عبد الحميد الفضل …بعض من السودان الحبيب في رحاب الله

الإمام الصادق المهدي في برنامج مصر في يوم
الحبيب الأمير عبدالحميد الفضل عليه رحمة الله
الحبيب الأمير عبدالحميد الفضل عليه رحمة الله

بقلم الحبيب د.عبد الرحمن الغالى

 رغم تقدم السن كان يوقد شعلة الحماس في أبنائه وأحبابه ويداري على ألسنتها عند من بدأت تخبو فيهم تلك الألسنة، ويستقدحها فيمن أدركه اليأس فخبت. ويضرب القدوة ويقدم النموذج الذي لم أشك لحظة أنه عمل قصدي هدفه الأول الإبقاء على تلك الجذوة .

 تلك كانت حالته كما بدت لي وأنا أتأمله مطيلاً التفكير فيه، حينما تتوالى رسائله وجرعاته اليومية عبر وسيلة التواصل الاجتماعي التلفونية ( الواتساب) فأتابع زمان إرسالها: الثالثة صباحاً والرابعة صباحاً والخامسة صباحاً وأحياناً السادسة صباحاً واتعجب كم ساعة ينام هذا الشيخ الشاب؟ ومن يكتب له تلك الرسائل اليومية الطويلة ويرسلها له في ذلك الهزيع من الليل أو تلك اللحظات من الفجر.

 وكنت أوقن أن ما يقوم به أفضل الأعمال فلا شك أنه رحمه الله كان يخلد إلى النوم ثم يقوم ليتعبد الله ما شاء له التعبد ثم يكتب رسائله تلك. فتلك هي ناشئة الليل : كما قالت عائشة: إنما القيام ناشئة إذا تقدمه نوم. وقد أتاح الله لي أن أصحبه في رحلة إلى كادوقلي وأقمنا بمنزل واحد فخبرت عبادته.

 كان الرجل مسكوناً بذكرى أولئك الرجال الذين أحبهم كل ذي قلب سليم وأنصفهم كل ذي وجدان سليم. كان يحفظ أسماءهم وأسماء صغار أمرائهم وأسماء شهدائهم وكان ينسبهم لقبائلهم كأنه يعيش بينهم، ومع كل هذا الولع بالماضي وسيرته كان رحمه الله ذا روح سهلة مرحة ودودة: جلسنا في ذكرى شهداء المولد وتكريم الامام الصديق العام المنصرم في دائرة خلف المسرح: مجموعة من الأحباب تنوعت مشاربهم واختلفت أعمارهم ولكن جمعت بينهم المحبة والفكرة، فجرت مداعبات ومناكفات ومرح لا سيما مع أصفيائه الصادق عثمان (الوكيل) ومحمد زكي وهاشم عكاشة وياسر جلال وعباس عوض الكريم وأخرين. لن يصدق أحد أن من يكتب بذلك العزم وتلك الهمة عن أولئك الأشاوس هو هذا الشخص الوديع الهين اللين الحليم.

 كانت له عقيدة أنصاري مقاتل وروح فنان مرهف ووعي سياسي حاضر يتابع الصحف يومياً ويعلق عليها في كبسولته رابطاً الماضي بالحاضر.

 وكان في آخر أيامه مستعداً لتلبية كل نداء: وما كان يفعل ذلك في ظني إلا ليستحث العزائم، فكان كلما سمع هيعة لبى مسرعاً: وقفات إحتجاجية أمام مباني جهاز الأمن مهما كان عدد حضورها ومهما كانت مخاطر التعرض لأولئك الأوباش الذين لا يرعون إلاً ولا ذمة ولا مسناً ولا مكانة. وندوات ولقاءات. أذكر ندوة قريبة لم يحسن القائمون على إعدادها تحضير المتحدثين فطلبوا منه الحديث فلم يتردد فسدّ الثغرة وتحدث عمن يحب بما أحبه السامعون ولم يلحظ أحد أنه كان يرتجل الحديث فكان مثجاً يسيل غرباً.

 كان رحمه الله يخف لاستقبال العائدين من قيادات الحزب ويتقدم المواكب حينما تدلهم الخطوب، وكان يشجع كل بادرة بماله وجهده ومطبعته.

كان رحمه الله إجتماعيا وكان باراً بأهله ووالديه فبنى ضريح والده الشاعر الأنصاري العظيم برومي البكري، ذلك الضريح الذي سيرقد هو نفسه بجواره راضياً مرضياً. وما تلك القباب إلا تماثيل معنوية قبل أن تكون مادية تخلد الفعل الجميل والسيرة الطيبة والقدوة الحسنة وليست كما يراها الماديون الجافون الجافّون المتفيهقون المتنطعون – ليست أوثاناً – فلم نعرف من أهل السودان من عبد القباب. وقد بناها أكبر الموحدين عليه السلام لشيخه القرشي ود الزين وبناها خليفته عليه السلام له بعد انتقاله وهو يعلم أنها رمز معنوي وليست صنماً يعبد ولذلك حينما أراد الغزاة إضعاف الروح المعنوية للأنصار بضرب القبة قال خليفة المهدي صاحب البصيرة: ( القبة بنيناها من طين وسنبنيها من طين).

 فارقد عبد الحميد في مرقد آبائك وموطن عقيدتك راضياً مرضياً.

 بقي أن أقول أن هذه الخاطرة ليست تأبيناً للراحل الفقيد فهناك من هم ألصق به مني، وليست في سيرته الذاتية الزاخرة منذ رئاسته لاتحاد طلاب المعهد الفني ومشاركته في قيادة ثورة أكتوبر مروراً بنضاله في الديمقراطيتين التاليتين والدكتاتوريتين اللتين جثمتا بعد ذلك على صدر البلاد، إلى نضاله بمدني ودخوله المكتب السياسي المركزي ورئاسته للجنة الإعلام وعضويته بهيئة الرقابة وضبط الأداء الحزبي وعضوية مجلس الحل والعقد بهيئة شؤون الأنصار ومشاركته في مشروع البقعة الجديدة التي نأمل – وفاءاً لروحه – أن تقوم وتتم بقعة مثالية تعيد نموذج المدن الفاضلة التي ابتدرها الإمام عبد الرحمن المهدي في محاكاة للدولة الفاضلة التي أقامها الإمام الأكبر عليه السلام.

 هذه الخاطرة كلمة عزاء ووداع، عزاء للحبيب الإمام الصادق الذي أحبه عبد الحميد حباً جماً فبادله الحبيب حباً بحب ووفاءً بوفاء. وتعزية لنا جميعاً فنحن مثل الجسد الواحد: أسرته الصغيرة وأسرته الأنصارية والوطنية وكلنا مكلومون والعزاء أنه ذاهب إلى أحبابه الذين تعلق قلبه بهم.

 فإلى رفيع الروضات وعاليات الجنان عبد الحميد ونسأل الله أن تحمل أيادي أمينه من أبنائك وإخوانك الراية التي سلمتها بعد أن قمت بحقها، فتلك هي طمأنينة النفس الراضية وتلك هي الرجعى وذلك هو الرضى وأولئك هم العباد المعنيون وتلك هي جنته وكل ذلك هو الوعد الوارد في خواتيم الفجر يا فارس الفجر.

عبد الرحمن الغالي

 28 ديسمبر 2014.