كلمة الإمام الصادق المهدي في يوم ذكرى الجهاد

كلمة الإمام الصادق المهدي في يوم ذكرى الجهاد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم ذكرى الجهاد

الإمام الصادق المهدي

 

17 رمضان 1435هـ
15 يوليو 2014م
أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى، وبعدـ
أشيد بالعاملين الذين نظموا هذا اللقاء الحاشد الهادف، وأشكر كل الذين ساهموا بالعمل والمال والمشاركة:
الناس للناس من بدوٍ ومن حضر     بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
أحدثكم في هذا المساء عن خمس قضايا هي: فقه الصيام، وفقه الجهاد، والمشهد السياسي السوداني، والعلاقة السودانية المصرية، والمشهد العربي الإسلامي الأفريقي المتفجر، والموقف الدولي من قضايانا.

فقه الصيام: أسأل الله سبحانه أن يقبل صيامنا وقيامنا في هذا الشهر المبارك، فالصيام عنقود معان روحية، وأخلاقية، وبدنية أهمها أنه مادياً: منع البطنة، وكسر العادة، وأخلاقياً: تدريب على الصبر، وعفة الجوارح، وتقوية الحس الاجتماعي، وهو روحياً: رياضة في تقوى الله وفي المجاهدة في سبيل مثل عليا فإن لم تتحقق هذه المعاني صار الصوم جوعاً وعطشاً منزوع البركة.
فقه الجهادفي قيم الإسلام كما في القيم الوضعية المزايا في طي البلايا، والجائزة بقدر المشقة، لذلك صار أَشَدُّنا بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ. كل القيم التي يحققها الإنسان رهينة لما يبذل من جهد اجتهاداً وجهاداً، ومن جد وجد.
نحتفل اليوم 17 رمضان بذكرى واقعة بدر الكبرى ونحتفل بصداها في السودان واقعة الجزيرة أبا في نفس اليوم والشهر مع اختلاف الزمان والمكان.
الجهاد في الإسلام مفهوم واسع يبدأ بتزكية النفس، فالإنسان تشده غرائزه ورغباته حتما نحوها وعليه مغالبتها وهي مهمة عسيرة بينها ذو النون الصوفي:
قَلبي إِلى ما ضَرَّني داعــــي     يُكِثرُ أَسقامي وَأَوجاعي
كَيفَ اِحتِراسي مِن عَدُوّي إِذا     كانَ عَدُوّي بَينَ أَضلاعي
 وعلى الإنسان أن يجاهد بفكره وماله لتحقيق المثل العليا وعليه القتال دفاعاً عن النفس وعن حرية تلك المثل العليا.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمضى أكثر من نصف عمره بعد الرسالة يجاهد سلمياً ملتزماً بتوجيه رباني: (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ)[1] وفتح المدينة نفسها كان بالقوة الناعمة. قالت السيدة عائشة (رض) فتحت المدينة بالقرآن في توجيه رباني (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[2] (أي بالقرآن). وفي مرحلة لاحقة جاء الإذن بالقتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[3]. القتال في الإسلام يبرره قوله تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[4].
وفي السودان أنفق الإمام المهدي عليه السلام كثيراً من عمره يجاهد في تزكية نفسه، وفي الدعوة السلمية للإصلاح الديني وقال بعد مشقة الدعوة بالتي هي أحسن: هجمت عليّ الدعوة المهدية لإحياء الكتاب والسنة. ولكن هاجمته السلطة الحاكمة في عقر داره وقاومها في واقعة الجزيرة أبا في 17 رمضان 1880م فصارت واقعة الجزيرة أبا من أصداء واقعة بدر الكبرى مع اختلاف الزمان والمكان.
تناول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما أعقب عهده من عهود تاريخية بصورة غير مرتبطة بالظروف الإنسانية والاجتماعية خطأ كبير، لأنه يجعل إنجازاتهم في مجال المعاملات مثلاً يحتذى بصرف النظر عن الأحوال الإنسانية والاجتماعية. في الدين ثوابت كالعبادات ومتحركات كالمعاملات، القاعدة في أمر هذه الأمور هي تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، أفتى عمر (رض) في بعض الأمور بشيء ثم أفتى بعد حين بغير ذلك. فقيل له: يا أمير المؤمنين كنت قد قلت كذا وكذا فقال:”ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي” (أخرجه ابن أبي شيبة). هذا هو معنى ما قاله الإمام المهدي حول هذه المتحركات: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.
الداعية الذي يدعو للتقليد في هذه الأمور المتحركة يحبس الحاضر والمستقبل في ماضٍ زالت ظروفه الإنسانية والاجتماعية، ويهزم مقاصد تعاليم الإسلام. قال ابن الجوزي: في التقليد إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل. وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.
الواجب في مجال المعاملات لمؤسسات الدولة ومعاملات الاقتصاد وغيرها أن نحدد الواجب اجتهاداً، وأن نحيط بالواقع، ثم نزاوج بينهما كما قال ابن القيم أي أن العملية عملية إحياء لا تقليد.
بهذا المصباح الإحيائي أتناول واجباتنا الراهنة.
المشهد السياسي السوداني: النظام الذي انقلب على الديمقراطية قبل ربع قرن من الزمان يقف الآن محاصراً بالأزمات أهمها أنه رفع شعاراً إسلامياً أفرغه من مقاصده بالاستبداد والفساد، واتخذ نهجاً سياسياً بالتمكين الأحادي أخفق في إدارة التنوع فانقسمت في عهده البلاد وتواجه الآن عدداً من جبهات الاقتتال، واتخذ نهجاً اقتصادياً نكب البلاد بتردٍ في الإنتاج وعجزٍ ماليٍ لا سبيل لردمه. ومع هذه الأزمات الاقتصادية يقف النظام محاصراً بأكثر من ستين قرار مجلس أمن غالبيتها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة تصنفه مهدداً للأمن والسلام الدوليين، وتجعل قيادته ملاحقة جنائياً دولياً.
وما برح النظام يبشرنا بالقضاء على التمرد المسلح في فترات يحددها.
المعارضة المسلحة السودانية لم تعد كما كانت في بدايتها، بل كونت جبهة موحدة، وصار نشاطها داخل السودان ومتعدياً لحدود السودان في أكثر من دولة مجاورة، وظهرت فصائل معارضة مسلحة جديدة قبلية. القراءة الصحيحة للموقف الأمني هو: صار للمعارضة المسلحة وجود داخلي وإقليمي عنقودي.
وعندما أطلق النظام نداء الوثبة في بداية هذا العام ووعد بإصلاح قومي للحكم بحيث لا يعزل أحداً ولا يهيمن عليه أحد، وأعلن نقل عملية السلام ليديرها من الجانب السوداني مجلس قومي للسلام كنا أكثر الناس حسن ظن بما أعلنوا واستبشر الشعب السوداني ومحيطنا الإقليمي، والدولي خيراً. ولكن  اتخذ النظام بعد ذلك من الأفعال وأصدر من الأقوال ما حصر مقاصد الحوار في مشاركة الآخرين في مسيرته العاثرة كما هي، وحول الحديث عن عملية السلام إلى وعيد بالقضاء على المخالفين بالقوة، وصرف النظر تماماً عن المجلس القومي للسلام.
ما هو موقفنا من هذا التردي؟ إذا كان النظام مصمماً على هذا النهج الذي جربه لربع قرن وصرف النظر عن ما يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل وهو ما تدل عليه أقواله وأفعاله حالياً فلا سبيل أمامنا نحن الدعاة لنظام جديد يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل إلا العمل على توحيد كافة القوى السياسية السودانية المدنية والمسلحة في جبهة واحدة ملتزمة بميثاق وطني واحد، والقيام بتعبئة داخلية وخارجية تتخذ كل الوسائل عدا العنف لإقامة النظام الجديد هذا الميثاق كتبناه بعنوان: (ميثاق بناء الوطن: التنوع المتحد) ونحن نعتبر أن هذا هو الواجب الوطني الذي يخلص البلاد من السقوط في الهاوية.
إذا أدرك النظام حقيقة الموقف وقرر بصورة جادة اتخاذ خطوات استباقية تحقق المطالب الشعبية المشروعة فالسبيل إلى ذلك ضبط عملية الحوار الوطني. والسبيل إلى ذلك هو  الالتزام بسياسات محصنة من التقلبات ومجسدة في قوانين أهمها قانونان: قانون بناء الوفاق الوطني، وقانون بناء السلام.

