مذكرة الإمام الهادي لرئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة

كتبت المذكرة يوم الخميس 22 أكتوبر وسلمت لاحقاً

مذكرة الإمام الهادي لرئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة

بسم الله الرحمن الرحيم

17 جمادي الثاني 1384هـ ، 23 أكتوبر 1964م

 

السادة رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة

السلام عليكم:

لقد مضى عامان منذ آخر مرة خاطبناكم فيها عن حالة البلاد، عاماناجتنازهما في قلق متواصل نحو الحالة العامة التي كنا ترقبها ونعيش فيها، مزودين أنفسنا بالمعلومات عن الأحداث ومرضين ضمائرنا أن تتولى الأحداث عنا مهمة التنبيه عن الأخطاء، آملين أن تتملككم الدراية بالدرك الذي تنساق إليه بلادنا، وتبحثوا جادين في الخروج عن تلك الأزمات.

  1. حدث أن عملتم بموجب اتفاقية مياه النيل على ترحيل أهالي حلفا فأعطيتموهم الخيار في المسكن الجديد ثم نزعتموه منهم، مزيلين بذلك أية ثقة في أنفسهم، فكانت سياستكم وتنفيذها مصدر احتكاك مع سكان حلفا أدى إلى العصيان والتشريد. ثم قرنتم ما بين بين ترحيل أهل حلفا إلى وطن جديد وما بين مشروع خشم القربة ذى الأهمية الاقتصادية الحيوية، فنقلتم مشاكل الترحيل نتائج أخطائكم في التهجير إلى ذلك المشروع الذي أصبح مضرب الأمثال في صرف الأموال العامة دون ما ضابط، فانهدت أركان سياسته الزراعية يوم أضرب السكان الجدد عن الزراعة في الموسم الجاري وفقدت البلاد بذلك فقداً كبيراً.
  2. وحدث أن أعلنتم علينا في يوليو 1963م ميزانية للسنة المالية مملوءةبالتفاؤل مؤكدة متانة رصائدنا الداخلية والخارجية، وفي طيات أنفاس إعلانكم بدأت الأوساط تتحدث عن تدهور الموقف المالي فنفيتم ذلك وأكدتم صحة ما أعلنتم فلما أقبل شهر سبتمبر 1963م أدركتم خطأ ما أعلنتم، فحاولتم التستر على الموقف حتى طفح الكيل. وعينتم وزير مالية جديد همّ أن يتحرر من التستر فأعلن علينا في ديسمبر سنة 1963م حقيقة موقف بلادنا المالية فكانت حقيقة مرة تنذر بالخطر. وفي يوليو من العام الحالي أعلنتم علينا الميزانية التي التمستم لها فائضاً من تضخيم خيالي للإيرادات وتقليل خيالي للمصروفات، ثم ذكرتم في  الخطاب المرافق لها ما يؤكد أن جميع ما أعلنتم علينا من أرقام لا ينطوي على معنى واقعي إذ قال المتحدث باسمكم أنكم تقدرون الإيرادات فتجمعون أقل منها، وتقدرون المصروفات فتنفقون أكثر من تقديركم. وأشرتم لضرورة إعادة النظر في أولويات الخطة العشرية وعدم جدارة أجهزة الحسابات والمراجعة الحكومية مما أكدالتهم المتكررة التي كالها المواطنون عن فساد الإدارة الحكومية، وعجزها.
  3. اتخذتم سياسة الإدارة والتطورات الدستورية، وربطتم ما بين المجالس المحلية ومهمتها إدارية بحتة وما بين مجلس مركزي مهمته تشريعية عليا، فأفسدتم بذلك نظام الحكومات المحلية الذي كان واجباً إبعاده من الأجهزة التشريعية العليا حتى يقوم على أرجله ويتخذ أوضاعه وتقاليده في مستوى المجلس المحلي ومجلس المديرية.. كما أن النظام التشريعي الذي سرتم فيه لم يفلح في ملء الفراغ الدستوري الذي أوجده تعطيل الدستور، وأصبح واجهة استشارية لحكومتكم.
  4. ثم انتهجتم سياسة حزبية نحو المواطنين تقربون من يتزلف الأمن في جنوب السودان، فتوالت علينا تأكيداتكم أن الحالة عادية وأن الأمن مستتب، أبت الصحافة الأجنبية أن تتركنا نستمتع بهذا الحلم وأبت ظروفنا القاسية إلا أن نستقى الأخبار من المصادر الأجنبية في الصحف السيارة فأدركنا أن الأمور في الجنوب ليست كما يرام، وكتبنا لكم في حينه وكان نصيبنا الإعراض والإهمال، ثم تفاقم الأمر حتى طغى على إعلاناتكم وتأكيداتكم فبدأتم بعد مشقة تعترفون بتدهور الأمن في الجنوب بعد أن أعلنتم من قبلكم مآتم الضحايا وخسائر المواطنين.. ثم وافقتم على أن يحال أمر النظر في هذه المشكلة للجنة جردتموها من الطابع القومي إذ لم تجعلوا تكوينها مجال شوري، كما قيدتموها بشرط يجعل مجهودها كالنقش في أمواج البحر حين طلبتم منها أن تقدم حلاً لمشكلة الجنوب في ظل الهيكل الدستوري القائم وهو باعترافكم انتم هيكل مؤقت.
  5. ولما اتخذتم بعض المجال للرأي العام أن يشترك في بحث المشكلة استرعت تلك الثغرة انتباه كل مخلص فطن، فهالكم هذا الأمر وأزعجكم ما أشار إليه المواطنون من أن مشكلة الجنوب لا يمكن حلها بمعزل عن مشكلة البلاد الدستورية.
  6. لقد راعكم نشاط الطلاب الجامعيين في ترديد أفكار واتجاهات هي من صميم الرأي السوداني العام، وبدأتم تفكرون في الكيفية التي تدخلون بها جامعة الخرطوم في الحظيرة التي أدخلتم فيها المواطنين أجمعين. فاتخذتم في سبتمبر 1963م قراراًبإقحام وزير المعارف في شئون الجامعة وكان القرار من الخطأ بمكان، وقد قاومه من يهمهم الأمر مباشرة وأدى ذلك إلى محنة كادت تقضي على التعليم الجامعي بالسودان.

إن الطلبة كقطاع من الرأي العام السوداني اشتركوا في القلق الشديد الذي عم البلاد بشأن الجنوب، فنشطوا كغيرهم من المواطنين للبحث عن حل للمشكلة، ولا يضير الطلبة أن كانوا فئة من المواطنين تمتاز بوعي رفيع وتجمعها مواطن السكن والتعليم ويحركها شعور بمسئولية وطنية دافقة تدفعها حرارة الشباب، فأدى ذلك لأن يكون نشاطهم وحماسهم متفوقاً وهذا أمر يفهمه ويقدره كل من جاشت في قلبه عاطفة الأبوة فأدرك طباع البنوة و(الشباب)..

لقد أحاط بوليسكم بجماعة من هؤلاء الأبناء وهم يبحثون ما يكون عليه رأيهم في مشكلة الجنوب. كان منظمو الاجتماع هم الطلبة فقد عاملهم البوليس بوحشية في حرم الجامعة وما كان أفظعها في ميزان الأبوة، وما أجدرها بلعنة من الله والناس أجمعين.. فأسال الدم البرئ ورقد الابن الشهم وكانت جراحهم أفصح وأوضح من أن تطببها بيانات وزارة الداخلية وهي بيانات واهمة متداعية، هذه الأخطاء أيها الأخوان في الوطن لا تعالج بالمغالطات ولا بالتستر ولا بعبارات الأبواق التي تتاجر بالكلام. وإنني في هذا المنحى من تاريخ بلادنا أود أن أوضح لكم موقفي وموقف من يشايعني الرأي والعقيدة، بأنه لم يبق لكم مجال لإسداء خدمة لهذا البلد إلا بالتنحي عن شئونه العامة وإرجاع الأمور للشعب ليضع الدستور الذي يختار بموجبه حكامه ويحاسب حكومته. إن ذلك يمكن أن يتم عن طريق قيام حكومة مدنية مؤقتة تشكل على الفور تنتهي بانتهائها من كتابة الدستور وقيام المجلس النيابي.

وفقنا الله وإياكم لإنقاذ هاذ الوطن من وحل الباطل والفساد، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

                               المفتقر إلى ربه

الهادي عبد الرحمن المهدي