للأحداث، وتدخل دولي محتمل والنتيجة في تلك الحالات هي سفك دماء، وتفكيك الأوطان، والتدخل الدولي الذي لا تؤمن عقباه.

أنا عضو في المنظمة العربية للديمقراطية، وشبكة الديمقراطيين العرب، وعدد من المنظمات المعنية بالتحول الديمقراطي في العالم العربي وسوف نعمل على التنسيق والتعاون من أجل برنامج تحول ديمقراطي عربي يقوم على دعم الإمكانات الذاتية لتحقيق هذا التحول المنشود. كذلك أشارك في المنتدى العالمي للوسطية الإسلامية، ومنظمات إسلامية أخرى وأحافظ على علاقات طيبة مع أوساط سنية وشيعية وسوف نعمل على الاتفاق على مرجعية إسلامية أهم معالمها:

  •  رؤية موحدة توجب تعاونا سنيا وشيعيا وصوفيا فيما يوحد بينهم، وأن يتعايشوا سلميا دون تكفير فيما يختلفون فيه.
  •  رؤية إسلامية تستصحب حقوق المواطنة وتكفل الحرية والعدالة.
  •  رؤية إسلامية تستصحب حقائق العصر الحديث.

نتيجة هذا الجهد سوف تكون نصيحة لأهل القبلة وهم يقدمون على هندسة إحياء جديدة وعصرية بمرجعية إسلامية.

وإني عضو كذلك في منابر دولية مثل حوار الجنوب والشمال، ومعهد الدبلوماسية الثقافية، ونادي مدريد، ومجلس الدبلوماسية الوقائية، وأشارك في عدد كبير من المنابر المعنية بحوار الأديان، وحوار الحضارات .. إلخ.

هذه المنابر كلها ينبغي أن تدرك أن في المنطقة العربية حقائق جديدة وأن الشعوب المتحررة تتطلع لمعاملة على أسس جديدة في العلاقات بين العرب من ناحية والقوى الدولية من ناحية أخرى.

المنابر المذكورة هذه سوف تكون هي مجالات الحوار من أجل الأسس الجديدة للعلاقات.

سابعا: الحالة السودانية تتشابه مع الظروف في سائر البلدان العربية فالمفكرون السودانيون، والروائيون، والكتاب، والأدباء، والشعراء، والفنانون قد عبروا بأقوى صورة عن سوء الحالة وما فيها من استبداد، وفساد. قال الشاعر عالم عباس:

هل التي تعممت أرجلنا؟

أم رؤوسنا انتعلت أحذية؟

القميص ما نلبس أم كفن؟

وطن وطن.. كان لنا وطن

ووصف محمد المكي إبراهيم الحالة السودانية:

ولكن ها هي الوعول

تأوى إلى سفح الجبل

وتحت الراية البيضاء

تنتظر رصاصة الرحمة!

وقدم الشاعر سيد أحمد الحردلو عرض حال للسودان في قصيدته: ما بيستاهل الحاصل. قال فيها:

بلد طيب

وزول فاضل

وما يستاهل الحاصل

ولا يستاهل إنه يكون

وطن إرهاب بلد باطل

ولا يستاهل الليل الذي طول

بدون فاصل

صحيح إن في السودان تمسك بشرعية التعلق بالإسلام ولكن هذه طبقت بصورة تتناقض مع الحرية، والعدالة، والمساواة، فجرت إخفاقا للتجربة وجنت على ديباجة الإسلام الوضاءة.

اتفاقية السلام (2005) بين النظام السوداني والحركة الشعبية وميقاتها ست سنوات فترة انتقالية (2005-2011) يعقبها استفتاء لتقرير مصير الجنوب. وهي اتفاقية أوقفت الحرب الأهلية وحظيت بتأييد دولي فأعطى ذلك النظام شرعية اتفاقية السلام. ولكن لدى نهاية الاتفاقية انتهى بها الأمر كأنها مشروع لتفكيك السودان:

  •  نصت الاتفاقية على جعل الوحدة جاذبة ولكن بروتوكولين منها جعلا الانفصال جاذبا: برتوكول ميشاكوس الذي قسم البلاد على أساس ديني في نهج مشابه لحالة الهند وباكستان. وبروتوكول تقسيم الثروة الذي خصص للجنوب 50% من بتروله ولم ينسب ما يخص الجنوب من الثروة للثروة القومية كما ينبغي مما خلق دافعا للجنوبي أن يميل للانفصال لكي يحتفظ الجنوب بكل بتروله.
  •  الاتفاقية أقامت في بعض المناطق وضعا مبهما حمال أوجه لأن الوسيط الأجنبي كان يريد أن يجري التوقيع على اتفاق ينسب له الفضل فيه دون كبير اهتمام بجدواه. لذلك يوجد الآن وضع متفجر في عدد من المناطق أهمها منطقة أبيي، ومنطقة جبال النوبة في جنوب كردفان، ومنطقة جنوب النيل الأزرق.
  •  وقبل إبرام اتفاقية السلام اندلعت حرب أهلية في دارفور نتيجة لمظالم سببتها سياسات النظام. ولكن كان لقدوة الحرب الأهلية في الجنوب دورا هاما في سيرها.
  •  اتفاقية السلام التي منحت النظام شرعية صنع السلام تحولت إلى العكس لأن النظام صار مسئولا عن انفصال الجنوب، والقرائن تدل على أنه انفصال لدولة معادية. وصار النظام مسئولا عن دمار دارفور وصارت دارفور مسرحا لعدد كبير من الحركات المسلحة.

