السودان: معضلة ونقائص نيفاشا

بسم الله الرحمن الرحيم

السودان: معضلة ونقائص نيفاشا

28 أغسطس 2005م

 

ضحكت باكيا عندما قرأت في الصحف السودانية لمسؤول قوله إن مسألة أيلولة وزارة الطاقة لأي من طرفي الحكم ربما أحيلت للإيقاد لحلها!.. مأساة تتكرر كل يوم الدلائل عليها في شكل ملهاة: تراجع الجهد السوداني في حل أزمات الوطن وتمدد الجهد الدولي!!

شهد إقليم دارفور أخيرا تحسنا نسبيا في أحوال الأمن والإغاثة بفضل الجهد الإقليمي والدولي. ربما شجع هذا التحسن والاختلافات بين أطراف المقاومة المسلحة النظام ليراهن على تراجع أهمية قضية دارفور وينغمس في مشغوليات تطبيق اتفاقية السلام فحسب. هذا رهان خاسر.. إن المصلحة الوطنية توجب اهتماما جادا بملف دارفور وطرح آراء واضحة وحاسمة للحل.

في أبوجا (بنيجيريا) وبتاريخ 5/7/2005 وقعت حكومة السودان مع الفصيلين المسلحين الأهم في دارفور: (حركتا جيش تحرير السودان والعدل والمساواة)، وبرعاية الاتحاد الافريقي، على إعلان للمبادئ لحل النزاع في دارفور، وتم تأجيل الاتفاق على التفاصيل إلى جولة قادمة. أهم ما في تلك الخطوة الاعتراف الرسمي السوداني والدولي بالمقاومة المسلحة في دارفور. هذه المقاومة وردة فعل النظام ضدها بالصورة التي حدثت كلفت أهلنا في دارفور ثمناً باهظاً: مائة ألف قتيل وأكثر من مليوني مشرد يتزايدون باطراد، وما شاء الله من إتلاف للأموال وفساد في الحرث والنسل والثمرات، ثم حدثت كارثة السيول الأخيرة التي تضررت منها أجزاء في الإقليم أضرارا بالغة.

مظالم دارفور التي أججت هذه الحرب كثيرة، وقد كنا في حزب الأمة معترفين بضرورة المشاركة العادلة للإقليم وكان كثير من صناع الرأي العام السوداني يأخذون علينا ذلك ويعتبرونه جهوية وانفصالية، وقد شهد «الكتاب الأسود» المنشور تأجيجا بمظالم الإقليم لفترة الديمقراطية الثالثة، والتي كان لحزب الأمة دور هام في تشكيل وزاراتها، بالتفرد في إعطاء الإقليم حجما وزاريا عادلا. أما الآن فإن مظالم التهميش في الإقليم اتخذت بالقدوة ـ فيما حدث بالجنوب ـ حمل السلاح مطية لتحقيق الإنصاف.. وكان التفاوض منصبا على مطالب شبيهة.

هنالك جهات كثيرة ترعى اتفاق دارفور: الاتحاد الأفريقي والأسرة الدولية حريصون عليه:

أولا: لمواصلة تطبيق اتفاق نيفاشا دون عرقلة من حرب دارفور.

ثانياً: لأن كثيرا من مساعدات الدول للسودان والتي تم بحثها في مؤتمر المانحين بأوسلو في أبريل الماضي، ربطت بتسوية مسألة دارفور، وعلى رأسها أميركا التي أوقفت دعمها لبناء السلام في السودان ـ بحوالي بليوني دولار ـ على ذلك.

هؤلاء الأجانب، مع افتراض حسن النية، لا يعرفون الواقع السوداني جيدا، ولا يدركون أن نجاح اتفاقية نيفاشا رهين بتجاوز افتراضاتها الخاطئة بأن نظام الإنقاذ والحركة الشعبية يمثلان كل الشمال والجنوب، وأن المشاكل في السودان شمالية جنوبية فقط، فالذين غيبتهم نيفاشا مهمون للغاية سواء في الشمال أو الجنوب، وهنالك خلافات شمالية/ شمالية وأخرى جنوبية/ جنوبية، لا بد من بحثها في ملتقى جامع يحشد الجميع حول أسس السلام ويشركهم في بنائه. والمشكلة الأخرى التي تواجه اتفاقية نيفاشا هي أن طرفي التفاوض ضحيا بالوحدة الوطنية وبحل القضايا المصيرية من أجل التمكين الثنائي، ولا شك عندي أن «السكرة» الحالية سوف تزول وتأتي «الفكرة».. عندئذ سوف يسمعون الحقيقة ويستجيبون لها. هذه المشاكل يضاف لها الآن رحيل الدكتور جون قرنق الذي وقف على الاتفاق شبه منفرد من الجانب الجنوبي، فزملاؤه كانوا أقل اشتراكا في المفاوضات.

وعموما، فإن إعلان المبادئ المذكور خطوة هامة، ويحتوي على أسس ضرورية للحل، ولكن أية اتفاقية لا تحقق المطالب الآتية تعني تهدئة وقتية وتفتح بابا أكبر لإراقة الدماء في المستقبل:

أولا: النص الواضح على أن نصيب الإقليم في السلطة والثروة يكون بنسبة الكثافة السكانية التي تقاس حالياً بآخر تعداد، وتضبط بالتعداد القادم المنصوص عليه في اتفاقيات نيفاشا. كفل هذا في بروتوكول قسمة السلطة للجنوب فقط، بينما المظالم تنتظم جهات السودان كلها، والعدالة تتطلب أن يكون الإنصاف ـ على أساس موضوعي ـ معمما على الجميع.

ثانيا: هناك عشرة بنود حققتها الاتفاقية الحالية بمشاركة الجنوب العادلة: الرئاسة، الوزارة، التشريع، الخدمة النظامية، الخدمة المدنية، القضاء، المفوضيات المستقلة، الثروة، لجنة الانتخابات، ولجنة التعداد. ينبغي خصخصة مشاركة عادلة للأقاليم فيها جميعاً.

ثالثاً: مفهوم الثروة في اتفاقية نيفاشا ناقص وسطحي لاقتصاره على بترول الجنوب وعائد الجمارك وحدهما: ماذا عن بترول الشمال والموارد الأخرى؟ ينبغي تقديم دراسة وافية بالثروة والمطالبة بنصيب عادل فيها للجميع. إن سد هذه الهفوات ينبغي تأسيسه على تحضيرات تختتم قبل بدء جولة المفاوضات القادمة.

رابعاً: الاتفاق على عقد ملتقى دارفوري جامع ممثل لكل القوى المعنية السياسية، المدنية، القبلية، والنخبة المثقفة في دارفور، وبمراقبة دولية لكي يدرس مشروع الاتفاق ويجيز ما يراه، لأن أي تغييب لعناصر هامة سوف يعيد إنتاج عيوب نيفاشا التي سوف تلاحقها وربما قضت عليها.

خامساً: إن قيمة تسليم نظام الإنقاذ بالحقوق الواردة في اتفاقيات السلام، حتى ولو صدق في بذلها، هي قيمة محدودة، لأنه آني وليس دائماً، بينما الحقوق المطلوبة ترجى ديمومتها عبر المصادقة عليها في ملتقى جامع لأهل السودان كافة.

سادساً: هناك أمور متفق عليها مثل كفالة حقوق الإنسان، وإجراء انتخابات عامة نزيهة.. وهي عرضة للتلاعب لذلك ينبغي الحرص على ضبطها بصورة لا تسمح بالتلاعب.

سابعا: ركزت اتفاقيات نيفاشا على إعطاء كينونة للجنوب، بينما دارفور، وكردفان، والشرق والشمال والإقليم الأوسط كلها تتطلع لكينونات خاصة بها، وهي الآن مقسمة إلى ولايات تابعة لحكومة شمال السودان الذائبة في الحكومة القومية. هناك حاجة لمراجعة حدود الأقاليم الحالية للعودة لحدود المديريات القديمة.

ثامناً: الحرص على أن ما يتفق عليه في أبوجا يراعي مطالب الأقاليم الأخرى كالشرق، ويضمن في الدستور.

إن نقائص نيفاشا ظاهرة وتجد معارضة حتى داخل طرفي الاتفاقية أنفسهما.. ولكن نيفاشا وما صحبتها من إجراءات تحقق واقعا جديدا، وفرصة يجب ألا تفوت لمولد جديد للسودان يأتي بالسلام الشامل والعادل وبالتحول الديمقراطي الحقيقي.. فإن تركت الساحة لطرفي التمكين الثنائي فسيكتبان على السودان عهدا ينفتح فيه صندوق «باندورا» من مشاكل وقنابل موقوتة تنفجر كل يوم منها قنبلة..

الرأي العام السوداني مطالب باتخاذ الملفات المفتوحة في دارفور وفي الشرق منافذ لإكمال نواقص اتفاقية السلام المنقوص في نيفاشا، مخاطبا طرفي الحكم الثنائي والحركات المسلحة والمجتمع الدولي، متخذا كافة وسائل الضغط الشعبي، والعمل المدني الذي تشترك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية والمنابر الإعلامية.. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن لربكم في دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها».