آخر خطبة قبل الهجرة (تهتدون)، 20 فبراير 1996م

الإمام الصادق المهدي
سماحة دولة الحبيب الإمام الصادق المهدي حفظه الله ورعاه رئيس حزب الأمة القومي وإمام أنصار الله ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان وعضو مجلس التنسيق الرئاسي لقوى نداء السودان ورئيس المنتدى العالمي للوسطية والفائز بجائزة قوسي للسلام لعام 2013 وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية لنادي مدريد للحكماء والرؤساء السابقين المنتخبين ديمقراطياً والمفكر السياسي والإسلامي

آخر خطبة قبل الهجرة، فبراير 1996م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة عيد الفطر المبارك

أول شوال 1416هـ/ الموافق 20 فبراير 1996م

الله أكبر      الله أكبر      الله أكبر

اللهم إني أحمدك وأثني لك الحمد ياجليل الذات وياعظيم الكرم. وأشكرك شكر عبد معترف بتقصيره في طاعتك يا ذا الإحسان والنعم. وأسألك اللهم بحمدك القديم أن تصلي وتسلم على نبيك الكريم.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن الحبيب

قال تعالى معددا مراحل خلق الإنسان :(ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[1]. وقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[2]. الإنسان هو آية الله الرائعة يشارك الإنسان الجمادات في تركيبها الكيميائي، ويشارك النباتات والحيوانات في تركيبها البيولوجي، ولكنه يفوق تلك المخلوقات بما أودعه الله فيه من عقل وروح هي قبس من نور الله. ثم سواه ونفخ فيه من روحه. إن قدرات الإنسان الروحية والعقلية، والتقنية، هي التي مكنته من تطوير الفكر، والثقافة، والتقانة، والحضارة، وجعلته أهلاً لإستقبال رسالات الغيب. إن رسالات الغيب العلوية لاتتناقض مع ملكات العقول لأنها تخص بخطابها العقلاء. فكيف تشترط وجود العقل ثم تملي عليه ما يتناقض معه؟ هذا مستحيل. إن رسالات الغيب لا تناقض العقل ولكنها تكشف له عن أمور تقع فوق إدراكاته. إنها تخاطبه بأمور تفوق إدراك العقول وتطالبه بالإمتثال لها كما يحددها الوحي الإلهي.

إن عقيدة المسلم الدينية تحدد مكان الإنسان من الله سبحانه وتعالى. وعبادات الإسلام تحدد لنا وسائل إتصالنا بالله رب العالمين. العبادات تصلنا بالله وتشدنا إليه. روى الإمام البخاري أن النبي (ص) قال:”مازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحبتته صرت يده التي يبطش بها وقدمه التي يسعى بها:

قلوب العاشقين لها عيون     

ترى مالا يراه الناظرونا

وأجنحة تطير بغير خفق

إلى لكوت رب العالمينا

العبادات حددها الوحي. ونحن البشر نعلم بعض حكمتها ولاندركها كلها لأن حكمتها كلها علمها عند ربها:( وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[3]. بالأمس إنقضى شهر الصيام. وهي عبادة ندرك من حكمتها مايلي:

الصيام يعود صاحبه على الصبر، والصبر مادة لكثير من الفضائل، فالشجاعة مثلا تحتاج لدرجة عالية من الصبر:

الحرب صبر واللقاء ثبات         والموت في شأن الإله حياة

والعفاف يعتمد كذلك على درجة من الصبر:

جهل الديانة من إذا عرضت      له شهواته لم يلف بالمتماسك

والصيام إذ يمنع شهوتي البطن والفرج يبين للصائم قيمة تلك المشتهيات وبضدها تتبين الأشياء. والصيام بما فيه من حرمان يعطي صاحبه درسا عمليا عما يعانيه المحرومون مما يساعد على التعاطف معهم:

لايعرف الشوق إلا من يكابده    ولا الصبابة إلا من يعانيها 

والصيام مغسلة للذنوب ومفتاح لأبواب النجاة. روى الإمام أحمد أن النبي (ص) قال: “إن الله عز وجل فرض صيام رمضان وسننت قيامه فمن صامه وقامه إحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه” الناس كلهم يتسخون بالذنوب مثلما تتسخ الثياب بالإستعمال. ويتطلعون لغسل الذنوب مثلما يغسلون الثياب، لذلك أتاح الله لنا فرص ذلك الإغتسال وقال: “إن الحسنات يذهبن السيئات” وأبواب عفو الله واسعة:

ياكبير الذنب عفــــــو    الله عن ذنبك أكبر

أكبر الأشياء عن أصغـر عفو الله أصغر

وصدقة الفطر عبادة ندرك الآتي من حكمتها:

أنها كفارة لذنوب يقع فيها الصائم حتما لضعفه وبشريته فتجرح صيامه. وصدقة الفطر وسيلة من وسائل التكافل الإجتماعي يخرجها القادر منا عن نفسه وعن من تلزمه مؤونتهم ويعين بها المحتاجين. وصدقة الفطر تساوي صاعا عن كل واحد من غالب قوت المزكي. فمن كان غالب قوته قمحا أخرج صاعاً من قمح عن كل من تلزمه مؤونته وكذلك الدخن والذرة. ويستحسن إخراجها نقداً وهي حسب أسعار اليوم حسب تقديرات هيئة شئون الأنصار تساوي:

1600 جنيها للقمح

640   جنيها للذرة

قال إبن عباس: فرض رسول الله (ص) زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.

والعيد عبادة ندرك من حكمتها الآتي:

بث موجة من الفرح، والمرح، والبهجة في المجتمع لتعم كل الأجيال: الشيوخ والكهول، والشباب، والصبيان، والأطفال، رجالا ونساءا فيلبسون الجديد مااستطاعوا ويفرحون ويتزاورون.

وصلاة العيد مظاهرة إيمانية لإظهار تضامن الجماعة الإسلامية، وقوتها، وابتهالها الجماعي لربها وامتثالها لسنة نبيها في نفير جامع يؤمه كل الناس حتى ذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعاء المسلمين على حد تعبير الصحابية أم أيمن. والعيد فرصة لترميم العلاقات الإجتماعية بين الناس تعافيا وتصافيا. الإنسان حتما يخطئ في حق أخيه الإنسان بإغفال له أو إهمال أو تجريح مباشر أو غير مباشر. فإبن آدم خطاؤون. والعيد يتيح فرصة ليصفح الناس عن بعضهم بعضا في مجالات العلاقات الشخصية والخاصة وكالعادة فإنني أسامح من أذاني وأطلب سماح من أذيته منكم كبيرا أو صغيرا.

إذا كنـــت في كل الأمور معاتــــبــا       صديقك لم تلق الذي لا تعاتبـــــه

وإن أنت لم تشرب مرارا على القذى      ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟     

هذه العبادات الثلاث: الصيام، وزكاة الفطر، والعيد فيها درجة من التكليف الفردي وهي كذلك تؤدي وظيفة إجتماعية. إن هذا المزج بين دور عبادي نافع للفرد، ووظيفة إجتماعية نافعة للمجتمع، نهج إسلامي أصيل.قال تعالى:( أرأيت الذي يكذب بالدين* فذلك الذي يدع اليتيم* ولايحض على طعام المسكين) فالمسجد هو مكان الصلاة والمناجاة للإتصال بين العبد وربه. وهو أيضا مركز النشاط الإجتماعي في المجتمع. هكذا كان المسجد في الصدر الإسلامي الأول وفي المهدية مجددة شباب الإسلام.

كان المسجد مستشفى. فقد روى ابن هشام أن الصحابي سعد بن معاذ والذي أصيب يوم الخندق قد ضرب له رسول الله (ص) خيمة في مسجده ليمارضه وليعوده حتى مات فيها. وكان المسجد ملجأ للمحتاجين، روى أبوهريرة أن النبي (ص) قال:”رأيت في مسجد رسول الله (ص) سبعين من أصحاب الصفة يقيمون في المكان المظلل من المسجد. وكان المسجد مدرسة لتعليم القرآن وعلومه، بل وكان مركزا ثقافيا وأدبيا طالما أنشد حسان بن ثابت وكعب بن زهير قصائدهما فيه أمام نبي الرحمة.

لقد تخلت المساجد اليوم عن تلك المرافق وتقاعست عن تلك الوظائف وهذا نقص يجب أن يتداركه الجميع، وقد وضعت هيئة شئون الأنصار برنامجا بدأ تنفيذه لجعل جميع مساجد أنصار الله مساجد مرافق تقوم بكل الخدمات الإجتماعية وساعدنا في هذا التوجه مواطنونا في في بلاد الخليج وبعض أشقائنا من تلك البلاد جزاهم الله خيرا .

إن سد النقص في تقديم الخدمات الإجتماعية صار مطلوبا بإلحاح لأن الدولة في السودان تخلت تماما  عن واجبها الإجتماعي نحو المواطن والمواطنة. لقد أوقفت الدولة ماكان مبذولا للمواطنين من دعم للصحة، وللتعليم، وللدواء، وللغذاء، وللوقود مما جعل المواطن السوداني اليوم محاصرا بالشقاء من ثلاث جبهات: إنحسار الخدمات الإجتماعية، ومضاعفة الضرائب أضعافا مضاعفة، وغلاء الأسعار. هذا الحصار الجبار العنيد هد الكيان الإجتماعي في السودان وأفسد الأخلاق فالناس جوعاً أكلوا دينهم وصار غالبية أهل السودان كعصافير روضة أصابها الجفاف والتصحر زغب الحواصل لا ماء ولا شجر.

