لنقرأ هذه الدروس من أوروبا الشرقية

بسم الله الرحمن الرحيم

لنقرأ هذه الدروس من أوروبا الشرقية

18 ديسمبر 2005م

 

مكونات الديمقراطية ليست جديدة. فالشورى هي مبدأ المشاركة، والنصيحة هي مبدأ المساءلة، والصدق هو مبدأ الشفافية، وخضوع الكافة لأحكام واحدة هو مبدأ سيادة القانون. الجديد هو أن التجربة الغربية الحديثة جمعت هذه المبادئ في منظومة واحدة وغرستها في مؤسسات.

النظام الديمقراطي تمدد حتى غطى دول أوروبا الغربية بنهاية الحرب الأطلسية الثانية في عام 1945. وأثناء فترة الحرب الباردة زحف النظام الديمقراطي على أوروبا الجنوبية (إسبانيا واليونان والبرتغال… الخ) وأجزاء هامة من أميركا اللاتينية. وبعد الحرب الباردة أي بعد عام 1991 زحفت الديمقراطية على أوروبا الشرقية.

في الحادي عشر من نوفمبر 2005 دعانا الرئيس براتسلاف هافل أول رئيس لجمهورية تشيكوسلوفاكيا الديمقراطية إلى مدينة براغ التاريخية ودعا معنا عددا من قادة دول وأحزاب أوروبا الشرقية ليقصوا على الحضور تجربة التحول في أوروبا الشرقية من نظم الحكم الشمولي إلى الحكم التعددي ومن الاقتصاد المملوك للدولة إلى اقتصاد السوق الحر. وقد شملت مداخلاتهم مقارنات بين التجارب المختلفة في دول أوروبا الشرقية وفي روسيا وفي دول آسيا الوسطى.

تجارب التحول في أوروبا الشرقية مهمة في حد ذاتها لتضاف لتجارب المناطق الأخرى إثراء لثقافة التحول الديمقراطي المنشود.

لكن لتجارب أوروبا الشرقية أهمية خاصة لأنها هي التي نشرت نظام الحزب الواحد ذي الأيديولوجية القائدة الذي لطخ الحياة السياسية في كثير من دول «العالم الثالث». كما كانت هى التجارب التي روجت للملكية العامة للاقتصاد باعتبارها أفضل السبل للتنمية والعدالة. وروجت للنظام الشمولي بكل أدواته القمعية وسيلة لتمكين «الثوار» من فرض الوصاية على الشعوب، فكان ذلك وبالا على الشعوب استخدمه طغاة العصر الحديث اليميني منهم واليساري، النسخة العصرية من الحجاج بن يوسف الثقفي.

كانت المداخلات كثيرة ومثيرة ولكن خلاصتها أن التجربة السوفيتية كانت قوية في ظاهرها ولكنها تعفنت في داخلها. وعندما أدرك ميخائيل غورباتشوف أن نظامه قد جعلته الأوتوقراطية والبيروقراطية عقيما سياسيا وغير منتج اقتصاديا رفع شعاري إعادة الهيكلة والشفافية «البريسترويكا والغلاسنوست».. النظام في أوج قوته العسكرية والمظهرية تداعى من داخله!

هذه الهزيمة من الداخل هي التي أجهضت أية محاولة لإرجاع عقارب الساعة للوراء كما حاول الجنرالات عام 1992. كما سهلت على دول المحور السوفياتي في شرق أوروبا الانعتاق من القبضة والتوجه نحو الديمقراطية سياسيا ونحو السوق الحر اقتصاديا. وكان الانهيار سريعا ومفاجئا وكانت الدعاية القوية قد أخفت التعفن على كثيرين بمن فيهم أجهزة الغرب الاستخبارية. وحولت الأحداث المتلاحقة «الخبراء» إلى متفرجين!

لذلك أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي وانعتاق حلفائه حالة من الفوضى.