وانفصال الجنوب سوف يذهب معه الجزء الأكبر من البترول. وكان النظام منذ نجاحه في استغلال وتصدير البترول قد أهمل الإنتاج الزراعي والصناعي. والنتيجة أن البلاد سوف تواجه عجزا كبيرا في ميزان المدفوعات وفي الميزانية العامة وسوف يعكس ذلك نفسه في زيادة الرسوم والجمارك و الضرائب وهبوط في قيمة العملة الوطنية وزيادات رهيبة في الأسعار وزيادة العجز في الاستخدام والتوظيف.

ولا شك أن الحرص على عدم عرقلة اتفاقية السلام حتى يجري انفصال الجنوب بصورة سلسة كان له دوره في عدم ملاحقة رأس الدولة السوداني من التهمة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية. لذلك ينتظر أن تنشط هذه الملاحقة لتشل حركة رأس الدولة السوداني ولتحول دون أية معاملات جادة بين السودان والأسرة الدولية.

هذه العوامل كلها تشكل ضغوطا هائلة على النظام السوداني سوف تزيد تيارات التحول الديمقراطي العربية من شدتها لا سيما القدوة المصرية.

صحيح أن للسودان خصوصية أسهبنا في ذكرها في مقام آخر ولكن السودان استورد من مصر الداء والدواء: الحركة الشيوعية، والحركة الإخوانية، والنظام الأوتوقراطي، وبرامج التعليم، والبعثات التعليمية، والإعلام المصري، والمكتبة المصرية وفدت للسودان من مصر.

وأهم وافد هو نظام الحكم الأوتوقراطي الذي اقتدى بالتجربة المصرية في شكل الاتحاد الاشتراكي أو المؤتمر الوطني.

والتشابه بين نظام الحكم المصري والسوداني في الفترة الأخيرة كان كبيرا: الحزب الواحد الحاكم المتماهي مع الدولة- الإعلام الموجه- الأمن المطلق اليد- الشركات التابعة لأجهزة الدولة النظامية والمدنية- القطاع الاقتصادي الخصوصي لصالح المحاسيب- اختراق القوى السياسية الأخرى وإضعافها- تدجين الحركة النقابية وإخضاعها للحزب الحاكم. لذلك فإن الثورة الشعبية الديمقراطية لا تلبث أن تفد إلى السودان وإذا نجحت الثورة في مصر في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي فإن عبوره الحدود للسودان احتمال كبير.

كانت الأوتوقراطية المصرية سندا قويا للأوتوقراطية السودانية في كل عهودها في عهد الأوتوقراطية الأولى (1958- 1964م) والثانية (1969- 1985م) والثالثة الأخيرة (1989- ) لذلك استبشر السودانيون كثيرا بالثورة الشعبية الديمقراطية في مصر لأنها توفر القدوة الصالحة ولأنها تمثل بوليصة تأمين للديمقراطية السودانية القادمة ضد تدابير الأوتوقراطية المصرية ضدها.

الثورة المصرية الديمقراطية كانت ناعمة ابتداء من بداية الاعتصام إلى مشهد ميدان التحرير.

وكان موقف القوات المسلحة المصرية بعيدا من أن يستغل لصالح النظام الحاكم لأنها قوات منضبطة ومهنية.

ولكن الموقف في السودان مختلف لأن القوات المسلحة مؤدلجة وربما أمكن تدخلها لصالح النظام.

ولكن السودان به أكثر من خمسين فصيلا مسلحا ما يعني في حالة المواجهة سوف تتعدد مراكز القوة المسلحة في البلاد.

إن أفضل ما يمكن أن يحدث في السودان هو أن يدرك النظام السوداني أن المسرحية قد انتهت ويجنب البلاد مخاطر المواجهات ويتخذ إجراء استتباقيا يحقق أهداف الثورة الديمقراطية بمشروع يبادر به ويشمل التزاما حقيقيا بالتحول الديمقراطي بصورة تتجاوب معها القوى السياسية السودانية.

ولكن إذا امتنع النظام عن هذا الإجراء الإستباقي فإن الاحتقان الموجود في الجسم السياسي السوداني، ورياح التغيير التي تهب في المحيط العربي سوف يدفعان في اتجاهات المواجهة مع كل ما سوف يصحبها حتما من مخاطر.

التغيير حتمي؛ السؤال هو هل سوف يكون بالوسائل الناعمة أو الخشنة؟ والمصلحة الوطنية تجأر لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بأن مصلحة البلاد في الطريق الناعم ولكن: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) .