أهم معالم قانون بناء الوفاق الوطني:

(‌أ)      أهداف الوفاق الوطني هي تحقيق تحول ديمقراطي كامل، وديمقراطية تراعي التوازن المطلوب لاستيعاب التنوع.
(‌ب) الوسائل:
o      نقاش مجتمعي يساعد في إدارته إعلام قومي يشرف عليه مجلس قومي للإعلام.
o      حوار وطني عبر منبر للحوار.
(‌ج)      النقاش المجتمعي مفتوح ويقوده منبر قومي في جامعة الخرطوم.
(‌د)        الحوار الوطني يجري بين أحزاب سياسية هي الأحزاب التاريخية الست، والأحزاب الجديدة ذات الوزن،  يحدد وزنها أن لها دور ولها شبكة في البلا، وأن لها نشاط سياسي.
(‌ه)        تدير حوار الأحزاب رئاسة محايدة.
(‌و)       عند بدء الحوار تجمد أو تلغى القوانين المقيدة للحريات وإتاحة حرية العمل السياسي والمدني والإعلامي، ويطلق سراح المعتقلين السياسيين والمحكومين في قضايا سياسية ورفع اليد عن الصحف والصحفيين الموقوفين.
(‌ز)      تتوافر لأطراف الحوار حصانة ضد أية إجراءات إدارية مضادة.
(‌ح)      يكون للمنظمات الإقليمية والأسرة الدولية حضور كمراقبين.

