ثم ماذا بعد في السودان؟

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم ماذا بعد في السودان؟

17 يوليو 2005م

الشهر الحالي مليء بأحداث جسام في السودان، منها مقدم د. جون قرنق بالجمعة 8/7 إيذانا ببدء الحكم الانتقالي في 9/7، واستقباله شعبيا بحشود كبيرة أكثرها جنوبية تقديرا لما حققه من مكاسب للجنوب، وبعضها شمالية تعبّر عن الأمل في التغيير ورفضها للواقع الماثل. فإذا حققت الحركة الشعبية هذه الآمال، فإنها سوف تحظى بشعبية واسعة. أما إذا تعاملت مع مكاسب الجنوب باعتبارها مكاسب حزبية لها وأغفلت الآخرين، وانخرطت في التمكين الثنائي، بدون تغيير يذكر في واقع الحال السوداني، فإن شعبيتها سوف تنكمش.

قبل ذلك قدمت المفوضية المعنية بالدستور نصها الدستوري الذي ينتظر أن تجيزه الجهات المعنية بالتصديق عليه دون أية تعديلات. لقد نشرت كتيبا عن هذا الدستور، وقدم آخرون دراسات حوله أظهرت خطل وصف مفوضيته بأنها قومية، بينما لم تضف لطرفي الاتفاق سوى أحزاب زخرفية، وخطأ وصفه لاتفاقية سلام نيفاشا بالسلام الشامل، لأن جبهات الاقتتال واحتمالات الاقتتال ما زالت قائمة.

هذا الدستور فيه بنود تقوم على تعسف تام، كما أنه أتى بتركيبة رئاسية هشة، وحقوق الإنسان فيه منقوصة بقيود على الحقوق الانتخابية، ومعرضة للتقويض بإعلان حالة الطوارئ من قبل الرئاسة والمجلس التشريعي المعين بواسطتها. وقد أعطى مساحة لتلاعب الحزبين بالانتخابات بتأخيرها عاما عما في الاتفاقية، وبافتقادها للرقابة الدولية. إنه يجعل السودان بنيويا محروما من استقرار الحكم، فهو يقفل الباب أمام الاستجابة لمطالب الأقاليم الأخرى المماثلة للمطالب الجنوبية، ويضيق المجال أمام المعارضة المدنية، ويغفل تحديد السياسة الخارجية بما يزيل التناقض بين تحالفات الحزبين المؤتلفين، ويأتي بقوات مسلحة حزبية، ويقيم النظام المصرفي على ترتيبات غير عملية تؤدي للاضطراب، ويقسم عائد البترول مفترضا أنه كله جنوبي، وينص على نظام للشرطة وإجراءات للانتقال الإداري محملة بالأخطاء.

لقد استفاد الطرفان المتفاوضان من غياب الآخرين وأبرما صفقة تكرس حكما ثنائيا، مهمشا القوى الأخرى في الشمال وفي الجنوب، ويحاولان استغلال زخم السلام والدعم الشعبي والدولي له، لإلحاق التمكين الثنائي بالسلام كأنه جزء لا يتجزأ منه.

إن الصفقة التي عقداها هشة للغاية، لأنها لن تمنع الحرب الباردة بينهما، مما سيجعل الحكم الائتلافي مضطربا للغاية. ولأنها ستستقطب ضدها القوى السياسية الرئيسية في البلاد.

الحزبان المؤتلفان الآن مشهوران بالأوتقراطية وبالفساد: جاء في تقرير بيت الحرية لعام 2005، أن في عالم اليوم، 49 دولة غير حرة، ثماني منها هي الأسوأ، منها السودان. ومنظمة الشفافية العالمية، وضعت ترتيب السودان في تقريرها لعام 2004 رقم (122) من مجموع 146 دولة.. هذه إدانات للمؤتمر الوطني وحكومته. أما بالنسبة للحركة الشعبية، ففي 29/1/2001، كتب ثلاثون من مبشري كمبوني العاملين في مناطق تديرها الحركة: «علينا أن نخرق الصمت، لقد صارت الحرب وسيلة للتسلط والانتفاع المالي والجشع». وكتبت المنظمات الإنسانية العالمية مذكرات تنتقد استبداد وفساد الحركة. وفي نوفمبر/ ديسمبر 2004، دعي لاجتماع قادة قيادات الجيش الشعبي في مدينة «رمبيك» لمناقشة شائعات تتعلق بخلافات بين د. جون قرنق، ونائبه سلفا كير. تحدث في هذا الاجتماع حوالي عشرين من القادة، داعمين لأقوال كير بأن قرنق يتعامل مع الحركة كأنها ملك خاص له منفردا ومستبدا، وأن الحركة معطونة في الفساد. وجاء في تقرير لهيئة وزير الخارجية الأمريكية الاستشارية الخاصة بأفريقيا في يناير 2004: «إن الحكومة السودانية والحركة الشعبية كلتيهما مجردة من أية تقاليد ديمقراطية. وقواتهما تعمل دون رادع أو مساءلة. وكلتيهما حورت المعونات الإنسانية لغير أغراضها. وكلتيهما تقهر الرأي الآخر».