في وجه هذا الشقاء صار الناس يتساءلون: كيف تستمر حياة السواد الأعظم حتى الآن؟  لا سيما والراتب لأصحاب الرواتب لا يغطي أكثر من 5% من مصروفاتهم الضرورية؟ ..  قيل إن صحافيا أجنبيا زار السودان ولاحظ الفرق الكبير بين دخل المواطن وصرفه فأخذ يسأل الأفراد كيف يعيشون ؟ وكان كل واحد يرد بعد صمت: “الله كريم ” لذلك كتب الصحافي تقريرا قال فيه: إن في السودان جمعية خيرية إسمها “الله كريم” لولاها لمات الناس جوعاً ‍‍!.. وسمع أحد جماعة الإنقاذ تساؤل الصحافي فرد قائلا: إنها بركات “الإنقاذ” التي مكنت الناس من مواصلة المعيشة مع قلة الموارد المادية على وزن قول ود سعد في مدح الرسول (ص):

أشبع بالصاع يانبي الله     لجيشا جاع يانبي الله

“جماعة الإنقاذ يلبسون الأحداث الجسيمة تبريراً تفاؤلياً زائفاً: يبددون الإمكانيات المادية الشحيحة المتاحة للتعليم العالي في توسع لاطاقة لهم به كمن يحاول تطعيم حوض النيل بمعلقة سكر ويبررون ذلك بأن “البركة” تجعل ذلك ممكناً!. ومهما أدخلتهم سياساتهم في نكبات برروا الشقاء الناتج عن ذلك بقولهم أنها إبتلاءات، حتىلو أنهم ساقوا الناس للجحيم اقالوا أنها مجرد زيادة في التدفئة. يحذرهم الأمريكان بعظائم الأمور فيقولون قد طمأننا الأمريكان بأنه لاغزو عسكري يتوقع على السودان..هكذا يصبغون على كل كارثة طلاء وردياً. يذكرني هذا التفاؤل الواهم بقصة ساخرة للكاتب الفرنسي “فولتير” إسمها “كانديد” والقصة تسخر من شخص بلغ به تفاؤله الواهم إعتقاداً أنه يعيش في عالم ليس في الإمكان أبدع مما كان، وتمر به أفدح الكوارث فيفسرها تفسيراً متفائلاً حتى أنه إذا نكب الطاعون مدينة وقتل نصف سكانها قال: إن فيما حدث خير لأن ذهاب نصف السكان سوف يؤدي لنزول أسعار المشتروات وتدني تكاليف المعيشة.!

ولكن الحقيقة كما يرويها أهل السودان مختلفة تماما: قالوا جماعة الإنقاذ وعدوا ألا يصير الدولار 20 جنيها ولكنهم لم يعدوا ألا يصير ألفا أو ألفين جنيها!. وقالوا جماعة الإنقاذ ماوعدوا برفع المعاناة عن الجماهير بل وعدوا برفع ” المعانا ” من الجماهير وأوفوا بما وعدوا ورفعوا المعاهم من الجماهير. وقديما قال المثل السوداني “ضحك الرجال بكاء ” الحقيقة المحزنة هي أن الحالة المعيشية في السودان محزنة وأن الحياة المعيشية إستمرت لأن هنالك مصادر غير مرئية ساهمت في تمويل الفجوة بين دخل المواطن السوداني ومصروفاته الضرورية. تلك المصادر هي :-

  • تحويلات المغتربين لذويهم عن طريق قنوات خاصة في السوق الأسود.
  • والإختلاسات التي بلغت في عهد “الإنقاذ” حسب المراجعات 114 بليون جنيها.
  • الإقتراض من المؤسسات المالية وعدم رد القروض، فقد كانت جملة ديون المؤسسات المالية على الأفراد والشركات في السودان حتى يونيو 89 تساوي 5,4 مليار جنيه ولكنها صارت الآن 333 مليار جنيه.

وقد باع الناس مدخراتهم من ذهب وأثاثات وسلع رأسمالية وملابس لتمويل المعيشة حتى بدل الناس سخريةً عبارة “نأكل مما نزرع” لعبارة: “نأكل مما نلبس”! . واقتطع الناس من جلدهم فتدهور الطعام كما وكيفا حتى بلغ سوء التغذية وضعف الدم درجة خطيرة تجعل السودان منطقة منكوبة صحيا بمقاييس منظمة الصحة العالمية.

هذا هو حال بلادنا وإحياء الدور الإجتماعي للمساجد يمكن أن يملأ بعض الفراغ ويقدم بعض الخدمات الإجتماعية إنه على الأقل إضاءة شمعة في ظلام دامس. روى إبن عساكر أن النبي (ص) قال: ” إحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس.” إستغفروا الله فإن الله يغفر الذنوب جميعا.

 

الخطبة الثانية

الله أكبر   الله أكبر   الله أكبر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه الميامين.

أمابعد،

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

جاء في محكم التنزيل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[4] فنحن أمة العدالة والإعتدال، وجاء في ذم بعض أهل الكتاب: (كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه) إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إسلامي يؤدي مهما كانت الظروف لذلك قال النبي (ص): “خير الجهاد كلمة حق لدى سلطان جائر”.

إن عقيدتنا كمسلمين في السودان تمر بفتنة لايعلم مدى خطرها إلا الله. وإن وطننا السودان يمر بمحنة تهدده ألايكون. إن في فتنة الدين ومحنة الوطن أمر إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. ولايليق بنا أن نجيل اطرافاً ناعسة ونمدد أوصالا كسولة بل بالعزم العزم والتشمير التشمير.

وكيف تنام الطير في وكناتها           وقد نصبت للفرقدين الحبائل

أتحدث أولا عن الفتنة الدينية:

لقد مر الخطاب الديني في السودان عبر مراحل. ففي طبقات ود ضيف الله نجد الخطاب الديني في السودان صوفيا تسيطر عليه غيبيات الشيخ الهميم، خطاب صوفي ديني يناهضه خطاب فقهي يردده أمثال القاضي دشين. ثم جاءت مرحلة التصوف المستنير يرمز لها السادة محمد عثمان الميرغني الختم، والطيب ود البشير راجل أمرح، والشيخ إدريس ود الأرباب أب فركه وغيرهم ممن نحوا بالتصوف في السودان نحوا سنيا معتدلا. هكذا إستمر الخطاب الديني في السودان صوفيا معتدلا يتعايش معه فقه علماء الشريعة السني والقضاة على طول فترة الحكم التركي.

ثم جاءت المهدية فملأت الدنيا وشغلت الناس وهزت عجينة السودان لتصبها في قالب تكويني جديد فحررت السودان من الإستعمار، ووحدته، وأكملت الإرشاد الصوفي التربوي بإقامة التشريع، وفترات التكوين كمراحل التأديب حازمة آحادية الخطاب والتوجيه:

وقسى ليزدجروا ومن يك حازماً        فليقس أحياناً على من يرحم    

فتحالف ضد المهدية معارضوها داخلياً وخارجياً فقوضوا دولتها في النخيلة، وكرري، وأم دبيكرات. وتحكم الإستعمار الثنائي بعد ذلك في السودان وركز عداءه ضد عقيدة المهدية ولكنه في الوقت ذاته فتح المجال واسعا للخطاب الديني الصوفي ولنهج الفقهاء السني.إن تقويض الدولة المهدية في معارك القتال لم  يصحبه تقويض الدعوة فبقيت كامنة في نفوس بعض الناس حتى إنبرى لها الإمام عبد الرحمن الصادق وبعثها من جديد في صورة حافظت على جوهرها ولكنها صورة متسامحة معتدلة متعايشة مع إجتهادات الآخرين.

وأثناء الحكم الثنائي وفد إلى السودان التيار الإسلامي السلفي الذي دخل الساحة السودانية متشدداً في هجومه على التصوف رامياً أتباعه بالبدعه والضلالة. ثم إعتدل الخطاب السلفي في توجهاته حتى صار ينادي الصوفية بإخواننا الصوفية، وفي داخل المؤسسات التعليمية المدنية في السودان وفد إلينا تيار المدرسة الإسلامية الحديثة التي أسسها الشيخ حسن البنا المصري. هذه المدرسة الإسلامية الحديثة عندما دخلت السودان نهجت منهجا معتدلا ومدركا لخصوصية البيئة الإسلامية السودانية. وكان نهجها الأول متطلعا للبعث الإسلامي في السودان في تكامل لاتناحرمع التيارات الإسلامية الأصيلة في السودان.

كان الشيخ حسن البنا يواجه مجتمعا مصريا سيطرت عليه تطلعات إسماعيل باشا المفتونة بأوربا الرامية لجعل مصر قطعة من أوربا. لذلك كان نهجه في التعامل مع الواقع الإجتماعي في مصر حاداً.

وفي الهند برزت دعوة الشيخ أبي الأعلى المودودي الذي أرقه الحصار الهندوسي المتعصب للوجود الإسلامي في الهند فكانت دعوته أكثر حدة من دعوة الشيخ حسن البنا.

وفي مصر الستينيات برزت دعوة الأستاذ الشهيد سيد قطب الذي طور إجتهاد البنا والمودودي نحو مزيد من التشدد والحدة كرد فعل مباشر للإضطهاد الذي عاشه الإخوان في مصر على يد آلة القهر الناصرية. هؤلاء الدعاة بثوا في الفكر الإسلامي الحديث فكراً إسلاميا  إحتجاجيا ساخطا على السلطة السياسية القائمة مهتما غاية الإهتمام بمنازلتها وتقويضها وإقامة بديلٍ مرضٍ.

هذه المفاهيم تجرعتها الحركة الإسلامية السودانية الحديثة دون مراعاة لواقع التسامح والإعتدال في الساحة السياسية السودانية ولالإيجابية النظرة للإسلام في الجسم السياسي السوداني الغالب مما جعل إستقبال ذلك الجسم السياسي السوداني للتيار الإخواني الوافد إستقبالا حسنا وأخويا.

لم تراعي الحركة الإسلامية السودانية الحديثة هذه العوامل، وهجمت على السلطة السياسية في السودان شاهرة السلاح وعاملت رموز السلطة السياسية السودانية المعتدى عليهم كأنهم طغاة باطشون مارقون على الإسلام. وكانت السلطة الإنقلابية التي إستولت على البلاد في يونيو 1989 على عجلة من أمرها توهم الناس أن برنامجها سوف يحقق لأهل السودان سعادة الدارين في لمح البصر. الحقيقة التي لاشك فيها هي أن دور الإسلام التعبوي والتربوي في العصر االحديث كان ناجحا في بيان مثالب الشيوعية والرأسمالية وكان ناجحا في لفت الأنظار للبديل الإسلامي. ولكن هذا البديل لأسباب كثيرة بقي معلقاً على مستوى الشعارات ولم يتخذ شكل برنامج محدد لبيان نظام الحكم، والإقتصاد، والعلاقات الدولية المعاصرة.

المفكرون الإسلاميون يعلمون أن الفكر الإسلامي الحديث مطالب أن يحدد موقفاً واضحاً من الخلافة كنظام للحكم ومن البدائل لها. وأن يحدد موقفا من الشورى وماهية مؤسساتها، ومن البدائل لها. وأن يحدد موقفا من حقوق الإنسان ومن حرياته الأساسية ومن نظام الحكم الديمقراطي الغربي ومؤسساته. هذه القضايا لم تدرس بالقدر الكافي ومافيها من إختلافات جوهرية لم تحسم بين كثير من أصحاب الفكر الإسلامي. والفكر الإسلامي مطالب بتحديد موقفه من النقود الحديثة، ومن المالية، ومن الإئتمان، ومن الإستثمار بل من كل مؤسسات الإقتصاد الحديث، وعليه أن يقرأ أحكام الإسلام في الربا والزكاة قراءة تلائم الإقتصاد الحديث وتحافظ على جوهر مقاصدها الشرعية. هذه القضايا كلها مازالت في طور أولي جدا من البحث والتقصي والحسم. وأمام الفكر الإسلامي ان يحدد موقفه من المواطنة، ومن الدولة الحديثة، ومن القومية، ومن العلاقات بين الدول، ومن النظام الدولي المعاصر.  وهي كلها أمور مازالت في غاية الإختلاف والمجادلة.

هجم النظام الإنقلابي الجديد على المجتمع السوداني بإسم الإسلام بسياسات إقتصادية ومالية خربت الاقتصاد الوطني ودمرت النظام المصرفي، وسياسات خارجية عنترية عزلت السودان تماماً، ومناهج في نظام الحكم والدستور بلغت قمتها في المرسوم الدستوري الثالث عشر وهو أنموذج على التخبط والتناقض. بموجب هذا المرسوم فإن رئيس الجمهورية في السودان الإسلامي يمكن أن يكون إمرأة وثنية ولكنها تقبل البيعة!. وقوات السودان المسلحة مفتوحة لكل مواطن مهما كان دينه ولكنها تباشر الجهاد في سبيل الله!. وقوات الشرطة في السودان متاحة للمواطن من كل ملة ولكنها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!…كما فعل الغراب فضل مشيا فما بلغ القديم ولا الجديدا. إنه مرسوم مصاب بإنفصام الشخصية كالإله الروماني ذي الوجهين: “جانوس”، هذا الإله هو الذي سموا عليه الشهر الأول للسنة شهر يناير، وهو إله روماني ذو وجهين، وجه ينظر إلى الشهر الأخير في العام المنصرم ووجه آخر ينظر إلى الشهر الأول من العام القادم  :

خاطبت كل جليس بمـــا           يلائمــــــــه لأروق الجليسـا

فعند الرواة أدير الكــلام           وعند السقاة أدير الكؤوســا      

إن الهجوم بإسم الإسلام على الساحة السياسية السودانية صحبته حدة في نبرة الخطاب الإسلامي في السودان فرمي قادة التيارات الإسلامية الأخرى بالكفر والعلمانية. وفي بداية عهد النظام وحماسته الإسلامية إستقطب دعاة الإحتجاج الإسلاميين من كل مكان. هؤلاء الدعاة مستغرقون في مفاهيم إحتجاجية مبسطة لا صلة لها بالواقع بل تستمد من مفاهيم نصية معلقة في الهواء. لذلك عندما شهدوا آثار الواقع على التجربة الإسلامية في السودان لفظوها ورموها بما رمت به الآخرين، رموها بالمروق من الدين وبالعلمانية وبالزندقة فانفتحت ساحة الخطاب الإسلامي في السودان لمراشقات التكفير والزندقة بل للهجمات المسلحة على المخالفين فسالت الدماء غزيرة في الحارة الأولى من مدينة المهدية وفي “كمبو مدني” بالجزيرة.

إن للجهاد في الإسلام فقها فلدى بعض الناس هو هجومي ولدى آخرين هو دفاعي. ودون إدراك كامل لفقه الجهاد في الإسلام وفي حياتنا الدولية المعاصرة إندفع النظام وسمى ماتقوم به الدولة السودانية في حفظ الأمن والنظام ضد بعض مواطنيها في الجنوب جهادا في سبيل الله مما فتح أبواب فتنة دينية بين المسلمين وغير المسلمين داخل الوطن السوداني. وفي نفس الوقت جرد النظام الجهاد من أي معنى هجومي لأنه أعلن الإلتزام بنظام علماني في جنوب البلاد. إنه جهاد لاينطبق عليه فقه الهجوم ولافقه الدفاع!!.

هكذا أدى إقتباس الفكر الإسلامي الإحتجاجي المسيس من مصادره المودودية والقطبية دون مراعاة للخريطة الإسلامية في السودان ودون مراعاة لغياب البرامج الإسلامية الحديثة، إلى فرقة بين مسلمي السودان وإلى فتنة بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الوطن الواحد. ولاصلاح ولافلاح ولاإصلاح لأمر الدين في السودان إلا بسحب الخطاب الإسلاموي الذي هجم على الساحة السياسية ليسترد التعامل بين شرائح المسلمين إعتداله المعهود ولتسترد علاقات أبناء الوطن الواحد من مسلمين ومسيحيين وغيرهم تسامحها وتعايشها المنشود.

أحدثكم ثانيا عن المسألة الوطنية:

أحبابي في الله وإخواني في وطن الجدود.

تأملوا معي بجدية هذه النقاط السبع الآتية:

الأولى: السودان اليوم ثلاثة سودانات: السودان الذي يحكمه نظام “الإنقاذ”، والسودان الذي يسيطر عليه د.جون قرنق وحلفاؤه في جبال النوبة، وسودان الشتات الذي إحتشد فيه سودانيون معارضون في الخارج. هذه السودانات الثلاث الآن في حالة حرب ويستعين كل طرف منها بما شاء من قوى أجنبية لتحقيق النصر على خصمه.

ثانيا: السودان الذي يحكمه نظام “الإنقاذ” وهو جل أرض السودان الجغرافية منقسم على نفسه وحكومته تعامل غالبية شعبه كدولة إحتلال وتصرف أكثر مواردها المالية على أجهزة إدارية وأمنية لجلد الشعب وتركيعه.

ثالثا: الإقتصاد الوطني السوداني مندفع نحو الهاوية فالمحاصيل النقدية في أسوأ أحوالها إنتاجا ماعدا السمسم، والمحاصيل الغذائية دون حاجة البلاد الإستهلاكية، والصناعة في حالة ركود ففي العاصمة الوطنية3100 مصنعا تعمل منها 230 بمتوسط 12% إنتاجية. وإذا إتخذنا قيمة العملة الوطنية مقياسا لسرعة التدهور نجد أن الدولار الأمريكي أخذ ستة أعوام من يونيو 89 إلى يونيو 95 ليصبح 500 جنيه. وأخذ ستة أشهر من يونيو 95 إلى ديسمبر 95 ليصبح 1000 جنيه، وهو في أسابيع يتجه ليكون 1500 جنيه.

رابعا: القوات السودانية المسلحة تشكل بحق عظم الظهر للكيان الوطني السوداني، إنها اليوم تواجه موقفا مستحيلا إذ عليها أن تواجه ست جبهات في آن واحد. جبهة داخلية ضد شعبها، وجبهة ضد الجيش الشعبي، وأربعة جبهات ضد أربعة من جيراننا.

خامسا: لكي يحمل النظام شعب السودان على الإستكانة والاه بالحبس، والتعذيب، والمحاكمات الإيجازية، وتشريد العاملين. هذه الوقائع إنتشرت عن طريق المستطلعين والمحققين والصحافيين فأقنعت غالبية دول العالم حتى تلك التي لاتتصيد الأخطاء مثل السويد والنرويج وهولندا واليابان بأن النظام السوداني مهدر لحقوق الإنسان مما أدى لإدانته تكرارا امام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وأمام الجمعية العمومية.

سادسا: فتح النظام حدود السودان لكثير ممن أعلنوا الحرب على حكوماتهم بإسم الإسلام وأعطى النظام هؤلاء المحاربين منابر في السودان لإعلان برامجهم العنيفة ضد حكوماتهم.وأعطى النظام جوازات سفر سودانية للخارجين على حكوماتهم، واندفع الإعلام السوداني الرسمي في طريق أناشيد لاطاقة للسودان بتبعاتها مثل:” نحارب الأمريكان، وحسني الجبان، ونرفع الآذان في الفاتكان!. هذه السياسات أقنعت عددا من جيراننا وغيرهم من دول عدم الإنحياز بل الدول الكبرى المتصيدة لأخطاء نظام يعاديها بأن النظام السوداني يرعى الإرهاب.

سابعا: هذه السمعة السيئة وما دعمها من تصرفات للنظام بعد محاولة إغتيال الرئيس المصري في يونيو 1995 أدت إلى إدانة النظام السوداني في مجلس الأمن. إنها إدانة لها مابعدها فالبند 25 من ميثاق الأمم المتحدة يلزم الدول الأعضاء بتنفيذ قرارات مجلس الأمن. والبند 41 يحدد الإجراءات العقابية التي يمكن لمجلس الأمن أن يتخذها لإجبار العضو على تنفيذ قراراته.والبند 51 يسمح لعضو أو أعضاء هيئة الأمم بإتخاذ مايلزم من إجراءات للدفاع عن النفس ضد العدو المدان بإزعاج الأمن والسلام.

إن مجموع هذه العوامل السبعة قد أودى بالأمن القومي السوداني ووضع السودان في خطر مصيري لم يشهد مثله على طول تاريخه الحديث وأي إجراءات عقابية سوف تزيد الموقف الخطير أصلا خطورة إضافية. الدفاع عن الوجود السوداني وضرورات الأمن القومي السوداني تقتضيان توحيد الجبهة الداخلية في السودان، وإيقاف الإقتتال الحالي، وإحتواء الإنهيار الإقتصادي، وفك طوق العداء على السودان، هذا الآن واجب وطني. ولكنه لايمكن أن يتحقق في ظل كادر “الإنقاذ” الحالي وسياساتهم التي أوصلت البلاد إلى هذه الحافة ولاينتظر أن تغير الإنتخابات الحالية من هذا الموقف شيئا لأنها مرتبة لتؤدي لنتائج هي إمتداد من حيث الكادر والسياسات للنظام الحالي.