قانون السلام:

(‌أ)            الهدف: تحقيق السلام العادل الشامل.
(‌ب)       المبادئ الموجهة للسلام: إعلان المبادئ العشرة المقترحة.
(‌ج)         يمثل الجانب السوداني في عملية السلام المجلس القومي للسلام ويكون من الأحزاب المعتمدة للحوار الوطني برئاسة للمجلس محايدة.
(‌د)           الطرف الآخر في عملية السلام يمثل القوى المسلحة بأي شكل تختاره.
(‌ه)           آلية الاتحاد الأفريقي العليا تشرف على عملية السلام وهي التي تحدد زمان ومكان التفاوض.
(‌و)          يلتزم الجميع بتنفيذ المبادرة الثلاثية للإغاثات الإنسانية.
(‌ز)         عند بدء عملية التفاوض يلتزم الجميع بهدنة شاملة تتطور لاحقا لاتفاق شامل لوقف إطلاق النار.
(‌ح)         يكون للمنظمات الإقليمية وللأسرة الدولية حضور كمراقبين لعملية السلام.
أخواني وأخوتي، أبنائي وبناتي،
لقد عدت تواً من رحلة شملت القاهرة وعمان، ومدريد، أقول:
1.    في القاهرة باركنا لأخواننا في مصر الخطوات التي اتخذوها للبناء الديمقراطي والاستقرار. و تحدثاً باسم الشعب السوداني تحدثنا عن ضرورة رؤية إستراتيجية تحكم العلاقات بين الشعبين وتكفل مصالحهما الأمنية، والمائية، والتنموية، وتسمح بالتعاون المشترك في التصدي للتحديات،  والتناصح في مواجهتها وتتطلع لهيكلة لخصوصية العلاقة بيننا، كما تلتزم تلك الرؤية بالتعاون مع دولة جنوب السودان لتحقيق المصالحة والاستقرار. وتهتم الرؤية بتطوير العلاقات العربية مع أفريقيا جنوب الصحراء.
2.    وفي عمان ألقيت محاضرة عن الحرائق التي أشعلها التطرف في المنطقة واتفقنا في إطار منتدى الوسطية العالمي للدعوة لمؤتمر جامع يخاطب أطراف التطرف، يشخص الحالة، ويضع روشتة لاحتواء تقاطعات التطرف السبعة وهي التقاطعات: الإسلامية العلمانية، السنية الشيعية، السنية الداخلية، الإسلامية المسيحية اليهودية، القومية بين العروبة والقوميات الأخرى، الاجتماعية بين قلة ثرية وكثرة فقيرة، وكيفية التعامل مع المحيط الدولي. هذه التقاطعات استقطابية من شأنها إذا لم تعالج تفجير المنطقة كلها  بحرائق التطرف الحارقة.
3.    وفي مدريد اقترحنا في إطار نادي مدريد، وهو منبر يضم أكثر من تسعين رئيس دولة ورئيس حكومة سابقين كانوا منتخبين ديمقراطياً، اقترحنا الدعوة لمؤتمر دولي ليستمع العالم لوجود رؤية في العالم الإسلامي تنبذ التطرف بل وتبرز دور الأسرة الدولية نفسها في هذا التطرف وتؤكد وجود رؤية من أصول إسلامية تدعو للحريات الأساسية ويمكن أن تلتقي مع حضارات وأديان العالم حول منظومة حقوق الإنسان.
هذه المهام ليست معزولة عن بعضها وهي متصلة كذلك بقضايانا الوطنية.
ختاماً: ليكن هذا الاحتفال حلقة من حلقات التعبئة من أجل النظام الجديد المنشود في السودان، وسوف نواصل عملنا من تعبئة شعبية تعم كل أنحاء السودان وتعم الوجود السوداني خارج الوطن، ومن أجل حملة إقليمية ضد التطرف والعنف العشوائي المصاحب له، وحملة دولية نشارك فيها من أجل بناء عالم أعدل وأفضل.
ختاماً: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[5].

___________________________________________________

[1] سورة النساء الآية (77)
[2] سورة الفرقان الآية (52)
[3] سورة الحج الآية (39)
[4] سورة التوبة الآية (13)
[5] سورة الصف الآية (13)