من أنوار الصحوة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من أنوار الصحوة

 الإمام الصادق المهدي

 

مارس 2019م

 

 

 

 

محتويات

مقدمة. 3

المملكة والتجديد 4

خطبة الجمعة 25 يناير 2019. 9

السودان على صهوة جواد التاريخ. 14

مذكرة للمؤتمر الدولي حول التراث ومتطلبات المستقبل. 18

كبسولة التحرير. 21

زيارة البابا الكاثوليكي لدولة الإمارات.. 22

حركة التاريخ تحت المجهر. 24

سلام على الأم في عيدها 26

نحن والأطلسي وحادث نيوزلندا 28

فاتا الحد فبلغا الضد 32

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة

لقد وفقت بفضل الله لتأليف عشرات الكتب ومئات المقالات. المتابع لها يدرك أنني مشغول بمنهجين فيها جميعاً: المنهج الأول هو التصدي للوافد من التراث فلا قطيعة معرفية معه، ولا تقديس له، بل التعامل معه بمنطق التدبر والعقلانية. والتصدي للوافد من العصر الحديث لا بقبوله بخيره وشره كما قال د. طه حسين، ولا بنبذه جملة وتفصيلاً كما يقول المنكفئون؛ والعنوان العام لهذا المنهج هو جدلية الأصل والعصر.

والمنهج الثاني هو التخلي عن الموقف السياسي بلا سند ثقافي وفكري، والتخلي عن المنهج الفكري والثقافي بلا إلمام بالواقع السياسي. فالفكر بلا إلمام بالبعد السياسي مشلول، والسياسة بلا بعد فكري وثقافي عمياء.

وفي تراثنا أعلام يمثلون النهج المنشود مثل ابن رشد وابن خلدون والقاضي عبد الجبار، وكثير من المجتهدين في المذاهب الذين تولوا القضاء والإدارة، ولكن هؤلاء أخفوا اجتهادهم الفكري الوقاد خوفاً من طغيان الخلفاء والسلاطين الذين منحت طغيانهم فتوى ابن حجر العسقلاني أن جمهور الفقهاء أوجبوا طاعة المتغلب والقتال معه. فكاتب الأحكام السلطانية الماوردي أوصى بأن ينشر كتابه بعد وفاته. وعموماً الطغيان السياسي جعل الفقهاء يركزون اجتهاداتهم في الأحوال المدنية والشخصية بعيداً عن ولاية الأمر التي ترك أمرها ليحسم بالسيف كما قال الشهرستاني، أو بالاغتيال كما حدث في الواقع، فاغتيل ثلاثة من خلفاء العهد الأول، وخمسة من خلفاء بني أمية و 12 من خلفاء بني العباس وهلم جرا.

الكتاب الحالي يجمع بين دفتيه أدبيات صدرت عني مؤخراً في مناسبات مختلفة. وسوف يجد القاريء فيه التزاماً بالنهجين في الموضوعات المطروقة، وسوف أواصل الالتزام بهما في اجتهاداتي إن شاء الله.

الصادق المهدي

28 مارس 2019م

 

المملكة والتجديد§

مقدمة: إن للمملكة العربية السعودية أهمية بالغة عربياً، وإسلامياً، ولنا جيرانها عبر البحر الأحمر، وللقارة الآسيوية موقعها، ولأفريقيا غرب البحر الأحمر، وعالمياً؛ واستقرارها واستيعابها للمستجدات يهمنا جميعاً بصورة مباشرة.

فيما يلي اتناول هذا الموضوع المهم عبر عشر نقاط:

أولاً: بالنظرة السطحية تبدو المملكة كأنها تسير على وتيرة واحدة. ولكن الحقيقة السوسيولوجية هي أن القانون الوحيد الذي لا يتغير هو حتمية التغيير، فدوام الحال من المحال.

ثانياً: شهد تاريخ المملكة الوسيط صراعات كثيرة حسمها التأسيس الثالث للمملكة على يد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله. هكذا تأسست المملكة عام 1924م وأهم سماتها أنه أبرم عقداً مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب الداعية السلفي وبموجب ذلك خاض قتالاً جهادياً وحد المناطق الأربعة: الحجاز، نجد، تهامة، وعسير في دولة واحدة؛ واتخذ من اجتهاد الشيخ محمد عبد الوهاب أساساً لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وأقام علاقات منافع متبادلة مع الولايات المتحدة.

ومنذ البداية واجه خلافين مهمين: خلاف مع المقاتلين الذين خاضوا الجهاد (الأخوان) لأنهم حرصوا على مواصلة الجهاد خارج حدود الجزيرة العربية، وخلاف مع فقهاء طعنوا في شرعية التحالف مع الولايات المتحدة. خلافان حسمهما الملك ما ساهم في استقرار الدولة وتأسيس ولاية الأمر للملك عبد العزيز ثم لأبنائه بعده كابراً عن كابر.

ثالثاً: شهد التاريخ الحديث للمملكة ثلاث موجات إصلاحية: الأولى على يد الملك فيصل رحمه الله الذي نقل نظام الملك إلى المؤسسية، والذي واجه مشروع القومية العربية الصاخب في ستينيات القرن الماضي بالدعوة للتضامن الإسلامي. الموجه الثانية انطلقت في التسعينيات إذ قدمت للسلطة عرائض تطالب بإصلاحات فتجاوب الملك بوضع نظام أساسي للدولة (دستور)، وتخصيص صلاحيات مناطقية، وتكوين مجلس شورى.

ولكن منذئذٍ استجدت عوامل كثيرة أهمها عشرة:

  • الدولة المجاورة إيران كانت تعتبر في نظر الولايات المتحدة شرطي المنطقة ووصفها الرئيس الأمريكي السابق بأنها واحة استقرار في محيط مضطرب. ولكن هذه العلاقة وما صحبها من تغريب للثروة كانت من أهم عوامل التعبئة الشعبية المضادة لنظام الشاه. قال مارك كيرتس في كتابه مفارقات القوة: “يجهل كثير من الأمريكيين حجم الغضب الإيراني من بريطانيا وأمريكا لما دبراه ضد بلادهم. فكان لهذا الغضب الإيراني دوراً في إشعال الثورة الإسلامية”.

الثورة في إيران 1979م أشعلت حماسة في كل أوساط العالم الإسلامي لا سيما في الأوساط الشيعية. وكان واضحاً أن هذه الثورة تخاطب المسلمين خارج الحدود القطرية. وبالفعل تعاظم الدور الإيراني في المنطقة مؤخراً بتشبيك مع الشيعة وبرعاية بعض الحركات الإٍسلامية عبر العالم.

  • الشيخ ابن تيمية وهو من مراجع الاجتهاد الوهابي يقول بصحة أحاديث عن المهدي المنتظر، وكان المسلمون على أعتاب قرن جديد، وتكررت المآخذ على نظم الحكم في العالم الإسلامي بأنها فاسدة وممزقة فنظم جهيمان العتبي في 1979م حركة احتلال الحرم المكي ليظهر المهدي محمد عبدالله القحطاني. هذا التمرد أمكن قمعه ولكن بعده أعطيت رابطة العالم الإسلامي والنظم المذهبية كرتاً أبيض للتشدد في تطبيق الأحكام المذهبية داخل المملكة وخارجها كرد على انتقادات الجهيمان، وكثير من أبواب التسامح والتحديث سدت.
  • وفي 1980م غزت الدولة السوفيتية أفغانستان ما أدى لانتظام مقاومة شعبية أفغانية، ولمواجهة القوات السوفيتية دعمت الولايات المتحدة الحركات الجهادية وطالبوا من المملكة دعمها فتوافرت لكثير منها إمكانات مادية ومعنوية هائلة، فنتج عن ذلك تكوين القاعدة التي ساهمت بصورة فاعلة في طرد القوات السوفيتية على أساس تحرير بلاد المسلمين من الأجانب. وبعد تحقيق هذا الهدف تحولت القاعدة بالتحالف مع طالبان لمواجهة الوجود الأمريكي.

الدعم الأمريكي السعودي للقاعدة رفع من شأنها حتى أن مجلة الاكونمست في 2002م روت أن غالبية الشباب السعودي يدعمون القاعدة. وخطأ التعامل الأمريكي مع القاعدة زاد من وزنها ومكنها من تكوين شبكة مراكز في العالم الإسلامي كالقاعدة في بلاد المغرب، والقاعدة في أرض الرافدين..الخ ونتيجة للاحتلال الأمريكي للعراق تحولت القاعدة في أرض الرافدين إلى داعش ثم الخلافة المزعومة. هذه التطورات صارت تخاطب الشعوب بما يطعن في شرعية نظم الحكم في العالم الإسلامي والدعوة لإسقاطها وإقامة خلافة إسلامية.

  • وفي اتجاه آخر منذ عام 2011م انطلقت من تونس ثم مصر، وليبيا، وسوريا، واليمن ثورات الربيع العربي وشعاراتها الثورية: كرامة، عدالة، حرية، ومعيشة. هذه الثورات حتى في البلدان التي لم تشهدها أحدثت تعاطفاً شعبياً.
  • واتضحت عيوب الاعتماد على مصدر وحيد للثروة: البترول، بسبب تقلب أسعاره بصورة مقلقة للإدارة المالية والاقتصادية في البلاد المنتجة للبترول.
  • وبدأ واضحاً أن الاضطرابات في المنطقة العربية قد أدت لتمدد شيعي ليس في نطاق المذهب الإثني عشري وحده، بل تمددت ظاهرة الشيعية السياسية بما شمل العلويين، والزيدية. فتكون هلال شيعي ممتداً من لبنان، سوريا، العراق، واليمن. لم تعد المواجهة مع إيران هي فقط مع الفرس ومع المذهب الاثني عشري. ففيها الآن مكون عربي في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. فهؤلاء عرب ومذاهبهم الشيعية ليست انثى عشرية، وقد كونوا فصائل شعبية مسلحة حزب الله، وأنصار الله، والحشد الشعبي، كما أسسوا تحالفات مع قوى مقاومة سنية.

هنالك قيادات إيرانية متطرفة تستغل هذه الظروف لقيام كيان واسع تقوده إيران في مواجهة السنة. لكن آخرين كحركة الإصلاح داخل إيران بقيادة الرئيس الحالي حسن روحاني والرئيس السابق محمد خاتمي، وقيادات شيعية نافذة في لبنان والعراق أمثال مقتدى الصدر؛ هؤلاء لفظوا المواجهة وطالبوا بنهج تعايشي في المنطقة وفي العالم. إن الفتنة بين روافض ونواصب موروث تاريخي لا يمكن حسمه بالقوة، بل الاقتتال سوف يقود لنتيجة صفرية مثل حرب 1980- 1989م، والخيار الوحيد المطلوب هو مشروع سلام وتعايش، فالأوروبيون بعد اقتتال طائفي 30 عاماً وجدوا أن الخيار الوحيد الممكن هو الصلح الذي أبرموه 1648م في وستفاليا.

  • هذا بينما تراجع حتى أكثر نظم الاتحاد العربي قوة: مجلس التعاون الخليجي، فوقفت ثلاث دول: المملكة، والإمارات، والبحرين في جانب ضد قطر، مع وقوف الكويت وعمان في الحياد.
  • ولا شك أن الاهتمام بالتعليم للرجال والنساء والبعثات الخارجية وسعة الاتصال بين السعوديين والعالم الخارجي، واتساع مجالات الاتصالات والتواصل عبر الوسائل الإسفيرية خلق راياً عاماً جديداً، لا سيما في أوساط الشباب من الرجال والنساء، وغذى تطلعات ملحة للتغيير.
  • وجأر الرأي العام بالشكوى من الفساد بصورة اعترف بها الأمير بندر بن سلطان بقوله: نعم حجم الفساد لصالح الطبقة الحاكمة يبلغ 50 مليار دولار.
  • وبدا واضحاً أن الحرب الباردة بين الدول الكبرى قد استجدت ما يتطلب خطة واعية للتعامل مع المحيط الدولي.