هذان الطرفان سيسيطران على الشمال وعلى الجنوب في الفترة الانتقالية، وسوف تكون الأجهزة التنفيذية والتشريعية المركزية والولائية تحت إمرتهما، لذلك ينبغي أن توجد في البلاد خارج تلك الأجهزة فرصة للقوى السياسية لتقوم بواجب محاصرة الاستبداد والفساد.

مواقف القوى السياسية الأخرى تتجه نحو استقطاب جديد، فحزب الأمة، والقاعدة الأعرض للحزب الاتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي السوداني، والمؤتمر الشعبي، يقفون مواقف معارضة. حزبا دارفور يواصلان المقاومة المسلحة، برغم إعلان المبادئ الذي يعد خطوة في مشوار لم يكتمل بعد. حزبا شرق السودان يواصلان المقاومة. وبالجنوب قوى مسلحة تنتظمها قوة دفاع جنوب السودان، وهي وفصائل مسلحة أخرى تتجاوز ثلاثين فصيلا، كانوا متحالفين مع حكومة السودان، لكن اتفاقية السلام والدستور لم يضعا لهم آلية استيعاب عادلة، لذلك فإنهم يمثلون احتجاجا مسلحا ويطالبون أن يستوعبوا في المؤسسة العسكرية القادمة على نفس نمط الجيش الشعبي. وهنالك أحزاب مدنية وسياسية جنوبية نظمت نفسها كمنبر منافس للحركة الشعبية، وسمت تنظيمها منبر جنوب السودان الديمقراطي.

والنتيجة، هنالك عشرة أحزاب سياسية وفصائل أخرى تكون التحالف المدني المعارض الجديد، ومقاومة مسلحة هدفها تحقيق مكاسب مماثلة للحركة الشعبية.

وهنالك الرقيب الدولي. إن فجوة الثقة بين طرفي الاتفاق، جعلتهما يطلبان من الأمم المتحدة وجودا رقابيا تحت الفصل السادس ـ الطوعي ـ من الميثاق الدولي، لكن مجلس الأمن الذي وافق على الطلب، قرر أن يكون وجوده في السودان تحت طائلة الفصل السابع (القسري)، مما يجعلها حكما بين طرفي الاتفاق، وحكما بينها وبين الشعب الأعزل الذي قد تهدر حقوقه.

أمام هذه التطورات في السودان، توجد 3 سيناريوهات محتملة:

الأول: إدراك طرفي التفاوض أن الاتفاقية الثنائية هشة فيسعيان لمشاركة الآخرين في ملتقى جامع، مستخدمين آليات التعديل في الاتفاقية وفي الدستور لإجراء اللازم.. هذا أفضل سيناريو للوطن.

الثاني: تعامل الطرفين مع وثائق اتفاقهما بمرونة واستعدادهما للتعديلات استجابة لمطالب غرب السودان وشرقه، ولمطالب القوى السياسية المغيبة، مطالبين الجميع بالالتزام بلبنات السلام الأساسية: تقرير المصير، المشاركة العادلة في الثروة والسلطة، اللامركزية، ونبذ العنف والعصبيات الإقصائية، وحسن الجوار، على أن تكون بقية بنود وثائق اتفاقهما قابلة للمعارضة المدنية ومعرضة للتعديل أثناء الفترة الانتقالية بموافقتهما، وإن لم يوافقا فعبر العملية الانتخابية ووزن صناديق الاقتراع. هذا السيناريو يصحبه استعداد لمشاركة القوى المعارضة في المفوضيات العشر القومية لجعلها قومية بحق.

الثالث: السيناريو الظلامي وفيه يعتبر الطرفان أن وثائق اتفاقهما نصوص مقدسة غير قابلة لأية مراجعة، مؤسسين للإقصاء ولاستقطاب حاد يبرر الاقتتال في عدد من الجبهات، ويدفع كافة القوى السياسية المدنية في الشمال والجنوب لاستقطاب عدائي.

حتى إشعار آخر، فإن الخيار المطروح الآن هو الخيار الثاني، لكن هذا لن يحدث تلقائيا، فحزبا التمكين سوف يحاولان الإبقاء على مكاسبهما الحزبية، ما لم يواجها ضغطا شعبيا ودوليا فاعلا لقبول الخيار الأول أو الثاني.