خطبة عيد الفطــر أول شوال 1415هـ الموافق 2 مارس 1995

 

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة عيد الفطــر

أول شوال 1415هـ  الموافق 2 مارس 1995

 

الخطبة الأولى

 

( وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا )[1]

الله أكبر  الله أكبر  الله أكبر ولله الحمد

اللهم صل على نبينا محمد صلاةً تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميع الحاجات، وتطهرنا بها من جميع السيئات، وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات.

وبعد

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

لقد انطوى رمضان شهر التوبة والغفران (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[2]

فمن صامه إيماناً واحتساباً والتزم بأحكامه الظاهرية من إمساك عن شهوتي البطن والفرج من الفجر إلى المغرب، والتزم بواجباته الروحية من البر والتقوى وفعل الخيرات فقد فاز بوعد المصطفى صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[3].

إن بني آدم خطاؤون، ولايخلو صائم من هفوات تجرح صيامه لذلك سنت صدقة الفطر كفارة تمحو آثار تلك الزلات، وتعين على سد حاجة الفقراء والمساكين. صدقة الفطر مقدارها صاع من القوت يخرجه الصائم عن نفسه وعن من تلزمه نفقته ذكراً كان أو أنثى .. هذه المقادير من صدقة الفطر يمكن إخراجها عينياً أو نقدياً وهي بأسعار اليوم تساوي  200 جنيهاً عن كل فرد، تؤدى قبل صلاة العيد لكي ينتفع بها المحتاجون ليوم العيد.

العيد هو احتفال بأداء فريضة الصيام على أحسن وجه، قال النبي صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)[4]. والعيد مناسبة لتجديد العلاقات الاجتماعية يتعافى الناس فيها ويتصافون ويتزاورون ويتبادلون التهاني…والعيد مناسبة يحتشد فيها المسلمون في فلاة يشحذون همتهم الفردية ويؤكدون عزيمتهم الجماعية، ويعبرون عن قوة وتماسك أهل القبلة ..إنه حشد ينبغي ألا يتخلف عنه أحد. روي البخاري عن أم عطية أنها قالت: (لِتَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ)[5].

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشريعة عدل كلها ونفع كلها، وكل شئ خرج من العدل للظلم أو من المصلحة لضدها ليس من الشريعة في شئ. إن جميع أحكام الشريعة الإسلامية كما يقول علماء الأصول موظفة لتحقيق مصالح الناس في خمسة مجالات هي: حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل. قال النبي صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس).

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز.

إن الإخوة الذين قاموا بالاستيلاء على السلطة في آخر يونيو عام 1989م أعلنوا لنا جميعاً أنهم وجدوا أحوال البلاد في تدهور في أربع مجالات أساسية: في تردي المعيشة، وفي عدم تحقيق السلام، وفي عزلة السودان الخارجية، وفي عدم دعم القوات المسلحة بالقدر الكافي.

قياساً على حجتهم فإن حال البلاد في هذه المجالات الأربع أسوأ أضعافاً مضاعفة مما كان عليه الحال الذي أثارهم:

رب يوم بكيت منه فلما         صرت في غيره بكيت عليه!!

لقد بلغت مشاكل بلادنا اليوم حالة من التأزم تضع السودان في خطر أن يكون أو لايكون:

أولاً: الاقتصاد الوطني يندفع مسرعاً نحو الهاوية.

ثانياً: الحرب الأهلية تزداد عمقاً وتتسع جبهاتها ولايلوح أمل حسمها عسكرياً أوسلمياً.

ثالثاً: العلاقات مع جيران السودان تحولت إلى عداءٍ سافر.

رابعاً: علاقات البلاد الدولية مندفعة نحو إدانات ومواجهات.

ماذا نحن فاعلون لحماية الوطن من هذه المخاطر المحيطة به إحاطة السوار بالمعصم؟ هنالك ثوابت لايختلف عليها أغلبية أهل السودان، هي:

أولاً- الأغلبية المسلمة ملتزمة بإسلامها وإن اختلفت اجتهاداتها.

ثانياً- كل المجموعات الوطنية حريصة على إستقلال البلاد وحمايته.

ثالثاً- أغلبية أهل السودان حريصة على وحدتها وحماية ترابها الوطني.

هذه الثوابت لايوجد خلاف يذكر حولها، ولكن الخلاف الحقيقي الآن حول أمرين، هما:

الأول: كيف يحكم السودان ؟

الثاني: كيف يحقق السلام ؟

إن أغلبية أهل السودان صاحبة الشأن في أمرها ترى أن يحكم السودان ديمقراطياً بحيث تصان حقوق الإنسان وتكفل الحريات الأساسية : حرية التعبير، والنشر، والتنقل، والتنظيم. وفي هذا المجال فلا خطر من الديمقراطية على التوجه الإسلامي لأن التوجه الإسلامي هو تطلع الأغلبية وهي كفيلة بحمايته.

هل هناك شك في أن الديمقراطية هي مطلب أغلبية أهل السودان؟ عندما ورد هذا الشك في بلدانٍ أخرى فإن السلطات المعنية أجرت استفتاءاً حراً كانت نتيجته أغلبية ساحقة لصالح الديمقراطية: حدث هذا في غانا، وفي ملاوي، وغيرهما….صحيح أن الديمقراطية في ظروف الجهل والتخلف التي نعاني منها تحتاج لضوابط تحول دون العجز والانحراف، ولكن مهما كانت علة الديمقراطية فإنها أفضل أضعافاً مضاعفة من نظم الاستبداد.الديمقراطية هي النظام الذي يليق بكرامة الإنسان وفي العصر الحديث فإن الديمقراطية هي التي سمحت لكل تيارات الإصلاح والنهضة بالنمو والإنتشار..لاسيما تيارات الصحوة الإسلامية ..إننا في هذا المجال نستطيع أن نقول إن نمو التيار الإسلامي وتقدمه كان في كل مكان معتمداً على درجة ما أتيح له من نشاط في ظل الديمقراطية.

حماة الاستبداد قالوا إن الديكتاتورية ضرورية لتحقيق الانضباط المطلوب لتحقيق التنمية الاقتصادية. لقد قُمت بدراسة نشرتها قارنت فيها بين الأداء الاقتصادي لسنوات الديمقراطية الثالثة ولسنوات ” الإنقاذ ” فكان واضحاً من تلك الدراسة تفوق الأداء الاقتصادي في العهد الديمقراطي ..لو كانت الديكتاتورية تؤدي للتنمية لكانت البلدان الأفريقية أغنى أقطار العالم.!!

لقد نشرت دراسة عُمِلت في عام 1994م وتناولت جميع دول العالم فقسمتها إلى سبع درجات بحيث تكون الدولة في الدرجة الأولى هي الدولة التي تمارس الحريات السياسية والمدنية في أقوى صورها. أثبتت الدراسة أن انتقال أي بلد درجة أعلى في الممارسة الديمقراطية تصحبه زيادة واحد في المائة في النمو الإقتصادي. السؤال: لماذا هذا الارتباط بين الديمقراطية والتنمية؟!.

توجد عدة إجابات أهمها هي:

السبب الأول: الديمقراطية تعني سيادة القانون، وتعني استقلال القضاء. هذا معناه أن المواطن يستطيع أن يطمئن على حقوقه وأمواله من المصادرات التعسفية والتحولات الجزافية في اللوائح والنظم ..هذه الحقيقة تخلق الثقة في الاقتصاد الوطني.

السبب الثاني: الديمقراطية تعني خضوع القيادة السياسية لرقابة ومحاسبة غائبة في حالة الدكتاتورية مما يفتح باب الصرف المبالغ فيه بأولويات خاطئة.

السبب الثالث: التصرفات المالية في ظل الديمقراطية تكون دائماً تحت المجهر. ولكنها في ظل الدكتاتورية خفية مما يفتح الباب واسعاً للتجاوزات الفردية: ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[6]

الموضوع الثاني الذي عليه اختلاف هو: كيفية تحقيق السلام؟

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

        إن حزمة من السياسات الخاطئة في البلاد خلقت ظرفاً جديداً جعل قطاعات عريضة من أهلنا في الجنوب يلتفون حول مطلب تقرير المصير.لأول مرة في تاريخ السودان الحديث يلتف هذا الكم الهائل من أهل الجنوب حول هذا المطلب معبرين عن استنكار للسياسات الخاطئة التي واجهتهم.ولأول مرة يجد هذا المطلب تأييداً من دول جوارنا الأفريقي..ولأول مرة يجد هذا المطلب دعماً من جهات دولية ذات وزن! إن انفصال الجنوب ضار بشقي الوطن، وإذا حدث فإنه لن يوقف الحرب بل سيفتح الباب لأربعة أنواع من الحروب هي:

[] حروب قبلية بين سكان الجنوب أنفسهم.

[] حرب لإجبار الجنوبيين الموجودين في الشمال وهم كثيرون للعودة جنوباً.

[] حرب لمنع حركة قبائل خط التماس من النزوح جنوباً في موسم الصيف.

[] حرب حدودية بين الجنوب وجيرانه لتداخل القبائل والحدود.

…هذه المخاطر الحقيقية لا ينتظر أن تقنع القاعدة الجنوبية النافرة الآن، ولكنها ستبدو واضحة جداً عندما تزول أسباب التنفير.

إن العوامل الجديدة المذكورة تعني أنه لابد من اتخاذ قرار جديد لصالح الوحدة ..هذا القرار ممكن لأن حجة الوحدة قوية، ولأن مضرة الانفصال واضحة…ولكي يتحقق هذا القرار ينبغي أن يطمئن أهلنا في الجنوب على حقوقهم الدينية، والإنسانية، والمواطنية، كما تضمنتها المواثيق الدولية التي شارك السودان فيها ووقع عليها. هذا الاطمئنان كفيل بترجيح قرار الوحدة في ظل سودان واحد عادل. ولكن إذا كان أهلنا في الجنوب يريدون بأغلبية ساحقة في استفتاءٍ حرٍ مصيراً آخر فلا معنى لإقامة الوحدة على القهر.

الاستفتاء الحر في ظروف الاطمئنان على العدل والحقوق سوف ينتصر للوحدة ويسكت نهائياً صوت الانفصال ومن يقف وراءه. إن الظروف السياسية والدبلوماسية الحالية جعلت الاستفتاء الحر المشار إليه في الظروف المعافاة المذكورة هو الوسيلة الوحيدة لتدعيم وحدة البلاد وإيقاف الحرب الحالية.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

أمام الخطر الحقيقي الذي يتهدد بلادنا فإننا نستطيع بجهد سوداني ذاتي أن نحسم قضية الحكم، وقضية السلام، وأن نحافظ على الكيان الوطني. إن التأخير يوماً واحداً من هذا الفجر الساطع يفتح باباً لمزيدٍ من استقطاب القوى الوطنية ضد بعضها بعضاً، ولمزيدٍ من المواجهات، ولمزيدٍ من فرص التدخلات الأجنبية…هذا أو الطوفان…والله المستعان.

لقد حكمنا ولم نكتم فرص الرأي الآخر، واليوم نحن في خانة الحرمان نجهر بالرأي الآخر، ونحتمل في سبيل ذلك مشقات نتحملها بطلاقة أوجه وسرور فؤاد في سبيل الله والوطن. ولكن عقاب المجاهرين بالرأي الآخر والتنكيل بهم.لايجدي، فالمشاكل متجهمة بحجمها الكامل، وهي مشاكل موضوعية متزايدة يوماً بعد يوم ولايجدي معها إلا وعي كامل بها وبخطرها واستعداد تام لعلاجها من جذورها..كما يجدي معها التوفيق الإلهي: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)[7]   وقَالَتْ السيدة عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا (مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ)[8] . وقال الحكيم العربي:

مـن لم يقف عند انتهاء قدره تقاصرت عنه فسيحات الخطى

قال النبي صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا إن لربكم في دهركم نفحات فتعرضوا لها)

 

استغفروا الله

الخطبة الثانية

الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر

اللهم إني أحمدك وأثني لك الحمد ياجليل الذات وياعظيم الكرم، وأشكرك شكر عبدٍ معترف بتقصيره في طاعتك ياذا الإحسان والنعم، وأسألك اللهم بحمدك القديم أن تصلي وتسلم على نبيك الكريم وآله ذوي القلب السليم، وأن تعلي لنا في رضائك الهمم، وأن تغفر لنا جميع ما اقترفناه من الذنب واللمم.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

إن أمتنا الإسلامية اليوم في حال من السوء لو رأيناه في المنام فزعنا ..فهي في مؤخرة دول العالم من حيث تفرق الفكر والكلمة، ومن حيث تفشي الاستبداد في حكمها، وتعاني الفقر أكثر من غيرها، وتعاني من الظلم الاجتماعي بحيث تنعم قلة وتشقى الأغلبية، وتخضع أكثرها لهيمنة أجنبية ظاهرة ومستترة إنها حال تؤرق نوم كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

لي فيك ياليل آهات أرددها             أواه لو أجدت المحزون أواه !

كيف حل بنا هذا ونحن أمة الرسالة الخاتمة المستخلفة الممدوحة في كتاب الله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ)[9]. لقد تراكمت علينا ظروف معنوية ومادية داخلية وخارجية قذفت بنا في هذا المستنقع المقيت. من أسباب الانحطاط هزيمة نفسية وفكرية حلت بالخطاب الديني فجعلت الانحطاط حتماً محتوماً. روي عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه مانلقى من الحجاج، فقال أصبروا فإنه لايأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه….سمعته من نبيكم !. لقد تعددت قنوات هذا الخطاب المثبط للهمم مع أن أحاديث أخرى تروى عن النبي(ص) تعارض هذا المعنى. روى البخاري أن النبي (ص) قال: لايزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى يأتي أمر الله.

إن مقاصد الشريعة الإسلامية واضحة في أن هذه الأمة مستودع خير وبركة، وأنها موعودة بالنصر إذا أصلحت واهتدت: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ)[10]. إن الفكر المهدوي الذي قالت به بصورة أو أخرى كل مدارس الفكر الإسلامي منطلقة في ذلك من أحاديث رواها أصحاب السنن، إن هذا الفكر هو في جوهره رفض للتدني المحتوم، وتطلع للصلاح والفلاح والإصلاح الموعود.

لقد تعددت مقالات الإسلاميين حول المهدية في تسع مدارس، ثلاثة منها سنية، وثلاثة منها شيعية، واثنتان صوفيتان، وواحدة فلسفية.

الإمام محمد أحمد المهدي بن عبد الله في السودان أتى بمدرسة سنية رابعة..مدرسة لاتعبأ بالتوقيتات لأن الأمر بيد الله والله فعال لما يريد…مدرسة تجعل المهدية أمراً وظيفياً، قال:وإنما قصدنا منكم الجميع المعاونة في تقويم الدين القويم، وإني في هذا كواحد منكم، ولوددت لو قام به غيري وصرت من جملة أعوانه، فما كان إلا ما أراده الله من تحملي بإقامة الدين. وقال: أوصيكم وإياي بتقوى الله واتباع سنة رسول الله، واعلموا أن المهدية قائمة بهذين. كما فتح باب الحركة في الفقه والاجتهاد واسعاً بقوله: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

علماء الإسلام جزاهم الله خيراً حفظوا النصوص ودرسوها، ولكن كثيراً منهم انشغل بالدراسة عن إصلاح الواقع المحيط بهم. المفكرون الإسلاميون لاسيما في الأعوام الماضية، اهتدوا إلى فكر إسلامي نير مخلص لدينه ومدرك لعصره ومستنير، ولكن هؤلاء المفكرين لم يحظوا بالتأثير المناسب على حركة الجماهير.

لقد قام أهل التصوف بعمل شعائري وتربوي وتهذيب روحي كبير، ولكنهم في الغالب تحاشوا الفاعلية الاجتماعية. أما الحركيون الإسلاميون فإنهم استطاعوا أن يخرجوا بالشعار الإسلامي للشارع السياسي، واستطاعوا أن يتخذوا من الشعار الإسلامي وسيلة قوية وفاعلة للتعبئة….تعبئة بلغت درجة كبيرة من الفاعلية، ولكنها أظهرت فقراً واضحاً في بيان البرنامج الإسلامي والاهتداء بالتعاليم الإسلامية وتقديم الحلول لقضايا الساعة. لذلك وقع كثير من الحركيين في محظور الاستيلاء على السلطة باسم الإسلام والإخفاق في حل المشاكل الملحة واللجوء إلى أساليب النظم القهرية الوضعية للمحافظة على السلطة.

حركيون آخرون لم يستولوا على السلطة ولكنهم رفعوا الشعار الإسلامي للتعبير عن احتجاج في مجتمعات ضاقوا بها ذرعاً..وفي هذا الصدد ظهر غياب للمنهجية، وأدى الفعل ورد الفعل إلى تحول كثير من هذه الحركات إلى حركات عنف تلجأ لأساليب حركات الاحتجاج الوضعية من قتل وتفجير عشوائي لايرضاه الإسلام الذي تلح أحكامه على تهذيب سلوك المسلم حتى في ممارسة القتال (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا)[11]

هذه الأخطاء الجسيمة أتاحت فرصة لأعداء الإسلام للنيل منه قائلين إنه ضد السمو الروحي والخلقي وضد الحضارة، لأنه إذا حكم فحكمه الاستبداد، وإذا عارض فمعارضته الإرهاب …والغريب أن بعض المسلمين يؤيدون أطروحة الأعداء هذه مستشهدين بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[12] ومعنى الآية هو أن القوة العسكرية تردع العدو مما يحقق هيبة المسلمين ويمنع الخصوم من الاعتداء عليهم..هذا عمل ظاهري وواضح نتيجته: ردع العدو دون حاجة لقتال..هذا المعنى يتعارض تماماً مع الاغتيالات والتفجيرات التي تعد بوسائل سرية وإن أخافت العدو فعن طريق التدمير وسفك الدماء لاعن طريق الردع. إن الاستشهاد بالآية في غير مكانه، ومعناها على طرفي نقيض مع أساليب الجيش الجمهوري الآيرلندي والكوكبة الحمراء اليابانية وغيرهما من حركات الاحتجاج الإرهابية. والدليل على هذا التفسير للآية المذكورة من سورة الأنفال أن الآية التالية لها مباشرة تقول: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[13]

