مناظرة اتحاد جامعة أوكسفرد 11 فبراير 1987م

سماحة دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان وعضو مجلس التنسيق الرئاسي لقوى نداء السودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد للحكماء والرؤساء السابقين المنتخبين ديمقراطياً والمفكر السياسي والإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

خطاب السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء

لاتحاد أكسفورد في مناظرة بعنوان

(على البلاد الفقيرة تقديم معيشة ورفاهية شعبها على التزامها للدائنين)

 11/2/1987م

 

السيد الرئيس

إنني إذ أؤيد هذا الرأي أسوق سبع نقاط هي:

الأولى:

أن الرأي المعارض لهذا الرأي إنما يبعث إلى الأذهان قضية انتونيو تاجر البندقية. ولكن الموقف الراهن أخطر من الناحية السياسية والاقتصادية من مأساة تاجر البندقية لذلك ينبغي أن نعالجه بالاهتمام الذي يستحقه.

سأشرح موقفي المدافع عن هذا الرأي تحت عنوان:

ما هو حجم المشكلة؟

ما هو المسئول عنها؟

الحلول المسكنة غير المجدية للمشكلة.

الآثار السلبية لعدم حل المشكلة.

نتيجة هذا كله.

الثانية:

هي الرد على السؤال: ما هو حجم المشكلة؟

أثناء السبعينات تراكم على دول العالم الثالث دين بلغ حجمه ترليون دولار أي ألف بليون دولار. هذا الدين يساوي نصف دخلها القومي. وتساوي مدفوعات هذا الدين من أقساط وفوائد سنوية مائة بليون دولار وهذه المدفوعات تشكل لبعض البلدان نصف إيراداتها من العملة الصعبة ولبعضها ضعف تلك الإيرادات.

أن الالتزام بدفع هذا الدين المتراكم وسداد أقساطه وفوائده كاملا يحكم على هذه البلاد الفقيرة بالإعدام الاقتصادي.

لقد استشهد بعض رجال البنوك بما حدث مع المكسيك في عام 1983م حيث دفعت المكسيك 12 بليون دولار. هذا الإجراء كلف الاقتصاد المكسيكي انخفاض دخله القومي 4% في السنة وهذا معناه أن السداد لم يكن من زيادة في الصادرات بل تخفيض في الواردات.

إذن الالتزام الحرفي بالسداد مستحيل. فهل هذا يعني الامتناع الكلي عن سداد الدين؟

هذا الموقف الأخير أن اتخذه المدينون ينذر بإفلاس البنوك العالمية التي أقرضت بلاد العالم الثالث بلايين الدولارات الإفلاس بهذا المستوى سوف يؤدى لاضطراب في الاقتصاد العالمي.

لقد بالغت البنوك العالمية (الأمريكية) الكبيرة في إقراضها إذ أقرض أكبر  عشرة بنوك أمريكية ما يساوي 180% من رأسمالهم لأكبر ستة من المدنيين. هذه الحقيقة تزيد من الآثار السلبية إذا قررت هذه البلاد الستة عدم سداد ما عليها من ديون.

حجم المشكلة كبير والأشكال هو أن البلاد المدينة أن هي التزمت بالسداد حطمت اقتصاديا وأشقت شعوبها وأن هي امتنعت عن السداد عرضت النظام المالي والنقدي العالمي لانهيار!!

الثالثة:

من المسئول عن هذا الموقف المحرج؟

المسئول الأول هو القيادات السياسية في البلدان النامية تلك القيادات التي تمادت في البحث عن الديون والحصول عليها لتمويل خطط تنموية غير متقنة ولتمويل مستويات عالية من الاستهلاك، كذلك تلك البلدان في الغالب واقعة تحت حكومات استبدادية مما يزيد من الصرف على الآمن وعلى الرشوة السياسية وعلى سوء الإدارة دون محاسبة ومساءلة مجرد الاقتراض ليس ضارا إذا استخدمت الأموال لتنمية سليمة مثل ما حدث في كوريا الجنوبية وماليزيا. ولكن الاقتراض الذي أنفق على أعمال قليلة الجدوى هو الذي أدى للتراكم في الدين دون أن تقابله زيادة في التنمية والطاقة الإنتاجية.

