قضية أبيي (السودانية)

بسم الله الرحمن الرحيم

قضية أبيي (السودانية)

14 أغسطس 2005م

 

في كتابي  الصادر في مايو الماضي بعنوان “اتفاقيات السلام ومشروع الدستور 2005م في الميزان” قلت:” فجوة الثقة بين طرفي التفاوض كانت واسعة فهما يمثلان طرفي النقيض الفكري في السياسة السودانية. كان الحوار بينهما في الغالب عقيما. فجوة الثقة هذه أضرت  بالمصلحة الوطنية في أمرين : الأول هو أن وصول الحوار لطريق مسدود في كثير من القضايا أوجب تدخل الوسطاء برأي ثالث قبله الطرفان لكنه يحمل بذرة  تناقض داخله. هذه الحقيقة تركت حوالي عشرين بندا من بنود  الاتفاقية رمادي المعنى قابلا لأكثر من تفسير أما الثاني: فهو إيجاب دور كبير للأسرة الدولية في مراقبة ومتابعة وإنفاذ الاتفاقية”. قضية أبيي إحدى هذه البنود حمالة الأوجه.

اتسمت معالجة قضية أبيي بسلبيات دامغة بالتناقض، والتعسف، والتجاوز وعدم التوازن.

أولا:وقع الطرفان المفاوضان على برتوكول  أبيي في 26/ 5/ 2004م وخلاصته : أن الرئاسة  ” الرئيس ونائباه” سوف تعين مفوضية حدود أبيي لكي تحدد وترسم على الطبيعة عموديات الدينكا –القبيلة الكبيرة في جنوب السودان- التسع التي ضمت لمديرية كردفان “الشمالية” بعد أن كانت تابعة لمديرية بحر الغزال ” الجنوبية” في عام 1905م وجاء في البروتوكول أن المفوضية سوف تشمل -ضمن آخرين- ممثلين لأهل المنطقة والإدارة المحلية وخبراء. ثم وقع الطرفان على ملحق لهذا البرتوكول في 17/12/2004م متناقض في بعض تفاصيله مع البرتوكول وخلاصته: أن المفوضية سوف تتكون من 5 أعضاء تعينهم  الحكومة السودانية و5 أعضاء تعينهم الحركة الشعبية و5 أعضاء خبراء ممثلين لأمريكا وبريطانيا و3 من دول الإيقاد. على أن يفوض الأمر للخبراء الخمسة إذا عجز الطرفان عن  الوصول لاتفاق. التناقض هنا في ثلاثة أمور: التخلي عن مشاركة أهل المنطقة وإدارتها الأهلية والاكتفاء بتعيينات حزبي التفاوض ـ التخلي عن تفويض الأمر للمفوضية ليقرره الخبراء إذا عجز الحزبان عن الوصول لاتفاق ـ وأخيرا فإن البرتوكول أمهل المفوضية عامين بينما الملحق أوجب حسم الأمر في شهرين.

ثانيا: الصفة التي اختير بموجبها الخبراء الخمسة هى أنهم محايدون بين الحكومة والحركة. إنه حياد مزعوم فالولايات المتحدة تعتبر النظام السوداني مجرم حرب وما برحت  مؤسساتها الدستورية تمطره بوابل الإدانات  والولايات المتحدة هى التي أدانته بالإبادة الجماعية في دارفور مما أوجب التحقيق الدولي ثم القرار رقم 1593. والكنغرس الأمريكي هو الذي أصدر قانون سلام السودان التجريمي في نوفمبر2002واستمر يجدده سنويا ويؤيده الرئيس الأمريكي. وأصدر بعد ذلك قانون السلام الشامل في  السودان في أكتوبر 2004.

أما وسطاء الإيقاد فقد ظهر عدم حيادهم بين الطرفين في مشروع ناكورو، الذي قدمه باسمهم الجنرال سيمبويو في 6/ 8/ 2003، والذي قبلته الحركة الشعبية أساسا للتفاوض ورفضه النظام السوداني. نعم إن التحكيم ينبغي أن يوكل لمحايدين ولكن افتراض الحياد في هذه الحالة محض تعسف.

ثالثا: الخبراء الأجانب تجاوزوا صلاحياتهم بصورة منكرة، وبيان ذلك:

أ. كان المطلوب منهم أن يرسموا حدود عموديات الدينكا التسع التي ضمت لكردفان عام 1905م. قالوا إنهم لم يعثروا على وثائق حاسمة لتحديد موقعها ولم يقفوا عند هذا الاستنتاج بل تجاوزوا مهمتهم لتناول قضايا أخرى.

ب. قالوا إن المسيرية ” القبيلة العربية الشمالية التي تسكن جنوب غرب كردفان” قبيلة مترحلة ولا يمكن ضبط حدود ديارها. إذا صح هذا المقياس فلا ديار للقبائل البدوية في السودان.

ج. وحكموا على أن الإداريين البريطانيين في السودان كانوا واهمين لأنهم اعتبروا بحر العرب هو الحد الفاصل بين مديريتي كردفان وبحر الغزال. ولكن الحد في نظرهم يقع شمال بحر العرب في منطقة ” الرقبة الزرقاء” لذلك قرر الخبراء أن الحد يقع في مناطق شمال بحر العرب لم تكن أصلا محل نزاع مثل كليك، والهجليج، ونجاما.

رابعا: مثلما أن هناك عدم توازن في حياد الخبراء بين طرفي النزاع، فإن هناك عدم توازن في أهمية أبيي بالنسبة لطرفي التفاوض الذين تركت لهما القضية وتم إبعاد أهل المنطقة نهائيا عن شأن منطقتهم. بالنسبة للحركة الشعبية فإن عددا مؤثرا من قياداتها من منطقة أبيي مثل دينق ألور، وإدوارد لينو، وغيرهما. ولا يوجد في الجانب الحكومي قيادي من المسيرية من منطقة أبيي. كذلك، وبينما حقل هجليج من أكبر حقول إنتاج البترول، فإن من عيوب برتوكول تقاسم الثروة أنه وزع عائد بترول الجنوب  وسكت عن بترول الشمال. فإذا كان حقل هجليج شماليا سقط نصيب الحركة الشعبية فيه.!

لقد بح صوتنا ونحن نشير إلى أننا  مع قبولنا لوساطة الإيقاد وشركاء الإيقاد نعتقد أنها وساطة غير متوازنة. اقترحنا وسائل مختلفة لتحقيق ذلك التوازن لإشراك دول أخرى عربية وأفريقية وآسيوية تحقيقا للتوازن ولكن عدم التوازن لم يعالج.

لقد أعطى الخبراء تفويضا مطلقا، تفويض تجاوز به المفاوضون صلاحياتهم وتجاوز بموجبه الخبراء مهمتهم.

ينبغي أن يدرك طرفا التفاوض أن ما أعطياه من تفويض للخبراء وما أقدما عليه من تجاوز لأهل المنطقة ظلم. وأن قضية أبيي صارت مشحونة بعوامل تجعل حسمها الآن بالتراضي مستحيلا. لذلك.  عليهما:

أولا: صرف النظر عن فتوى الخبراء.

 ثانيا: ترك الأمر الواقع كما هو إلى أن تجري انتخابات حرة تأتي بالممثلين الحقيقيين للمنطقة. أهل المنطقة المنتخبون هم أولى ببحث خلافاتهم. فإن عجزوا عن الاتفاق فهم الذين يلجأون للتحكيم بواسطة هيئة محايدة بين طرفي النزاع في أبيي لا بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.

كل يوم تشرق فيه شمس جديدة يتضح أن ما اتفق عليه طرفا التفاوض ضروري ولكنه ليس كافيا. وملزم لهما دون سواهما. وأن السلام العادل الشامل لا يحققه إلا المؤتمر الدستوري أو الملتقى الجامع وهو وحده الذي يحسم قضايا الخلاف على حدود 1956م حسما قاطعا لأن هذه قضايا تهم أهل السودان لا حزبي التفاوض وحدهما.