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

إن أمتنا في كل موقع ومكان مطالبة بوقفة أساسية مع الذات لمراجعة المواقف الماضية والالتفاف حول مبادئ محددة والاستجابة لنداء الواجب:

أولاً: ينبغي أن نلتزم جميعاً بنهجٍ محدد للتعامل مع الوافد من الماضي بحيث نلزم أنفسنا بالقطعي وروداً والقطعي دلالةً من نصوص الكتاب والسنة ..أما ما عدا تلك القطعيات فأمور اجتهادية لاتشكل أساساً للتكفير ولا للخصومات.

هذا ينطبق على الخلاف حول أحداث التاريخ والمدارس المترتبة على تلك الأحداث. فالمطلوب اتفاق حول مايجمع بيننا من كتاب واحد ورسول واحد واعتبار أن ماحدث في الماضي يقع ضمن قوله تعالى(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[14] كذلك نلتزم في استصحاب الوافد من الخارج ومن فكر ونظم العصر الحديث بنهج محدد يوجب استصحاب النافع وطرح الضار بمقياس مقاصد الإسلام.

ثانياً: أن تكون الشورى هي أساس الشرعية للحكم وأن تكون الديمقراطية بضوابطها المعروفة هي وسيلة ممارسة الشورى في هذا العصر. على أن يضع المعنيون بالأمر برامج متدرجة لتحقيق ذلك مثل اتخاذ الملكية الدستورية مكان الملكية المطلقة.

ثالثاً- الالتزام بتحقيق أعلى درجات التنمية الاقتصادية.

رابعاً- الالتزام بالعدالة الاجتماعية في توزيع العائد الاقتصادي.

خامساً- أن تقوم العلاقات مع الآخر الملي على التسامح والتعايش السلمي والتنافس الخالي من إكراه.

سادساً- أن تقوم العلاقات مع الآخر الدولي على السلام العادل والتعاون في سبيل المصالح المشتركة. فلاعدوان إلا على الظالمين، ولاتبعية.

سابعاً- أن تلتزم الدعوة للإسلام بالنهج الشرعي: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )[15] وأن تتجنب تماماً المغامرات الانقلابية والاحتجاجات الارهابية.

إن هذا النداء يستوجب الاستعداد وشحذ الهمم للعطاء والأداء ونفي الاستسلام والتواكل:

تطلبنــي أم حبين جمــلا      يمشي الهوينا ويكون الأولا!

…هذا مستحيل !: ( ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[16].

أحبابي في الله واخواني في الوطن العزيز

لنضرع معاً….. اللهم ياجليلاً ليس في الكون قهر لغيره، وياكريماً ليس في الكون يد لسواه، ولاإله إلا إياه..خذ بيد السودان وأقل عثرات العرب وأنجد أفريقيا وأهلها أجمعين..ووفق أمة الإسلام للخروج من كبوتها ..وأعد العيد على أهل بلادنا وهم قد تجاوزوا النفق المظلم بسلام يدهشهم ويدهش العالم من حولهم.

أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز

اعفوا عني فإني عافٍ عنكم، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 

[1]   سورة الإسراء الآية 111

[2]   سورة البقرة الآية 185

[3]  رواه مسلم – موسوعة الحديث حديث رقم 37.

[4]  رواه مسلم- موسوعة الحديث  حديث رقم 1771.

[5]  متفق عليه- موسوعة الحديث حديث رقم 387.

[6]  سورة العلق الآيتان 6، 7

[7]  سورة الليل الآيات 5-7.

[8]  رواه البخاري- موسوعة الحديث حديث رقم 6288.

[9]  سورة آل عمران الآية 110.

[10]  سورة الأنبياء الآية 105.

[11]  المائدة الآية 8.

[12]  سورة الأنفال الآية 60.

[13]  سورة الأنفال الآية 61.

[14]   سورة البقرة الآية 141.

[15]  سورة النحل الآية 125.

[16]  سورة العنكبوت الآيات 1-2.