هذه العوامل العشرة تتطلب مراجعات فكرية وسياسية للتعامل معها.

إنها عوامل تستدعى بصورة ملحة الحاجة للتجديد.

خامساً: البيت السعودي اتسم غالباً بوحدة الصف، ولكن منذ الستينات ظهرت مطالب بدولة ملكية دستورية قادها الأمير طلال بن عبد العزيز وآخرون. وفي عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله قرر تكوين مجلس البيعة ليقرر بشأن الخلافة على الملك وولاية العهد.

الملك سلمان بن عبد العزيز الذي خلف أخاه في العام 2016م عين ولياً للعهد الأمير محمد بن نايف وعين ابنه سلمان ولياً لولي العهد. وبعد حين عين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد. هذه الخطوة قفزت فوق التقاليد المعهودة، ولكن مجلس البيعة أقرها.

الأمير محمد بن سلمان في حداثة سنه يمثل نهجاً جديداً ومنذ ولايته أقدم على نهج تجديدي اقتصادي واجتماعي تحت عنوان رؤية 2030.

سادساً: نداء الإصلاح صحيح بل ضروري، وكذلك الإقدام الراديكالي لتحقيق الإصلاح. إنه نهج ألهب حماسة كثير من الشباب لا سيما المرأة التى أحست بالاعتراف لها بحقوق حرمت منها.

ولكن ثمة أربعة ملاحظات هي:

  • غياب رؤية كلية للإصلاح تحدد معالمه وحاضنته الأيديولوجية التي يراد أن تحل محل الحاضنة السلفية.
  • غياب المشاركة في نهج التجديد بما يوفر حاضنة اجتماعية.
  • محاربة الفساد مطلب مهم ولكن ينبغي أن يكون منهجي بأحكام قانون من أين لك هذا؟
  • ظهور الإصلاح في شكل علاقة خاصة مع الولايات المتحدة في وقت فيه رئاسة الولايات المتحدة تتبع سياسة ابتزازية وانحيازاً واضحاً لإسرائيل. ظنت إسرائيل أنها قد قضت على مقاومة الدول العربية لها وأن إيران هي التي تواجهها، وقد دعمت حزب الله وحماس في مواجهتها. لذلك حرصت على دفع الولايات المتحدة لضرب إيران. الرئيس الأمريكي الحالي لم يعد مستعداً للحروب في الشرق الأوسط الكبير، فكل تدخلات بلاده العسكرية كلفت بلاده 7 ترليون دولار، وضحايا بشرية وجاءت بنتائج عكسية. لذلك صارت أطروحته أن تتولى دول المنطقة الدفاع عن نفسها ضد إيران. هذا يؤكد لمن يعتمدون على قيادة أمريكا لمواجهة عسكرية ضد إيران عدم استعداد أمريكا للقيام بهذا الدور. ما يترك المجال لمبادرة عسكرية إسرائيلية. أية حملة عسكرية تقودها أو تشارك فيها إسرائيل ضد إيران سوف تكون لصالح إيران معنوياً وشعبياً مهما كانت المعادلة العسكرية، قبلة موت لمن يقف معها.

سابعاً: المطلوب لنجاح المشروع الإصلاحي:

  • إحلال أيديولوجي إسلامي يوفق بين التأصيل والتحديث، ويتطلب إصلاحاً لمناهج التعليم الديني، وللخطاب الإعلامي والمنبري بشكل جوهري.
  • إصلاح سياسي يواكب الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ويحقق المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون.
  • إصلاح سياسي يحفظ للأسرة مكانة في إطار المشاركة الشعبية.
  • تحديد أولويات مدروسة لبرنامج الإصلاح.
  • مشروع سعودي لعلاج أزمة مجلس التعاون الخليجي، ولتحقيق درجة أعلى للتعاون العربي وللتضامن الإسلامي. ينبغي بأعجل ما تيسر القضاء على الفتنة الطائفية لا تصعيدها.
  • الوجود الشيعي في البلاد وفي الجوار وجود عضوي لا يمكن محوه بالاقناع ولا بالقوة ولا سبيل سوى التعايش العادل. ولا يمكن لمشروع الإصلاح أن يجدي ما لم يصحبه القضاء على الفتنة الطائفية.

ثامناً: نجاح مشروع الإصلاح يتطلب سلاماً إقليمياً يقفل الباب أمام حركات الإرهاب، وأمام استغلال الهيمنة الدولية  لاضطرابات المنطقة. وجدير بالمملكة في نهجها الجديد أن تحرص على عقد معاهدة سلام وتعايش عربي، إيراني، تركي.

تاسعاً: إن مشروع الإصلاح سوف يثير ضده حتماً كثيراً من قوى المصالح الذاتية وقوى الانكفاء. لا بد من تجريد هؤلاء من أية مبررات في المجال الشعبي السعودي، وفي المجال الإسلامي، وفي المجال العربي، وفي المجال الفلسطيني، خاصة الموقف من إسرائيل، فهي تتأهب لاستغلال المشاكل العربية، وهنالك دلائل  كثيرة عددها الكاتب اليهودي قريق كارل بروم: إلى متى تبقى إسرائيل (التحديات الداخلية) عوامل تجبرها على سلام عادل يرد لأهل البلاد حقوقهم أو تسعى لحتفها بظلفها.

أخيراً: إن للمملكة العربية السعودية فرصة  كبيرة لدور إصلاحي داخلي يرضي شعبها ويعزز دورها العربي، والإسلامي، والدولي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا”[1]. وقال الحكيم العربي:

إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها     فَإن لكُلِّ عاصفَةٍ سُكُوْنُ

وقال الحكيم الغربي:

فرص الدهر كموج البحر

من ركبه نال المنى

ومن أضاعه حصد الندم

فلنركب الموج نفز

أو فاتنا فات الفلاح

 

 

 

 

 

خطبة الجمعة 25 يناير 2019ª

 

الخطبة الأولى

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد-

على طول تاريخ الإنسانية كان الظلم والفساد والاستبداد هي  وقود الثورات، كما قيل:

إنك إن كلفتني ما لم أطق    ساءك ما سرك مني من خلق

غداً سوف يكون يوم ذكرى تحرير الخرطوم إيذاناً بنجاح ثورة القرن التاسع عشر الكبرى التي استنهضت همة أهل السودان ودوخت الإمبراطورية العظمى، وحتى عندما تفوق عليها السلاح الناري في كرري وصفها الإمبرياليون بمقولة لم نهزمهم ولكن دمرناهم بتفوق السلاح الناري. وقال آخر: لم تكن معركة بل كانت ساحة لإعدام أبطال.

قامت الدعوة المهدية على أركان روحية، وأشواق إصلاح إسلامية، ولكن ساهم في نجاحها انتشار الظلم والفساد والاستبداد، ما لخصته مقولة: عشرة في تربة ولا ريال في طلبة.

إن رفض الظلم والتصدي له واجب ديني كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[2]. وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا, فَلْيُغَيِّرْهُ”[3].

كانت الأمة كلها ترزح تحت ظلم وفرقة وتطلع للخلاص، لذلك جسدت الدعوة كل تطلعات أهل القبلة في زمانها كما قال الكاتب المصري النابه دكتور عبد الودود شلبي.

في عام 1999م احتفلنا في القاهرة بذكرى 26 يناير، وقلت في خطابي: احتفال بها في قلب القاهرة، صدق أو لا تصدق! كان في الحضور المؤرخ المصري الشهير يونان لبيب رزق فقام وقال: أصدق يا فلان، ففي المجتمع المصري يومئذٍ تياران معبران عن الوعي السياسي هما تيار إسلامي بقيادة الإمامين جمال الدين ومحمد عبده، وتيار وطني بقيادة العرابيين، كان التياران مرحبين بالثورة في السودان ويتمنيان أن تبلغ مصر لتحريرها من السلطان الثنائي العثماني والإمبريالي البريطاني.

دولة الثورة المهدية تكالب عليها الغزاة وقوضوها. ولكن بقيت مغروسةً في أرض السودان مستنبتة في أرضه، خالدة في معانٍ باقية، هي: إحياء الملة بصورة متبعة للشعائر مجددة في المعاملات متحررة من الاجتهادات الماضوية، بل ملتزمة بقطيعة معرفية من اجتهادات التراث على أساس “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال”. ومن ثمار غرسها مولد الكيان الوطني السوداني النافي لفرقة الإثنيات والجهويات، المنادي بالعدالة الاجتماعية ونافٍ كذلك للتفاوت الطبقي وسحق المستضعفين، وغرست ثورية سودانية أصيلة في مواجهة الظلم والفساد مشبعة بالبسالة والصمود والتضحية في سبيل المباديء بصورة أدهشت العالمين، ما يبرر ويفسر النزعة الثورية السودانية في وجه الظلم والاستبداد.

ما أشبه الليلة بالبارحة. لقد عيب على بني إسرائيل أنهم (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[4] ، وقال نبي الرحمة: “أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر”[5]

وقال الحكيم التونسي:

 

إذا الشّعْبُ  يَوْمَاً  أرَادَ   الْحَيَـاةَ

فَلا  بُدَّ  أنْ  يَسْتَجِيبَ   القَـدَر

وَلا بُـدَّ  لِلَّيـــــــْلِ أنْ  يَنْجَلِــي

وَلا  بُدَّ  للقَيْدِ  أَنْ   يَـنْكَسِـر

وَمَنْ يتهيب صُــعُودَ الجِبَـالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

أحبابي

تذكروا هذه المعاني، واقتدوا بها، واستغفروا الله فإن الاستغفار خير الدعاء.

 

الخطبة الثانية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الحبيب محمد وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد-

انقلاب يونيو 1989م تأسس على خدعة. ومهما كانت نوايا صناعه فقد نبذ الله الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقال المسيح عليه السلام عن كافة الأعمال: بثمارها تعرفونها. هاؤم اقرأوا كتاب هذه الثمار: إنها فصل الجنوب، وإشعال الحروب الأهلية في جبهات جديدة في البلاد، وتطبيق تمكين حزبي عازل للآخرين ومقوض لمؤسسات الدولة الحديثة المدنية والنظامية، وتقويض دولة الرعاية الاجتماعية، وسببت إخفاقاً اقتصادياً جوع الناس، وأجبرت عشر السكان على العيش في معسكرات نزوح معتمدين على الإغاثات، وتسببت في لجوء ربع السكان لخارج الوطن، ولوثت الشعار الإسلامي بتطبيق عكس مقاصده في الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والسلام، وفي إلحاق الأذى البالغ بسمعة الوطن ملاحقاً بالعدالة الجنائية الدولية. لذلك لم يستكن الشعب السوداني أبداً لسلطانه معبراً عن ذلك في هبات متتالية أذكر منها سبع في الأعوام 1990م، و1996م، و1998م، و2006م، و2012م، و2013، ويناير 2018م، بالإضافة لمن حملوا السلاح مقاومة للظلم.

ثورة ديسمبر 2018م جزء من رفض النظام، ولكنها امتازت بعشر صفات غير مسبوقة، هي:

أولاً: أنها انطلقت من خارج العاصمة ثم عمت القطر كله بما في ذلك العاصمة، هبت في عطبرة، وفي القضارف، والدمازين، والعبيدية، وبربر، والجزيرة أبا، وكوستي، وربك، ومدني، وقرى الجزيرة، وكسلا، وبورتسودان، والفاشر، وبابنوسة، ونيالا، وابو جبيهة، وأم روابة، والدويم، وحلفا، والأبيض، ونيالا، والمناقل، والجنينة، وسنار، ورفاعة، والضعين وغيرها من المناطق؛ بالإضافة لعاصمة السودان الرسمية الخرطوم، وعاصمة السودان الوطنية أم درمان، وثالثتهما بحري.

ثانياً: الجيل الذي نشأ في عهد هذا النظام بدا كأنه شُغل بالسفاسف من مخدرات وبفقدان الأمل في الوطن، والتعلق بطلب اللجوء للخارج. لقد أفزعتني هذه المظاهر ما دفعني لمخاطبة الجيل بكتاب “أيها الجيل”. ولكن هذا الجيل من أبنائنا وبناتنا أظهر الآن حماسة وبسالة منقطعة النظير. لقد تحملوا مساويء النظام في التعليم والعطالة، وحافظوا على قوة الإرادة وبسالة الوطنية كما شب موسى عليه السلام في بلاط فرعون.

ثالثاً: برز في نهج الثوار رفضاً تاماً للعنصرية والفتنة الإثنية التي عمقها النظام.

رابعاً: أظهر التحرك الشعبي طاقات رائعة في الفنون التشكيلية والغنائية والشعر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة عالية.

خامساً: الهبة الشعبية هذه المرة أظهرت مثابرة استمرت حتى الآن أكثر من شهر رغم العنف الفعلي واللفظي، وما زالت العزيمة صاعدة.

سادساً: أرباب وربات البيوت أظهروا عطفاً بالغاً على أبنائنا وبناتنا المطاردين في الأحياء.

سابعاً: الأجهزة الإعلامية العربية والدولية كشفت الحقائق بصورة موضوعية ومستمرة. كما فعل كثير من الكتاب السودانيين وغيرهم. لقد جمعنا قائمة بأسماء هؤلاء الأحرار لتكريمهم إذ لم يخشوا في الحق لومة لائم.

ثامناً: الالتزام المثير للإعجاب بالأخلاق السودانية الحميدة، وتمسكهم بالسلمية في الغالب في وجه البطش الدموي ما عرى النظام وأظهر نبل الثوار ووعيهم المتقدم.

تاسعاً: كان للسودانيين في الخارج، السودانيون بلا حدود، دور مهم في التجاوب مع نهضة وطنهم. كما أن الرأي العام العالمي، ما عدا المؤلفة جيوبهم، قدر مشروعية حركة التحرير الوطني.

عاشراً: أبدت الدول ذات القيم الديمقراطية بالإجماع تأييدها لحرية التعبير السلمية، وإدانتها لقتل وحبس الذين مارسوا حقهم المشروع في التعبير السلمي.

أحبابي وأخواني

نحن نؤيد هذا التحرك الشعبي، داعين لتجنب أية مظاهر للعنف المادي واللفظي. وندين قتل الأحرار والعنف المفرط الذي مورس ضدهم، بتشجيع من فتاوى حكام باطلة وظالمة تبرر العنف والقتل واستخدام الرصاص الحي ضد مواطنين عزل. وكما قال الشاعر العراقي: القاتل من أفتى بالقتل وليس المستفتي.

بلغ عدد الشهداء حتى الآن خمسين شهيداً، والجرحى أضعاف ذلك. وبلغ عدد المحبوسين مئات من المواطنين والمواطنات. رحم الله الشهداء الذين سوف نصلي عليهم صلاة الغائب بعد الفريضة، ونسأل الله للجرحى عاجل الشفاء، ونطالب ونعمل على إطلاق سراح المعتقلين فإنهم مارسوا حقوقاً إنسانية ودستورية. ونطالب بلجنة تحقيق ذات مصداقية لا لجنة الخصم والحكم، لجنة تشرف عليها اللجنة الفنية التابعة للأمم المتحدة لتجري تحقيقاً في كل هذه الممارسات الباطشة لمعرفة الحقائق ومساءلة الجناة.

ويسأل الناس. نعم هذا التحرك حقق أهدافاً مطلوبة. وماذا بعد؟

أفيدكم بالآتي:

أولاً: لقد وقعنا مع تجمع المهنيين وآخرين ميثاق الحرية والتغيير، ووضعنا تفصيلاً للمطلوب نص ميثاق الخلاص والحرية والمواطنة، وجرت مشاورات واسعة للاتفاق على نصه، ويجري الآن عرضه على مجموعات بلغت عشرين مجموعة سياسية ومدنية ومطلبية.

ثانياً: هذه المجموعات بعد دراسة الميثاق سوف توقع عليه أمام مؤتمر صحافي دولي.

ثالثاً: بعد التوقيع على هذا الميثاق سوف ينتدب مائة شخص يمثلون المجتمع السوداني بكل مكوناته لتقديم هذا المطلب عبر المجلس الوطني.

رابعاً: يعقب ذلك تسيير مواكب يشارك فيها إضافة للشباب الثائر رموز المجتمع وقادة تكويناته السياسية والمدنية  لتقديم المطالب الشعبية في العاصمة والولايات وفي سفارات السودان في الخارج. إنها مواكب حاشدة وصامتة ترفع شعارات ميثاق الخلاص والحرية والمواطنة.

خامساً: ثم يحتشد الشعب في مائة موقع داخل السودان وخارجه في اعتصامات ترفع شعارات ميثاق الخلاص ولا تتحرك.

سادساً: أهم مطالب ميثاق الخلاص: أن يرحل النظام، وأن تحل محله حكومة انتقالية قومية واجبها تحقيق السلام العادل الشامل وكفالة حقوق الإنسان والحريات، وتطبيق برنامج اقتصادي إسعافي لرفع المعاناة عن الشعب وتطبيق برامج الإصلاح البديلة، وعقد المؤتمر القومي الدستوري لكتابة دستور البلاد.

سابعاً: سوف يعلن ميثاق الخلاص هذا عندما نكمل التوقيعات، وهذا سوف يتم بأسرع ما يمكن إن شاء الله.

أيها الأحباب

في مارس 2011م بعد انفصال الجنوب وقبل اندلاع الحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومع بلوغ الحرب الأهلية في دارفور عامها التاسع التقيت رئيس الجمهورية وقلت له إن الأزمات قد أحاطت بالبلاد، وأقترح أن نتفق على برنامج قومي حددت بنوده العشرة، واقترحت له أن يدعو ثمانية من قيادات البلاد ويعلن أمامهم استقالته ليعقب ذلك الاتفاق على رئيس وفاقي، وبعد ذلك سلمته الاقتراح مكتوباً. أما الآن فإن التأزم الذي يحيط بالبلاد غير مسبوق، والفرصة التاريخية متاحة له أن يجنب البلاد كافة المخاطر المتوقعة ويحقن الدماء، وأن يتنحى بشكل متفاوض عليه ما سوف يستجيب للمطالب الشعبية ويحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل والاستجابة الدولية.

دعماً لهذا المطلب فإن القوى الشعبية سوف تظهر تأييدها الحاشد بصورة سلمية خالية من أية استفزازات وعنف، ولا عذر لمن يُمسك عن مواكب خلاص وطنه المحتضر.

إنني من هذا المنبر أخاطب العناصر العاقلة في النظام، وهم محاطون بإخفاقات النظام، بل ومحاصرون من أبنائهم وبناتهم داخل أسرهم أن يعملوا على التبرؤ من سفك دماء الأبرياء، والاستعداد للتفاهم مع الآخرين لتحقيق المصلحة الوطنية.

وفي نفس السياق أخاطب كافة قوى بلادنا العسكرية والنظامية ألا تستغل في سفك دماء الأبرياء فإن شرفهم المهني وحقوق المواطنة يمنعان ذلك.

وأخاطب الأشقاء في العالم العربي والإسلامي والأفريقي أن يتبينوا حقيقة المشهد السياسي السوداني لمعرفة من الظالم ومن المظلوم، وربما أقدموا على نصح الحكام فإن صديقك من صدقك لا من صدّقك.

لقد خاطبت وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن يهتموا بأحداث السودان، وأن يعلنوا تأييدهم لحرية المواطنين في التعبير السلمي عن مطالبهم وأن ينحازوا للسلام في السودان، ولمطالبنا بالتحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الثوار.

أيها الأحباب

أقول قولي هذا وأعلم أن النظام الحاكم استهدفني أكثر من مرة: يوم الانقلاب، ثم بعد ذلك لاحقني باتهامات كيدية لاعتقالي ومحاكمتي بالإعدام ثلاث مرات. لاحقوني واستهدفوني وهم يعلمون أنني مشدود للوطن والسلام والديمقراطية وبريء من النزعة الانتقامية مما جعل كثيرين من زملائي يعيبون عليّ ذلك. وحتى إذا أفلح النظام في اغتيالي قانونياً فسوف يجدون أنفسهم في مأزق أفدح وطنياً ودولياً كما قال الإمام علي علي السلام في مشهد مماثل:

تلكم قريش تمناني لتقتلني           فلا وربك ما بروا وما ظفروا

وإن قتلوني فرهن ذمتي لهمو         بذات وثقين لا يعفو لها أثر

ختاماً، أرجو أن يستجيب الكافة لهذا المخطط السلمي.

من عيوب ثورات الربيع العربي أنها ركزت على القضاء على الحكام وأغفلت بيان البديل المنشود. نهجنا يعمل على رحيل النظام وبناء البديل القومي الديمقراطي.

قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض)[6] ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[7].

وقال الحكيم السوداني:

لا تضق بالحياة فالسحــب لا         يحجبن شمساً ولا يخفضن ومضا

إن للحق قــــــــوة ذات حدٍ           إن شباة الردى أدق وأمضى

اللهم اهدنا واهد أبناءنا وبناتنا، وارحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، قوموا لصلاة الفريضة تقبلها الله، آمين.

 

 

السودان على صهوة جواد التاريخ¨

 

دول الأمة العربية عامة تقع خارج التاريخ الذي يتطلب فكرياً توفيقاً بين الأصالة والمعاصرة، وسياسياً حوكمة تقوم على المشاركة، واقتصادياً تنمية توطن التكنولوجيا الحديثة وتوفر التمويل لمؤسسات دولة حديثة، وتقيم علاقات دولية ذات قرار مستقل. النظم الحاكمة التي لا تتوافر فيها هذه العوامل نظم تنتمي لحقب ماضية وتعتبر خارج التاريخ المعاصر. فيما يلي نسرد الدروس المستفادة من التجربة السودانية المعاصرة.

  1. بالقياس لدول ذات ظروف مشابهة في آسيا وأفريقيا فإن العالم العربي من حيث استبداد الحكم، والعيوب التنموية والخضوع للأجنبي إذا قورن بأحوال الآخرين في آسيا وأفريقيا فإنه متخلف.

في عام 2002م نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً كتبه خبراء من العالم العربي وثق لوجود نمو في العالم العربي دون تنمية بشرية وغياب الحوكمة الرشيدة.

وفي عام 2007م قام نادي مدريد وهو منظمة غير حكومية مكونة من “111” رؤساء دول ورؤساء حكومة سابقين منتخبين قام النادي بتنظيم حلقات دراسة للأوضاع السياسية في ست دول عربية. ثم دعا ممثلين لـ “19” دولة عربية لمؤتمر في منطقة البحر الميت “الأردن” وفي يناير 2008م صدر عن هذا المؤتمر إعلان البحر الميت وفحواه أن بين الحكومات العربية وشعوبها توتر وتباين ما يوجب إجراء حوارات بهدف تحقيق حوكمة راشدة تقوم على المشاركة في الشأن العام وإلا فالمنطقة مرشحة لانفجارات سياسية.

  1. المقارنة تكشف أن دولاً إٍسلامية في آسيا تمارس حوكمة المشاركة والمساءلة – مثلاً- في ماليزيا، وفي أندونيسيا، وتركيا، وباكستان، وحتى في إيران مع القيد المذهبي تمارس حوكمة معتمدة على المشاركة وقابلة للتطور كما ظهر في انتخابات الرئيس حسن روحاني وفي أفريقيا كذلك تجارب حكم المشاركة كما في جنوب أفريقيا، ونيجريا، والسنغال، وغانا، وهلم جرا.
  2. هذه الخلفية تفسر انطلاق ثورات الربيع العربي منذ عام 2010م. ولكن تلقائية هذه الثورات كما في تونس ومصر أفقدها وجود برنامج بديل ووجود قيادة مستعدة لبناء الوطن.

نفس موجة الربيع العربي امتدت لدول أخرى ولكن قياداتها استعدت لصد موجة الربيع العربي مما أدى لحروب أهلية ولتدخلات أجنبية لإبطال الثورة.

  1. الموقف العربي اليوم باستثناءات قليلة يتسم بصفات كريهة: حكم يقوم على الطغيان، واقتصاد معتمد على الخارج ومرتبط بوضع اجتماعي ظالم لأغلبية السكان، وعلاقات خارجية قائمة على التبعية.
  2. السودان الآن جزء من هذه المنظومة البائسة ولكن عاملين أورثا الشعب السوداني حيوية سياسية هما:
  • للإسلام دور كبير في مكون الهوية الوطنية في السودان. لقد دخل الإسلام للسودان سلمياً وتمدد من القاعدة الشعبية دون عامل لدولة مركزية مما جعل للمجتمع حيوية. انتقال السلطة من الامبريالية للسلطة الوطنية جرى عن طريق آليات ديمقراطية حافظت عليها القوى الوطنية الخالفة. في ضوء هذه الحوكمة الديمقراطية نشأ مجتمع سياسي تعددي من أحزاب سياسية، ونقابات، ومنظمات مجتمع مدني.
  • نظم الحكم الديمقراطي في السودان تعرضت لعوامل الحكم الاستبدادي الشرق أوسطي فأقام رواده نظماً استبدادية ولكن الأشواق الديمقراطية والموروثات جعلت النظم الشرق أوسطية هذه عرضة للثورة عليها. هكذا وقعت الثورة الأولى ضد النظام الانقلابي الأول في عام 1964م. ثم الثوة ضد النظام الاستبدادي الثاني في 1985م. والنظام الاستبدادي الحالي منذ قيامه في 1989م واجه مقاومات مسلحة وانتفاضات مدنية في 1990، وفي 1996، وفي 1998م، وفي 2006م، وفي 2012م، وفي 2013م، وفي 2018م.
  1. رغم المقاومة المدنية هذه والمقاومة المسلحة التي سوف نذكر تفاصيلها لاحقاً فإن التجربة الدكتاتورية الراهنة حققت لنفسها استمراراً طويلاً لثلاثة أسباب هي: الانقلاب العسكري الذي أقامها كونته ودعمته حركة سياسية ذات خبرة في العمل السياسي والتوغل الاجتماعي. ثانياً: استغلال الشعار الإسلامي في مجتمع مشرب بأشواق إسلامية. ثالثاً: الاستفادة الانتهازية من علاقات خارجية وظفت لدعم النظام. ولكن مع طول عمر النظام واستخدام سياسة البطش أورث النظام بغضاً شعبياً عميقاً، والشعار الإسلامي انكشف زيفه، وغياب نهج اقتصادي رصين أدى لإخفاق غير مسبوق لإدارة الاقتصاد الوطني، والتقلب الانتهازي بين المحاور الخارجية أفقد النظام المصداقية.

والنهج الاقصائي المؤدلج أفاد حركة المقاومة المسلحة بقيادة د. جون قرنق إذ عاد عليها بتأييد داخلي أوسع وتعاطفاً خارجي، حتى قال د. قرنق يستحق قادة النظام أن نقيم لهم تماثيل في جوبا لأن نهجهم عاد علينا بالدعم. لذلك استطاعت الحركة الشعبية هزيمة النظام وتحقيق انفصال الجنوب في عام 2011م.

وتكونت ضد نهج النظام المؤدلج بشعار عربي/ إسلامي حركات مسلحة أخرى أهمها حركة تحرير السودان حركة العدل والمساواة في عامي 2002م و2003م كما نشأت مقاومة مسلحة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في عام 2011م.

  1. الحروب الأهلية الآن هدأت دون تحقيق اتفاق سلام عادل شامل ولكن آثار تلك الحروب الموجودة حتى الآن ومحسوبة على النظام هي:
  • اجبار النظام تضخيم الصرف العسكري والأمني والإداري بصورة شلت الإدارة الاقتصادية وتعرض النظام لخطورة تضارب بين مراكز القوة داخله.
  • عوامل التردي الأمنية والاقتصادية أجبرت ربع سكان البلاد على اللجوء للخارج وهم يشكلون غالباً لوبيات معارضة للنظام.
  • هنالك عدد كبير من المواطنين يقيمون في ظروف رفض للنظام واعتصام مضاد للنظام. عددهم الآن ثلاثة ملايين.
  • في تنفيذ سياساته القمعية ارتكب النظام جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية ما جعله مداناً بقرار مجلس الأمن رقم 1593. هذه الإدانة سببت شللاً دولياً للنظام. وخطيئة أخرى ارتكبها النظام هي استخدامه للتباين الاثني بين السكان مما عمق العداء الاثني في السودان خاصة في دارفور.
  1. الشباب في السودان وهم غالبية السكان بأكثر من 60% عانوا كثيراً من الشقاء أهم معالمه: توسع ورمي في التعليم العالي بلا إمكانات مناسبة وبلا ربط بخطة تنموية مما أدى للهبوط في مستوى التعليم العالي وإهمال التعليم الفني فازدحمت البلاد بخريجين عاطلين بلغ عددهم مليونين. وسلطوا على المجتمع لا سيما الشباب قانون النظام العام وهو مجرد دعاية للشعار الإسلامي غير مرتبط بالتربية ولا بالأخلاق ولا بالقدوة. هذه الظروف العسفية أضطرت عدداً كبيراً من الشباب للجوء للخارج رغم المخاطر التي يموت في طريقها ما بين 10%-20% وآخرون دفعهم اليأس لتعاطي المخدرات حتى أن وزير الداخلية قال في كل منزل مدمن.

ولكن أغلبية شباب السودان الغاضبة عبرت عن غضبها وما أحاط بها من مظالم بوسائل الوساط الاجتماعية واتخذت نهج مقاومة ثورية مدنية.

وفي المرحلة الحالية عبر الشباب السوداني عن مقاومة هذا النظام بحركات ثورية اتسمت بدرجة عالية من الشجاعة والإقدام والابتكار.

  1. النظام فوجئ بثورة الشباب السوداني وفي البداية رماهم بألفاظ نابية: عملاء، شذاذ آفاق. ولكن عندما اكتشف صلابة الموقف درج بغبائه المعهود على محاولة عزلهم من واقعهم السياسي والاجتماعي.

رفض النظام لم يبدأ الآن بل بدأ منذ أيامه الأولى. وفي السودان كتل معارضة للنظام بلا حدود فالمهنيون، وأساتذة الجامعات، والمشردون تعسفياً، وضحايا السدود، والعمال، والمزارعون، وأصحاب الاستثمارات في القطاع الخاص الذي ضايق النظام أعمالهم وقدم عليهم محاسبيه هؤلاء جميعاً مدد هائل من الرفض للنظام في وجه سياساته القمعية والاقصائية وهم يشكلون مدداً مشاركاً للثورة ضده.

  • في السودان حركة سياسية واعية وصامدة ضد النظام منذ البداية وانفق النظام أموال الشعب لاختراقها واستمالتها ولكن هذه القوى استمرت متماسكة ومتصدية للنظام ثلاثين عاماً وهم لايعتبرون حركة الشباب معزولة عنهم بل متكاملة معهم في موقف موحد ضد النظام.

إن الحركة السياسية والمدنية والنقابية الحرة في السودان حاضن لأبنائهم وبناتهم من الشباب وسوف يعبر كل قطاع بأسلوبه لرفض النظام.

إن الحركة الثورية الشبابية، وحركة المهنيين، وحركة الأساتذة، وحركة المجتمع المدني إضافات جديدة للموقف المضاد للنظام، والقوى السياسية المنظمة الواعية تتعامل معها بصورة تكاملية وتتصدى لمحاولات النظام البائسة بخطة فرق تسد.

  • هنالك أسباب تؤكد أن النظام الذي أقامه انقلاب 30 يونيو 1989م إلى زوال:

أولاً: لأنه تسلط على البلاد بانقلاب غادر دون أية فكرة عن إدارة البلاد والاقتصاد بل السلطة من أجل السلطة.

ثانياً: الشعار الإسلامي الذي رفعه الانقلاب فارغ من أي محتوى.

ثالثاً: غياب الإستراتيجية والبرنامج جعل النظام عرضة لإنقسامات مستمرة كالأميبا بلغت حتى الآن عشرة إنقسامات.

رابعاً: صارت قيادة النظام ملاحقة للمحاكمة الجنائية الدولية والجميع يرى إنها تستخدم الاستمرار في حكم السودان رهينة للحماية من المحكمة.

خامساً: وصل الفشل في إدارة الاقتصاد في عامي 2018 و2019م غايته.

سادساً: القوى الدولية المدركة أدركت أفول النظام وصارت تبحث عن كيفية سلمية لانتقال السلطة.

الثورة الحالية مستمرة ومع الضغط الخارجي يمكن أن  يؤدي هذا الموقف لأحد أمرين: الأول: أن يدرك النظام أن المسرحية قد انتهت وكما فعل دي كلارك في جنوب أفريقيا أو بينوشيه في تشيلي فيعرض على قيادة التغيير الوطني التنحي.

الثاني: إقدام قوة نظامية للإنحياز للشعب ومسك الحلقة إلى أن يتفق على المستقبل كما حدث قبل ذلك مرتين.

أهم ما في تجربة النظام الآفل:

كسر موجة التحكم الإستبدادي المهيمن على المنطقة لولوج مرحلة تاريخية جديدة تدخل أصحابها في التاريخ.

والدرس الثاني هو أن  التعامل الانتهازي مع الشعار الإسلامي يحرق صاحبه ويؤذي الشعار الإسلامي.

لقد كانت ثورتا الربيع السوداني في 1964م و 1985م درساً في التصدي السلمي للحكم الإستبدادي ويرجى أن تكون الثورة الحالية ولوجاً لمرحلة تاريخية جديدة.

هنالك دليل كبير على أن الرأي العام العربي صار يتعامل مع الثورة السودانية بإيجابية شعبية كبيرة كما جاء في مذكرة 22 من كتاب ومفكري والإعلاميين في مصر الذي صدر في 25/1/2019م أنه ممهور بقائمة شرف سيكون لها أبلغ الأثر في قلوب الشعب السوداني نحو الأشقاء في القائمة الأساتذة حلمي شعراوي والسيد فليفل وهاني رسلان وأماني الطويل وأسماء الحسيني بلغ العدد 22 من النبلاء.

ثم جاء بيان يمثل كل الشعوب العربية مهره 323 من الأسماء العربية اللامعة في كل المجالات، إنها قائمة شرف دعماً لثورة الشعب السوداني قدمتها مبادرة من 15 شخص على رأسهم  الرئيس التونسي السابق محمد منصف المرزوقي باسم الشعب السوداني جزيتم  خيراً فإن أهلكم في السودان سوف يقدرون موقفكم تقديراً عظيماً يا أهلنا:

دَعْوى الإخاءِ على الرَّخاء كثيرةٌ    بلْ في الشَّدائد تُعْرَفُ الإخْوانُ

 

مذكرة للمؤتمر الدولي حول التراث ومتطلبات المستقبل

 وتكريم د. طه عبد الرحمن وعماد الدين خليل·

 

مقدمة:

إلى المحضرين، والحاضرين، والمحاضرين في المؤتمر.

كان بودي أن أشارككم هذا المؤتمر وأحظى بلقائكم والاستفادة من اجتهادكم المقدر. لكن السودان يمر بمرحلة مفصلية بين حكم مخندق في تمسكه وحركة شعبية مصممة على مطالبها المشروعة. والخياران الواردان أمامنا هما مواجهة مستمرة إلى ما شاء الله، أو إيجاد معادلة تحقق مطالب الشعب المشروعة دن مخاشنة، مما يتطلب وجودي في البلاد في لب المشهد.

ولكن الحبيب المهندس مروان الفاعوري اقترح علي أن أساهم معكم باجتهاد في موضوع المؤتمر. أقول:

هنالك عوامل وافدة من التراث تجعلنا خارج العصر. وهنالك عوامل وافدة من العصر منافية للأصل. سوف أبحث هذه العوامل تحت 16 عنواناً.

  • الموقف من التراث: التراث بعضه نصوص وحي توجب الإلتزام بقطعياتها وبعضه اجتهادات بشرية غير ملزمة. قطعيات الوحي تتطلب وصالاً معرفياً، أما الاجتهادات البشرية فالموقف منها اختياري.
  • الموقف من تفسير القرآن يتطلب التدبر، والتمييز بين المحكم والمتشابه. والفهم الصحيح للواجب يتطلب الحكمة ومدارك الواقع ما يجعل تفسير القرآن مهمة مستمرة.
  • السنة النبوية دونت بعد قرنين من الهجرة. السنة العملية فيما يتعلق بالشعائر نقلت بالممارسة جيلاً بعد جيل. أما السنة القولية فتتطلب التواتر ما يعني رواية عدلين لعدلين حتى عهد التدوين، والتوافق مع القرآن، ومراعاة ألا تكون من الشؤون التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”[8].
  • السيرة النبوية: تأثرت السيرة النبوية بمجاراة سيرة أنبياء بني إسرائيل الغازية، ومجاراة سيرة عيسى عليه السلام المعجزة. النبي محمد صلى الله عليه وسلم ركزت رسالته على الحجة والمنطق، قال تعالى مجادلاً الذين طالبوه بالمعجزات (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)[9] ما يتطلب تنقية السيرة من العوامل غير البشرية، وإظهار قوتها المنطقية. كذلك كان جهاده لنشر الدعوة سلمياً وكان قتاله دفاعياً، أما نشر الدعوة فكان: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[10].
  • الفقه المعتمد على تفسير التدبر وعلى السنة بضوابطها يتطلب تجاوز الاجتهاد الصوري المعتمد عل القياس والاجماع، إلى اجتهاد مقاصدي فيه تحديد الواجب اجتهاداً والإحاطة بالواقع إدراكاً ثم التزاوج بينهما. إذن الفقه صيرورة مستمرة بلا جمود.

هنالك من الوافد من الماضي مذاهب تكفيرية وأخرى تقول بالحاكمية، أي الإمرة لله، وهذه المذاهب صارت حاضناً للغلو والفهم الخاطئ للجهاد ما يوجب التخلي عنها. أما الحركات الإرهابية الراهنة فهي تعود لمظالم من صنع الصهيونية والامبريالية فقبل أفغانستان لم تكن القاعدة. وقبل احتلال العراق لم تكن داعش.

  • الموقف من التاريخ أنه ما عدا نصوص الوحي القطعية تاريخ بشري ندركه بلا قدسية ونخضعه لمعارف الإنسانيات والمعارف النفسية والاجتماعية. ما عدا مفردات الوحي القطعية كل التاريخ معرفة بشرية بلا قدسية.
  • صورة الإنسان هي أن فيه قبس روحي، وأن له عقل، وأنه حر. هذه العوامل تجعل للفكر مصادر روحية ومصادر عقلية وحرية اجتهادية.
  • الانقسام الطائفي: المسلمون جميعاً ملتزمون بالنبوة، والقرآن، ومكارم الأخلاق، والمعاد، والأركان الخمسة؛ ما عدا ذلك انتماءات مذهبية قائمة على اجتهادات بشرية ينبغي نزع أية قدسية منها، والاتفاق على ميثاق المهتدين الذي ينص على الالتزام بتلك العقائد الخمس واعتبار ما عداها مسائل اجتهادية غير ملزمة لغير أصحابها والاجتهاد في أمرها مفتوح بحرية.
  • الديانة: الإسلام يعترف بالتعددية الدينية على أساس (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ)[11]. ما يوجب منع الاحتراب لفرض ملة على ملة. والالتزام بميثاق الإيمانيين للتعايش بين الأديان.
  • الثقافافات والقوميات. إن التنوع الثقافي والقومي من الفطرة البشرية. (مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)[12]. هذا يتطلب الاتفاق على ميثاق ثقافي وقومي للتعايش السلمي في ظل حقوق الإنسان.
  • ثقافة المستشرقين: بعض هؤلاء معادين للإسلام من منطلق ديني، وآخرون وظفوا الاستشراق لخدمة الامبريالية والصهيونية، ولكن كثيراً منهم أنصفوا الإسلام أمثال توماس أرنولد، ومنتجمري واط، وغيرهما؛ الإدانة العامة لهم باطلة. وعلينا إصدار أطلس يعترف بالموضوعيين ويحدد المغرضين.
  • الوافد من العصر. كل وافد من العصر مؤسس عل سنن الكون الطبيعية والإنسانية والاجتماعية ينبغي أن يستصحب لأن سنن الكون آيات إلهية. هنالك مفاهيم وافدة كربط السنن الطبيعية بالالحاد. السنن الطبيعية تتعلق بعالم الشهادة ولا يجوز لها تجاوزه. كذلك الفكرة العلمانية إذ تنكر الغيب فإنها بنص مبادئها تتعلق بعالم الشهادة ولا تستطيع التدخل فيما رواء الطبيعية. ينبغي استصحاب كل المعارف المتعلقة بسنن الكون واعتبار ما عداها جزءاً من تجارب ذاتية لثقافات أصحابها.
  • نظام الحكم الذي ترضاه مبادئ الإٍسلام هو الذي يحقق المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. التجارب الإنسانية انتخبت نظماً طورت آليات لممارسة هذه المبادئ ينبغي استصحابها.
  • مبادئ الاقتصاد الإسلامية تتطلب عمارة الأرض، وتوفير الضرورات المعيشية في إطار يحقق الكفاية والعدل. كل ما يساهم في تحقيق هذه الأهداف في التجارب الإنسانية ينبغي استصحابه.
  • الانتماء الوطني مبدأ إسلامي صحيح كما كان في صحيفة المدينة. الدولة الوطنية الحديثة أداة مناسبة للإدارة والأمن ومع استصحابها يمكن تحقيق وحدة تعاقدية بين الدول الإسلامية. هذا أساس للعلاقة بالآخر الإسلامي. وهنالك أساس للعلاقة بالآخر الدولي يقوم على التعاهد وقوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[13].
  • حقوق الإنسان: الثقافة الدولية المعاصرة أثمرت منظومة لحقوق الإنسان تنطلق من خمسة مبادئ هي الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام. إن لهذه المبادئء أصلاً في نصوص الوحي وهي منظومة في مجالات مختلفة تصلح أساساً للتعايش بين الثقافات، والقوميات، والأديان وتصلح لنظام عالمي يقوم على التعايش السلمي والتعاون.

في الختام: علينا أن نضع أسساً واضحة للتعامل مع الوافد من التراث المهم لقضية التأصيل، وأسساً واضحة للتعامل مع الوافد من العصر في معادلة لجدلية التأصيل والتحديث، وأقترح أن نصدر بعد الدراسة ورقة عمل بالنهج المطلوب.

 

وبالله التوفيق.

 

 

 

كبسولة التحرير©

 

  • رفض إعلان الطواريء، ومعناه مزيداً من البطش الممارس ضد حركات مدنية سلمية تمارس حقها في التعبير السلمي عن مطالبها، ومنح السلطات حصانة لإجراءاتها.
  • رفض عسكرة الإدارة، لأنها تعني نصب المؤسسة العسكرية في وجه الشعب المدني، والقوات المسلحة مؤسسة قومية وظيفتها الدفاع عن الوطن ضد أعدائه بفهم جيش واحد شعب واحد.
  • للخروج من موقف المواجهة الحالي نوجه لرئيس الجمهورية نداء إنك تستطيع أن تحقق للبلاد مخرجاً آمناً يقدره لك أهل السودان والتاريخ ويحول الاستقطاب الحاد لوحدة وطنية، والعزلة الدولية لتعاون دولي. النداء هو:
  • رفع حالة الطواريء وإيقاف أعمال البطش والقتل والتعذيب والضرب والاقتحامات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ضد مدنيين سلميين عزل.
  • إطلاق سراح كافة المعتقلين.
  • التنحي ليقوم نظام جديد يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي بصورة قومية وبلا مخاشنة.
  • إبداء الاستعداد للقاء مع ممثلي القوى الشعبية والمهنية والمدنية المطالبة بنظام جديد للاتفاق على تفاصيل العبور نحو النظام الجديد.

هذا الإجراء يجعل من الأزمة فرصة تليق بشعب عبقري أخرجته مواهبه من العواصف إلى بر السلام. خطة هي عبور لمرحلة تاريخية جديدة تجسد القدوة للحكومات والشعوب الغارقة في نزاعات هادمة لمستقبلها.

 

وبالله التوفيق،،

 

 

زيارة البابا الكاثوليكي لدولة الإمارات

ترحيب بزيارات البابا لديارنا§

 

سكان العالم اليوم متداخلون، ويعيشون في ظل منظومة حقوق الإنسان والتعايش السلمي والتعاهد على السلام والتعاون الدولي. ومصالح الدول الإسلامية مرتبطة بدول غير المسلمين، بل يعيش ثلث المسلمين في دول غير مسلمة وفي كثير منها يحظون بحقوق مدنية وحريات دينية.

بل صارت دول غير المسلمين جاذبة للمسلمين بصورة كبيرة، بحيث يجدون حقوقاً وحريات أكثر من  أوطانهم مما زاد الهجرة لتلك  البلدان لا سيما إلى الدول الغربية.

هذا التكاثر استغلته تيارات سياسية رجعية فأطلقت تيارات الإسلاموفوبيا.

حركات الغلو الإسلامي في المقابل انطلقت في بلداننا احتضنتها المذاهب التكفيرية. ولكن أسباب انتعاش حركات الغلو والعنف المرتبط بها وافدة إلينا، حركها العدوان الصهيوني، والعدوان الإمبريالي، فقبل أفغانستان لم تكن القاعدة، وقبل احتلال العراق لم تكن داعش.

ولكن رغم هذه العوامل فإن في حضارتنا وفي حضارتهم تيارات واعية ومدركة أن عالم اليوم يتطلب التعايش الديني والثقافي كأساس للسلام العالمي. فلا سلام بين الثقافات وبين  الدول ما لم يحتضنه تصالح بين الأديان. لذلك اقترحنا منذ عقد من الزمان ميثاقاً باسم (ميثاق الإيمانيين). وسوف أعمل من مواقعي: في كيان الأنصار وهو الكيان الدعوي الأكبر في السودان، ومنتدى الوسطية العالمي، ونادي مدريد المنظمة التي تضم 111 رئيس دولة وحكومة سابقين كانوا قد انتخبوا ديمقراطياً؛ لتعميم هذا الميثاق.

أكتب هذا الآن بمناسبة زيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات، وما صحبها من التوقيع على وثيقة تعايش وتسامح مع فضيلة شيخ الأزهر لتبرئة اسم الجلالة من التدنيس.

تنطلق من دولة الإمارات مبادرات مستنيرة، ومثل هذه الزيارة وما صحبها من دعوة للتسامح بين المسلمين والمسيحيين مهمة للغاية في وقت فيه أدت حركات الغلو لانحسار الوجود المسيحي في المنطقة العربية. فقد كان عددهم 1.5 مليون في العراق فصار الآن 300 ألف بعد غزو 2003م، وكانوا 2 مليون في سوريا قبل عام 2011م فصاروا الآن أقل من مليون، وهي ظاهرة لحقت بمسيحيين في كثير من البلاد العربية.

أعلنت دولة الإمارات عام 2019م عام تسامح. وجدير بنا في كل العالم الإسلامي أن ندعم هذا الاتجاه لا سيما والكنيسة الكاثوليكية يقودها بابا مستنير مشرب بروح لاهوت التحرير.

ينبغي أن يحظى المسيحيون في عالمنا الإسلامي بحرية العقيدة والعبادة والمساواة في المواطنة، مثلما ينبغي أن يحظى المسلمون في ديارهم بالحقوق الدينية والثقافية والمدنية.

ونفس التسامح والتعايش ينطبق على اليهود وأصحاب الملل الأخرى فالقاعدة العامة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[14]. وينبغي التمييز التام بين اليهودية كدين كتابي نحترمه ونعترف به، والصهيونية وهي حركة سياسية إمبريالية نعاديها لا ليهوديتها بل لعدوانها. وكثير من اليهود الصادقين لا يعترفون بها بل يعادونها.

إن فيما جرى في دولة الإمارات من دبلوماسية التآخي مع المسيحيين أصداء لجذور عميقة في تاريخنا، أذكر منها بعض المواقف التاريخية: مقولة الراهب بحيرة عن الفتى محمد وهو بصحبة عمه؛ هجرة المسلمين الأولى للحبشة المسيحية؛ ذكر سورة الروم فرح المؤمنين بانتصار الروم المسيحيين .. وهلم جرا؛ بل الآية الكريمة فيها قمة المودة: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)[15].

الحقيقة أننا أي الأديان الكتابية تجمع بيننا أربع عقائد: التوحيد، النبوة، مكارم الأخلاق، والمعاد. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”[16].

نعم فرقت بيننا الصليبية، والإمبريالية، وهذه عدوانيات سياسية نقاومها ولا ينبغي أن نخلط بين مقاومة العدوان والتآخي الديني.

حبذا لو أن دولة الإمارات دعت لمؤتمر عالمي للدعوة للتصالح بين طوائف المسلمين فـ”الأَقْرَبُونَ أَوْلَى بِالْمَعْرُوفِ”[17] لإبرام (ميثاق المهتدين) وإبرام ميثاق التعايش بين الأديان (ميثاق الإيمانيين).

ليكن عام التسامح الذي بادرت به الإمارات عام تسامح بين طوائف المسلمين وعام تسامح داخل الأسرة الإبراهيمية بل كافة الأديان فالسلام من مقاصد شريعة الإسلام (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة)[18].

 

 

 

حركة التاريخ تحت المجهرª

مقدمة

كل خريطة تتطلب مفتاحاً لقراءتها، فما هو مفتاح قراءة حركة التاريخ في يومنا هذا إذ نشاهد كثيرين من الشباب يندفعون في بسالة في حركات تقدمية وأخرى انكفائية، ولكنها في الحالين ثورية وغالباً شبابية. فيما يلي أقدم مفتاحاً لحركة التاريخ أضعها تحت المجهر:

  1. المجتمعات التقليدية عامة تعتمد دوافع الانتماء فيها، وبالتالي الحركة الاجتماعية، على قوى وراثية قبلية وإثنية وطائفية.
  2. مع تحديث المجتمع بزحف الثقافة الحديثة تدخل عوامل انتماء أيديولوجية وطبقية وظفتها قيادات سياسية في اتجاهات مختلفة مثل الستالينية والهتلرية، اتجاهات ركبت على عوامل الأيديولوجية والطبقية سناناً حادة.
  3. في المجتمعات العربية الحديثة دخلت سبعة عوامل ذات تأثير بالغ في الحركة الاجتماعية هي: (أ) ضخامة نسبة الشباب في التكوين السكاني، (ب) نسبة العطالة العالية في أوساط هذا الشباب، (ج) تطلع المرأة للتحرر من الاضطهاد، (د) الإعلام الذي تحول من عمودي يوجهه الحكام إلى أفقي عبر التويتر والفيسبوك والواتساب، (هـ) الفضائيات التي روجت لثقافات عابرة، (و) انتشار منظومة حقوق الإنسان، و(ز) تأثير الهجرات الكثيفة على مجتمعات الوطن الأم والهجرات منه إلى الغرب. هذه العوامل يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي لرفد التنمية البشرية والنهضة إذا وجدت قيادة مدركة لها لتوظيفها إيجابياً. ولكن هذه العوامل نفسها يمكن أن ترفد حركات تقدمية تلقائية مشدودة للأمام أو حركات انكفائية حماسية مشدودة للوراء.
  4. حركات الشارع الربيعية حركات ثورية نحو بناء المستقبل على أساس تقدمي، وحركات الغلو الداعشي حركات ثورية مشدودة نحو ماضٍ مثالي يراد إحياؤه.
  5. الحركات الربيعية لا يمكن تصور انبعاثها من عوامل محلية فحسب، بل تستصحب مفاهيم وتقنيات وافدة. فقبل أفغانستان لم تكن القاعدة، وقبل احتلال العراق لم تكن داعش. حركات الغلو والعنف المصاحب له تستمد كثيراً من حوافزها وتقنياتها من عوامل وافدة. إنها الجناح العسكري من حركة الشارع. يفرق بينهما أن حركة الشارع مدنية ومشدودة للأمام، وحركة الغلاة خشنة ومشدودة للوراء، ولكن كليهما يعتمد على حماسة القوى الاجتماعية الجديدة.
  6. القيادة السياسية المجدية في أية مرحلة تاريخية ليست صدفة، ولا تحكمها أدوات القهر ولا عشوائية الوراثة، بل تبرزها غيبياً العناية، أو وضعياً التماهي مع المرحلة التاريخية. بخلاف ذلك فإنها تظل غائبة ويظل مكانها شاغراً حتى إذا احتله المتطفلون.
  7. المتطفلون يتعاملون مع القوى الاجتماعية الفاعلة سيما الجديدة بالوسائل الأمنية، كما فعلت الإمبريالية في وقتها ولكن دون جدوى. القيادة التي تشاؤها العناية أو مطالب التاريخ هي المؤهلة لتلبية النداء، ولكن لكيلا يكون الأمر مبهماً فإن هذه القيادة المنشودة تتطلب الوفاء بعوامل ذاتية هي المصداقية والكاريزما، وعوامل موضوعية هي في هذا الظرف التاريخي تحقيق شروط حقوق الإنسان الخمسة للناس: الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والسلام، وتلتزم بصدقية منهج يشبع خمسة مطالب هي:
    • معادلة للتوفيق بين مطلبين موضوعيين هما التأصيل والتحديث.
    • حوكمة تحقق مطالب الحكم الراشد الأربعة: المشاركة، والمساءلة، والشفافية وسيادة حكم القانون.
    • اقتصاد يحقق مطالب التنمية والعدالة الاجتماعية.
    • تحقيق معادلات موزونة بين الولاء الوطني والولاء الإقليمي والدولي الأوسع.
    • الدفاع عن المصالح الوطنية وحماية استقلال القرار الوطني.

ما لم تتحقق هذه المطالب فإن الدول المعنية سوف تظل هشة، وبالتالي مغرية للثورية التقدمية والثورية الانكفائية، ومسرحاً لأجندات الغزاة.

 

 

 

 

سلام على الأم في عيدها¨

 

تقليد حميدٌ أن يخصص يوم ذكرى لمعانٍ طيبة كعيد الطفل، وعيد المرأة، وعيد العمال، ويوم مكافحة الملاريا، وعيد الأم وهلم جراً. بعض فقهاء التحريم سداح مداح يرون أن كل ما لم يكن عليه البدريون بدعة. أما الفهم المقاصدي لديننا فيعلم أن القاعدة العامة: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[19]، وفي الأثر “الحِكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ حيثُ وجدَها فَهوَ أحقُّ بِها”.

سلام على الأم في عيدها.

أم اسم فعل الأمر من أمَّ أي قصد، أي اقصدها، إنها رحم التكوين، وهي المرضع والحاضن. إن الأمومة هي أفضل وحدة إنتاج في الخليقة كلها. وهي التضحية العظمى حملاً ونفاساً وألماً دورياً مستمراً.

من عيوب الإسرائيليات مقولة إن الطمث عقوبة لحواء على إغواء آدم، بينما الوحي الإلهي ينسب الغواية لآدم مرة ولهما معاً مرة أخرى. الطمث جزء من مكابدة الأمومة، لذلك استحقت صاحبته الرخصة والمعاملة الخاصة الطيبة أثناءه.

لقد نشأت في ثقافة دارجة تستهين بالمرأة، ومنذ صغري رأيت أمي أنموذجاً إنسانياً رائعاً فتح ذهني لقيمة المرأة الإنسانية، فصرتُ أسبغُ ذلك التقدير على كل بنات جنسها. وبعد ذلك تناولت كافة المفردات في تراثنا المؤسسة لدونية المرأة وأبطلتها بموجب النصوص القرآنية والمقاصد الشرعية والاستنارة الإنسانية.

حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام مصطفى الرحمن ربيب نساء: آمنة وحليمة وغيرهما، وقال: “أنا ابنُ العواتكَ مِنْ سَلِيْم”[20]. ولا أجد نصاً في التراث الإنساني كله أكثر تعظيماً من مقولة نبي الرحمة: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات»[21]؛ ونص آخر هو من روائع أحاديثه عليه الصلاة والسلام إذ جاء رجل فقال:‏ “يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أُمُّكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أُمُّكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أُمُّكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَبُوكَ‏)‏‏”[22].‏ ومن فرط تعظيمه صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها وعلى أمها السلام، ومن فرط رعايتها له أطلق عليها عبارة أم أبيها.

أيها الجيل الناشيء، الوالدان لا يموتان فكل حالة حسية أو نفسية إنما هي بصمات من بصمات وراثية أو تربوية غرساها فينا.

أيها الجيل، لا تقل ماما بناء على المجهول، بل أمي انتساباً إليها. أساليب المسلسلات جعلتنا نقول عمو، وخالو، هكذا بناء على المجهول، بل عمي وخالي انتساباً إليهما. هذا أدعى للحنان:

وما الخال إلا من خلا لك وده        وما العم إلا من بإحسانه عم

إن في تراثنا الثقافي المسنود بفقه منكفيء تأسيساً لدونية المرأة. هذه الدونية تناقض تدبر معاني الوحي الإلهي، وتناقض منظومة حقوق الإنسان التي اهتدت إليها الإنسانية المستنيرة. هذه الدونية الآن من أكبر أسباب الفتنة في الدين، فكثير من المسلمات خرجن عن دين توهمن أنه يعاملهن بالدونية. والفهم المنكفيء للدين صار اليوم من أسباب إلحاد الملحدين. في كتابي “المرأة وحقوقها في الإسلام” الصادر منذ 34 عاماً والذي وسعته مؤخراً في كتاب “الحقوق الإسلامية والإنسانية للمرأة”، مرافعة بالنقل والعقل لإزالة التمييز ضد المرأة.

نعم لكرامة المرأة، ونعم لقداسة الأم، طابت أمي حية وميتة في رحاب الله، وطالبت كل الأمهات وسلام عليهن في عيدهن وكل الأيام. ولهن العزاء الخالص فيمن فقدن من شهداء وشهيدات وجرحى أقدموا على قول كلمة الحق في سبيل الحرية والعدالة والعيش الكريم. دماؤهم ودماؤهن لن تذهب هدراً، بل تساهم في كتابة حياة أفضل وأمجد للوطن. فجر جديد نراه قريباً، أما الذين ينكرونه:

من ليس يفتح للضياء عيونه                هيهات يوماً واحداً أن يبصرا

 

 

 

نحن والأطلسي وحادث نيوزلندا·

مقدمة

ذكر ارنولد توينبي أهم مؤرخي هذا العصر في كتابه المرجعي “دراسة في التاريخ” أن الإنسانية عرفت ثماني حضارات إنسانية. هذه الحضارات حتماً تتداخل وتتنافس، وكان التداخل والتنافس بين حضارتنا والحضارة الغربية أكثرها في المجالين في تاريخ الإنسانية.

الحضارة الغربية انطلقت من أصول يونانية رومانية متأثرة بحضارات أخرى فرعونية وفينيقية وهندية، ثم اعتنقت الدولة الرومانية الديانة المسيحية فصارت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وصارت إمبراطورية عالمية واعتبرت  العالم المعمور كله تحت سلطانها. ولكن السلطان الكنسي قتل حيويتها، وتراجعت أوربا باستمرار حتى بلغت غاية الانحطاط فيما عرفت بالقرون الوسطى.

بالمقابل أدت الرسالة المحمدية في القرن السابع الميلادي لميلاد حضارة جديدة بلغت من الاتساع والتمدن في ثمانين عاماً ما لم تبلغه الحضارة الرومانية في ثمانمائة عام.

وبينما توحشت أوربا في قرونها الوسطى، تألقت عواصم العالم الإسلامي في دمشق وبغداد والقاهرة و طليطلة، عامرة بالثقافة والتوقد الفكري مجسدة حضارة إنسانية.

قال روبرت بريفلوت (1876- 1940م) في كتابه “تكوين الإنسانية”: التنوير الحقيقي لأروبا هو الذي حدث نتيجة إحياء العرب الثقافي لأوربا. أسبانيا بوابة هذا الإحياء وليست إيطاليا، إنها مصدر المولد الحضاري لأوربا.

الكيانات السياسية التي كونتها الحضارة الإسلامية في سلطانها الأموي، والعباسي، والمغولي، والعثماني هو الذي هيمن على العالم المعمور لمدة ألف عام من القرن السابع للقرن السابع عشر. وسلطان المسلمين السياسي حاصر أوربا من الجنوب- معركة بلاط الشهداء، ومن الشرق – حصار فينا.

قال العالم المعروف مونتجمري واط في كتابه عن أثر الحضارة الإسلامية على أوربا إن هذا التأثير كان بالغاً وشاملاً، وقال: إن مشاعر الغربين نحو الإسلام كانت في الغالب شبيهة بشعور الطبقات المحرومة في دولة كبيرة. هؤلاء يتجهون لانتمائهم الديني للتعبير عن خصوصيتهم في مواجهة الطبقات العليا. هكذا فعل الأوربيون تجاه الحضارة الإسلامية المتفوقة. تحصنوا بمذهب القديس جيمس الكمبستولي، واندفعوا في حماسة الحركة الصليبية. كذلك شوه الكتاب والقادة في أوربا صورة الإسلام لتعويض أنفسهم عن شعورهم بالدونية.

وقال: “أروبا كانت تخشى من الإسلام على هويتها. لذلك أنكرت دينها له وبالغت في اعتمادها على التراث اليوناني والروماني. لذلك فإن علينا اليوم أن نخلص أنفسنا من هذا الزيف. وأن نعترف بحجم ديننا الحضاري والثقافي للعالم الإسلامي”.

نعم الحضارة الإسلامية هي التي أيقظت أروبا من سبات القرون الوسطى، ولكن بينما تدنت حضارة المسلمين لأسباب متعلقة بثلاثة عوامل هي حكم الاستبداد، وجمود الفكر، وتكلس الفقه، فإن الحضارة الأوربية شهدت ثلاث ثورات: ثورة سياسية حررت الشعوب من الطغيان، وثورة اقتصادية سخرت قوى الطبيعة للاستثمار والإنتاج، وثورة علمية تكنولوجية اكتشفت ووظفت نواميس الكون للإنسان.

الحضارة الحديثة طورت آلات تنظيم وفتك عسكرية مكنتها من غزو العالم المعمور كله، واستيطان  العالم المجهول في أمريكا واستراليا ونيوزيلندا. هكذا صارت الحضارة الغربية حضارة غزو احتل العالم المعور واستوطن العالم المجهول.

ومع أن بلاد المسلمين صارت تحت الاحتلال الأوربي فإن للإسلام قوى روحية ومعنوية وأخلاقية هائلة. كتابه القرآن هو الأوثق نصاً بين الكتب المقدسة. رسوله هو من بين الأنبياء المعلوم في سجلات التاريخ. وهو يعترف للإنسان من حيث هو بكرامة ففي اليهودية التكريم عرقي، وفي المسيحية الكرامة مرتبطة بالتسليم بالفداء وإلا فلا كرامة. وهو بين الأديان يعترف بالتعددية الملية والتنوع الثقافي. وهو الذي بالفهم الصحيح يوفق بين الإيمان بحقائق الغيب والتسليم بأن حقائق عالم الشهادة مجالها العقل والتجربة، ما يجعله أكثر المنظومات الدينية معقولية. ومع نجاح فتوحات الدول الإسلامية في التنافس بين الدول المعاصرة فإن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما وثق لذلك السير توماس ارنولد. حقيقة يؤكدها كذلك أن الإٍسلام انتشر في جنوب شرق آسيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء سليماً وأثناء ضعف الكيانات السياسية للمسلمين.

ورغم تشويه صورة الإسلام لدى بعض المستشرقين كما وثق لذلك د. إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام Covering Islam” فإن الإٍسلام ما انفك ينتشر حتى في الدول الغربية: ظاهرة الإسلاموفيليا “أي حب الإسلام”.

هنالك ظاهرتان أخريان مهمتان في أمر العلاقة بين المسلمين والحضارة الغربية. الأولى ظاهرة هجرة مسلمين لأوربا بأعداد كبيرة. إن لهذه الظاهرة صلة وثيقة بأخطاء السياسات الغربية في المناطق الإسلامية كدعم حكومات الطغاة، وتغريب الثروات، والفتك بالحركات الإصلاحية مما كان له أثر كبير في الهجرات إلى الدول الغربية.

والظاهرة الثانية هي ظاهرة الغلو بين المسلمين والعنف المصاحب له. إن غرس إسرائيل كجسم غريب في المنطقة وتزويده بإمكانات دولة عظمى كان له دور كبير في الغلو والعنف المصاحب له. كذلك فإن أخطاء السياسات الغربية في المنطقة هو الباعث لحركات الغلو الحديثة. فقبل أفغانستان لم تكن القاعدة. وقبل احتلال العراق لم تكن داعش.

نعم هنالك اجتهادات إسلامية تكفيرية ولكن أخطاء السياسات الغربية هي التي أفرزت الغلو والعنف المصاحب له الآن. وجهت حملات دولية ضد القاعدة وضد داعش حتى دمرت دولة “الخلافة”، ولكن القاعدة وداعش سوف يستمران ويواصلان “جهادهما” في شبكات. فتصدر دول غير إسلامية للحملة ضدهما تكسبهما مصداقية “جهادية”، لدى أوساط، وحدة التوتر الطائفي داخل الجسم الإسلامي بين سنة وشيعة، وحدة التوتر بسبب التسلط الإسرائيلي ومقاومته؛ عوامل تساهم في زيادة هشاشة الدول، وفي فتح المجالات للقاعدة وداعش. وغباء بعض الدول الذي يراهن على دعم التوتر الطائفي بين السنة والشيعة، والذي ينحاز للتسلط الإسرائيلي إنما يزود الغلو والعنف المصاحب له وينزل برداً وسلاماً على القاعدة وداعش.

إن للسياسات الغربية في المنطقة دوراً مهماً في الغلو والعنف المصاحب له بين مسلمين.

أحداث العنف المنسوبة لمسلمين، وكمية المهاجرين للغرب، وكما رأينا فإن للسياسات الغربية دوراً فيها، أفرزت غضباً من حجم المهاجرين، وخوفاً من تأثيرهم على هوية البلدان الأوربية. لذلك كثرت المؤلفات التي تدق نواقيس الخطر. أذكر منها ثلاثة كتب: كتاب “يوريبيا” بقلم بات يئور Bat Ye’or وهي تقول فيه إن أوربا سوف تفقد هويتها لتسمى يوريبيا. وكتاب: “بينما أوربا نائمة” لبروس باور، ويقول إن سكان الغرب إلى تناقص وغيرهم إلى تزايد. وكتاب: “فرصة الغرب الأخيرة” بقلم توني بلانكي الذي يتساءل هل سوف نكسب الصدام بين الحضارات؟

مفهوم صدام الحضارات هذا صاغه برنارد لويس وهو يعرف الحضارة الإسلامية بصورة جامدة والحضارة الغربية بصورة حية مما يؤدي للصدام.  وهو يقول إن المسلمين لا يعادون الغرب بسبب المظالم، أو بسبب غرس إسرائيل بل يعادونه لتراثه. إنه بذلك يريد أن يقدم الحجة لوقوف الغرب سنداً لإسرائيل في وجه  هذه الحضارة العدوانية. وهذا ضد منطق الأشياء. فبعد أحداث سبتمبر 2001م أجرت هيئات استطلاع رأي غربية عديدة: غالوب Gallup، والبي بي سي، وبيوPEW، وزغبي، قياسات للرأي للكراهية العربية والإسلامية لأمريكا ووجدتها متعلقة بسياساتها لا بذاتها، وأنها نفس الأسباب التي جلبت لها كراهية الشعوب الأوربية وشعوب أمريكا الجنوبية، بل وجدت تلك القياسات أن أغلبية العرب والمسلمين معجبون بالحرية والحيوية والإنتاجية والتفوق التكنولوجي في أمريكا ولكنهم ناقمون على سياساتها: سياسات العدوان، والتعامل غير المتكافئ مع أهلها، و دعم الطغاة، وازدواجية المعايير كما في أبو غريب، وغونتنامو، ودعم العدوان الصهيوني.

أي أن الكراهية لها أسباب موضوعية. كما أن الشعوب العربية والإسلامية تسجل مواقف إعجاب بالشعوب الغربية، فهي قد استنكرت غزو العراق، والصحافة الغربية هي التي كشفت وأدانت ممارسات أبوغريب وغونتنامو. هناك تيارات وعي وإنصاف قوية في كثير من الأوساط الغربية، وما فعلته الفتاة الأمريكية اليهودية راشيل كوري Rachel Corrie في مارس 2003م، إذ رقدت أمام الجرافة الإسرائيلية التي تهدم بيتاً فسلطينياً، تضحية لا تجارى.

ومثلما وجد كتاب معادون للإسلام فهناك بين الغربيين أعداد كبيرة من المنصفين للإسلام والمسلمين، بل إن الذي نفى بصورة موثقة عن الإسلام الانتشار بحد السيف هو السير توماس ارنولد.

جريمة الشاب الأسترالي التي ارتكبها في مسجدين في نيوزلندا ليست معزولة. هنالك تيارات عنصرية انطلقت في البلاد الغربية وارثة لتراث العداء للإسلام والمهاجرين، ولجهلها لا تعلم كما أوضحنا أن كل تلك المآخذ تعود لأخطاء سياسية ارتكبتها دول غربية، أخطاء موثقة ومعترف بها، وحتى فكرة الغزو فإن الغربيين هم رواده الأكبر بلا منازع، ومع ذلك فإن في الحضارة الغربية إنسانيات رائعة (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[23].

لولاَ اشتعَالُ النَّارِ فيما جَاوَرَتْ         ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ

حكومة نيوزيلاند وشعبها جففوا الدماء ومسحوا الدموع بفيض إنساني لا يجارى. سلام على السيدة رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن، وعلى حكومتها، وعلى شعب نيوزيلاندا فقد انتصروا للإخاء الإنساني وعزلوا الغلاة والبغاة في سائر بلاد الغرب. رحم الله شهداء المسجدين وعجل شفاء الجرحى. تقبلهم الله مع الصالحين، وفي الدنيا فإن ما حدث لهم شكّل استفتاءً اصطف فيه الأخيار معهم.

كتب روبرت شنقلر كتاباً بعنوان “هل كان المسيح مسلماً؟” وأجاب بنعم. وأصدر عالمان في جامعة واشنطن مقياساً للأسلمة استمداه من 113 قيمة في الأخلاق والمعاملات وطبقاه على دول العالم فكانت في الصدارة دول غربية عادلة أما الدول المسماة إسلامية فالأولى كانت ماليزيا رقم 34.

أنا عاكف على كتابة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعنوان “الإنسان رسول الإنسانية”. هذا مسنود بتفسير تدبري مقاصدي يؤكد أن الإسلام أكثر الملل اعتباراً للعقل والمعارف التجريبية. حقائق سوف تعترف بها  وتقرها الإنسانية جمعاء، كما أن الإنسانية جمعاء سوف تعترف وتقر للحضارة الغربية عطاءها الإنساني والعلمي والتكنولوجي.

أقول، أشار صمويل هنتجتون في كتابه عن صدام الحضارات لأن مشكلة الغرب الحقيقية هي مع الإسلام لأنه دين مختلف وحاضن لحضارة كونية. نعم ومهما تعثرت الرؤى فإن في الإسلام خصالاً تؤهله أن يصير دين الإنسانية جمعاء، هي: عقيدة توحيدية غير مشوبة، رسول كامل الإنسانية، منظومة أخلاق موضوعية، اعتراف بكرامة الإنسان دون شرط، اعتراف بحرية العقيدة للكافة، اعتراف بالتعددية الدينية، اعتراف بالتنوع الثقافي والقومي، وخطاب عالمي. وإسناد هذه المعاني لحقائق الوحي.

وللحضارة الغربية أوراق اعتماد تؤهلها للقبول العالمي، فقد طورت منظومة حقوق الإنسان بصورة مشرفة للإنسانية. وإذ اكتشفت النواميس الطبيعية والاجتماعية، وصنعة التكنلوجيا الحديثة بصورة قدمت للإنسانية منافع عظيمة. الميثاق العالمي لحقوق الإنسان عظيم، ولكن منظمة الأمم المتحدة لن تحقق أهدافها لخضوع الدول لفيتو الخمس الكبار، وقبول النظام الدولي لازدواجية المعايير فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل. هذه عيوب ينبغي إصلاحها.

أن بناء نظام مستدام أعدل وأفضل للإنسانية يعتمد على التكامل المنشود بين الوحي ويمثله الإسلام، والعقل وتمثله الحضارة الحديثة.

 

 

 

 

 

فاتا الحد فبلغا الضد©

رئيس الوزراء الإسرائيلي تحالف مع أحزاب يمينية أكثر تطرفاً من اللكيود مثل السلطة لليهود، وحزب الوطن لليهود، واستطاع أن يصدر قانوناً يجعل المواطنة مرتبطة باليهودية، ما يحرم كل الآخرين منها، ويقيم نظام فصل عنصري في إسرائيل. وقد اتخذ إجراءات تقضي على حل الدولتين بضم المستوطنات في الضفة الغربية لإسرائيل. قال تامير باردو مدير الموساد في الفترة 2011- 2015م: إذا لم تقرر الدولة الإسرائيلية ما تريد فسوف ينتهي الأمر أن تكون إسرائيل دولة واحدة بين البحر ونهر الأردن. وهذه ستكون نهاية الحلم الصهيوني (أي دولة أغلبيتها عربية).

ويراود رئيس الوزراء الإسرائيلي كسبان: الأول أن جزء كبيراً من العالم العربي مستعد للتطبيع مع بلاده في مواجهة إيران. والثاني أن الرئيس الأمريكي الحالي مستعد لتجاوز كل حدود الدبلوماسية والقانون الدولي لدعم إسرائيل.

هذه المكاسب مهمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي لأنه يخوض انتخابات عامة في أبريل القادم ضد منافسين مهمين. وثانياً لأن النائب العام الإسرائيلي يلاحقه بثلاث تهم فساد موثقة يظن أن مقعد الرئاسة يحميه من تبعاتها الحتمية.

قال آموس بادلين، مدير سابق آخر للمخابرات الإسرائيلية: إن إسرائيل كدولة ديمقراطية ذات أغلبية يهودية تواجه خطرين على وجودها هما: خطر إيران نووية، وخطر تحولها لدولة ذات قوميتين. فإذا حافظت على الديمقراطية فقدت هويتها اليهودية، وإذا حرمت غير اليهود من حقوق المواطنة فقدت الديمقراطية.

نتيجة لقصر النظر والأهواء الذاتية يوالي نتنياهو حشر بلاده في مأزق مصيري.

في العام الماضي نشر قريق كارلستروم، مراسل التايمز الأمريكية والأكونمست البريطانية في إسرائيل، كتاباً بعنوان: “إلى متى تبقى إسرائيل؟” الرد في الكتاب أن ما سوف يدمر إسرائيل تناقضات داخلية مستعصية على الحل لا الأعداء من الخارج. أي أن مظاهر القوة الظاهرية تجوفها هشاشة داخلية. وقديماً قال ازايا برلين، وهو من أكثر اليهود إدراكاً: إن إسرائيل سوف تندفع منتصرة نحو الهاوية. ولولا الغرور المدمر، فإن إسرائيل متاح لها أن تقبل حل الدولتين، والتخلي عن الأراضي المحتلة، والعودة لمستحقيها حسب القرار الدولي رقم 194، ومواطنة متساوية، والتطبيع العادل مع محيطها الإقليمي. ولكن كما في المثل الانجليزي: الغرور مدخل السقوط. وقال الحكيم:

إِنّ الغرورَ إِذا تملَّكَ أمّةً      كالزّهرِ يخفي الموتَ وهو زؤامُ

هنالك الآن أصوات مهمة داخل يهود أمريكا، يعلمون أن نكبات اليهود في التاريخ دائماً كانت بسبب تجاوز الحدود لذلك يرفضون مبالغات نتنياهو ويوصون بالاعتدال.

الرئيس الأمريكي تخلي عن الدور الذي يليق به كرئيس لدولة هي الحاضن للنظام الدولي المعاصر، ليتحدى قرارات النظام الدولي حول القدس، وحول اللاجئين، وحول الجولان؛ لأنه يريد الحصول على دعم الأصوات اليهودية في أمريكا، فهم كانوا غالباً يؤيدون الحزب الديمقراطي ولكن هم جماعة نفوذها المالي، والإعلامي، وفي مؤسسات التعليم يفوق أعدادها أضعافاً مضاعفة.

الرئيس الأمريكي الحالي مهتم بمخاطبة القاعدة الإثنية البيضاء الرافضة للنازحين لا سيما من المسلمين، والقاعدة اليهودية، ما يفسر انحيازه المطلق لإسرائيل، واهتمامه بإعادة انتخاب صديقه نتنياهو، وهو مثله يواجه حملات مضادة تلاحقه.

ما يرجى من الرئيس الأمريكي أن يكون الأكثر دعماً للنظام الدولي الذي جعلت رئاسته في بلاده، وأن يخاطب الشعب الأمريكي بما يحول دون انقساماته الكثيرة. وما دام صديقاً لإسرائيل أن يرشدها. فصديقك من صَدَقَكَ لا مَن صَدَّقَك. إن في الدعم المطلق لقيادة متطرفة في إسرائيل ما يدفعها للتهلكة.

وتحدث الرئيس الأمريكي عن الانتصار العسكري على دولة الخلافة الداعشية. قضية داعش قضية عقيدة لا تنتهي بما أصابها من هزيمة عسكرية. فطالبان أجليت من كابول والمدن الكبيرة في أفغانستان ولكن عادت فحاصرتها، والآن الولايات المتحدة تفاوضها     دليلاً على انتصارها، والقاعدة حوربت 18 عاماً وهي الآن تقود شبكة واسعة، كذلك داعش.

وتصريحات قادة غربيين ضد الاسلام والمسلمين ووصفهم بأنهم غزاة من شأنها دعم أطروحات القاعدة وداعش بل كل غلاة المسلمين. ما يقوله ويفعله رواد الإسلاموفوبيا هو أكبر حليف للقاعدة وداعش ومعزز لأطروحاتهم.

إن في انحياز الإدارة الأمريكية المطلق لإسرائيل على حساب القانون الدولي كما في آخر الحالات أي الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي للجولان ما يثبت لكثيرين أن المسلمين يتعرضون لغزو صهيوني وصليبي كما تقول القاعدة وداعش.

القاعدة تكونت لطرد الاحتلال السوفيتي من أفغانستان وتحولت العقيدة لطرد كل القوى الأجنبية من بلاد المسلمين، وداعش تكونت نتيجة تظلم أهل السنة في العراق وسوريا. إن اخضاع الأمة لمزيد من الاحتلال وتصعيد الفتنة بين السنة والشيعة عوامل تغذي أطروحات الغلاة في بلاد المسلمين والعنف المصاحب له.

المطلوب سياسات دولية عادلة، وحل عادل للقضية الفلسطينية، ومعادلة تصالحية بين أهل السنة والشيعة.

 

  • مقال نشر في 31/7/2018م

[1] المعجم الأوسط للطبراني

ª  ألقاها الإمام الصادق المهدي من منبر مسجد الهجرة بودنوباوي في يوم الجمعة 19 جمادى الأول 1440هـ  الموافق 25 يناير 2019م.

[2]  سورة الحج الآية رقم (78)

[3]  رواه مسلم

 [4]  سورة المائدة الآية رقم (79)

[5]  رواه الترمذي

 

[6]  سورة البقرة الآية رقم (251)

[7]  سورة التوبة الآية رقم (119)

 ¨   مقال نشر 17/2/2019م

  • نظمه المنتدى العالمي للوسطية – الأردن 26/2/2019م

[8] رواه مسلم

[9] سورة الإسراء الآية (59)

[10] سورة النحل الآية (125)

[11] سورة البقرة الآية (156)

[12] سورة الروم الآية (22)

[13] سورة الممتحنة الآية (8)

©  قدمت في (ملتقى قيادات حزب الأمة القومي بالمركز والولايات حول قضايا خلاص الوطن) في 2 مارس 2019م

  • رسالة ترحيب كتبت بمناسبة زيارة البابا الكاثوليكي فرنسيس لدولة الإمارات نشرت في 9/3/2019م

[14] سورة الكافرون الآية (6)

[15] سورة آل عمران الآية (113).

[16] صحيح البخاري

[17] المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة

[18] سورة البقرة الآية (208)

ª  مقال نشر في 20 مارس 2019م

¨  مقال كتب بمناسبة عيد الأم ونشر في 21 مارس 2019م

[19] سورة الأعراف الآية رقم  (157)

[20] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير

[21]  ذكره السيوطي في الجامع الصغير

[22] متفق عليه

  • مقال نشر في 22/3/2019م

[23] سورة آل عمران الآية رقم (115)

©  مقال نشر في 27/3/2019م