دول شرق أوروبا ودول أواسط آسيا واجهت حالة الفوضى بأسلوبين مختلفين: دول شرق أوروبا غالبا اتبعت أسلوب تشيكوسلوفاكيا.

دول آسيا الوسطى غالبا اتبعت أسلوب أذربيجان. النمط التشيكي كان ديمقراطيا تعدديا في المجال السياسي واتبع السوق الحر في المجال الاقتصادي. أما النمط الأذربيجاني فمع أنه تخلى عن الأيديولوجيا الشيوعية لكنه أبقى على درجة عالية من الشمولية في المجال السياسي وعلى الاقتصاد الموجه.

أهم العوامل التي ساهمت فيما حدث في تشيكوسلوفاكيا أربعة هي:

الأول: أن البلاد كانت تنعم بوجود مؤسسات مجتمع مدني قوية: تكتلات سياسية، نقابية، وجمعيات متخصصة، ولكنها كانت تعاني من القمع الشمولي فدبت الدماء في عروقها بعد انهيار القبضة الشمولية.

الثاني: شيوع ثقافة ديمقراطية كان لها دور هام في معارضة النظام الشمولي ولونت تطلعات المواطنين ضده بل صاغت رؤى التحول الديمقراطي.

الثالث: وجود الاتحاد الأوروبي الذي رفع أمام الشعب قدوة ومنح التحول الديمقراطي واقتصاد السوق الحر أنموذجا جاذبا وقدم عونا ماديا ومعنويا قيما.

الرابع: الذين قادوا التحول اتخذوا نهجا معتدلا حال دون الاستقطاب الحاد وأبقى على الأحزاب الشيوعية بعد إزاحتها من القيادة.

وفي تشيكوسلوفاكيا تطلع الشعب السلوفاكي لمصير مستقل فتجاوبت معه القيادة التشيكية فانفصل البلدان عن بعضهما بعضا بهدوء واستطاع البلدان أن يحققا نجاحا سياسيا واقتصاديا.

الأحزاب الشيوعية أقبلت على التجربة التعددية وانخرطت فيها. الأحزاب الشيوعية بعد فترة من الضمور دفعت أثناءها ثمن إخفاق تجربتها انتعشت لأن التحول الديمقراطي صحبته ظواهر سلبية ظهرت معها العصبيات الدينية والثقافية والجماعات التي استغلت الحرية لتحقيق مصالح ذاتية. واقتصاد السوق الحر أودى بنظام الرعاية الاجتماعية وعرض الفئة الفقيرة للعطالة والشقاء ومكن لبعض عصابات المافيا حتى قيل كنا نتبع نظام القوسبلان فأصبحنا نخضع لنظام القانبلان – أي من نظام الاقتصاد الحكومي إلى اقتصاد العصابات!. وقال أحد المتحدثين الروس مشيرا لهذه السلبيات: في عام 1917 ضحت روسيا بالحرية من أجل العدالة. وفي عام 1991 (انهيار الاتحاد السوفياتي) ضحت روسيا بالعدالة من أجل الحرية.

بعض الأحزاب الشيوعية، لاسيما الحزب التشيكي، تصدت لهذه السلبيات ووعدت بتصحيحها. ولكن الحزب الشيوعي التشيكي في ثوبه الجديد تخلى نهائيا عن التحكم المسمى «الديمقراطية المركزية» وانحاز للديمقراطية. وتبنى اقتصاد السوق الحر مع تعديله ليصبح السوق الحر «المبطن» أو الاجتماعي. واتجه للدعوة للعدالة الاجتماعية في إطار حقوق الإنسان لا الحرب الطبقية.

إن في موجات التحول الديمقراطي الحديثة التي عمت أوربا الغربية أولا ، ثم أوربا الجنوبية، ثم أمريكا اللاتينية، ثم أوروبا الشرقية أخيرا، دروسا عظيمة الفائدة للبلدان التي ما زالت تعاني الطغيان وتتطلع للتحول الديمقراطي. وفي تجربة أوروبا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا بالذات دروس عديدة الفائدة لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد.