كلمة الإمام الصادق المهدي في تأبين الشاعر الراحل محمد الفيتوري بالقاهرة

الإمام الصادق المهدي في تأبين الشاعر الراحل محمد الفيتوري بالقاهرة

 

 

كلمة الحبيب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار ورئيس الوزراء الشرعي والمنتخب للسودان في تأبين الشاعر الراحل المقيم محمد مفتاح الفيتوري بالقاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

رابطة أبناء المساليت بالخارج

تأبين الشاعر السوداني الراحل: محمد مفتاح الفيتوري

حروف على شاهد في قبر

بمقبرة الشهداء بالمغرب العربي

الإمام الصادق المهدي

 

أخواني وأخواتي،

أبنائي وبناتي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأشكر رابطة المساليت بالخارج دعوتي لمشاركتكم تأبين المبدع السوداني محمد الفيتوري وبعد-

آخر عهدي بالمبدع الراحل محمد الفيتوري في القاهرة قبل بضع سنوات، أثناء القحط الإنقاذي هذا، سألني هل قرأت ديوانه عن سقوط دبشليم؟ قلت له نعم، وتعجب كيف أعامله بالمودة والاحترام، غير عابئ بما قال عني رمزياً. قلت له كثيرون هم الذين قالوا عني من بعيد قدحاً ثم عرفوني ووالوني مدحاً. أنت تعلم أنني كنت ديمقراطياً وقومياً حتى النخاع، وأنني في سن يافعة قدت ثورة هادئة ركائزها: العدول عن الأحادية للتعددية في الهوية السودانية، وتطوير أنماط تقليدية من الوصاية للمؤسسية، وأرمز لولاية جيل خرج بالسياسة من الصفوية للشعبوية، وسلح مواطن تقليدية بأسنة تقدمية، ولكن عاطفة صداقة حميمية بالمرحوم السيد محمد أحمد محجوب لونت أحكامك حينها، وقديماً قال دايفيد هيوم: العقل في خدمة العاطفة.

إن هذه الحقائق تدفعني أن أحفر هذه الحروف على شاهد قبره في المغرب الشقيق.

أولاً: الاحتلال الأجنبي مشغول بجعل الصحراء الكبرى فاصلاً مغلظاً بين أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء، واهتممت بتدمير هذا الفاصل مستشهداً بحقائق كثيرة أهمها:

ثقافياً: أن العربية، والتقرينجا، والامهرنجا، والهوسا من عائلة سامية واحدة، وأن لغات التخاطب العامة في كثير من بلاد أفريقيا جنوب الصحراء ممتزجة بالعربية كالسواحلية، والصومالية، ولغة التفاهم في دولة جنوب السودان.

ودينياً: إن الديانة الإسلامية هي ديانة الأكثرية في أفريقيا جنوب الصحراء كما هي في أفريقيا شمال الصحراء، وأن المسيحية الوطنية (الأرثوذكسية) مشتركة بين مصر، وأثيوبيا، وأريتريا، والسودان.

وتاريخياً: حقيقة الأصول الأفريقانية للحضارة المصرية كما وثق ذلك الكاتب السنغالي الشيخ انيتا ديوب، وحقيقة الفراعنة السودان من كوش في عرش مصر. شاعرنا الراحل هو تجسيد حي لهذه الوحدة الأفريقانية العربية.

ثانياً: السودان حتى بعد عام 2011م أنموذج مصغر لأفريقيا، وحدته في تمازج تنوعه الذي سطا عليه الانقلابيون فعدلوا عن التسبيك إلى التفكيك. إن وحدة بلادنا في تمازج تنوعها كما قالت شاعرتنا روضة الحاج:

هنا انغرسنا في هذا التراب معاً

منوعين كأزهار البساتين

شاعرنا الراحل كان ثمرة يانعة لهذا التمازج الخلاق.

ثالثاً: الإنسان الأسود أكثر فصائل البشرية اضطهاداً لونياً، عبارة عبء الرجل الأبيض معناها أن على الإنسان الأبيض أن يلحق الإنسان الأسود بالإنسانية. وعندما هم عالم الآثار شارلس بونيه التوجه بحفرياته جنوب مصر قال له زملاؤه لا تاريخ هناك بل جغرافيا، وهو زعم بددته حفرياته مثلما بددته قبل ذلك دواوين الرحالة العرب، دواوين شاعرنا الراحل من أقوى وأصدق المرافعين عن عزة الإنسان الأسود وكرامته الإنسانية:

جبهة العبد ونعل السيد

وأنين الأسود المضطهد

تلك مأساة قرون غبرت

لم أعد أقبلها لم أعد

رابعاً: وخلد شاعرنا افتخاره بعروبته التي لم يجدها متناقضة مع الأفريقانية بقوله:

عرب نحن .. وهذا دمنا

يتحدى في فلسطين الهوانا

عرب رايتنا وحدتنا

حلقت صقراً وحطت في سمانا

الانتهازيون من ساسة السودان وجدوا درجة عالية من التسامح الاثني في السودان: عرب جنوب دارفور مختلطون بالدينكا، وعرب جنوب النيل الأزرق بقبائل الفونج، وعرب جنوب النيل الأبيض بالشلك، والقبائل العباسية في الشمال بالنوبة، وجنوب كردفان تمازج النوبة وبطون الحوازمة، وجمالة شرق السودان بالبجة، والقبائل الأفريقانية ممزوجة ببطون عربية مثل: كيرة في الفور، وزغاوة عرب في الزغاوة، وخزام في المساليت وهلم جرا.

شاعرنا رمز لهذه الحقائق التي حاول ساسة انتهازيون تدمير نسيجها الاجتماعي خدمة لأجندة سياسية تفتقر للشرعية وخدمة لمخطط أجنبي هادف لتفكيك السودان.

خامساً: وغنى شاعرنا للوطنية والحرية السودانية بصورة لا تجارى عندما عبرت ثورة أكتوبر 1964م عن عبقرية الشعب السوداني السياسية:

أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق

وإذا الفجر جناحان يرفان عليك

وإذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي

والذي شد وثاقاً لوثاق

والذي بعثرنا في كل وادي

فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي

أصبح الصبح وها نحن مع النور التقينا

التقى جيل البطولات بجيل التضحيات

التقى كل شهيد قهر الظلم ومات

بشهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات

أبدا ما هنت يا سوداننا يوماً علينا

سادساً: ولم أجد ف دفاتر الإدانة للانقلابات التي يخون فيها حماة الحمى العهد ويسومون شعوبهم سوء العذاب مثل أبيات شاعرنا المبدع :

الذين اغتصبوا عرضك مرة

حملوا عارك زهرة

رقصوا فوق رفاتك

شوهوا تاريخك العالي، المهيب الكبرياء

أغرقوه بالدماء..

سرقوا أثمن ما يحمله صدرك يا بلادي

سرقوا تاجك، ثم اضطهدوك

سرقوا سيفك، ثم اغتصبوك

إنما لم يقتلوك

العبارة الأخيرة نذير للغاضبين وبشير لأحباب الوطن.

نعم مات في وحشة من دنياه كمصير كثير من أساطين الفن حالة عبر عنها المجذوب وهو يناجي التجاني يوسف بشير قائلاً:

كلنا طائر رعى الأفق الممدود

لكنه مهيض الجناح

سابعاً: فقدت أفريقيا والعروبة، والسودان أديباً، وشاعراً، لساناً يجري ولا يجرى معه. رحمه الله رحمة واسعة فإنه الرحمن، الرحيم، القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[1]

وأحسن الله عزاء أسرته الصغيرة ووطنه وأمته عزاؤهم جميعاً مقولة الهادي آدم:

لك يا صاحب الروائع آيٌ

تجعل الفن بالخلود جديرا

ريشة كلما جرت فوق قرطاس

أنارت للناس ليلاً ضريرا

هذا مع أطيب تحياتي لكم وصالح الدعاء للحاضرين.

 

__________________________________________

 

[1] سورة الأعراف الآية رقم (156)