المسئول الثاني هو حكومات البلاد الدائنة التي أسرفت في إقراض البلدان المنحازة إليها سياسيا فشيلي والبرازيل والسودان (في ظل نميري) وجدوا دعما أمريكيا واضحا للسعي والحصول على الديون الخارجية.في كثير من الحالات كان الشرط الأول للحصول على القروض وتدفق الأموال هو أن تعلن البلاد انحيازها السياسي للبلاد الممولة. لقد تدفق تمويل كبير في هذا الصدد لمساندة أنظمة منحازة للغرب حرصا على بقائها ودعما لأوضاعها المهتزة أمام الرفض الشعبي. لقد حاولت في أواخر السبعينات التحدث لبعض هذه البلاد للامتناع عن دفع القروض لنظام نميري في السودان لسوء استخدامه لها ولكن لم أجد أذنا صاغية. وفي ذات مرة عندما استمع مسئول أمريكي كبير لنقد نظام نميري وشخصه المخبول وسوء استخدامه للمال قال المسئول الأمريكي: نعم أنه ابن سفاح ولكنه محسوب علينا.“ ok he is a bastard but he is our bastard”

المسئول الثالث عن هذا التراكم غير المسئول للديون هو البنوك نفسها. فالبنوك لديها مقاييس تضبط سياسة القروض وحجمها ولكن هذه                                                                                                                                                             البنوك أمام الفرص المتاحة وأرصدة البتر ودولارات الكبيرة فقدت ضوابطها واندفعت في سيادة إقراض غير رشيدة بالمقاييس المصرفية المعروفة طمعا في تدوير الأرصدة على أوسع نطاق ممكن. قال وليام كلاين في كتابه عن الدين الخارجي واستقرار النظام الاقتصادي العالمي (1983) قال: (ينبغي الاعتراف بما يسلم به الجميع الآن وهو أنه في منتصف السبعينات وفي عامي 1979مو1980م لعبت البنوك دورا هاما في تدوير أرصدة بلاد أوبك المالية في البلاد النامية).إذن بين يدينا ثلاث جهات مسئولة عن هذا التراكم في الدين الخارجي: حكومات البلاد المدينة ،حكومات البلاد

البلاد الدائنة ،البنوك العالمية.

الرابعة:-

هناك محاولات تجرى الآن لعلاج هذا الموقف الخطير عن طريق المسكنات أو المهدئات!! في هذا المجال نذكر الاتفاقيات التي تعقد مع صندوق النقد الدولي وبرامج الجدولة وإعادة الجدولة التي تتفق عليها الدول المدينة مع الدائنين.

الجزء الأكبر من اتفاقيات الجدولة هذه تتم مع الدول الأفقر فمن بين 31 جدولة تمت حتى نهاية 1984كانت 23منهالجدولة ديون الأفقر 13دولة في أفريقيا جنوب الصحراء.هذه الجدولة وإعادة الجدولة أظهرت العجز المستمر عن الوفاء بها هناك اقتراحات أخرى لحل المشكلة مثل:-

أ-أن تبيع الدولة المدينة الدين لشركة عالمية على أن تتعامل الشركة مع الجهات الدائنة تشترى الدين النقد المحلى من البلد المدينة على أن تستثمره في ذلك البلد.

هذا إجراء ممكن ولكن بشرطين الأول: ألا يسمح لهذه الشركات بالسيطرة على اقتصاد البلاد المعنية لمصالحها الخاصة أن تخضع الاستثمارات لأولويات الاقتصاد الوطني فلا توجه للكماليات بل الضروريات.هناك فكرة جيمس بايكر التي تنص على إقراض البلاد المدينة مبالغ إضافية تمكنها من دفع التزاماتها لا سيما الفوائد للبنوك مما يمكن البنوك من معاملة هذه القروض على أساس أنها حية (غير هالكة) وهذا يساهم في استمرارها كمؤسسات مصرفية.هذه المقترحات كلها تعتبر مسكنات (اسبرن، بندول، أسبرو)

النقطة الخامسة:-

ما هي نتائج عدم حل هذه المشكلة؟

قد يقول بعض المفكرين في البلاد الغنية:

أن البلاد المدينة مسئولة عما حدث ولن نسمح لها الآن بتخريب النظام الاقتصادي والمالي وعليها أن تدفع ديونها أو تخلع من النظام العالمي وتقاطع لتذوق وبان موقفها أن هي امتنعت عن سداد التزاماتها.هذه النظرة العلوية ليس لها ما يبررها. وليست هذه هي أول مرة في التاريخ يعجز المدين من سداد دينه بل ويرفض الالتزام بالسداد (DEFALT).

كذلك لقد أوضحنا أن المسئولية لا تقع على البلاد المدينة وحدها بل تشمل أيضا البلاد الدائنة والبنوك نفسها.لقد بدأت شعوب العالم المدين معاقبة حكوماتها التي أوقعتها في هذا الموقف فعشرة من بلاد أمريكا اللاتينية أسقطت حكوماتها الدكتاتورية وحملتها مسئولية الخطأ وأقامت حكومات ديمقراطية في مكانها.وفي السودان حوكم المسئولون في النظام الدكتاتوري والمساعي مستمرة لمحاكمة رئيس ذلك النظام الهارب. من الذي يعاقب الدول الغنية والبنوك العالميةعلى دورها في هذا الخطأ الجسيمأن قهر البلاد المدينة وإلزامها بدفع ما عليها رغم آثار ذلك السلبية على التنمية فيها وعلى رفاهية شعوبها يولد تعبئة مضادة للبلاد الغنية ويخلق مواجهات شاملة مثلما حدث في السودان في الثمانينات من القرن الماضي ويحدث في إيران اليوم.

هذه المواقف ينبغي أن تفهم في إطارها الصحيح على أنها رد فعل ضد الظلم والهيمنة.إن الإسلام دين تسامح واعتدال ولكن المسلمين قد تعرضوا لظروف ظلم وإذلال دفعت بكثير منهم للتطرف فالتطرف نفسية واجتماعية وتاريخية.

هذه الظروف نفسها ستولد تطرفا مشابها في كل العالم الثالث. قال المستر أندرز مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون أمريكا الجنوبية حتى عام 1983م قال: (إذا اعتبرت شعوب البلاد المدينة أن معاملة أمريكا والدول الغنية الأخرى لها معاملة قاسية وغير متسامحة فإن هذا الإحساس سوف يؤدى لانتفاضات شعبية معادية. هذه الانتفاضات سوف تعرض التوجه الديمقراطي فيها لخطر بل سوف تعرض الأمن والنظام نفسه للخطر).

ومضى المستر أندرز يحلل الموقف ويستنتج أن الاضطرابات الاجتماعية في بلاد أمريكا اللاتينية سوف تطيح بالديمقراطية وفي الظروف الجديدة سوف تحل محلها نظم ديكتاتورية جديدة ليست من نوع الدكتاتوريات القديمة المنحازة للغرب بل معبأة ضد الغرب

إنني أرى أن عدم وجود تعامل دولي عادل وواعي للمشاكل الاجتماعية سوف يدفع بكثير من عناصر وفئات العالم الفقير لارتكاب وجوه الاحتجاج السبعة وهي:

الإرهاب

الهجرة غير القانونية إلى البلاد الغنية.

ترويج إنتاج وتجارة المخدرات

انتشار المجاعات

تخريب البيئة الطبيعية

زيادة أعداد اللاجئين

خلق مناخات تزيد من حدة التنافس الدولي.

النقطة السادسة:

ما هو العلاج؟

هنالك أربعة أسس ينبغي الاعتراف بها مدخلا للعلاج:

الأساس الأول:

المسئولية المشتركة على الصعيد الدولي عن مشكلة الدين الخارجي وتنظيم مؤتمر دولي للتحليل والعلاج.

الأساس الثاني:

إن بعض الدائنين أقوى على التحمل من البعض الآخر فالدول الدائنة أقوى تحملاً للإعفاء من البنوك.

الأساس الثالث:

موقف المدينين متفاوت:

البلاد الآسيوية في موقف أفضل من الآخرين

بلاد أمريكا اللاتينية صاحب المديونية الأكبر وهي أكثر تعرضا لعدم السداد من ناحية وللاضطرابات الاجتماعية إذا سددت

أكثر البلاد تعرضا للخطر هي البلاد الأفريقية الفقيرة وذلك لضعف اقتصادها ولخطر الجفاف عليها.

أما دول شرق أوربا المدينة فهي على أهمية مديونيتها تقتضي معالجات مختلفة تماما.

الأساس الرابع:

ألا يكون المقياس هو ما هي التنازلات القصوى التي تستطيع البنوك تقديمها ولكن ما هو الحد الأقصى الذي تستطيع البلدان المدينة الالتزام بسداده بعد إعطاء أولوية لبرامج التنمية ولمعيشة السكان وتأمين السلام الاجتماعي؟

ينبغي أن تعطي الأولوية للتنمية ولمعيشة الشعوب وأن توجه بقية الموارد لسداد التزامات الدين الخارجي.

انطلاقا من هذه المبادئ إنني أدعو لعقد مؤتمر دولي لبحث هذه المشكلة وأقدم تمهيدا للمؤتمر عشر نقاط ليدور حولها نقاش المؤتمر:

هذه الديون مختلف على أرقامها وعلى قانونيتها وعلى مصيرها ينبغي أن تراجع مراجعة أساسية للالتزام بالقانوني المراجع منها.

ينبغي أن تتخذ البلاد المدينة نظما إصلاحية وقابلة للمحاسبة والمساءلة حتى لا يؤدى التخفيف لوضع موارد مادية في أيدي نظم قهرية تعذب بها شعوبها.

إعفاء الدين لا فقر 20% من البلدان المدينة لا سيما الدين الرسمي.

إعادة جدولة ديون ال 80% الأخرى من البلدان على أساس تسامحي يقوم على 5 سنوات سماح وفترة سداد طويلة تبلغ 15 عاما على الأقل

أن يوضع حد أعلى لسعر الفائدة لا يزيد أبدا عن 3% في السنة أو ما يشبه ذلك.

أن يحدد سداد الدين بنسبة لا تزيد سنويا من 20% من قيمة صادرات البلاد المدينة.

زيادة العون الرسمي الذي تقدمه البلاد الغنية فلا يقل بأي حال من فاصل 7% من الدخل القومي للبلاد الغنية (0.7%) وتسهيل توقع الأموال الاستثمارية للبلاد الفقيرة.

تنظيم موضوع بيع الديون للشركات العالمية بالشروط المذكورة.

أن يستوعب صندوق النقد الدولي الحقائق الآتية:

أن عدم التوازن له أسباب هيكلية وخارجية ولا يعالج إن لم تؤخذ هذه في الحسبان.

إن الإصلاح إذا لم يراع عوامل اجتماعية لن يستقر

أن تراعي البلدان الغنية فتح الأسواق لمنتجات البلاد الفقيرة وأن توضع أسس تنظم أسعار منتجات البلاد الفقيرة بحيث تلعب التجارة دوراً موزوناً لا كما هو الحال الآن مائلاً لمصلحة الإنتاج الصناعي ومتجها لقفل أسواق البلاد الصناعية أمام منتجات البلاد الفقيرة.

النقطة السابعة:

السيد الرئيس

هذه المناظرة ليست بين حمائم وصقور وأنت كالسيدة الحديدية في زي رجالي في مقعد الرئاسة القضية أخطر من هذا بكثير بل أن قصة تاجر البندقية وبخل دائنه (شيلوك) لا تصور الأمر تصويراً صادقاً.

إن الذين يعارضون هذا الرأي الذي نؤيده والذي يقول أن على البلاد أن تدفع الديون التي عليها يدعو لتخريب يقضي على الأخضر واليابس تخريب يشابه قصة شمشون الذي حطم المعبد عليه وعلى أعدائه فقضي على نفسه وعليهم.

وخير شاهد اختم به هذه المرافعة من الشعر العربي:

أرى خلل الرماد وميض نار            ويوشك أن يكون لها ضرام

إذا لم يطفها عقلاء قــوم                          يكون وقـودها جثث وهـام

ولكم الشكر على حسن الاستماع.