بعض الناس يشبه إنتخابات السودان الحالية بالإنتخابات التي أجريت في الجزائر أواخر العام الماضي. ولكن هناك فرق كبير فإنتخابات الجزائر على علاتها أجريت في ظل تنافس بين أحزاب حقيقية وصحافة حرة نسبيا وإن قاطعتها بعض القوى السياسية. إنتخابات السودان تقاطعها القوى السياسية السودانية كلها ماعدا الجبهة الإسلامية القومية وأنصار الإنقاذ. وهي إنتخابات أخلت بها العجلة، فمرشح النظام تقبل بيعة دينية على طول السودان وعرضه قبل أن ينتخب!. والأمر الدستوري الثالث عشر يقتضي أن تكون البيعة بعد أن ينتخب فكيف يكون التوفيق بين هذه البيعة والإنتخابات؟ إن البيعة إجراء إسلامي، تتم بين صاحبها وجمهور المسلمين، ويكون الله سبحانه وتعالى طرفاً فيها وشاهداً عليها..(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) وهي عقد بين صاحبها والمسلمين وعليه أن يؤدي واجبات معينة وعليهم أن يطيعوه لإقامة الدين . إن للبيعة فقهاً معيناً وهي ملزمة لطرفيها وموجبة للإلتزام بالشريعة ولايمكن أن يتعرض صاحبها لإنتخابات بعد عقدها. إذا كانت الإنتخابات وسيلة لإختيار صاحب البيعة فإن فإنها تقع بعد الإنتخابات لاقبلها، فكيف يطوف شخص البلاد على طولها وعرضها يبايع الناس ثم يعرض نفسه لإنتخابات متنافس عليها دون خلع البيعة ويقال أنه بعد إنتخابه يقبل البيعة؟ هذا تلاعب بمفهوم ديني يخرج به تماماً من فقه البيعة المعروف. لقد إجتمع مايزيد عن مليون شخص في الجزيرة أبا وهموا بمبايعتي فرفضت وقلت إذا كانت هنالك بيعة فإنها لاتكون إلا بعد إنتخاب الأنصار لإمامهم ثم تكون البيعة.

ومرشح النظام للرئاسة ضابط عامل بالقوات السودانية المسلحة ولم يقدم إستقالته قبل أن يرشح مما يتعارض مع قانون القوات المسلحة. هذه الثغرات الفقهية والقانونية في موقف مرشح النظام لرئاسة الجمهورية تدل على العجلة و”الكلفتة” وعلى غفلة مستشاريه القانونيين والفقهيين!!. لنفرض أنهم يعتبروننا نحن السودانيين جهلة يمكن أن يقدموا لنا هذه النصوص الفجة، فمابالهم يستخفون بالمفكرين والعلماء والفقهاء في العالم الإسلامي وهم يتابعون مايحدث بإسم الإسلام؟.. إذا كان السودانيون لايستطيعون أن يضحكوا على هذا العبث فإن غيرنا من المسلمين يضحكون حتى القهقهة.

إن السواد الأعظم من أهل السودان يقاطع هذه الإنتخابات ولايعترف بها ولابنتائجها بل قال قائلهم ضاحكا: جنازة فماذا يجديها الخضاب؟ وقال آخر ساخرا: ” البلد غرقانة أحسن نختار بطل السباحة لإنقاذها.”

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

إن جيلنا هذا مواجه بتحد رهيب أن يجد سبيلا للخلاص أو يستسلم للتهلكة. لقد نصحنا كثيرا دون جدوى بل كان نصيبنا عقب كل نصيحة أثبتت الأيام صوابها المساءلة، والمحاسبة، والإهانة، والحبس. لقد تعرضت للإعتقال والحبس والإستجواب المطول عشرة مرات في ظل هذا النظام. وركز النظام على الإساءة إلي بما لم يقله مالك في الخمر واهتم بغسيل أدمغة شبابه وعسكرييه بإعتباري العدو الأول للإسلام والسودان. ربما أفلح النظام في شحن بعض النفوس ضدنا ولكنه حتى الآن لم يفلح بالرغم كل تجاوزاته وإهاناته في شحن نفسي بالغيظ والحنق بحيث أريد أن أشرب دمهم لأروي غيظي.

أقول لم يفلحوا في جعلي أتقمص روح الإنتقام ولازلت أقول حكمة الإمام المهدي الخالدة:”الفشه غبينته خرب مدينته”. هذه الروح الخالية من الحقد دفعتهم ليقولوا لنا تعالوا إنضموا إلينا وقد إنضممتم قبل ذلك لنميري عندما صالحكم بعد أن قتلكم وسفك دماءكم. نقول هنالك فرق كبير بين الموقفين ألخصه في لآتي:

  • نميري لم يكن جزءا من النظام الدستوري والقانوني الذي إنقلب عليه، اللهم إلا بصفته المهنية. ولكن كنتم أنتم جزءاً أصيلاً من النظام الدستوري والسياسي والقانوني القائم في عام 1989 وتنكرتم له.
  • ب – عندما صالحنا نميري لم نصالحه للإنخراط في نظامه بل للتحول ديمقراطياً حسبما إتفقنا عليه في بورتسودان، وعندما تأكد لنا أنه لم يكن صادقاً نفضنا يدنا منه.
  • ج- صحيح أن نميري أذانا أذىً بالغاً وظلمنا وغيرنا ظلماً فادحاً ولكننا رفعنا عليه السلاح ولم نرفع عليكم السلاح. ورغم أننا لم نرفع السلاح في وجهكم، أنتم تعلمون أننا نستطيع أن نواجه الشر الواحد بشرين، ومازلنا نمسك عن ذلك مراعاة لمخاطر نعلمها. هذا لم يجعلكم تحترمون موقفنا بل تستخفون به. ربما تعتقدون أننا عاجزون أو خائفون، هذا تقدير خاطئ لموقفنا. نحن عدلنا عن العنف لمصلحة عليا نراها لا عن عجز أو خوف.
  • د- نميري مارس عنفه وهو ينتمي لفلسفات وضعية فيها الغاية تبرر الوسيلة، وأنتم نسبتم موقفكم للإسلام حيث العدالة والرحمة حتى لمن لم يكن عادلاً نحوك. إذا قسنا أعمالكم بمقياس الإسلام وجدناها جائرة جداً.
  • هـ – وهب أننا فرطنا في تعاملنا مع نميري وأخطأنا لأننا صالحناه فهل هذا مبرر لنقع في نفس الخطأ مرة أخرى؟ والنبي (ص) يقول :”لايلدغ المؤمن من جحر مرتين”!.

إنني وغالبية أهل السودان حتى ضحايا بيوت الأشباح نفضل حلا لادمويا، ونفضله أن ينبع من داخل البلاد. وفي سبيل ذلك فإنني أدلي الآن برأي أخير أسكت بعده تماما لأن صخب الصدام المتصاعد المتوقع سوف يغرق أصوات الحادبين.

أرى أن درء الخطر عن الوطن يوجب إعلان جميع من يهمهم الأمر الإلتزام بالديمقراطية أساسا لحكم البلاد وبالسلام العادل بديلا للحرب الأهلية. وتقوم حكومة قومية تحكم البلاد عبر فترة إنتقال تعقد أثناءها مؤتمرا دستوريا له مهمتان هما: عقد إتفاقية سلام عادل وتحديد شكل النظام الديمقراطي الملائم لظروف السودان. وتشرف الحكومة القومية على تنفيذ إتفاقية السلام وعلى إجراء الإنتخابات العامة الحرة في ظل النظام الديمقراطي المتفق عليه…. هذا وحده هو عصا موسى التي تلقف مايأفكون.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

لايفوتني وأنا أرسم هذه الصورة الواقعية المحزنة أن أشير إلى حدثين هامين في الوسط الإسلامي. الأول هو الإنتخابات التركية الأخيرة التي نال فيها حزب الرفاه أكثرية الأصوات،  لأنها تدل على تحرك هذا البلد الهام نحو وفاق أكثر توازنا من المبالغات الكمالية للتوفيق بين الأصل والعصر. إننا نأمل أن يكون هذا مدخلاً لبرنامج يوفق بين مطالب الأصل والعصر في وفاق مستنير يتجنب أصوليات كمال أتاترك العلمانية وانكفاءات بعض الإسلاميين مما يشكل توفيقاً أكثر إعتدالاً لمطالب الأصل والعصر. وهي أيضا تدل لمن كان مهتماً بحركة الصحوة الإسلامية أن فرص التوجه الإسلامي تزيد مع الحرية والديمقراطية. والحدث الثاني هو إتفاق دالتون للسلام في البوسنة وهو إتفاق يساعد على تأمين مصير المسلمين في ذلك الجزء من أوربا ويساهم في دفع الحوار الإسلامي الغربي في إتجاه إيجابي.

إذا إستطاع السودان أن يخرج نفسه دون إراقة دماء من النفق المسدود الذي حشر فيه فإنه سيشكل قدوة مطلوبة في الحل السلمي للنزاعات المصيرية، ويساهم مساهمة كبيرة في جدليات الأصل والعصر، ويقوم بدور إيجابي محمود في حوار الأديان، والعلاقات العربية الأفريقية، والحوار الإسلامي الغربي. هذه هي جوائز النجاح إذا أفلحنا وإلا فالطوفان.

أقول قولي هذا وأسأل الله للسودان وأهله اللطف والرعاية والعناية والرحمة، والسلام عليكم مع أطيب التهاني بالعيد أعاده الله علينا جميعا باليمن والبركات. آمين.

 

[1] سورة المؤمنون الآية (14)

[2]  سورة التين الآية (4)

[3] سورة الإسراء الآية (85)

[4] سورة البقرة الآية (143)